(1)
الحيرة حول هلال شهر رمضان
من كل الأشهر العربية لا يحظى شهر باحتفاء وطول انتظار سوى شهر رمضان المبارك. يلتف المسلمون فى جميع أنحاء العالم حول أجهزة الراديو والتلفزيون لسماع الخبر المنتظر، ألا وهو ظهور الهلال فى أى جزء من السماء. لكن ما قد يفسد الفرحة بحلول الشهر الكريم هذا الخلاف الذى طالما ينشب بين المسلمين حول حقيقة رؤية الهلال.
فالشهر العربى عامة يمتد بين تسعة وعشرين وثلاثين يوما...وفى عصور الإسلام الأولى كان الهلال علامة مؤكدة لبداية ونهاية الشهر الكريم وذلك لأنه لم يكن لدى المسلمين الأوائل علم كاف بالحسابات الفلكية، فكان لابد من رؤية الهلال بالعين المجردة، فيكفى أن يشاهده اثنان من ذوى الثقة ليتم إعلان بداية الصوم.
اتبع الناس العرف السائد وهو أن ظهور الهلال فى بلد مسلم يجعل الصيام ملزما لباقى الدول الإسلامية الأخرى. لم يكن هناك وسائل اتصالات تربط بين الدول فكانت بداية رمضان واحدة للبلاد المجاورة بعضها لبعض..غير أنه كان هناك حالات صام فيها البعض يوما قبل البداية وأخر بعد النهاية. حتى يومنا هذا ما يزال الإجماع حول بداية الشهر مسألة جوهرية لتأكيد تآخى المسلمين ووحدتهم.
هناك إعتقاد سائد أن التكنولوجيا الحديثة قد سهلت الأمور، لكن حقيقة الأمر أن الإتفاق على بداية الشهر اليوم أصبح مسألة أكثرإثارة للجدل، فالحيرة بين استخدام الحسابات الفلكية والوسائل التكنولوجية المتقدمة من جانب وبين الطرق التقليدية من جانب آخر لايزال أمرا واقعا.
غير أن هناك العديد من الأحاديث التى تشير إلى أن الرسول والصحابة ــ عليهم أفضل السلام ـــ اختلفوا أيضا حول أمر الرؤية. فوفق ما ورد فى الموقع الإلكترونى لـلــ ( الجميعة الإسلامية لشمال أمريكا)، فإن النقاش يدورحول أربع نقاط أساسية: أولا هل يجب الصوم فى البلاد الأخرى لو ظهر الهلال فى بلد واحد؟ ثانيا هل نبدأ الصيام لو تم رؤية الهلال فى المملكة العربية السعودية أو أى بلد آخر، أو أن نلتزم برصد الهلال محليا؟ ثالثا كيف نتصرف فى حالة تلبد السماء بالغيوم واستحالة رصد الهلال؟ رابعا فإذا كانت الحسابات الفلكية ممكنة فما الداعى لرؤية الهلال؟
بالتشاور مع (مجلس الفقة لأمريكا الشمالية)، رأى (مجلس الشورى الإسلامى) فى أمريكا الشمالية أنه سيتم قبول أى تقرير يشير إلى ثبوت رؤية الهلال فى أمريكا الشمالية طالما أنه لا يناقض الحسابات الفلكية. ولكن يؤكد الخبراء أن الحسابات التكنولوجية المتقدمة أكثر دقة من أى إدعاءات بخصوص الرؤية التى قد يشوبها الشك والخطأ بسبب اختلاط أجسام سماوية أخرى بشكل الهلال.
كما أنه فى بعض البلاد التى قد تتغير فيها الأحوال المناخية الصديقة للرؤية بشكل دائم ــ مثلما هو الحال فى البحر الكاريبى الذى تضربه الأمطار باستمرار أو فى القطب الشمالى الذى يمتد فيه النهارلشهور طويلةــ فلا حل سوى الحسابات الفلكية. أما المؤيدين للرؤية فيقولون إن الحسابات ضرورية فقط فى حالات الطقس السىء. يقول بعض العلماء أنه لا يمكن تجاهل الحسابات الفلكية خاصة فى العصر الذى نجح فيه الإنسان فى الهبوط على سطح القمر.
لكن لماذ نبدأ الصيام فى أوقات مختلفة؟ فهل يمكن أن نعزى ذلك إلى اختلاف الحسابات الفلكية من بلد إلى بلد؟ يقول البعض إنه إذا كنا نصلى فى أوقات مختلفة، فعلينا أن نسلم بأننا نصوم فى أوقات مختلفة أيضا. ولكن يتفق أغلب العلماء على أن الحسابات الفلكية ضرورية لمحاجة أى رؤية قد لا تتسم بالدقة.
كان بمقدور المسافات الطويلة التى تفصل بين بلد وأخر أن تسقط صحة وجوب الصوم فى جميع البلاد طالما ظهر الهلال فى بلد واحد. فى زمن الرسول والعصور التى تلته كان الكثيرون يصومون يوما بعد نهاية الشهر لتشككهم فى صحة الحسابات والروىء على السواء. يعتمد التقويم الإسلامى على أطوار القمر،
فرمضان هو الشهر التاسع فى هذا التقويم الذى يتقدم فيه التاريخ كل عام احدى عشر يوما وهذا ما يسبب الجدل القائم كل عام حول بداية شهر رمضان ويدفع البعض إلى الخروج لتقصى الهلال بأنفسهم.
وفق ما يقول علماء الفلك فإن حجم الارض وانحناءها هما ما يجعلان القمر يظهر فى أيام وأماكن مختلفة وبالتالى ما يسببان بداية رمضان فى أيام مختلفة كل عام. فيما ينتظر المسلمون حلول شهر رمضان تستقبل المجالس الإسلامية تقارير عدة عن رؤية الهلال وتستغرق وقتا لإثبات صحتها.
كثير منها يفضل الرؤية التقليدية ويرسل مبعوثين لتقصى الهلال...هناك من تلك المجالس من يأسف على أن بلدين متجاورين كالأردن وسوريا مثلا يصومان فى بعض السنين فى أيام مختلفة مع أن ثبوت الرؤية فى أى منهما لابد أن يوجب الصوم فى الأخر.
احتفالات رمضان اليوم ما هى إلا صدى لتقاليد الماضى لكن بعضها تشكل نتيجة لظروف جعرافية ومناخية كما هو فى البيئات البدوية التى كان الهلال فيها يرى بالعين المجردة بواسطة رجل من ذوى الثقة وشاهدين الذين ينقلون الرؤية إلى شيخ القبيلة وتكتسب رؤيتهم التصديق بعدما يؤدون القسم على القرآن الكريم.
بدوره يرسل الشيخ رسله ليبلغوا العشائر البعيدة بثبوت الرؤية... شعلة كبيرة من النار كانت واحدة من الوسائل التى يتم بها إبلاغ الناس عن يدء الشهر الكريم..طبعا كان ذلك قبل أن يعرف البدو كيف يستخدمون الأسلحة النارية التى أصبحوا يعلنون بها بعد ذلك بداية الصوم بإطلاق النار فى الهواء.
من المشكلات التى واجهت الصائمين فى الماضى كانت تحديد أوقات الإفطار بالأخص عند البدو الرحل..فى بعض الأيام المغيمة الممطرة كانت الشمس تشرق فجأة بعد أن يشرع الصائمون فى الإفطار. كان الصيام شاقا فى أيام الصيف بسبب طول أيام النهار ولكنه كان مثاليا لرصد الهلال والصوم.
***
(2)
جهاد النفس فى أروع صوره... صيام المسلمين الجدد
صيام الأطفال قد يكون شاقا.. ولكنه أسهل من صيام بالغ ينوى التعود على الصوم، فالأفضل أن تُكتسب عادة الصيام منذ الصغر..فهؤلاء الذين لم يعتادوا على الصوم صغارا عليهم أن يواجهوا مواقف قد لا تخلوا من الحرج عند احتكاكهم بالصائمين.
أما بالنسبة للمسلمين الجدد فالتجربة مختلفة تماما: فبجانب الحرج الذى يقعون فيه وسط جموع الصائمين، فإن الصوم يأتى كأكبر تحد لهم بعد تحولهم للإسلام. بالنسبة إليهم ليس الصوم فقط عزوف عن الطعام والشراب ولكنه أيضا زهد للملذات التى اعتادوا عليها فى مجتمعاتهم الأصلية.
البعض منهم يعتاد على الصوم مع مرورالزمن والبعض الآخر يجد فيه مشقة جمة نظرا لشرهم للطعام والتدخين..لكن يبقى تأثير المجتمعات المسلمة التى يعيشون وسطها عاملا مهما فى شحذ عزيمتم وتقوية إرادتهم على تحمل الجوع والعطش، فهم يستلهمون الصبر والجلد من مسلمين يصومون فى ظروف مناخية قاسية..وفى حالات أخرى يصبح الصوم نوعا من المعاناة عندما يعودون إلى أوطانهم فى عطلات قد تتزامن وشهر رمضان حيث تسير الحياة هناك بصورة إعتيادية.
ربما يكون بينهم من اعتاد على الصوم بشكل مختلف كفرض إجبارى لدين آخر، لكن عقب تحولهم للإسلام يصبح هذا الزهد ضربا من ضروب جهاد النفس يمتحن تمسكهم بدينهم الجديد ومبادئه رغم كل التحديات.
يروى المسلمون الجدد الذين عشت بينهم فى الخليج وأوروبا تجاربهم بكل شفافية وصدق، فقد كان الصوم بالنسبة لمحمد خبيرــ وهو هندى الجنسية ـــ تجربة أصعب مما كان يتصورها فى بداية الأمر. لكن مع مرور الوقت أصبح جزءا من روتين حياته خاصة بعد أن إعتاد الصوم كل يوم اثنين وخميس.
أما يحيى ماكيرون ــ هولندى الجنسية ــ فيقول إنه لم يصم أبدا حتى كمسيحى لأن الصيام مشقة فى جميع الأديان ولكن ما زاد من خوفه من الصيام أنه كان مدمنا على الطعام و الخمر فلم يكن لديه الثقة بأنه يمكنه أن يتحمل العزوف عن المأكل و المشرب من الفجر حتى المغرب...فلما تحول للإسلام ــ وكان ذلك عشرة أيام قبل شهر رمضان ــ أصبح فى مواجهة مباشرة مع الصوم دون أية استعدادات.
وما زاد من مشقة الصوم كان بيئة العمل.. فهو يعمل فى مجال البترول...ما كان يعنى التعب والعزوف عن أية ملذات دنيوية كان يستمتع بها قبل أن يغير دينه. لكن بتشجيع زملائه الذين كانوا يؤدون وظائفهم تحت أشعة الشمس الحارقة ويقومون بأعمال تتطلب جهدا بدنيا كبيرا سأل نفسه لماذا لا يفعل مثلما يفعلون!!
عيسى ــ فلبينى الجنسية ــ والذى كان عمره وقتئذ تسعة عشر عاماــ فكان لديه مشكلة من نوع آخر... فقد كان لعيسى صديقة يحبها كثيرا ولكنه هجرها بعد أن اعتنق الإسلام...بعد أن افترقا اصيب عيسى بنوبات حادة من الإثارة الجنسية لم يحد منها إلا مواظبته على الصيام ..لقد حكى لاخوانه المسلمين عما كان ينتابه فاشاروا عليه بالصوم..ولدهشته قلت حدة تلك النوبات قبل أن تزول نهائيا.
ظن عيسى إنه كان قد يصبح فريسة للجوع فى رمضان ولكن عندما صام لأول مرة كان لديه إحساس غريب بالامتلاء.. كل أمانيه تحققت بعد الشهر الكريم: ذهب لأداء فريضة الحج.. أتته الفرصة أن يدرس الحاسب الآلى وأسلم أخوه كما كان يتمنى.
كما يحدث مع الصغار فإن تجربة الصوم عند بعض المسلمين الجدد عامة ما يصحبها نوع من تهذيب النفس... فوفق ما يقول( خبير) فإن الصوم المثالى ما هو إلا مسألة إعداد وتنظيم للروتين الرمضانى...فلابد من تناول سحور مناسب وتحاشى ملء البطون عند الإفطار..كما أن بيئة الصائم ــ والكلام لخبيرــ تلعب دورا حيويا فى تشجيعه على مواصلة هذا الفرض الدينى الشاق.
أما سعيد باتسنيكى ــ أمريكى الجنسية ـــ والذى كان قد مضى على دخوله الإسلام ثلاث سنوات فى ذلك الوقت ـــ فيرى أنه لا ضرورة للاستعدادات أوالتواجد فى البيئة المناسبة، فلو كان الإنسان مسلح بالعزم والقدرة على أن يصبح مسلما، فسيتمكن من ذلك مهما كانت االظروف أو البيئة المحيطة به، فتجد هؤلاء الذين يعملون تحت لهيب الشمس المحرقة على دراية أكبر بأنه لا حاجة للاستعدادات طالما ملك الإنسان الإرادة.
ليس هناك للسمو الروحى الذى يأتى به الصوم مثيل، خاصة عند المسلمين الجدد..يقول (سعيد على) إن الصوم كفريضة كان غريبا عليه، فلقد كانت تمر عليه أيام لا يكترث بالطعام..أنا بعد أن أسلم فكان عليه أن يفعل ذلك لهدف روحى نبيل، فالصوم رمز للوحدة والتجمع بالنسبة لكل المسلمين الذين تجمعهم ساعة الإفطار، فليس هناك تمييز أو انقسام..كل يشعر بالجوع فى وقت واحد ويمتلىء فى وقت واحد...هناك شعور قوى بالانتماء.
ويعبر (عيسى) الفلبينى عن نفس المعنى فيتذكر كيف أنه بعد أن شرح الله قلبه للإيمان بدأ يفهم لماذا كان أصدقاؤه المسلمون يتصرفون بشكل مختلف عند حلول شهر رمضان..كانوا يبتعدون عنى دون أى ميرر..كنت دائما أتساءل عن تلك القوة الساحرة التى تغيرهم إلى شيوخ وقديسين بين يوم وليلة..
أما اليوم فألومهم كل اللوم على أنهم لم يتحدثوا إلى حول هذا الأمر..إنها قوة ترتفع بالنفس وتوحدها مع الخالق جل وعلا شأنه..فالصيام يسمو بالنفس ويجعلها تخاطب كل الأرواح..يجعلنا نرى الحياة بكل اتساعها وتنوعها..بعد شهر رمضان نولد من جديد بعد أن نغتسل من جميع خطايانا..فنعيش على أمل نكرار هذا السمو الروحى فى رمضان جديد.
***
(3)
حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم
مما لاشك فيه أن الحرية هى القوة الدافعة لكل الناس والأفراد..لكنها تصبح مجالا حرجا عندما يتعلق الأمر بالدولة والسياسة والدين، فالثلاث يمثلون الحرية الفكرية وهى مساحة حساسة فى سلسلة من الجدل ترتبط بحرية الاعتقاد التى كانت موضع نقاش رئيسى فى حوار الحضارات، ولذا فالمنظور الإسلامي للأمر يعتبر من الأهمية بقدر لأنه يشكل رؤية المسلمين حول الموضوع.
نحن نعيش فى عصر يشدد فيه المجتمع الدولى على نداءات السلام بصفة مستديمة، لكن الواقع السياسى يعكس موجات من المواجهات العدائية التى تأجهها الكثير من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..ولما كان المسلمون جزءا من تلك المواجهات ، كان عليهم أن يتصدوا لوصمة الإرهاب الدينى.
البعض يعتقد أن الأمر قد حُسم بفعل الدسايتر النى كفلت حرية الاعتقاد، لكن هذا أمر يخالف الواقع، فالمسألة تقع فى إطار الإيمان لا الدساتير أو القوانين، فحرية الاعتقاد تترفع على أن تكون حقا يهبه الإنسان للإنسان.
ولما فشلت الدساتير والهيئات القانونية فى حسم الأمر كان من الضرورى دراسته فى ضوء القرآن الكريم الذى يعكس رؤية المسلمين للأديان الأخرى. كان كتاب (حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم) للكاتب التونسى عبد الرحمن حللى جهدا ممدوحا فى هذا المضمار.برغم صدوره عام 1989 فهو يتفرد دون غيره بوجه نظر فريدة: الجديد فى الكتاب ــ الذى قمت بكتابة عرض له منذ عدة سنوات بعد أن اخترته من بين عشرات العناوين المشابهة ــ أنه يركز بجانب التفسيرات القرآنية وأراء الفقهاء على الدراسات التى أنجزت فى مجال الحريات وحقوق الإنسان.
اتسمت علاقة المسلمين بغير المسلمين بالتسامح على مر التاريخ الإسلامى.فبينما محت أوروبا كل أثر للحضور الإسلامى فيها، احتفظ العالم الإسلامى بأقليات مسيحية ويهودية و زوردشتية، لكن لم تعف تلك السياسات المتسامحة الباحثين من تناول القضية من وجهة نظر فكرية فتطرقوا لمسائل شديدة الحساسية كالجهاد والردة والجزية وغيرها مما قد يكون له أثر سلبي أو إيجابي على حرية الاعتقاد.
لقد اكتسبت القضية مزيدا من الأهمية بعدما بدأت الأمة الإسلامية تأخذ بنموذج الدولة الحديثة.شدد حللى على أن الدراسات الحالية تركز على أحقية المسلم فى أن يمارس حرية الاعتقاد...يقول الكاتب بما أنها المرة الأولى التى تناقش القضية من وجهة نظر قرآنية بحتة، كان عليه أن يواجه صعاب شتى: أولها غياب مصطلح (حرية الاعتقاد) فى مصادرالإسلام الكلاسيكية وثانيها غلبة الطابع الفلسفى على المصطلح فى حالة العثور عليه وثالثها ارتباط الموضوع بقضايا سياسية وتاريخية وفقهية.
يأتى الكاتب بست آيات قرآنية من شأنها أن تمهد لثبوت حرية الاعتقاد فى الإسلام:
الأولى : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(البقرة 256)
الثانية: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس 99)
الثالثة: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الزمر 15)
الرابعة: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(هود 28)
الخامسة: لكم دينكم ولى دين (الكافرون 6)
السادسة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (الكهف 29)
فمعانى الآيات واضحة وصريحة فهى تشدد على أنه لا إكراه فى الدين، فلو شاء الله لآمن جميع من على الأرض ومهمة الرسل تقتصرعلى تبليغ الرسالة وليس على فرضها. لقد حبا الله الإنسان الإرادة فإذا ما بُلغ رسالة الرسل فإنه يختار الطريق الذى تمليه عليه إرادته لكن لا يمكنه أن يجبر غيره على اعتناق أى دين باستخدام القوة. فما ( لكم دينكم ولى دين) إلا المبدأ الذى يجب أن يفصل بين فئتين تتنازعان بشأن العقيدة.
يأتى حللى بآيات اخرى غير مباشرة تؤكد نفس النتيجة، فلا إكراه فى الدين لأن الله شاء أن يعيش الناس على الأرض كأمم وقبائل مختلفة.
(فلو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون يختلفون (هود118)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (يونس 19)
جميعها تشدد على أن الله شاء ألا يكون الناس أمة واحدة..فحكمته أبت إلا أن يخضع الإنسان لاختبارالاختيارو يحاسب على أساس الحرية التى وهبه الله إياها.. فالله فى نهاية الأمر يفصل بين الناس يوم القيامة. أما مهمة الرسل فتتلخص فى حماية تلك الحرية ودعوة الناس وفق الرسالات السماوية التى تنبذ الإجبار.
ولما لام بعض الرسل أنفسهم على عناد أقوامهم فى قبول الدعوة، فإن الله أوحى إليهم بأنهم مسئولون فقط عن الجدل والإقناع فلا يحق لهم الإكراه والإجبار..
فالله أودع فى وعى الإنسان النزعة الفطرية للحرية وشدد على جدواها فى خلق أفق من الفكر الإنسانى يسعى به الخلق إلى سبرأغوار الحقيقة واكتشافها، وبذلك تحرر فكرالإنسان من غلبة تأثيرالإيمان بالمعجزات والخوارق عليه. فالعقل المتحرر من وطأة الخوارق وإملاءات الإجبار سيتمكن من الوصول إلى الإيمان عن طريق الفكر السليم.
فحرية الفكر واحدة من أعمدة الإيمان الحق..فلقد رفض الإسلام إتباع التقاليد والنماذج دون إخضاعها لسلطة العقل..فالتقليد الأعمى يتنافى ومبدأ الإختيار والمسئولية التى تترتب عليه.. فهى لا يناقض فقط الحرية ولكنه مرادف آخر للإجبار.
سبق نقاش الكاتب حول موضوع الكتاب تمييز هام بين حرية الإعتقاد والحرية الدينية.. فوفق ما يقول حللى إنه برغم من ارتباط الاثنين ببعضهما البعض، إلا أنه يجب أن نفصل المفهومين كل علن الآخر..فحرية الاعتقاد أكثر شمولية وتندرج تحتها الأفكار والمبادىء والمفاهيم، سواء كانت دينية أو غير ذلك..أما الحرية الدينية فترتبط ارتباطا وثيقا بعدد من الواجبات والالتزامات.
لكن يحذر الكاتب من أن تترجم حرية الاعتقاد إلى حق شرعى للخوض فى معتقدات متنوعة..كما أنها يجب ألا تتطورإلى نوع من الجدل ضد الدين او الثورة على النظام الحاكم أو العبث بمعتقدات الآخرين وحقوقهم.
يدور النقاش القائم فى النصف الثانى من الكتاب حول هذا التمييز..فلما وقعت الردة والعدوان على عقائد المسلمين..حُق الجهاد ضد محاولات و جهود منظمة كان هدفها إشاعة الفوضى فى الدولة الإسلامية وفرض القيود على حرياتها.
لقد كانت حروب الردة نوعا من حماية حق الاعتقاد..وأضحى استمرارها ضربا من ضروب ردع الأعداء لفرض عقائدهم على المسلمين. أما الجزية ففرضت فى وقت لم يعهد فيه للأقليات الدينية بالمشاركة فى الدفاع عن الوطن.ثم أصبحت بديلا للزكاة إلى أن سقطت تماما بعد تم أن إدماج تلك الأقليات فى الجيوش الإسلامية.
***
الحيرة حول هلال شهر رمضان
من كل الأشهر العربية لا يحظى شهر باحتفاء وطول انتظار سوى شهر رمضان المبارك. يلتف المسلمون فى جميع أنحاء العالم حول أجهزة الراديو والتلفزيون لسماع الخبر المنتظر، ألا وهو ظهور الهلال فى أى جزء من السماء. لكن ما قد يفسد الفرحة بحلول الشهر الكريم هذا الخلاف الذى طالما ينشب بين المسلمين حول حقيقة رؤية الهلال.
فالشهر العربى عامة يمتد بين تسعة وعشرين وثلاثين يوما...وفى عصور الإسلام الأولى كان الهلال علامة مؤكدة لبداية ونهاية الشهر الكريم وذلك لأنه لم يكن لدى المسلمين الأوائل علم كاف بالحسابات الفلكية، فكان لابد من رؤية الهلال بالعين المجردة، فيكفى أن يشاهده اثنان من ذوى الثقة ليتم إعلان بداية الصوم.
اتبع الناس العرف السائد وهو أن ظهور الهلال فى بلد مسلم يجعل الصيام ملزما لباقى الدول الإسلامية الأخرى. لم يكن هناك وسائل اتصالات تربط بين الدول فكانت بداية رمضان واحدة للبلاد المجاورة بعضها لبعض..غير أنه كان هناك حالات صام فيها البعض يوما قبل البداية وأخر بعد النهاية. حتى يومنا هذا ما يزال الإجماع حول بداية الشهر مسألة جوهرية لتأكيد تآخى المسلمين ووحدتهم.
هناك إعتقاد سائد أن التكنولوجيا الحديثة قد سهلت الأمور، لكن حقيقة الأمر أن الإتفاق على بداية الشهر اليوم أصبح مسألة أكثرإثارة للجدل، فالحيرة بين استخدام الحسابات الفلكية والوسائل التكنولوجية المتقدمة من جانب وبين الطرق التقليدية من جانب آخر لايزال أمرا واقعا.
غير أن هناك العديد من الأحاديث التى تشير إلى أن الرسول والصحابة ــ عليهم أفضل السلام ـــ اختلفوا أيضا حول أمر الرؤية. فوفق ما ورد فى الموقع الإلكترونى لـلــ ( الجميعة الإسلامية لشمال أمريكا)، فإن النقاش يدورحول أربع نقاط أساسية: أولا هل يجب الصوم فى البلاد الأخرى لو ظهر الهلال فى بلد واحد؟ ثانيا هل نبدأ الصيام لو تم رؤية الهلال فى المملكة العربية السعودية أو أى بلد آخر، أو أن نلتزم برصد الهلال محليا؟ ثالثا كيف نتصرف فى حالة تلبد السماء بالغيوم واستحالة رصد الهلال؟ رابعا فإذا كانت الحسابات الفلكية ممكنة فما الداعى لرؤية الهلال؟
بالتشاور مع (مجلس الفقة لأمريكا الشمالية)، رأى (مجلس الشورى الإسلامى) فى أمريكا الشمالية أنه سيتم قبول أى تقرير يشير إلى ثبوت رؤية الهلال فى أمريكا الشمالية طالما أنه لا يناقض الحسابات الفلكية. ولكن يؤكد الخبراء أن الحسابات التكنولوجية المتقدمة أكثر دقة من أى إدعاءات بخصوص الرؤية التى قد يشوبها الشك والخطأ بسبب اختلاط أجسام سماوية أخرى بشكل الهلال.
كما أنه فى بعض البلاد التى قد تتغير فيها الأحوال المناخية الصديقة للرؤية بشكل دائم ــ مثلما هو الحال فى البحر الكاريبى الذى تضربه الأمطار باستمرار أو فى القطب الشمالى الذى يمتد فيه النهارلشهور طويلةــ فلا حل سوى الحسابات الفلكية. أما المؤيدين للرؤية فيقولون إن الحسابات ضرورية فقط فى حالات الطقس السىء. يقول بعض العلماء أنه لا يمكن تجاهل الحسابات الفلكية خاصة فى العصر الذى نجح فيه الإنسان فى الهبوط على سطح القمر.
لكن لماذ نبدأ الصيام فى أوقات مختلفة؟ فهل يمكن أن نعزى ذلك إلى اختلاف الحسابات الفلكية من بلد إلى بلد؟ يقول البعض إنه إذا كنا نصلى فى أوقات مختلفة، فعلينا أن نسلم بأننا نصوم فى أوقات مختلفة أيضا. ولكن يتفق أغلب العلماء على أن الحسابات الفلكية ضرورية لمحاجة أى رؤية قد لا تتسم بالدقة.
كان بمقدور المسافات الطويلة التى تفصل بين بلد وأخر أن تسقط صحة وجوب الصوم فى جميع البلاد طالما ظهر الهلال فى بلد واحد. فى زمن الرسول والعصور التى تلته كان الكثيرون يصومون يوما بعد نهاية الشهر لتشككهم فى صحة الحسابات والروىء على السواء. يعتمد التقويم الإسلامى على أطوار القمر،
فرمضان هو الشهر التاسع فى هذا التقويم الذى يتقدم فيه التاريخ كل عام احدى عشر يوما وهذا ما يسبب الجدل القائم كل عام حول بداية شهر رمضان ويدفع البعض إلى الخروج لتقصى الهلال بأنفسهم.
وفق ما يقول علماء الفلك فإن حجم الارض وانحناءها هما ما يجعلان القمر يظهر فى أيام وأماكن مختلفة وبالتالى ما يسببان بداية رمضان فى أيام مختلفة كل عام. فيما ينتظر المسلمون حلول شهر رمضان تستقبل المجالس الإسلامية تقارير عدة عن رؤية الهلال وتستغرق وقتا لإثبات صحتها.
كثير منها يفضل الرؤية التقليدية ويرسل مبعوثين لتقصى الهلال...هناك من تلك المجالس من يأسف على أن بلدين متجاورين كالأردن وسوريا مثلا يصومان فى بعض السنين فى أيام مختلفة مع أن ثبوت الرؤية فى أى منهما لابد أن يوجب الصوم فى الأخر.
احتفالات رمضان اليوم ما هى إلا صدى لتقاليد الماضى لكن بعضها تشكل نتيجة لظروف جعرافية ومناخية كما هو فى البيئات البدوية التى كان الهلال فيها يرى بالعين المجردة بواسطة رجل من ذوى الثقة وشاهدين الذين ينقلون الرؤية إلى شيخ القبيلة وتكتسب رؤيتهم التصديق بعدما يؤدون القسم على القرآن الكريم.
بدوره يرسل الشيخ رسله ليبلغوا العشائر البعيدة بثبوت الرؤية... شعلة كبيرة من النار كانت واحدة من الوسائل التى يتم بها إبلاغ الناس عن يدء الشهر الكريم..طبعا كان ذلك قبل أن يعرف البدو كيف يستخدمون الأسلحة النارية التى أصبحوا يعلنون بها بعد ذلك بداية الصوم بإطلاق النار فى الهواء.
من المشكلات التى واجهت الصائمين فى الماضى كانت تحديد أوقات الإفطار بالأخص عند البدو الرحل..فى بعض الأيام المغيمة الممطرة كانت الشمس تشرق فجأة بعد أن يشرع الصائمون فى الإفطار. كان الصيام شاقا فى أيام الصيف بسبب طول أيام النهار ولكنه كان مثاليا لرصد الهلال والصوم.
***
(2)
جهاد النفس فى أروع صوره... صيام المسلمين الجدد
صيام الأطفال قد يكون شاقا.. ولكنه أسهل من صيام بالغ ينوى التعود على الصوم، فالأفضل أن تُكتسب عادة الصيام منذ الصغر..فهؤلاء الذين لم يعتادوا على الصوم صغارا عليهم أن يواجهوا مواقف قد لا تخلوا من الحرج عند احتكاكهم بالصائمين.
أما بالنسبة للمسلمين الجدد فالتجربة مختلفة تماما: فبجانب الحرج الذى يقعون فيه وسط جموع الصائمين، فإن الصوم يأتى كأكبر تحد لهم بعد تحولهم للإسلام. بالنسبة إليهم ليس الصوم فقط عزوف عن الطعام والشراب ولكنه أيضا زهد للملذات التى اعتادوا عليها فى مجتمعاتهم الأصلية.
البعض منهم يعتاد على الصوم مع مرورالزمن والبعض الآخر يجد فيه مشقة جمة نظرا لشرهم للطعام والتدخين..لكن يبقى تأثير المجتمعات المسلمة التى يعيشون وسطها عاملا مهما فى شحذ عزيمتم وتقوية إرادتهم على تحمل الجوع والعطش، فهم يستلهمون الصبر والجلد من مسلمين يصومون فى ظروف مناخية قاسية..وفى حالات أخرى يصبح الصوم نوعا من المعاناة عندما يعودون إلى أوطانهم فى عطلات قد تتزامن وشهر رمضان حيث تسير الحياة هناك بصورة إعتيادية.
ربما يكون بينهم من اعتاد على الصوم بشكل مختلف كفرض إجبارى لدين آخر، لكن عقب تحولهم للإسلام يصبح هذا الزهد ضربا من ضروب جهاد النفس يمتحن تمسكهم بدينهم الجديد ومبادئه رغم كل التحديات.
يروى المسلمون الجدد الذين عشت بينهم فى الخليج وأوروبا تجاربهم بكل شفافية وصدق، فقد كان الصوم بالنسبة لمحمد خبيرــ وهو هندى الجنسية ـــ تجربة أصعب مما كان يتصورها فى بداية الأمر. لكن مع مرور الوقت أصبح جزءا من روتين حياته خاصة بعد أن إعتاد الصوم كل يوم اثنين وخميس.
أما يحيى ماكيرون ــ هولندى الجنسية ــ فيقول إنه لم يصم أبدا حتى كمسيحى لأن الصيام مشقة فى جميع الأديان ولكن ما زاد من خوفه من الصيام أنه كان مدمنا على الطعام و الخمر فلم يكن لديه الثقة بأنه يمكنه أن يتحمل العزوف عن المأكل و المشرب من الفجر حتى المغرب...فلما تحول للإسلام ــ وكان ذلك عشرة أيام قبل شهر رمضان ــ أصبح فى مواجهة مباشرة مع الصوم دون أية استعدادات.
وما زاد من مشقة الصوم كان بيئة العمل.. فهو يعمل فى مجال البترول...ما كان يعنى التعب والعزوف عن أية ملذات دنيوية كان يستمتع بها قبل أن يغير دينه. لكن بتشجيع زملائه الذين كانوا يؤدون وظائفهم تحت أشعة الشمس الحارقة ويقومون بأعمال تتطلب جهدا بدنيا كبيرا سأل نفسه لماذا لا يفعل مثلما يفعلون!!
عيسى ــ فلبينى الجنسية ــ والذى كان عمره وقتئذ تسعة عشر عاماــ فكان لديه مشكلة من نوع آخر... فقد كان لعيسى صديقة يحبها كثيرا ولكنه هجرها بعد أن اعتنق الإسلام...بعد أن افترقا اصيب عيسى بنوبات حادة من الإثارة الجنسية لم يحد منها إلا مواظبته على الصيام ..لقد حكى لاخوانه المسلمين عما كان ينتابه فاشاروا عليه بالصوم..ولدهشته قلت حدة تلك النوبات قبل أن تزول نهائيا.
ظن عيسى إنه كان قد يصبح فريسة للجوع فى رمضان ولكن عندما صام لأول مرة كان لديه إحساس غريب بالامتلاء.. كل أمانيه تحققت بعد الشهر الكريم: ذهب لأداء فريضة الحج.. أتته الفرصة أن يدرس الحاسب الآلى وأسلم أخوه كما كان يتمنى.
كما يحدث مع الصغار فإن تجربة الصوم عند بعض المسلمين الجدد عامة ما يصحبها نوع من تهذيب النفس... فوفق ما يقول( خبير) فإن الصوم المثالى ما هو إلا مسألة إعداد وتنظيم للروتين الرمضانى...فلابد من تناول سحور مناسب وتحاشى ملء البطون عند الإفطار..كما أن بيئة الصائم ــ والكلام لخبيرــ تلعب دورا حيويا فى تشجيعه على مواصلة هذا الفرض الدينى الشاق.
أما سعيد باتسنيكى ــ أمريكى الجنسية ـــ والذى كان قد مضى على دخوله الإسلام ثلاث سنوات فى ذلك الوقت ـــ فيرى أنه لا ضرورة للاستعدادات أوالتواجد فى البيئة المناسبة، فلو كان الإنسان مسلح بالعزم والقدرة على أن يصبح مسلما، فسيتمكن من ذلك مهما كانت االظروف أو البيئة المحيطة به، فتجد هؤلاء الذين يعملون تحت لهيب الشمس المحرقة على دراية أكبر بأنه لا حاجة للاستعدادات طالما ملك الإنسان الإرادة.
ليس هناك للسمو الروحى الذى يأتى به الصوم مثيل، خاصة عند المسلمين الجدد..يقول (سعيد على) إن الصوم كفريضة كان غريبا عليه، فلقد كانت تمر عليه أيام لا يكترث بالطعام..أنا بعد أن أسلم فكان عليه أن يفعل ذلك لهدف روحى نبيل، فالصوم رمز للوحدة والتجمع بالنسبة لكل المسلمين الذين تجمعهم ساعة الإفطار، فليس هناك تمييز أو انقسام..كل يشعر بالجوع فى وقت واحد ويمتلىء فى وقت واحد...هناك شعور قوى بالانتماء.
ويعبر (عيسى) الفلبينى عن نفس المعنى فيتذكر كيف أنه بعد أن شرح الله قلبه للإيمان بدأ يفهم لماذا كان أصدقاؤه المسلمون يتصرفون بشكل مختلف عند حلول شهر رمضان..كانوا يبتعدون عنى دون أى ميرر..كنت دائما أتساءل عن تلك القوة الساحرة التى تغيرهم إلى شيوخ وقديسين بين يوم وليلة..
أما اليوم فألومهم كل اللوم على أنهم لم يتحدثوا إلى حول هذا الأمر..إنها قوة ترتفع بالنفس وتوحدها مع الخالق جل وعلا شأنه..فالصيام يسمو بالنفس ويجعلها تخاطب كل الأرواح..يجعلنا نرى الحياة بكل اتساعها وتنوعها..بعد شهر رمضان نولد من جديد بعد أن نغتسل من جميع خطايانا..فنعيش على أمل نكرار هذا السمو الروحى فى رمضان جديد.
***
(3)
حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم
مما لاشك فيه أن الحرية هى القوة الدافعة لكل الناس والأفراد..لكنها تصبح مجالا حرجا عندما يتعلق الأمر بالدولة والسياسة والدين، فالثلاث يمثلون الحرية الفكرية وهى مساحة حساسة فى سلسلة من الجدل ترتبط بحرية الاعتقاد التى كانت موضع نقاش رئيسى فى حوار الحضارات، ولذا فالمنظور الإسلامي للأمر يعتبر من الأهمية بقدر لأنه يشكل رؤية المسلمين حول الموضوع.
نحن نعيش فى عصر يشدد فيه المجتمع الدولى على نداءات السلام بصفة مستديمة، لكن الواقع السياسى يعكس موجات من المواجهات العدائية التى تأجهها الكثير من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..ولما كان المسلمون جزءا من تلك المواجهات ، كان عليهم أن يتصدوا لوصمة الإرهاب الدينى.
البعض يعتقد أن الأمر قد حُسم بفعل الدسايتر النى كفلت حرية الاعتقاد، لكن هذا أمر يخالف الواقع، فالمسألة تقع فى إطار الإيمان لا الدساتير أو القوانين، فحرية الاعتقاد تترفع على أن تكون حقا يهبه الإنسان للإنسان.
ولما فشلت الدساتير والهيئات القانونية فى حسم الأمر كان من الضرورى دراسته فى ضوء القرآن الكريم الذى يعكس رؤية المسلمين للأديان الأخرى. كان كتاب (حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم) للكاتب التونسى عبد الرحمن حللى جهدا ممدوحا فى هذا المضمار.برغم صدوره عام 1989 فهو يتفرد دون غيره بوجه نظر فريدة: الجديد فى الكتاب ــ الذى قمت بكتابة عرض له منذ عدة سنوات بعد أن اخترته من بين عشرات العناوين المشابهة ــ أنه يركز بجانب التفسيرات القرآنية وأراء الفقهاء على الدراسات التى أنجزت فى مجال الحريات وحقوق الإنسان.
اتسمت علاقة المسلمين بغير المسلمين بالتسامح على مر التاريخ الإسلامى.فبينما محت أوروبا كل أثر للحضور الإسلامى فيها، احتفظ العالم الإسلامى بأقليات مسيحية ويهودية و زوردشتية، لكن لم تعف تلك السياسات المتسامحة الباحثين من تناول القضية من وجهة نظر فكرية فتطرقوا لمسائل شديدة الحساسية كالجهاد والردة والجزية وغيرها مما قد يكون له أثر سلبي أو إيجابي على حرية الاعتقاد.
لقد اكتسبت القضية مزيدا من الأهمية بعدما بدأت الأمة الإسلامية تأخذ بنموذج الدولة الحديثة.شدد حللى على أن الدراسات الحالية تركز على أحقية المسلم فى أن يمارس حرية الاعتقاد...يقول الكاتب بما أنها المرة الأولى التى تناقش القضية من وجهة نظر قرآنية بحتة، كان عليه أن يواجه صعاب شتى: أولها غياب مصطلح (حرية الاعتقاد) فى مصادرالإسلام الكلاسيكية وثانيها غلبة الطابع الفلسفى على المصطلح فى حالة العثور عليه وثالثها ارتباط الموضوع بقضايا سياسية وتاريخية وفقهية.
يأتى الكاتب بست آيات قرآنية من شأنها أن تمهد لثبوت حرية الاعتقاد فى الإسلام:
الأولى : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(البقرة 256)
الثانية: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس 99)
الثالثة: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الزمر 15)
الرابعة: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(هود 28)
الخامسة: لكم دينكم ولى دين (الكافرون 6)
السادسة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (الكهف 29)
فمعانى الآيات واضحة وصريحة فهى تشدد على أنه لا إكراه فى الدين، فلو شاء الله لآمن جميع من على الأرض ومهمة الرسل تقتصرعلى تبليغ الرسالة وليس على فرضها. لقد حبا الله الإنسان الإرادة فإذا ما بُلغ رسالة الرسل فإنه يختار الطريق الذى تمليه عليه إرادته لكن لا يمكنه أن يجبر غيره على اعتناق أى دين باستخدام القوة. فما ( لكم دينكم ولى دين) إلا المبدأ الذى يجب أن يفصل بين فئتين تتنازعان بشأن العقيدة.
يأتى حللى بآيات اخرى غير مباشرة تؤكد نفس النتيجة، فلا إكراه فى الدين لأن الله شاء أن يعيش الناس على الأرض كأمم وقبائل مختلفة.
(فلو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون يختلفون (هود118)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (يونس 19)
جميعها تشدد على أن الله شاء ألا يكون الناس أمة واحدة..فحكمته أبت إلا أن يخضع الإنسان لاختبارالاختيارو يحاسب على أساس الحرية التى وهبه الله إياها.. فالله فى نهاية الأمر يفصل بين الناس يوم القيامة. أما مهمة الرسل فتتلخص فى حماية تلك الحرية ودعوة الناس وفق الرسالات السماوية التى تنبذ الإجبار.
ولما لام بعض الرسل أنفسهم على عناد أقوامهم فى قبول الدعوة، فإن الله أوحى إليهم بأنهم مسئولون فقط عن الجدل والإقناع فلا يحق لهم الإكراه والإجبار..
فالله أودع فى وعى الإنسان النزعة الفطرية للحرية وشدد على جدواها فى خلق أفق من الفكر الإنسانى يسعى به الخلق إلى سبرأغوار الحقيقة واكتشافها، وبذلك تحرر فكرالإنسان من غلبة تأثيرالإيمان بالمعجزات والخوارق عليه. فالعقل المتحرر من وطأة الخوارق وإملاءات الإجبار سيتمكن من الوصول إلى الإيمان عن طريق الفكر السليم.
فحرية الفكر واحدة من أعمدة الإيمان الحق..فلقد رفض الإسلام إتباع التقاليد والنماذج دون إخضاعها لسلطة العقل..فالتقليد الأعمى يتنافى ومبدأ الإختيار والمسئولية التى تترتب عليه.. فهى لا يناقض فقط الحرية ولكنه مرادف آخر للإجبار.
سبق نقاش الكاتب حول موضوع الكتاب تمييز هام بين حرية الإعتقاد والحرية الدينية.. فوفق ما يقول حللى إنه برغم من ارتباط الاثنين ببعضهما البعض، إلا أنه يجب أن نفصل المفهومين كل علن الآخر..فحرية الاعتقاد أكثر شمولية وتندرج تحتها الأفكار والمبادىء والمفاهيم، سواء كانت دينية أو غير ذلك..أما الحرية الدينية فترتبط ارتباطا وثيقا بعدد من الواجبات والالتزامات.
لكن يحذر الكاتب من أن تترجم حرية الاعتقاد إلى حق شرعى للخوض فى معتقدات متنوعة..كما أنها يجب ألا تتطورإلى نوع من الجدل ضد الدين او الثورة على النظام الحاكم أو العبث بمعتقدات الآخرين وحقوقهم.
يدور النقاش القائم فى النصف الثانى من الكتاب حول هذا التمييز..فلما وقعت الردة والعدوان على عقائد المسلمين..حُق الجهاد ضد محاولات و جهود منظمة كان هدفها إشاعة الفوضى فى الدولة الإسلامية وفرض القيود على حرياتها.
لقد كانت حروب الردة نوعا من حماية حق الاعتقاد..وأضحى استمرارها ضربا من ضروب ردع الأعداء لفرض عقائدهم على المسلمين. أما الجزية ففرضت فى وقت لم يعهد فيه للأقليات الدينية بالمشاركة فى الدفاع عن الوطن.ثم أصبحت بديلا للزكاة إلى أن سقطت تماما بعد تم أن إدماج تلك الأقليات فى الجيوش الإسلامية.
***