عبد المحسن حليت مسلم - عظم الله ذنبنا

[مقدمة الشاعر]
(كان من الصعب علي- عاطفيا – أن أكتب هذه القصيدة راثيا "الشعر"، و سيد الكلام ونبي البيان.
ولكن لم يكن من الصعب أن أعرف من هم "القتلة" الحقيقيون الذي أهانوه وشوهوا وجهه وسرقوا برآءته، فكل "خلية" تموت فيه كان وراءها شاعر يتسول منحة أو مكانة أو مجداً ملوثا".

القصيدة

ما عاد للشِّعرِ أتباعٌ وغاوونا
وماتَ في كلِّ وادٍ منْ يهيمونا
ماتتْ قصائدُ من كانتْ قصائدُهم
ترشُّ فوقَ الثرى تيناً وزيتونا
والأبجديةُ ها قدْ ماتَ سيدُها
ولم تجدْ بعدهُ دنيا ولا دينا
نحنُ الذينَ قتلنا الشِّعرَ وهو فتىً
ونحنُ للموتِ سُقْناهُ بأيدينا
بِعنا لـ "إبليسَ" أغلى ما بحوْزَتِنا
بعناهُ ما خَلْفنا .. ما بينَ أيدينا
بعنا قَصائدنا.. بعنا ضَمائرنا
وبعد أن نَفذتْ بِعنا أسَامينا
وما رأينا لهُ "مولىً" ولا "أمَةً"
إلا حَلُمنا بيومٍ فيهِ يَشْرينا
ذنوبنا في مُصَّلى الشعرِ شاخِصةٌ
لن يصفحَ الشعرُ عن أخطاءِ ماضينا
فهو الذي سوفَ نلقاهُ ونسمعُهُ
يومَ القيامةِ عندَ الله يشكونا
يا ليتَ شعري .. أما للشعرِ مِئْذنةٌ
منها يُصَلَّى على شَيخِ المُغنينا
كانتْ عَصافيرهُ تَرعى طُفولتنا
وكانَ كلُّ ضلالٍ منهُ يهدينا
فلم تعدْ تنْبتُ الأشجارُ من يَدِهِ
وخمرهُ لم تعدْ تُغري السلاطينا
ثُرنا عليهِ وزوَّرنا هَويتهُ
كأنهُ لم يكنْ مِنَّا ولا فينا
نحنُ الذينَ تقاسَمْنا مَزَارعهُ
وما تركنا لهُ ماءاً ولا طِينا
فكمْ سكِرنا وسِرنا في جِنازتهِ
وكمْ بكينا وقابَلْنا المُعَزينا
فليتها قطُّ لم تَحْبَلْ قصائِدُنا
وليتَ أنَّ إلهَ الشعرِ يخصينا
يا ربَّ كلِّ "بيان" نحنُ نعبدهُ
و يا نبياً أتى قبلَ النبيينا
تزوُّجتْكَ لغاتُ الأرضِ أجمعُها
فأنجبتْ منكَ ريحاناً ونسرينا
أنتَ الجنونُ وراعِيهِ وصانعهُ
وأنتَ من مَلأ الدنيا مجانينا
يا "شعرُ"، يا دهشةَ الدنيا وفتنتَها
يا من لأجلِكَ صاحبتُ الشياطينا
إني أموتُ .. وأكفاني ممزقةٌ
فهل ترى حولَ قبري مِنْ مريدينا
ما خنتُ يا "شعرُ" "بيتاً" في قبيلته
ولا تجسَّسْتُ في مقْهى قَوافينا
ولم ألطِّخهُ أو أسرقْ عباءتهُ
إن المساكينَ لا تؤذي المسَاكينا
ولم أعَلِّمهُ حرفاً في طفولتهِ
إلا وصَلى إماماً بالمصلينا
يا "شعرُ".. لا وطنٌ للشعرِ في وطني
ها نحن ضِعنا وضيَّعْنا المَوَازينا
هذا زمانٌ بلا رأسٍ ولا جسدٍ
هذا زمانُ السَّبايا والمرابِينا
لا ليلُهُ يشْتهي شمساً ولا قمراً
لا "قيسَ" يعشقُ أو "ليلى" تُغنينا
وشِعْرهُ من بُحيراتٍ مُلوثةٍ
تُسمِّمُ العُشبَ والأسماكَ والطينا
فالصادقونَ حُفاةٌ في أزِقَّتهِمْ
والمرتَشونَ على "الكافيارِ" يمشونا
(قدْ ينعِمُ اللهُ بالبلوى وإنْ عَظُمَتْ)
ولا أرى أي نُعْمى في بَلاوينا
يا أيُها الوطنُ الغافي على وجَعي
أأشاكي الجرحَ أم أشكو السكاكينا
أنا المصابُ .. أنا المهزومُ يا وطني
فهل لديكَ دواءٌ للمُصابينا؟
أنا وشِعْري عصافيرٌ مُشردةٌ
وكلُّ أعشاشِنا لم تعترفْ فينا
قاتلتُ كلَّ جيوشِ القُبح مُنفرداً
وليس لي سَنَدٌ إلا "المراؤونا"
ما دافعوا قطُّ عن مِيلادِ فاصلةٍ
وعنترياتُهم كانتْ طَواحينا
وكفُّروا كلَّ "بيتٍ" كنتُ أُطعِمهُ
خُبزاً "حلالا" وماءاً ليسَ "مَدْيونا"
أنا حمامتُكَ البيضاءُ يا وطني
أنا الذي فيكَ زخْرَفْتُ البساتينا
شاكسْتُ كلَّ "سماءٍ" لا تُناسبني
وعشتُ تحتَ رمالِ الشعرِ مَدفونا
أنا عمامُتكَ الخضراءُ وهي ترى
أني طليقٌ وشعري ظلَّ مسجونا
أنا الرصيفُ الذي تمشي عليهِ متى
جُبْتَ الشوارعَ أو طُفْتَ الميادينا
فيا شهادةَ ميلادي وآخرتي
ولونَ وجهي وصوتي والعناوينا
ما كنتُ "فرعونَ" أو مَنْ آمنوا معهُ
ليبعثَ اللهُ لي "موسى وهارونا"

عبد المحسن حليت
أعلى