6- عبد القاهر الجرجاني
للتمييز بين السرقة والأخذ والاستمداد والاستعانة، يعيد عبد القاهر الجرجاني نفس الأفكار التي رددها سابقوه، وخاصة في كتابه "أسرار البلاغة"، بحيث لن نلاحظ في حديثه عن الموضوع غير اختلاف في العرض، فهو مثل القاضي الجرجاني في "الوساطة"، يرجع اتفاق الشاعرين في الغرض إلى وجهين:
ا- وجه العموم: كوصف الممدوح بالشجاعة والسخاء والبهاء…
ب -وجه الدلالة على الغرض: كتشبيهه بالأسد في الشجاعة، والبحر في السخاء والشمس في الحسن...الخ( ).
فأما الوجه الأول فإن الاشتراك فيه مما لا يدخل في سرقة ولا أخذ.
وأما الوجه الثاني الذي هو وجه الدلالة على الغرض فينقسم إلى قسمين:
1- قسم في حكم الغرائز مركوز في النفس؛ فحكمه حكم العموم، مثل «التشبيه بالأسد في الشجاعة وبالبحر في السخاء وبالبدر في النور والبهاء، وبالصبح في الظهور والجلاء...وكذلك قياس الواحد في خصلة من الخصال على المذكور بذلك والمشهور به والمشار إليه»( ) وهي الصور الجاهزة.
2- قسم لا ينتهي فيه المتكلم إلى المراد إلا بنظر وتدبر واجتهاد فهو الذي «يجوز أن يُدَّعى فيه الاختصاص والسبق...وأن يُجعَلَ فيه سلف وخلف ومفيد ومستفيد»( )
كما يمكن الحديث عن قسم ثالث؛ وكأنه مركب من القسمين معا؛ فما هو مشترك عامي قد يدخله النقش وتلحقه الصنعة فيصبح هو أيضا من قبيل الخاص، كقول بعض العرب [الوافر]:
سَلَبْنَ ظِباَءَ ذِي نَفَرٍ طُــلاَها ونُجْلَ الأَعْيُنِ البقَرَ الصُّوارا( )
«فقد أوهم أن ثم سرقة= وأن العيون منقولة إليها من الظباء وإن كنت تعلم إذا نظرت أنه يريد أن يقول إن عيونها كعيون الظباء...فإذا حققتَ النظر فالخصوص الذي تراه، والحالة التي تراها تنفي الاشتراك وتأباه، إنما هما من أجل أنهم جعلوا التشبيه مدلولا عليه بأمر آخر ليس من قبيل الظاهر المعروف، بل هو في حد لحن القول والتعمية اللذين يُتعمد فيهما إلى إخفاء المقصود حتى يصير المعلوم اضطرارا يُعرف امتحانا واختبارا»( ).
وهنا يُشرف عبد القاهر الجرجاني على فكرة التصوير التي مرت بنا مع ابن رشيق، وسيتناولها بطريقة أخرى وبدقة أكبر في دلائله؛ فهو يعتبر أن الناحية الفنية في المثال السابق، هي التي تفعل فعلها في المتلقي؛ تماما كما تُعجِب وتخلب وتروق و"تؤنق" التصاوير في النقش والنحت؛ بل قد تصل بأصحابها إلى حد الفتنة بها والإعظام لها كما هو الشأن لدى عبدة الأصنام، و«كذلك حُكم الشعر فيما يصنعه من الصور ويشكله من البدع»( ).
وإذا كان عبد القاهر في الأسرار قد انتهى إلى فكرة التأثير في المتلقي، عبر مناقشته للتصوير، فإنه، في الدلائل، يناقش فكرة التصوير ذاتها، ولكنه لا يصل إلى أثرها في المتلقي، بل يدرسها في إطار النسق اللفظي، أو المعاني النحوية والنظم، مما يتلاءم مع غرض الكتاب وهو الإعجاز القرآني، ذلك أنه، وفي إطار موضوعنا، شُغل، منذ بداية حديثه عن الاحتذاء بالرد على "مزاعم" المعتزلة؛ فقد زعم القاضي عبد الجبار المعتزلي أن مجرد قراءة شعر فصيح على النسق اللفظي الذي وضعه المبتدئ هو إتيان بمثل ما أتى به واحتذاء له( )، بينما يعتبر عبد القاهر "الاحتذاء" أن ينتج المحتذِي نفس الأسلوب والنسق اللفظي الذي يتميز به المحتذَى في غرض معين "فيُشَبَّه بمن يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها فيقال: قد احتذى على مثاله»( ) كقول الفرزدق [الطويل]:
أترجو رُبَيْعٌ أن تجيءَ صغارُها = بخيرٍ، وقد أعيا رُبَيْعاً كبارُها
فاحتذاه الْبَعِيثُ بقوله[الطويل]:
أَتَرجو كُليبٌ أن يَجيءَ حَديِثُها = بخيرٍ، وقدْ أَعيَا كُلَيْبًا قَديمُها( )
وهذا ما كان يسميه ابن رشيق "الموازنة" وضرَب له مثالا قولَ كُثَيِّرٍ [المتقارب]:
تقول مرضْـنا فما عُدتـناَ = وكيف يَعودُ مريضٌ مريضا( )
وازن في العَجُز قولَ نابغة بني تغلب[المتقارب]:
بَخِــلنا لـبـخـلِكِ قـد تعــلمين = وكيفَ يَعيبُ بَخيل بَخيلا( )
إلا أن الاختلاف هنا حول المفهوم من مصطلح "الاحتذاء" مرتبط بمسألة إعجاز القرآن؛ أيكون التحدي وقع منه إلى أن يؤتى بمثله على جهة الابتداء، وأن الإعجاز واقع في الألفاظ بمجرد ضم بعضها إلى بعض على دعوى المعتزلة، أم أن التحدي فيه واقع على جهة الاحتذاء وأن إعجازه كامن في معاني النحو كما يقول بذلك عبد القاهر( )؛ قال القاضي عبد الجبار: «فيجب في القرآن أن يكون التحدي واقعا بهم على المعتاد، فيكون ما يورده المتحدى (بالفتح) في حكم المبتدأ، ويكون مشاركا للمتحدي في أن يكون ما يورده مبتدئا، وخارجا عن أن يكون محتذيا؛ لأن الاحتذاء أو الحكاية لا مُعبَّر لهما في هذا الباب»( ). بمعنى أن المتحدَّى ينبغي أن يكون قادرا على النسج على غير مثال سابق، ويأتي مع ذلك بمثل الترتيب والنسق الذي في ألفاظه ! وهذا محال، لأن الأغراض والمعاني هي المتحكمة في نسق الألفاظ وإذا افترضنا أن المتحدَّى قال كلامه ابتداء؛ فمن أين له نسق كنسق القرآن، وأغراضُه، لا بد، غيرُ أغراضه!؟ اللهم إلا إذا زعم أن النسق إنما يقع في الألفاظ دون المعاني: «حتى إنك لو قلت: (نبك قفا حبيب ذكرى من...) لم تكن قد أعدمتَه النسق والنظم وإنما أعدمته الوزن فقط»( ). وهذا أيضا محال. والذي جعل المعتزلة يركبون هذا المركب الصعب –في نظر عبد القاهر- هو عدم اعترافهم بالاحتذاء، لأنهم لا يفهمون منه غير إعادة قول نفس الشيء الذي قاله المبتدئ؛ فالمحتذي عندهم مجرد معيد للقول، وهم «لا يجعلون الشاعر محتذيا إلا بما يجعلونه به آخذا ومسترقا... وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كل لفظة لفظا في معناه كمثل أن يقول في قوله [البسيط]:
دعِ الـمَكاَرِمَ لاَ تَرْحَلْ لبغيَتِهاَ = واقعُدْ فإنكَ أَنتَ الطاَّعِمُ الكاَسيِ( )
ذَرِ المآثر لاَ تــَذْهَبْ لـمَطْلَـبِها = واجلسْ فإنك أنت الآكل اللابسْ
لم يجعلوا ذلك "احتذاء" ولم يؤهلوا صاحبه لأن يسموه "محتذيا"، ولكن يسمون هذا الصنيع "سلخا" ويرذلونه ويسخفون المتعاطي له»( ). وشرطهم فيمن يروم استلحاق معنى مَن سبقه عن طريق الأخذ والسرقة أن يكسوه لفظا من عنده. وهنا يعترض عبد القاهر على هذا الفصل بين المعنى واللفظ، ويستغرب كيف أن أحدا من هؤلاء الذين يعطون كل هذه المزية للفظ لا يكلف نفسه عناء السؤال: «من أين يكون هاهنا معنى عارٍ من لفظ يدل عليه»( ) فيحتاج إلى من يأتيه بكسوة اللفظ من عنده!؟ ومع التسليم لهم بذلك، على سبيل الجدل، يتساءل عن الأساس الذي يستند إليه هؤلاء في قولهم إن من كسا معنى مأخوذا فهو أحق به، مع العلم أن الآخذ لم يغير في صورة المعنى شيئا، وبقي –حسب دعواهم- على أصله الذي أنتجه به صاحبه. وفي تجاوزٍ لهذا "الفهم" الساذج لمشكل السرقة والأخذ يقرر عبد القاهر: «أنه لا يُتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة»( ). ويظهر ذلك جليا في اختلاف النظم والتأليف أو توخي معاني النحو، أما قصد بيت من الأبيات ووضع مكان كل لفظة ما يرادفها احتذاءً له، دون المس بنظامه، فمما لا يعتد به «ولا يدخل في قبيل ما يفاضَل فيه بين عبارتين، بل لا يصح أن يُجعل ذلك عبارةً ثانية ولا أن يُجعل الذي يتعاطاه بمحلِّ مَن يُوصَف بأنه أَخَذَ معنى»( ). كما لا يجوز تهويل الأمر، على طريقة من يُحاجُّهم الجرجاني، فيتَّهَمَ المحتذي بالسلخ وهو الذي ما رام سوى الاحتذاء والنسج على مثال يعتبره قدوة، فيتبعه حذو النعل بالنعل( ). أما ما يعتد به، فمما تغير نظمه وانتقل المعنى فيه من صورة إلى صورة( )، كما فعل أبو نواس بقول النابغة : [الطويل]:
إذَا مَا غَزا بالجَيْشِ حَلَّقَ فَوقَهُ = عَصَائبُ طَيْرٍ تهتَدي بعصَائبِ
جَــوانِحَ قَــدْ أيـقَنَّ أَنَّ فـَريقَـهُ = إِذا ما التَقَى الصَّفَّانِ أوَّلُ غَالبِ( )
حين قال[المديد]:
تتَـــأيّى الطيرُ غَدْوتَهُ = ثِقَةً بالشِّبْع من جَزَرِهْ( )
ذلك أن في صورة النابغة معنيين:
«-أحدهما أصل؛ وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدوا كان الظفر له، وكان هو الغالب.
-والآخر فرع؛ وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطاعم من لحوم القتلى.
وقد عمد النابغة إلى "الأصل" الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب، فذكره صريحا، وكشف عن وجهه، واعتمد في "الفرع" الذي هو طمعها في لحوم القتلى وأنها لذلك تحلق فوقه، على دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصة، فذكر "الفرع" الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحا...وعول في "الأصل" الذي هو علمها أن الظفر يكون للممدوح، على الفحوى»( ).
وهكذا يُدخل عبد القاهر قضية السرقة ضمن مفهوم "النظم" بحيث لا تهمه، عند الحديث عن المبتدئ والآخذ، إلا من هذه الناحية، وقد مكنته هذه النظرية من إدراك دقائق الاختلافات في النظم ودلالاتها بين كل شعرين متفقين تجمعهما علاقة "السرق". وهذا من أسمى الغايات التي تسعى إليها دراسة التناص اليوم.
الهوامش :
– أسرار البلاغة؛ 313.
- نفسه؛ 314.
- نفسه؛ 314-315.
– نفسه؛ 315.
- نفسه؛ 316-317.
- نفسه؛ 317.
– دلائل الإعجاز؛ 467.
– نفسه؛ 469.
– نفسه. وقصة بيتي الفرزدق والبعيث في- النقائض لأبي عبيدة؛ 124-125.
في ديوان كثير؛ 449.= تقول مرضنا فما عُدتَنا فقلتُ لها لا أطيقُ النهوضا
كلانا مريضان في بلـدةٍ وكيف يعودُ مريض مريضا
– العمدة؛ 1051. والبيت مع اثنين آخرين له في - المؤتلف والمختلف؛ 193.
– دلائل الإعجاز؛ 473-394.
- المغني؛ 16: 222 – [نقلا عن هامش محقق دلائل الإعجاز 473].
- دلائل الإعجاز؛ 468.
– البيت للحطيئة من قصيدة له يمدح فيها "بغيضا" ويهجو الزِّبرقان بن بدر وقد شكاه بسببها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القصة المعروفة.- ديوان الحطيئة؛ 108.
- دلائل الإعجاز؛ 471.
– نفسه؛ 483.
– نفسه؛ 487.
- نفسه.
– لسان العرب؛ (حذا).
– يقول عبد القاهر: «واعلم أن قولنا "الصورة" إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا…» -دلائل الإعجاز؛ 508، وينظر ما بعدها.
– نفسه؛ 501. وديوان النابغة؛ 42-43. وفيه "إذا ما غزوا" و "إذا ما التقى الجمعان".
– نفسه؛ 501-502. وديوان أبو نواس؛ 431. وفيه :"تتأبى" بالموحدة وهو تصحيف.
– نفسه؛ 502-503.
للتمييز بين السرقة والأخذ والاستمداد والاستعانة، يعيد عبد القاهر الجرجاني نفس الأفكار التي رددها سابقوه، وخاصة في كتابه "أسرار البلاغة"، بحيث لن نلاحظ في حديثه عن الموضوع غير اختلاف في العرض، فهو مثل القاضي الجرجاني في "الوساطة"، يرجع اتفاق الشاعرين في الغرض إلى وجهين:
ا- وجه العموم: كوصف الممدوح بالشجاعة والسخاء والبهاء…
ب -وجه الدلالة على الغرض: كتشبيهه بالأسد في الشجاعة، والبحر في السخاء والشمس في الحسن...الخ( ).
فأما الوجه الأول فإن الاشتراك فيه مما لا يدخل في سرقة ولا أخذ.
وأما الوجه الثاني الذي هو وجه الدلالة على الغرض فينقسم إلى قسمين:
1- قسم في حكم الغرائز مركوز في النفس؛ فحكمه حكم العموم، مثل «التشبيه بالأسد في الشجاعة وبالبحر في السخاء وبالبدر في النور والبهاء، وبالصبح في الظهور والجلاء...وكذلك قياس الواحد في خصلة من الخصال على المذكور بذلك والمشهور به والمشار إليه»( ) وهي الصور الجاهزة.
2- قسم لا ينتهي فيه المتكلم إلى المراد إلا بنظر وتدبر واجتهاد فهو الذي «يجوز أن يُدَّعى فيه الاختصاص والسبق...وأن يُجعَلَ فيه سلف وخلف ومفيد ومستفيد»( )
كما يمكن الحديث عن قسم ثالث؛ وكأنه مركب من القسمين معا؛ فما هو مشترك عامي قد يدخله النقش وتلحقه الصنعة فيصبح هو أيضا من قبيل الخاص، كقول بعض العرب [الوافر]:
سَلَبْنَ ظِباَءَ ذِي نَفَرٍ طُــلاَها ونُجْلَ الأَعْيُنِ البقَرَ الصُّوارا( )
«فقد أوهم أن ثم سرقة= وأن العيون منقولة إليها من الظباء وإن كنت تعلم إذا نظرت أنه يريد أن يقول إن عيونها كعيون الظباء...فإذا حققتَ النظر فالخصوص الذي تراه، والحالة التي تراها تنفي الاشتراك وتأباه، إنما هما من أجل أنهم جعلوا التشبيه مدلولا عليه بأمر آخر ليس من قبيل الظاهر المعروف، بل هو في حد لحن القول والتعمية اللذين يُتعمد فيهما إلى إخفاء المقصود حتى يصير المعلوم اضطرارا يُعرف امتحانا واختبارا»( ).
وهنا يُشرف عبد القاهر الجرجاني على فكرة التصوير التي مرت بنا مع ابن رشيق، وسيتناولها بطريقة أخرى وبدقة أكبر في دلائله؛ فهو يعتبر أن الناحية الفنية في المثال السابق، هي التي تفعل فعلها في المتلقي؛ تماما كما تُعجِب وتخلب وتروق و"تؤنق" التصاوير في النقش والنحت؛ بل قد تصل بأصحابها إلى حد الفتنة بها والإعظام لها كما هو الشأن لدى عبدة الأصنام، و«كذلك حُكم الشعر فيما يصنعه من الصور ويشكله من البدع»( ).
وإذا كان عبد القاهر في الأسرار قد انتهى إلى فكرة التأثير في المتلقي، عبر مناقشته للتصوير، فإنه، في الدلائل، يناقش فكرة التصوير ذاتها، ولكنه لا يصل إلى أثرها في المتلقي، بل يدرسها في إطار النسق اللفظي، أو المعاني النحوية والنظم، مما يتلاءم مع غرض الكتاب وهو الإعجاز القرآني، ذلك أنه، وفي إطار موضوعنا، شُغل، منذ بداية حديثه عن الاحتذاء بالرد على "مزاعم" المعتزلة؛ فقد زعم القاضي عبد الجبار المعتزلي أن مجرد قراءة شعر فصيح على النسق اللفظي الذي وضعه المبتدئ هو إتيان بمثل ما أتى به واحتذاء له( )، بينما يعتبر عبد القاهر "الاحتذاء" أن ينتج المحتذِي نفس الأسلوب والنسق اللفظي الذي يتميز به المحتذَى في غرض معين "فيُشَبَّه بمن يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها فيقال: قد احتذى على مثاله»( ) كقول الفرزدق [الطويل]:
أترجو رُبَيْعٌ أن تجيءَ صغارُها = بخيرٍ، وقد أعيا رُبَيْعاً كبارُها
فاحتذاه الْبَعِيثُ بقوله[الطويل]:
أَتَرجو كُليبٌ أن يَجيءَ حَديِثُها = بخيرٍ، وقدْ أَعيَا كُلَيْبًا قَديمُها( )
وهذا ما كان يسميه ابن رشيق "الموازنة" وضرَب له مثالا قولَ كُثَيِّرٍ [المتقارب]:
تقول مرضْـنا فما عُدتـناَ = وكيف يَعودُ مريضٌ مريضا( )
وازن في العَجُز قولَ نابغة بني تغلب[المتقارب]:
بَخِــلنا لـبـخـلِكِ قـد تعــلمين = وكيفَ يَعيبُ بَخيل بَخيلا( )
إلا أن الاختلاف هنا حول المفهوم من مصطلح "الاحتذاء" مرتبط بمسألة إعجاز القرآن؛ أيكون التحدي وقع منه إلى أن يؤتى بمثله على جهة الابتداء، وأن الإعجاز واقع في الألفاظ بمجرد ضم بعضها إلى بعض على دعوى المعتزلة، أم أن التحدي فيه واقع على جهة الاحتذاء وأن إعجازه كامن في معاني النحو كما يقول بذلك عبد القاهر( )؛ قال القاضي عبد الجبار: «فيجب في القرآن أن يكون التحدي واقعا بهم على المعتاد، فيكون ما يورده المتحدى (بالفتح) في حكم المبتدأ، ويكون مشاركا للمتحدي في أن يكون ما يورده مبتدئا، وخارجا عن أن يكون محتذيا؛ لأن الاحتذاء أو الحكاية لا مُعبَّر لهما في هذا الباب»( ). بمعنى أن المتحدَّى ينبغي أن يكون قادرا على النسج على غير مثال سابق، ويأتي مع ذلك بمثل الترتيب والنسق الذي في ألفاظه ! وهذا محال، لأن الأغراض والمعاني هي المتحكمة في نسق الألفاظ وإذا افترضنا أن المتحدَّى قال كلامه ابتداء؛ فمن أين له نسق كنسق القرآن، وأغراضُه، لا بد، غيرُ أغراضه!؟ اللهم إلا إذا زعم أن النسق إنما يقع في الألفاظ دون المعاني: «حتى إنك لو قلت: (نبك قفا حبيب ذكرى من...) لم تكن قد أعدمتَه النسق والنظم وإنما أعدمته الوزن فقط»( ). وهذا أيضا محال. والذي جعل المعتزلة يركبون هذا المركب الصعب –في نظر عبد القاهر- هو عدم اعترافهم بالاحتذاء، لأنهم لا يفهمون منه غير إعادة قول نفس الشيء الذي قاله المبتدئ؛ فالمحتذي عندهم مجرد معيد للقول، وهم «لا يجعلون الشاعر محتذيا إلا بما يجعلونه به آخذا ومسترقا... وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كل لفظة لفظا في معناه كمثل أن يقول في قوله [البسيط]:
دعِ الـمَكاَرِمَ لاَ تَرْحَلْ لبغيَتِهاَ = واقعُدْ فإنكَ أَنتَ الطاَّعِمُ الكاَسيِ( )
ذَرِ المآثر لاَ تــَذْهَبْ لـمَطْلَـبِها = واجلسْ فإنك أنت الآكل اللابسْ
لم يجعلوا ذلك "احتذاء" ولم يؤهلوا صاحبه لأن يسموه "محتذيا"، ولكن يسمون هذا الصنيع "سلخا" ويرذلونه ويسخفون المتعاطي له»( ). وشرطهم فيمن يروم استلحاق معنى مَن سبقه عن طريق الأخذ والسرقة أن يكسوه لفظا من عنده. وهنا يعترض عبد القاهر على هذا الفصل بين المعنى واللفظ، ويستغرب كيف أن أحدا من هؤلاء الذين يعطون كل هذه المزية للفظ لا يكلف نفسه عناء السؤال: «من أين يكون هاهنا معنى عارٍ من لفظ يدل عليه»( ) فيحتاج إلى من يأتيه بكسوة اللفظ من عنده!؟ ومع التسليم لهم بذلك، على سبيل الجدل، يتساءل عن الأساس الذي يستند إليه هؤلاء في قولهم إن من كسا معنى مأخوذا فهو أحق به، مع العلم أن الآخذ لم يغير في صورة المعنى شيئا، وبقي –حسب دعواهم- على أصله الذي أنتجه به صاحبه. وفي تجاوزٍ لهذا "الفهم" الساذج لمشكل السرقة والأخذ يقرر عبد القاهر: «أنه لا يُتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة»( ). ويظهر ذلك جليا في اختلاف النظم والتأليف أو توخي معاني النحو، أما قصد بيت من الأبيات ووضع مكان كل لفظة ما يرادفها احتذاءً له، دون المس بنظامه، فمما لا يعتد به «ولا يدخل في قبيل ما يفاضَل فيه بين عبارتين، بل لا يصح أن يُجعل ذلك عبارةً ثانية ولا أن يُجعل الذي يتعاطاه بمحلِّ مَن يُوصَف بأنه أَخَذَ معنى»( ). كما لا يجوز تهويل الأمر، على طريقة من يُحاجُّهم الجرجاني، فيتَّهَمَ المحتذي بالسلخ وهو الذي ما رام سوى الاحتذاء والنسج على مثال يعتبره قدوة، فيتبعه حذو النعل بالنعل( ). أما ما يعتد به، فمما تغير نظمه وانتقل المعنى فيه من صورة إلى صورة( )، كما فعل أبو نواس بقول النابغة : [الطويل]:
إذَا مَا غَزا بالجَيْشِ حَلَّقَ فَوقَهُ = عَصَائبُ طَيْرٍ تهتَدي بعصَائبِ
جَــوانِحَ قَــدْ أيـقَنَّ أَنَّ فـَريقَـهُ = إِذا ما التَقَى الصَّفَّانِ أوَّلُ غَالبِ( )
حين قال[المديد]:
تتَـــأيّى الطيرُ غَدْوتَهُ = ثِقَةً بالشِّبْع من جَزَرِهْ( )
ذلك أن في صورة النابغة معنيين:
«-أحدهما أصل؛ وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدوا كان الظفر له، وكان هو الغالب.
-والآخر فرع؛ وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطاعم من لحوم القتلى.
وقد عمد النابغة إلى "الأصل" الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب، فذكره صريحا، وكشف عن وجهه، واعتمد في "الفرع" الذي هو طمعها في لحوم القتلى وأنها لذلك تحلق فوقه، على دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصة، فذكر "الفرع" الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحا...وعول في "الأصل" الذي هو علمها أن الظفر يكون للممدوح، على الفحوى»( ).
وهكذا يُدخل عبد القاهر قضية السرقة ضمن مفهوم "النظم" بحيث لا تهمه، عند الحديث عن المبتدئ والآخذ، إلا من هذه الناحية، وقد مكنته هذه النظرية من إدراك دقائق الاختلافات في النظم ودلالاتها بين كل شعرين متفقين تجمعهما علاقة "السرق". وهذا من أسمى الغايات التي تسعى إليها دراسة التناص اليوم.
الهوامش :
– أسرار البلاغة؛ 313.
- نفسه؛ 314.
- نفسه؛ 314-315.
– نفسه؛ 315.
- نفسه؛ 316-317.
- نفسه؛ 317.
– دلائل الإعجاز؛ 467.
– نفسه؛ 469.
– نفسه. وقصة بيتي الفرزدق والبعيث في- النقائض لأبي عبيدة؛ 124-125.
في ديوان كثير؛ 449.= تقول مرضنا فما عُدتَنا فقلتُ لها لا أطيقُ النهوضا
كلانا مريضان في بلـدةٍ وكيف يعودُ مريض مريضا
– العمدة؛ 1051. والبيت مع اثنين آخرين له في - المؤتلف والمختلف؛ 193.
– دلائل الإعجاز؛ 473-394.
- المغني؛ 16: 222 – [نقلا عن هامش محقق دلائل الإعجاز 473].
- دلائل الإعجاز؛ 468.
– البيت للحطيئة من قصيدة له يمدح فيها "بغيضا" ويهجو الزِّبرقان بن بدر وقد شكاه بسببها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القصة المعروفة.- ديوان الحطيئة؛ 108.
- دلائل الإعجاز؛ 471.
– نفسه؛ 483.
– نفسه؛ 487.
- نفسه.
– لسان العرب؛ (حذا).
– يقول عبد القاهر: «واعلم أن قولنا "الصورة" إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا…» -دلائل الإعجاز؛ 508، وينظر ما بعدها.
– نفسه؛ 501. وديوان النابغة؛ 42-43. وفيه "إذا ما غزوا" و "إذا ما التقى الجمعان".
– نفسه؛ 501-502. وديوان أبو نواس؛ 431. وفيه :"تتأبى" بالموحدة وهو تصحيف.
– نفسه؛ 502-503.