محمد السلاموني - [8] فى المنهج النقدى: المنهج الإيحائى

[8]

المنهج الإيحائى

نموذج تطبيقى :
أقصوصة (اللعبة) إحدى أقاصيص مجموعة [لمح البصر] للقاص "سيد الوكيل"، سأتخذ منها نموذجا لمقاربة السَّرد الحُلمى...
نص (اللعبة):
[شواهد قبور بلا عدد ، كأنى فى متاهة ، أدور بينها بلا نهاية . ليس غير الصمت والظلام هنا ، غير أنى قادر على رؤية أسماء الموتى بوضوح ، مكتوبة على بلاطات من رخام ، لكل مقبرة بلاطة عليها إسم صاحبها .
رحت أقرأ الأسماء بصوت عالٍ ، وأظن ، أننى كنت أخطئ الهجاء ، حتى غمرنى الخجل من الولد والبنت اللذين يتبعانى ، كانا يضحكان فى كل مرة أخطئ الهجاء .
الآن أرى عمالا يحفرون قبورا جديدة ، وخطاطين يكتبون الأسماء على بلاطات الرخام ، وآخرين يثبتونها بعناية على القبور .
الولد والبنت مازالا يتبعانى ، ويعرضان علىّ أن أكتب إسمى بقرش . كنت مندهشا ، كيف لشابين على هذا الرقى والهندام أن يتسولا فى المقابر ، لكنى أعطيتهما قرشا ، فأشارا لى أن أتبعهما ، فتبعتهما .
إنتهينا إلى مقبرة ذات زخارف ومقرنصات ملونة ، تعكس فخامة تاريخية ، كأنها لملك عظيم . فى صدارتها بلاطة رخام كبيرة ، يكسوها غبار كثيف ، فتعذر علىّ أن أقرأ الإسم الذى عليها . هكذا إقتربت ورحت أمسحها بكفى ، كلما مسحت الغبار محوت جزءً من إسمى ، أمسح الغبار فأمحو ، وحين انتهيت بدت البلاطة فى أبهى ما يكون بلا أسماء . عندئذٍ انفتح باب المقبرة .
رأيت بضع درجات تنزل لأسفل ، وثم هواء بارد يغمرنى حتى اقشعر له بدنى ، غير أن الولد والبنت راحا يحثانى على النزول ، ويتقدمانى ، فتبعتهما وجلا ، وهما يمضيان إلى دهليز مظلم ، كلما تقدما بديا أصغر من سنهما ، حتى صارا طفلين يتقافزان أمامى فى مرح ، ويتبادلان ضحكات مكتومة .
مازلت اتبعهما ، حتى انتهينا إلى ميدان فسيح ، كان مضيئا ومليئا بدكاكين الحلوى ومحلات اللعب ، فاشتريت للطفلين شيئا على سبيل الإمتنان . ثم عبرت وحدى إلى الجانب الآخر من الميدان . ] ..
[أ] التحليل:
للحُلم كظاهرة بنية خاصة به ، ويخضع فى تكوينه لمجموعة من الخصائص التقنية المميزة للفنتازيا ، وهو ما بات معهودا الآن ، ومنها : التداخلات الزمانية والمكانية ، التحولات الرمزية للكائنات والأشياء ، الإنتقالات الفجائية - أو عمليات المونتاج السينمائية ، هذا فضلا عن أنه يقدم عادة فى إطار (لقطة وجهة النظر) ..
هذا التتابع السّيّال ، يسفر عادة عن حبكة مفككة ، لا تستند إلى منطق درامى أوسببى ؛ ذلك أن " المعنى الغائب " أوالمختبئ فى التربة العميقة للمشهدية الحلمية ، هو ما تنشَدُّ إليه جميع العناصر المكونة للحُلم ، أى أن المشهدية الحُلمية تتتابع ، فى تشظيها وتبعثرها ، وفقا لإرادة ذلك المعنى ، من هنا كانت الآلية الرمزية هى أداة عمل الحلم ..
ومعلوم أننا نتعرّف على (الحُلم) من خلال تلك المظاهر التقنية (التى هى أحد قوالب التعبير السردى- اللغوى) ، حتى لو لم نعثر على الكلمة الدالة عليه (كحُلم) داخل النص ..
غير أن ما يعنينى ، هو أن (الحُلم) – هنا – ذو طبيعة دلالية لا واقعية ؛ أعنى أننا لسنا أمام (الحُلم – كشئ واقعى ، تمثِّله اللغة) ، فذلك (الحُلم – الشئ) ، وهو ما ينطوى عليه البعد التمثيلى للغة ، يقيم هناك ، فى (العمق الظِّلى للذاكرة المرجعية ، التواصلية) ، باعتباره "المركز التعريفى- الخام"، يحضر فى خلفية الأقصوصة كظل عالق فى ذاكرة اللغة السردية، تتعَيَّن الدلالة المجازية للسرد بمقدار ابتعادها عنه...
(الحُلم- الدلالى) ، الذى أمكن لنا الإمساك به ، على الرغم من عدم ذكر كلمة (حُلم) فى النص ، ناتج عن الإمكانات اللانهائية للنظام اللغوى المفارق لنظام الأشياء ، هذا وما ألح به علينا ، وقام بوضعنا قبالته مباشرة ، هو مجموع الدوال والمدلولات المكونة للنص ككل ، تلك التى (كُتِبَت) فى علاقتها بالدوال والمدلولات الأخرى التى لم (تُكتَب) فى النص – فعلى الرغم من (غيابها) ، إلا أنها هى الصانعة لحضوره ..
الحُلم واللغة والأقصوصة :
1) غير أن أهم ما يتميز به (الحلم) ، هو (عدم تطابق الهيئة المرئية للأشياء والشخصيات مع ما يعرفه عنها الحالم فى الواقع ، وإن كانت دلالتها ، هى نفسها ، حاضرة فى ذهنه) ، أى أننا فى الحلم نرى الدوال منفصلة عن المدلولات ، أو نرى المدلولات ملتحمة بدوال أخرى غير تلك التى اعتدنا أن نراها ملتحمة بها فى الواقع ، ومع ذلك فالحالم يحيا فى عالم الإلتباس الحُلمى مستضيئا بالمدلول الذى يقيم فى ذهنه .
هذا وما يثير دهشتنا عند اليقظة ، هو إدراكنا للطبيعة الرمزية للحُلم (تلك التى لم ندركها فى الحُلم) ، لذا يظل إدراكنا متمحورا حول : (لماذا هذا الإختلاف الشكلى ؟ وما دلالته ؟) ، وبكلمة واحدة ، ما يشغلنا هو (دلالة تعدُّدِيَّة الدال) رغم (واحدية المدلول) ...
من هنا كان (السرد الحُلمى) - بما هو إستعادة أو تذكر للحُلم - محاولة للإمساك بتلك الإشكالية .. / هذا دون أن ننسى أو نتناسى أننا هنا إزاء نص أقصوصى يستلهم البنية الإستعارية الحُلمية دون أن يكون حُلما واقعيا يستوجب التفسير أو التأويل .
2) عدم تطابق الدال الحُلمى مع الدال الواقعى ، رغم واحدية الدلالة ، هو موضع إشتغال الكتابة الحُلمية ؛ فى زمن اليقظة . لكننا نلاحظ أن العملية برمتها تنطوى على تحويل للحُلم من طبيعته (المرئية) إلى طبيعة أخرى (لغوية) ، لا تنفى رمزيته بقدر ما تضيف إليها (أو تضعها) - من خلال عملية الكتابة – (فى القلب من) رمزية أخرى ..
من هنا كانت اللغة (الرمزية بطبيعتها) ، وبماهى (تسْمِيَة ، وصفية وسردية) لما تحتوى عليه الصور الحُلمية ، تأويلا للحُلم ... مما يعنى أن السرد الأقصوصى للحُلم ليس محايدا ، بقدر ماهو (منظور تأويلى للحُلم) ، يقدمه (السارد) الذى يشغل موقع (الحالم) فى السرد ...
لكن (عملية التَّسْمِيَّة) التى يقوم بها السارد تجاه الصور الحُلمية ، فى حقيقتها ، إماتة للحُلم ذاته – فوفقا لهيجل (تسمية شئ ما هى إماتة لذلك الشئ) ، ولدى دى سوسير ، ينفصل نظام اللغة عن نظام الأشياء ، كما أن دريدا يذهب – كما ذهب هيدجر من قبل – إلى أن العالم يقيم ، يستوطن ، اللغة ؛ فى تجاوز لثنائية (الواقع / المجاز) ...
مما يعنى أن تحويل الحُلم من الطبيعة المرئية إلى الطبيعة اللغوية ، يضعنا أمام (لغة تدل) على الحُلم ، وليس أمام (لغة تمثل) الحُلم ...
إذن نحن إزاء أقصوصة هى عالم لغوى يدل على العالم الحُلمى ، دون أن يمثله ...
3) ضمير المتكلم فى الأقصوصة يكشف لنا عن أننا أمام ذات واحدة منقسمة إلى مستويين :(حالم وسارد) ، أى إلى (أنا وآخر) ، لذا يبدو السارد ممتلكا لوعى الحالم ؛ الذى يرى (الدال - رغم إلتباسه - ملتحما بالمدلول الذى فى ذهنه) ، ذلك أن الحالم ، أثناء إنغماسه فى الحُلم ، يبدو متماهيا تماما مع العالم الحُلمى ، ولا يشعر بإختلاف (هيئة الدال) إلا بعد أن يستيقظ ، وكما نلاحظ ، فالسارد هو الذى يشير إلى اختلاف الدال الحُلمى عن الدال الواقعى مستضيئا بوحدة مدلولهما .
مما يعنى أن السارد هو الذى يحوِّل الحُلم إلى إشكالية متعلقة بـ (تعدد الدال ، فى مقابل واحدية المدلول) ، أى أنه هو الذى يصنع رمزية الحُلم ، وليس الحالم نفسه .
فـ (الحالم- دلالة) نستدل عليها من الدوال النصِّية الحُلمية المنبنية على إزدواجية الدال ، دون أن يعى - هو نفسه - تلك الإزدواجية ، بينما (السارد- دلالة) تعى ازدواجية الدال ، وتتساءل بشأنه باعتباره انفصالا بين طرفى العلامة . وتلك هى الإشكالية (المفارقتية) التى ينطوى عليها السرد الحُلمى قاطبة .
4) (السارد) ، كان معنيا تماما بتسمية الصور الحُلمية ، لذا اقتصر فى تعامله مع (اللغة) على (تسمية) - أو قل على (توطين) - الأشياء كما هى والأحداث كما وقعت ، دون حمولات دلالية إضافية (جذرية) . ومع ذلك فهى ليست محايدة أو بريئة ، ذلك أنه لا توجد لغة بريئة .
(السرد الحُلمى) اشتغال سردى ، لغوى ، و(تبعا لرمزية اللغة الكلامية) ، فهو اشتغال رمزى تقليدى (لأن رمزية اللغة تنتمى للرموز التقليدية - كما يقول إريك فروم) ، ولما كان (الحُلم) ذاته ، عبارة عن (صور) مصاغة بلغة رمزية مرئية ، فالسرد الحُلمى يمثل تجربة من نوع خاص ؛ إذ هو (كتابة رمزية على صور رمزية) - ذلك أنه ، فى حقيقته ، وكما أشرت من قبل ، يتضمن تحويلا علاماتيا للصور إلى كلمات ...
تحولات الرموز
من (الحُلم) إلى (الكتابة) / الشرط الأقصوصى :
نحن لم نر الحُلم ، ولن نراه بطبيعة الحال . وكل ما لدينا لا يزيد عن بعد بصرى (خَطِّى) هو ما ينطوى عليه الكِتَاب كصفحات مطبوعة ، وتلك هى الصورة اللغوية الدالة على الأقصوصة ؛ وهى صورة عامة (يمتلكها كل قارئ محتَمل للكتاب) ، على العكس من الصور الحُلمية المرئية ، الشخصية ؛ تلك التى يمتلكها (الحالم) بالكاد عندما يستيقظ ، هذا والكتابة هنا اشتغال على ما أمكن للسارد تسْمِيَتِه من الحُلم ، لذا فهى بقدر ما تحاول الإمساك بالحُلم ، فإنما تعمد أيضا إلى تأويله ؛ والتأويل (تعَقـُّل) :
اللغة ؛ كرموز تقليدية (يحل فيها شئ ما محل شئ آخر ، بالإتفاق أو بالإصطلاح أو بالتواطؤ) ، تتسع للصور الحُلمية (التى عادة ما تكون دلالاتها كامنة فى ذهن الحالم) ، هذا الإتساع اللغوى يتمحور حول (توطين الصور الحُلمية المرئية فى دوال لغوية) ، بما ينقطع بها عن عالم الصور المرئية ، مما يعنى موت الحلم ومن ثم موت الحالم ، الواقعيين ، وتحولهما إلى ظلال عالقة بدوال ومدلولات لغوية تتخذ شكلا تعبيرا يدعى (الأقصوصة) .
إذن، ما لدينا هنا لا يزيد عن كتابة أقصوصية (دالة على ــ الحُلم والحَالِم) ، أعنى أنها كتابة تسعى للإمساك بدلالتهما لا لتمثيلهما ؛ فالرمز الحُلمى المرئى والدلالة الكامنة فى ذهن الحالم ، هو ما تحاول الرموز الكتابية الإمساك به - أى أنها محاولة لسد الفجوة بين الدوال الرمزية الحُلمية المرئية ودلالتها ، بإحالتهما إلى رموز لغوية ...
هذا مع ملاحظة أن الصور المرئية ، أيا كان نوعها ، وعلى الرغم من انفصالها عن اللغة ، إلاَّ أنها عادة ما تتحول إلى لغة كلامية عندما تقع عليها أبصارنا ، أى أننا لا نتلقى الصور باعتبارها صورا فقط ، بل من خلال عملية (تسمِيَة) آلية ، نقوم بها تجاه مانراه ، لذا فالمرئيات - بما فى ذلك المرئيات الحُلمية - (لغة ممحوة) ، مما يجعل من الكتابة الأقصوصية (كتابة أصلية ، مباطنة للصور ، تحضر فى الوعى ، بعد غيابها) .
إذن، السرد الحُلمى (الأقصوصى) ، هو : (كتابة المحو) أو إعادة كتابة الممحو (الأصلى) ؛ أى أن السارد يحاول فى الكتابة السردية (الواعية) الإمساك باللغة الأصلية المختبئة وراء الحُلم المرئى ، مما يضعنا أمام (جناس لغوى) ، ناتج عن العلاقة بين (حُلم – يراه النائم) و(حِلم – يُتَعَقَّل به) .
لاحظ أن (الحُلم والحِلم) هنا ، وتبعا للجناس اللفظى الجامع بينهما ، يتشابهان ، مع اختلافهما فى المعنى ، وهو ما يتكرر فى العلاقة بين الحُلم الذى يتخذ شكل الأقصوصة ، والأقصوصة التى تتخذ شكل الحِلم ؛ فذلك الإلتباس (الكتابى) هو نفسه المجسد لرمزية (الحُلم – الأقصوصة) ..
نقد (النظرية السردية) والبرنامج البديل :
السارد (يرى مع) الحالم ، أى أنه يعلم ما يعلمه الحالم ، ويتطابق معه ، مما يعنى أنه يتبنَّى (وجهة نظره) ، فإذا كان الحالم (يبئر) على ما يراه داخل الحلم ، فالسارد يفعل مثله ، لكنه يتجاوز ذلك إلى التبئير على (الحالم والحُلم) أيضا ؛ إذ يتطابق معهما ، هذا فضلا عن أنه هو الذى يقدم لنا الحُلم بوصفه مجموعة من الرموز المركزية ؛ أى أنه هو الذى يعيِّنها كرموز ، ويسعى للكشف عن دلالتها عبر الكتابة ؛ فعلى الرغم من التطابق بينه وبين الحالم إلا أن هناك (مسافة) فاصلة بينهما ، هى التى يتعيّن منها موقعه كسارد (يستعيد الحُلم فى لحظة أخرى هى لحظة الكتابة) ، هذا بالإضافة إلى البُعد الزمنى الدال على المسافة ، فالسرد الذى يرتكز على وصف اللحظة الحاضرة [شواهد قبور بلا عدد ، كأنى فى متاهة ، أدور بينها بلا نهاية . ليس غير الصمت والظلام هنا ، غير أنى قادر على رؤية أسماء الموتى بوضوح ، مكتوبة على بلاطات من رخام ، لكل مقبرة بلاطة عليها إسم صاحبها .[ ، [الآن أرى عُمَّالا يحفرون قبورا جديدة ، وخطاطين يكتبون الأسماء على بلاطات الرخام ، وآخرين يثَبِّتونها بعناية على القبور .] ، [الولد والبنت مازالا يتبعانى ، ويعرضان علىَّ أن أكتب إسمى بقرش .] ، هذا السرد، يتداخل مع السرد الإسترجاعى المرتبط بالفعل الماضى [رحت أقرأ الأسماء بصوت عالٍ ، وأظن ، أننى كنت أخطئ الهجاء ، حتى غمرنى الخجل من الولد والبنت اللذين يتبعانى ، كانا يضحكان فى كل مرة أخطئ الهجاء .] ، [كنت مندهشا ، كيف لشابين على هذا الرقى والهندام أن يتسولا فى المقابر ، لكنى أعطيتهما قرشا ، فأشارا لى أن أتبعهما ، فتبعتهما .] ، وهكذا ...
تعليق :
هذا النموذج النقدى المتعلق بـ (وجهة النظر ، والفرق بين من يرى ومن يتكلم ، والمسافة ... إلخ) ، ينبنى- كما أشرت من قبل - على ثنائية (الواقع / المجاز) ، لكن ما يمكننى قوله هنا بخصوص (السرديات) ، هو التالى :
بعد أن حل (المدهش) محل (الجميل) ، وصار هو معيار (أدبية الأدب) ؛ الذى هو (إنحراف عن اللغة العادية) - كما يقول الشكليون الروس ، أصبح (استعادة الإحساس بالحياة) ، من خلال (الإدراك) وليس المعرفة ؛ الذى يتحقق من خلال (نزع الألفة) defamiliarization ، هو ما يتمحور حوله (المدهش) ؛ كما يقول شكلوفسكى ..
مما يعنى أن النزوع الشكلى الروسى ، أدى إلى تعيين وظيفة النقد بالكشف عن التقنيات السردية كما تتبدى لنا فى النص اللغوى .. من هنا كان الإرتكاز على (تحليل الخطاب الأدبى) بالكشف عن (التقنيات التى يستند إليها ذلك الخطاب) ؛ ومنها : (وجهة النظر بأنواعها المختلفة والمنظور والمؤلف الضمنى وأنواع الراوة ، والمروى له ووكيل الراوى والتبئير والقارئ الضمنى ... إلخ) .
هذا مع ملاحظة أن (رولان بارت) حين أعلن عن (موت المؤلف) ، كان يقصد من ذلك قطع العلاقة بين (الكتابة) وكل ما يقع خارجها (المؤلف الحقيقى ، الواقع ...) ، هكذا ، فليس هناك خارج نصِّى ...
وفى تقديرى أن ثنائية (الواقع / النص) لا تكفى لتجاوز ثنائية (الواقع / المجاز) ، نظرا لأن
نظرية (المحاكاة) ؛ أى (التمثيل) ، تقول بأن (الواقع يجنح نحو التمثيل) ، أى نحو إنتاج صور (تمثله) ، أو (تنوب عنه فى الحضور) ، لذا فـ (اللغة) – لدى أصحاب تلك النظرية - كانت نظاما مرتبطا بنظام الأشياء أى بنظام الطبيعة ، ومن هنا كان (اللوغوس) يعنى تطابق المنطق والنحو أو العقل واللغة ، فقواعد المنطق هى قواعد اللغة ، وهما معا (يمثلان) الطبيعة .
ومنذ ظهور العالم اللغوى (دى سوسير) ، وقوله بإعتباطية العلامة اللغوية ، أى بعدم وجود علاقة (تمثيل) بين الكلمة والشئ ، انفصل نظام اللغة عن نظام الأشياء ، أى أن اللغة لم تعد (تمثل) الواقع أو الطبيعة أو الموجودات ، وصارت (تدل) عليه فقط ..
التحول فى النظر إلى اللغة من (تمثل) إلى (تدل) ، كان يعنى الإطاحة بنظرية المحاكاة ، بما هى (نظرية التمثيل) - فاللغة لا تستحضر الواقع نفسه فى أذهاننا ، هى تستحضر دلالته فقط ، ومن هنا صارت (الدلالة أو المعنى) هى ما تتمحور حوله إشكاليات عصرنا ...
هذا والوعى النقدى المعاصر - كما يتبدى لنا من خلال (نظرية السرد) ، يحاول إعادة تأسيس النقد على (اللغة) ، والنظر إلى النصوص بماهى أبنية لغوية ، منفصلة أو مستقلة عن الواقع ، بما يعنى تجاوز نظرية المحاكاة و (مبدأ الإحالة إلى الواقع) الذى انشغل به النقد طوال التاريخ ، هكذا فى تجاوز للثنائية القديمة (واقع / مجاز أو تمثيل) ..
لكننا نلاحظ أن تلك النظريات لم تفعل شيئا أكثر من أنها أجتهدت فى محاولة البحث عن (بدائل - هى معادِلات نصية) للواقع - فعلى سبيل المثال [(الراوى) صار هو (الأنا الثانية للمؤلف الحقيقى) ، و(المروى له أو عليه) ، صار هو البديل عن (القارئ الحقيقى) ... إلخ] .
إذا أمعنا النظر جيدا فى مثل تلك البرامج السردية الجديدة ، التى تدعى الإنطلاق من الفرضية التى تقول بانفصال نظام اللغة عن نظام الأشياء ، سنجد أنها لم تزل تعتمد تراث نظرية المحاكاة نفسها ، بعد التخلص منها (شكليا) فقط ، ذلك أن (الراوى - أو الأنا الثانية للمؤلف الحقيقى) لم يتخلص بعد من فكرة (التمثيل - أو الإنابة عن المؤلف) ونفس الشئ ينطبق على (المروى عليه) ؛ فهو ينوب – نصيا – عن القارئ ، كما أن الفرق بين (من يرى ومن يتكلم) ، والذى هو مناط تحديد (وجهة النظر) ، يستلهم فكرة (الحديث المنقول – " من ، إلى " - كما نراها فى الواقع) ، هكذا ، ولعل الأمر يبدو أكثر وضوحا إذا ما عدنا إلى (باختين) ، فكل ما قال به عن (الحواريات - وتعدد اللغات الإجتماعية) ، وعن (العلامة ؛ كحقل صراع عقائدى) ... إلخ - وبحكم ماركسيته - لا يزيد عن (نقل) الظاهرة الإجتماعية ، الصراعية الأيديولوجية حول العلامة ، إلى حقل الأدب ؛ أى أن مشروعه كله لا يزيد عن (مبحث فى "التمثيلات الإجتماعية - للتعددية اللغوية والأيديولوجية - فى الأدب " ) / هذا على الرغم مما تضمره نظريته من أفق متجاوز للتمثيل ، ذلك أن تموضع التعدد الدلالى للعلامة ، فى القلب من التعددية الإجتماعية ، لا ينفى عنها ، هى نفسها (كعلامة لغوية ، تُستَخدَم لأغراض تواصُلية وتعبيرية) ما تتأسس عليه من تعددية ، فالعلامة بقدر ما هى (كائن إجتماعى حى) ، إلا أنها (كائن لغوى) أيضا ، وإذا كان الأثنان يشتركان فى المنحى التعددى ، (إذ الطبيعة الإجتماعية للغة هى علة تعددية مدلولات اللغة) ، غير أن اشتراكهما فى هذا البُعد لا يعنى أن القوانين الحاكمة للغة هى ذاتها (الممثلة) للقوانين الحاكمة للمجتمع ..
ويبدو أن الإشكالية تعود إلى انطلاق السرديين من ثنائية (الواقع / المجاز) ، وانتصارهم للمجاز على الواقع ، باعتباره هو الحد الأعلى (المعيارى) الذى حكموا به على الواقع وليس العكس ، من هنا صار حديثهم عن (النص - كمجاز) يتحدد بالواقع الذى هو نقيضه ، مما يعنى أن (الواقع) لم يزل يمتلك (المجاز) ! ..
نخلص من ذلك إلى أن الوعى النقدى المعاصر لم يتحرر بعد من نظرية المحاكاة ، بل لعل حضور تلك النظرية قد ازداد قوة ، بفضل الجهود النقدية (السردية) المعاصرة ، وهو ما يتناقض مع الوعد بالعمل وفقا لنظرية دى سوسير ..
البرنامج البديل :
أما عن البرنامج البديل الذى أتبعه هنا ، فهو محاولة ، لم تزل تتلمس الطريق ، نحو تأويل لغوى (دلالى) ، يستثمر التصور النيتشوى المتعلق بـ (الدال) ؛ فالدال لديه لا يُخفى تحته مدلولا محددا ، بقدر ما هو مجموع إستخداماته الدلالية المتراكمة من خلال الإستعمالات الإجتماعية ، التاريخية ، المختلفة له ، أى أن الدال نفسه تتعَدَّد دلالاته بتراكم إستعمالاته ، لذا فهو ميدان متسع تدور فوقه صراعات إرادات القوى ؛ وهو ما استثمره باختين بعد ذلك فى اعتماده للعلامة (كحقل صراع عقائدى) . غير أننى لا أعتمد المنحى الباختينى الأيديولوجى ، وأمارس - بدلا منه - (الحفر الدلالى) داخل علاقات النَّسَب الإستعمالية والتاريخية المتعلقة بالدال نفسه ، كما يتمظهر لنا من خلال المعاجم والقواميس اللغوية ، بحثا عن شبكة العلاقات الدلالية التى يتموضع فى مركزها ، وهى تلك التى تتمفصَل إلى (مترادفات ومتناقضات ومتناسلات ... إلخ) ، ذلك أن بينها جميعا إرتباطات واعتمادات متبادلة ، هى التى ألحت بوجود الدال المركزى ومنحته أفقه الدلالى ، وبذا فهو لا يوجد إلا بالنسبة إليها ، ومعلوم أن الكلمة الواحدة تخفى تحتها المعجم اللغوى كله ، لذا فما يدفع بالكلمة إلى (الحضور) هو الكلمات الأخرى (الغائبة) - مما يعنى أن الكلمات توجد داخل النظام اللغوى ، بالنسبة لبعضها البعض ؛ فما يقال لا يُكشَف عن معناه سوى بعلاقاته بما لا يقال ، وتلك العلاقة ، التى هى نقطة التقاطع بين ما يقال وما لا يقال ، هى المعنى - يقول (بوتيتا) : [إن التواصل يعنى القول وعدم القول فى آن واحد . فالدلالة نفسها تنبثق فى النقطة التى يتقاطع فيها ما قيل وما لم يُقَل ... إن المنطوق (السماء زرقاء) يقتضى كل ألوان قوس قزح دون ذكرها ...] .
وهذا بقدر ما يتوقف على (السِّمة الإعتباطية للعلامة) وعلى (الطبيعة الإزدواجية للعلامة نفسها) وعلى (الحرية الفردية فى التعامل مع العلامة ؛ الناتج عن الملكات ماوراء التمثيلية التى نتمتع بها فى إخراج مختلف الحلات الذهنية " أحاسيس ، رغبات ، معتقدات ... إلخ " ، فإنما يتوقف أيضا على مرونة النظام نفسه ، الحاكم لعلاقات العلامات اللغوية ببعضها البعض وما يمنحه لها - ولنا - من قدرات تبادلية ورمزية ... إلخ ، وهو ما تتشكل به (قدرتنا اللامحدودة على البناء الرمزى للواقع) .
ذلك لأن أذهاننا مُبَنيَنَة بطرق معينة ؛ على هيئة أنساق تصوُّرية دلالية ، هى التى تضعنا أمام (علاقات التفريع الدلالى - للدال) ، مما يعنى أن أذهاننا تتخذ من الدوال مرتكزات لها ، وحول تلك المرتكزات تنجذب المجموعات الدلالية المتعلقة بالدوال ، هكذا ، فيما يشبه الدوائر المتقاطعة أو المتداخلة - لا المعزولة عن بعضها البعض .
والأمر برمته يكاد يشبه ، إلى حد كبير ، التركيب النسقى للمعاجم اللغوية ، إن لم يكن يشبهه تماما ؛ وكما نلاحظ ، فجذر (الكلمة - الدال) ، يتفرع إلى دوال أخرى ، هى العائلة الخاصة بالعلامة اللغوية المحدَّدة ، لكن تلك العلامة تترابط ترادفيا أو تناقضيا أو تناسليا ... إلخ ، بما يعادلها أو يقابلها أو يصاحبها أو يفسرها أو يحددها ، من العلامات الأخرى ؛ وتلك هى آليات تقاطع الدوائر العلاماتية مع بعضها البعض .
هكذا ، فكل كلمة فى المُعجم ترتبط بالكلمات الأخرى ، إذ تحيل إليها بطرق مباشرة وأخرى إضمارية ..
إذن ، العالم اللغوى النصِّى ، لا ينغلق داخل حدوده النَّصِّيَّة ، بل ينفتح ، باعتباره (شبكة هائلة من الدوال والمدلولات) على دوال ومدلولات اللغة ككل ؛ كما يمكن أن تتبَدَّى لنا فى المعاجم اللغوية ؛ (هذا والمُعجم اللغوى هو الواقع التاريخى نفسه ؛ مصنفا ومبَوَّبا ... إلخ - إنه سجل باللغة كما يستعملها المجتمع اللغوى عبر تاريخه ، وفيه تتفاعل وتتلاقح الدوال والمدلولات مع بعضها البعض ، فى تبادل للمواضع والمعانى والصفات ... إلخ ، على النحو الذى تتفاعل وتتلاقح به داخل أذهاننا) ..
[ب] التحليل :
(1) حين يقول هيدجر بأن (اللغة موطن الوجود) ، فإنما يعنى بهذا أن الأشياء توجد فقط حين تتخذ موقعها من اللغة ، ومن ثم ، فما لا إسم له لا وجود له .
سنلاحظ بأن (السارد) حين سرد علينا (أحلامه) ، مُعَيِّنا موقعه داخلها ، تبعا للإشتراطات الأقصوصية ، فقد أذن لها بالإقامة داخل (اللغة - الوجود) ؛ أى أنه جاد عليها بالوجود . لكنه ، بذلك ، أوقَعَها فى شِبَاك اللغة ، وأمسك بها ؛ أى (عيَّنها) ووضع لها حدودا (سجنها فى موقع - لغوى) ، (هيمن عليها باللغة) ، أخضعها لسلطة اللغة (الوعى) .
إذن إقامة الشئ داخل اللغة ، بقدر ما تمنحه الوجود (إذ تدرجه فى نظام المعنى) ، فإنما تسلب منه وجوده المادى "كشئ" ، وهذا هو نفسه شرط تحوله إلى موضوع للإمتلاك .
(2) أشرت من قبل إلى أن تحول (الحُلم) فى الأقصوصة إلى (دوال لغوية) ، هو ذاته الأصل الذى تواصَل به (الحالم) مع الحُلم ، لذا صار السارد هو الحالم نفسه ، هذا الأصل اللغوى (للحُلم) ، يعنى أننا أمام شبكة هائلة من الدوال والمدلولات ، شبكة أصليَّة ، يسبح فيها (الحالم) فى بحيرة علاماتية من صنع السارد وليس العكس - أى أن السارد سابق فى الوجود على الحالم ، كما أن اللغة (السردية) هى التى منحت الحُلم إمكانية الوجود ؛ فبدونها ما استطاع الحالم الإمساك دلاليا بسيناريو الصور المتتابعة التى تراءت له (داخل الحُلم) .
هذا و(الحالم) نفسه يتمتع بوجود دلالى فقط ، فعلى الرغم من أن كلمة (حالم) لم يرد ذكرها فى النص ، إلا أن البنية الدلالية للنص تشير إليها ضمنا . كما أن عدم ورودها فى النص يؤكد ما ذهبت إليه بخصوص تحوله إلى (مدلول) ؛ إذ يدل عليه البناء العلاماتى النصى ككل ، ونفس الشئ ينطبق على (السارد) ؛ فكلمة (سارد) لم ترد فى النص أيضا ، لكننا نطلقها عادة على القائم بأداء مجموعة محددة من الوظائف التقنية داخل النص ؛ (فهو القائم بفعل السرد اللغوى) كما يدلنا النص ...
إذن نحن إزاء (مدلولين) مركزِيِّين – يستحضران داليهما فى أذهاننا – وتنتظم حولهما علامات النص ككل ...
أشرت من قبل إلى أن (الحالم) دلالة ؛ نستدل عليها من الدوال النصية الحُلمية المنبنية على إزدواجية الدال ، دون أن تعى - هى نفسها - تلك الإزدواجية ، وكذلك (السارد) دلالة تعى إزدواجية الدال ، وتتساءل بشأنه باعتباره انفصالا بين طرفى العلامة ...] ، ووأشرت إلى أن تلك هى الإشكالية (المفارقتية) التى ينطوى عليها السرد الحُلمى قاطبة .
وإذا أعدنا النظر فيما سبق ، سنجد أننا إزاء (لعبة الإنفصالات) ، وتتبدى على النحو التالى :
أولا : نحن أمام مدلولين أساسيين ، هما (الحالم والسارد) ؛ إذ يحضران فى النص بدون داليهما ؛ هذا والقارئ هو الذى يقوم بإحضارهما فى ذهنه ؛ لنصير إزاء (مدلولين – داخل النص) و(دالين – فى ذهن القارئ) . هذا (الإنفصال) بين الدال والمدلول ، هو نفسه ما سنعثر عليه فى (الحُلم – بحكم رمزيته ؛ تلك التى لم يع بها (الحالم)) ، لكن (الإنفصال) نفسه سوف ينتقل إلى (السارد) ؛ كوعى بإشكالية الرمز الحُلمى ..
ثانيا : (السارد) هنا هو (العلامة الكبرى) التى تحتل المركز النصى ، فهو الذى يقدم لنا عالم الحُلم محوّلا إلى سرد لغوى ، كما أنه هو الذى يمنح النص إسمه ؛ أى (العنوان - اللعبة) ، كمحاولة منه لحل إشكالية الرمز الحُلمى (واحدية المدلول وإزدواجية الدال) ...
الدوال المركزية والتفريعات الدلالية :
ـــ الدال المركزى فى الأقصوصة ، هو دال (اللعبة) ، فهو (عنوان الأقصوصة أو العتبة النصية) ، وطالما أن النص يبدأ من العنوان ، إذن هو ما ترتكز عليه وجهة نظر (السارد) ،
و يثير لدى القارئ أفقا من التوقعات ، أبرزها الآتى :
الدلالة العامة لدال (اللعبة) – على مرجعية الأقصوصة – تقول بأن (اللعبة) ، هنا ، هى لعبة (الموت / الحياة) ؛ أى أنه اللعب الرمزى (بدلالة الموت) ، هذا والتفريعات الدلالية الأساسية المرتبطة به فى الأقصوصة ، هى (المقابر ، شواهد القبور وما عليها من أسماء ، المقبرة ذات الزخارف ... إلخ)، هذا بينما تتراوح دلالة (الأسماء والمَسح والقرش) بين الموت والحياة معا .
مفارقة (الموت / الحياة) فى الأقصوصة :
بادئ زى بدء ، اللعب : (مراوغة وإحتيال ، لهو ، تسلية) ، لذا فهو يتضمن (التلاعب ، الألعوبة ، اللعبة ...) ./ أما راوغه : خادعه ، مكر به / خَدَع : تخَلَّق بغير خلقه ، تلوَّن ، توارى واستتر / خدع فلان خدعا ، وخدعة وخديعة : أظهر له خلاف ما يخفيه ، وأراد له المكر من حيث لا يعلم ...
على مرجعية النص ، من وجهة نظر (السارد) ، سنلاحظ بأن (الحُلم) يتمحور حول (الولد والبنت) ؛ إذ لم يكن سوى (لعبة) للإحتيال على الحالِم لسلب نقوده :
فهما شابان [وكيف لشابين على هذا الرِّقى والهندام أن يتسولا فى المقابر] / عرضا عليه أن يكتب إسمه بقرش ، وعندما منحهما القرش لم يفعلا ما وعدا به ، وأشارا إليه بأن يتبعهما وهما يتبادلان ضحكات مكتومة ... / باب المقبرة ذات الزخارف – الذى عبروا منه إلى الخارج – مجرد (باب صغير) ، هذا و(الخادِعة) : هى الباب الصغير فى الباب الكبير – وهذا الأخير يحمل هنا دلالة باب الدنيا ... / فى الدهليز المظلم – المفضى إلى الخارج – كانا (كلما تقدما بديا أصغر من سنهما ، حتى صارا طفلين) !.
أما (المقابر) ، فالقبر : هو المكان الذى يُدْفَن فيه الميت / والشاهد (شاهد القبر) : ما يؤدِّى الشهادة والدليل ... إلخ ، أى أن شاهد القبر – بما يحمله من أسماء – هو الذى يدلنا على مكان دفن الميت .
هذا و(الإسم) : هو ما يُعرف به الشئ ويستدل به عليه ... / سَمَّ فلان : خصَّه ، وكذلك ، إسم : سُمُواً ، وسماء ، وسماوة ، فهو سامٍ ..
وجود (الإسم) على شاهد القبر (البلاطة الرخامية) يعنى أن هذا القبر هو مرقد جسد صاحب الإسم ، وبذا فوجود الإسم يعنى اقترانه بعالم الموتى ، هذا وعدم عثوره على اسمه فوق (شاهد القبر) دلالة على عدم وجود ما يشهد على إدراج اسمه فى قوائم الموتى . / هذا وخطؤه فى هجاء الأسماء ، يحمل دلالة عدم معرفته بأبجدية القراءة والكتابة فى عالم الموتى .
فى الأقصوصة ، يقول (السارد) بأنه رأى [شواهد قبور بلا عدد] ، ثم رأى : [... بلاطة رخام كبيرة ، يكسوها غبار كثيف ... ورحت أمسحها بكفِّى ، كلما مسحت الغبار محوت جزءً من إسمى ، أمسح الغبار فأمحو ...] .
(المَسح) ، مَسَحَ : ذهب ، والشئ المتلطخ أو المبتل : مسحا : أمَرَّ يده عليه لإذهاب ما عليه من أثر ماء أو نحوه .
(المسح) هنا ، محاولة لإزالة الغبار الذى يحوُل بينه وبين قراءة اسمه ؛ فالإسم محجوب خلف الغبار (ومع ذلك هو على يقين بأنه موجود) ، أى أنه موجود فى سريرته - وغير موجود فى الخارج ، على (شاهد القبر) ، لأن شاهد القبر يخص الأحياء خارج عالم الموت ، لا الموتى أنفسهم ؛ ففى عالم الموتى لا توجد أسماء ، الموتى لا أسماء لهم ، إذ يوجدون كجثث صامتة . أى أن اسمه (كمَيِّت) مجرد فكرة فى رأسه ، غير متجسِّدة فى دال خارجى ... وهذا تجلٍ آخر للعبة الإنفصالات التى تجتاح دوال ومدلولات الأقصوصة .
غير أن (للمسح) دلالة أخرى ، فـ (التَمَسُّح) : المداهنة والمداراة ، والمتمسِّح : الذى يلاينك بالقول ويغشك .
من هنا كانت العلاقة بين (اللعبة) و(المَسح) ، و(وجود الإسم فى ذهن الحالم وعدم وجوده - كتابة أو كدال مرئى - على شاهد القبر) ، وكذلك كلمة (القرش) :
(القرش) ، (قَرَش) الشئ : جَمَعَه من ها هنا وها هنا وضَمَّ بعضه إلى بعض . ويقال : قَرَش لعياله : كسب . ويقال : قَرَش فى معيشته : ضَيَّق .. / غير أن (أقرش فلان بفلان) : وشى وقَرَّش به ، وأخبره بعيوبه . (قرش لفلان) : أراد به سوءا .
هكذا ، فالكلمات الثلاث (اللعبة والمسح والقرش) ، هى العلامات المركزية فى النص ، وتتمحور حول وجود (خدعة ما) قوامها أن الظاهر غير الباطن ..
(السارد) فى الأقصوصة ، يتمثل الوجود فى (عالم الموت) كوجود إسمى - لغوى ، فمن لا إسم له على شاهد القبر لا وجود له فى عالم الموت . هذا والمفارقة الأقصوصية تتأتى من عدم وجود (الإسم) فى عالم الموت (وهو ما تكشف عنه الطبيعة الغبارية ؛ المحجوبة للإسم فوق شاهد القبر ؛ وإن كان مرئيا فى المخيلة فقط) . لذا فبعد مسح الإسم من عالم المخيِّلة الحُلمية المرتبطة بالموت ، يبدو الأمر كما لو أنه تم طرده نهائيا من عالم الموت (إلى عالم الحياة) ، هذا ومنحه الولد والبنت (قرشا) كما طلبا ، هو رمز للكسب المتعلق بالحياة نفسها ، مما تنكشَّف معه (اللعبة كخدعة - رمزية) ؛ وهى هنا ارتداد (الولد والبنت) إلى طفلين ، أما ضحكهما (الذى حاولا مداراته عنه) فهو الذى كشف له عن أن ما رآه لم يكن سوى (لعِب) ، وأنه (حى) لا يزال ...
هكذا ، فالإسم (كفكرة - أى كمدلول) ، فى رأسه ، وعدم تجسده فى (دال) ، يمثل هنا (انفصاله) عن عالم الموت ، هذا ومسحه للغبار ، كما يقول [ورحت أمسحها بكفِّى ، كلما مسحت الغبار محوت جزءً من إسمى ، أمسح الغبار فأمحو ...] ، هو فى حقيقته محو لإشكاليته الرمزية مع الموت ، تلك الإشكالية التى كاد أن ينفصل بها عن الحياة ، لذا ، فبمسح الغبار من فوق البلاطة ، يُمحى الإسم من الذهن الذى يفكر فى الموت ، ويعود بالتدريج إلى الحياة متتبِّعا الولد والبنت ، بعد أن أعطاهما القرش ، هكذا ليتم تفعيل الدلالة الأخرى للقرش ، فـ (قَرَش) الشئ : جمعه من ها هنا وها هنا وضم بعضه إلى بعض . ويقال : قَرَش لعياله : كسب . (بعد أن ضيّق عليهم فى المعيشة) / كما أن (المسح) أيضا تصير له دلالة إزالة (أثر الموت) .
خاتمة :
تلك كانت محاولة تجريبية خاصة بـ (منهج) لايزال فى بدايته ، ودون الإدعاء بشئ ، أطمح فقط إلى مناقشته من قبل الأصدقاء والمهتمين بالشأن الأدبى ، عسى أن يتطور ، ليس فقط بمنأى عن التعقيدات الأكاديمية ، وإنما أيضا تجاوزا للأيديولوجيا التقنية التى يسعى النقد المعاصر لترويجها ، دعما للواقع الإصطناعى الذى أتى على كل شئ ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى