حظيت مدينة طنجة المغربية باهتمام الكاتب الأميركي مارك توين في كتابه "الأبرار في الغربة"، وهو نص رحلة حج إلى الأراضي المقدسة عام 1867، نظمتها "جمعية الأصدقاء الدينية" المتشددة المعروفة بالاسم "كويكرز".
ومع أن أسلوب الكتاب اعتمد السخرية من الحجاج، ومن الأماكن التي زارها، إلَّا أنه قدم وصفاً معقولاً للمدينة المغربية الساحرة حين زارها بصحبة بعض أصدقائه، أثناء استراحة السفينة "كويكر ستي"، فتحدث عن موقعها، وعمارتها، وتنوعها الإثني والديني، ونشاطها الاقتصادي.
حين قام مارك توين بهذه الرحلة كان صحافياً مبتدئاً يوقع باسم صموئيل لانغهورن كليمنص، يكاد الجمهور الأميركي لا يعرفه، وكانت هذه الرحلة التي نشرها في الصحافة الأميركية على حلقات تجربته الأولى في الكتابة الساخرة. ولكنه سرعان ما حقق شهرة واسعة بعد أن نشر روايته "توم سوير".
من جبل طارق إلى طنجة
وصل توين إلى طنجة قادماً من جبل طارق، تاركاً معظم ركاب السفينة وقد توجهوا إلى إسبانيا لقضاء بعض الوقت، حيث يقول: "فلينعم من ذهب إلى إسبانيا بما فيها، أما مجموعتنا الصغيرة فمن الأنسب لها أن تزور أراضي سلطان مراكش، لأننا اكتفينا من إسبانيا كثيراً خلال وجودنا في جبل طارق، فطنجة مكان تشوقنا إلى زيارته، حيث كنا نبحث عن شيء جديد كل الجدة من الداخل والخارج، ولا يذكرنا بشيء عرفناه من قبل، أو بأرض زرناها فيما سبق. نعم رأينا شيئاً شبيهاً في لوحات فنية، ولكننا لا نثق كثيراً باللوحات، بسبب مبالغة فنانيها في تصويرهم للغرابة".
هذا الموقف النقدي من فن الاستشراق الذي كان واسع الانتشار في ذلك الوقت يشير إلى أن توين لم يكن يؤخذ بسهولة، فهو يعرف تماماً التصورات المسبقة للغربيين حيال الشرق، وهي رؤية طالما انتقدها في طيات كتابه. ولذلك حرص على تقديم صورة واقعية للمدينة، عارض فيها تصورات رسامي الاستشراق الخيالية التي لا تنقل إلا نصف الحقيقة.
بلد غريب
وفور دخوله إلى المدينة كتب: "طنجة بلد غريب، هذا إذا افترضنا أنها بلد مستقل، كون شخصيتها الحقيقية لا تظهر إلا في كتاب "ألف ليلة وليلة". لا وجود في المدينة للشقر ممن رأيناهم يحيطون بنا. وهي مدينة مطوقة بسور حجري محكم، عمره لا يقل عن ألف عام، وبيوتها تتكون من طابق أو طابقين على الأكثر، بنيت مستندة على جدار سميك وطليت جدرانها بالجص البيض، مكعبة الشكل، تشبه الصناديق الكبيرة. أبوابها على شكل قنطرة تميزها عن غيرها من الأبواب التي عرفناها، وهي تشبه اللوحات المرسومة في مراكش. أما أرضياتها فقد طليت ببلاط متعدد الألوان على شكن معين متوازي الأضلاع، داخل مربعات خزفية معشقة بزخارف ذات ألوان مختلفة، تم شيها في أفران فاس".
وبعد أن يشير إلى فقر غرف البيوت بالأثاث، باستثناء قاعة الاستقبال الفسيحة، يقول توين إن طرقات المدينة ذات طابع شرقي أصيل، عرض بعضها ثلاث أقدام، وبعضها ست أقدام، ولكن اثنين من طرقاتها يزيد عرضهما على اثنتي عشرة قدماً، ويقول إن شخصاً بمفرده يمكن أن يسد أحد هذه الطرق.
ناس وأزياء
أما التركيبة السكانية التي رآها في شوارع طنجة فقد وصفها كما يلي: "ثمة كثير من فرسان البادية المراكشيين، هؤلاء الذين يفاخرون بتاريخ يصل إلى القرون الوسطى، وهناك اليهود الذين فر أسلافهم إلى هذا المكان منذ قرون عديدة، وهنا السمر الريفيون، من منطقة الريف، المشهورون بالقسوة، والقادمون من الجبال، وهناك الزنوج القادمون من أصول لا تشوبها شائبة، وأيضاً الدراويش، والكثير من العرب، ومن كافة المشارب والنحل؛ ممن يحملون ملامح غريبة لافتة للنظر".
ولا يبخل علينا كاتبنا البارع في وصف الأزياء التي لفتت نظره في شوارع طنجة: "يخرج ما يرتدونه من ثياب عن المألوف، فثمة مراكشي مبرنس، يعتمر عمامة بيضاء ضخمة، ورداءً يثير العجب، ويتمنطق بحزام أحمر يتخلله الذهب، وبنطالاً يصل إلى ما تحت ركبته بقليل، وسيفاً معقوفاً مزخرفاً بشفرة وحيدة، ساقه عارية ولا يرتدي جورباً بل خفين بلون أصفر، على كتفه بندقية طويلة بشكل مبالغ فيه، والغريب أنه جندي، وليس إمبراطوراً".
ويتابع وصفه لهيئات الرجال الذين رآهم فيقول: "هنا المعمرون المراكشيون ذوو اللحى والأردية البيضاء والقلانس الفضفاضة، وهنا البدو ببرانسهم المخططة والمشبوكة بالقلانس، وهنا الزنوج والريفيون حليقو الرؤوس إلا من خصلة شعر مضفورة طويلة خلف الأذن، مرفوعة إلى جانب فروة الرأس، وهنا كل جماعات البربر في ثياب غريبة الألوان. وهنا النساء اللاتي لففن أنفسهن من الرأس إلى القدم في أردية بيضاء خشنة، وينسب لهن أنهم ينفردن بكشف عين واحدة فقط. وثمة خمسة آلاف يهودي يرتدون سترات زرقاء، ويتمنطقون بأحزمة، وينتعلون خفافاً صفراً، ويعتمرون قبعاتهم الصغيرة التي تغطي مؤخرات رؤوسهم".
نقش الكنعانيين
بعد ذلك يستعرض توين تاريخ المدينة بأسلوب لا يخلو من السخرية، منذ الفينيقيين وحتى عصر كولومبوس، ويشير إلى معلومة متداولة على نطاق واسع حول نقش تاريخي يتعلق بهجرة كنعانيين من فلسطين إلى شمالي أفريقيا حيث يقول: "تقع عيني الآن على مكان مقام فوقه نصب تذكاري ذكر تفاصيله المؤرخون الرومان منذ ما لا يقل عن ألفي عام، نقشت عليه عبارة: "نحن الكنعانيين، نحن من طردنا من أرض كنعان من قبل اللص اليهودي يوشع". ومع ذلك لا يمكن التحقق من صحة ما قاله توين، حول هذا النقش الذي يزعم أنه رآه رؤي العيان، فكيف تمكن من قراءته، وهل كانت له ترجمة، وبأي لغة؟
السوق والسجن وسعاة البريد
يعود كاتبنا لوصف مشاهداته في مدينة طنجة فيقول في وصف السوق: "يقارب حجم المتجر في طنجة حجم حمام عادي في بلد متحضر، ويجلس كل من التاجر المسلم، الإسكافي اليهودي، أو بائع الكعك الحلو على أرضية متجره ممدد الساقين، وينادون عليك، ماذا تريد أن تشتري من دون أن يبرحوا أمكنتهم. تستطيع استئجار صف من هذه المحلات بخمسين دولاراً في الشهر. يحتشد السوق بسلال التين والتمر والبطيخ والمشمش التي يأتي بها الباعة على حمير وبغال. يعج المشهد بالحيوية والنشاط والجاذبية، وتفوح منه روائح فواحة. وقد أقام الصرافون اليهود أكشاكهم في أماكن متلاصقة، وتراهم لا يتوقفون طوال اليوم عن عد العملات البرونزية ونقلها في سلال الحبوب إلى سلة أخرى، وأظنهم في هذه الأيام لا يحصون الكثير منها، لأنني لم أر سوى البالي والقديم الذي يعود تاريخه إلى مئات السنين".
ويضيف: "لدى المراكشيين عملات معدنية وفضية صغيرة الحجم، وهناك أيضاً بعض السبائك الفضية الرقيقة ما يعادل في القيمة دولاراً للسبيكة الواحدة، رغم ندرة تلك السبائك لدرجة أن فقراء العرب حين يرون واحدة منها يطلبون تقبيلك. لديهم أيضاً العملات الذهبية التي تعادل الدولارين. يذكرني ذلك بقصة سعاة البريد الذين كانوا ينقلون الرسائل عبر المدينة، ويتقاضون مقابل ذلك رسوماً بريدية كبيرة، وكانوا من حين لآخر يقعون في قبضة اللصوص فينهبون ما معهم من نقود، ولذلك وعلى سبيل الاحتياط، كانوا بعد أن يجمعوا دولارين يقومون باستبدالهما بقطعة ذهبية واحدة من تلك القطع، وحين كان أولئك اللصوص يهاجمونهم كانوا يبتلعون السبيكة على الفور، وبعد ذلك عرف اللصوص بالقصة، وصاروا يقدمون لسعاة البريد الصادر إلى الولايات المتحدة دواءً يسبب القيء ويجلسون للمراقبة فقط".
ويخبرنا توين بأن نظام الضرائب الذي كان يفرضه حكام مراكش كان يضطر بعض سكان طنجة من المسلمين واليهود للاحتماء بالقنصليات الأجنبية. ويستعرض محاولته ورفاقه زيارة مسجد مراكشي جميل مئذنته عالية مزينة بمربعات على شكل رقعة الشطرنج، ومزينة بخزف من شتى الألوان، يشبه آثار الحمراء الأندلسية. ولكنهم لم يتمكنوا من دخول المسجد بسبب منع دخول غير المسلمين. ويتعرض لقصة يرويها بسخرية حول عطل أصاب ساعة المسجد، اضطر المسلمين لقبول دخول مصلح ساعات برتغالي رغم أنه مسيحي.
وفي وصفه لسجن طنجة يقول إن السجناء يصنعون السلال والحصر، وهو العقاب الذي يؤدونه في سجنهم، ويضيف: "يعاقب القتل هنا بالإعدام. اقتيد منذ فترة قصيرة ثلاثة من القتلة إلى خارج أسوار المدينة، وأعدموا رمياً بالرصاص. وبنادق المراكشيين رديئة بشكل غير معقول، والأردأ منها الرماة المراكشيون، فهم يقومون في البداية بجمع القتلة البؤساء في صف طويل، كأي هدف للرمي، ثم يصوبون عليهم البنادق، فيدفعونهم إلى القفز والوثب تلافياً للطلقات لنصف ساعة حتى يتمكن الرامي من إصابة هدفه".
أما عقوبة قطع يد السارق فيصفها كما يلي: "يقطعون يد سارق الماشية اليمنى وساقه اليسرى، ويعلقونها في الساحات لكي يعتبر منها السُّراق، والغريب أنهم لا يقطعون اليد من المفصل بل من العظم، ثم يكسرونه، وقد يتعافى الجريح أو لا يتعافى، ومع ذلك يظهر المجرمون رباطة جأش غير عادية، فهم يتحملون عملية القطع بشكل يحسدون عليه، من دون أن يرمش لهم جفن، ومن دون تهتز شعرة أو أن تصدر منهم نأمة، فليس هناك عقاب يسلب المراكشي اعتزازه بشخصه، ولا لصرخة واحدة أن تنال من كرامته".
وينقل لنا شيئاً مما سمعه عن طقوس الزواج، فيقول إن الزواج يتم من دون معرفة مسبقة بين العروسين، وحين يراها للمرة الأولى ولا تعجبه يمكنه أن يعيدها إلى أهلها، وكذلك إذا كانت مريضة، أو رفضت الإنجاب. ويشير إلى أن تعدد الزوجات ليس حكراً على المسلمين، بل بين اليهود أيضاً.
عادات اجتماعية
يلاحظ توين وجود الرق في طنجة، فثمة الكثير من الزنوج الذي يرزحون تحت نيره، ولكن العبدة التي تصبح محظية لسيدها تنال حريتها، والعبد الذي يحفظ السورة الأولى من القرآن لا يظل بعد ذلك عبداً. وبعد ذلك يشير إلى وجود ثلاثة أيام من العطلة الأسبوعية، لأن عطلة المسلمين الجمعة، واليهود السبت، والقناصل المسيحيين الأحد، ويقول إن اليهود هم الأكثر تشدداً في عطلتهم، بينما المسلم يذهب إلى المسجد ظهر يوم الجمعة ثم يعود لعمله.
ويلفت توين النظر إلى المكانة الرفيعة التي يحظى بها المسلم المراكشي الذي يؤدي فريضة الحج، فالناس يلقبونه بالحاج، ويصير بعد ذلك شخصية ذات شأن، ويقول إن المراكشيين يفدون كل عام إلى طنجة ويتجهزون للسفر إلى مكة، ويقطعون جانباً من الطريق على بواخر إنكليزية، وتكلف الرحلة حوالي 12 دولاراً. ولذلك تجد الكثيرين يعملون كل ما في استطاعتهم لتحصيل هذا المبلغ، وحين يعود واحدهم يظل مفلساً لفترة طويلة. وقد أدى ذلك لأن يصدر السلطان المراكشي قراراً يمنع الحج على الفقراء.
تهديدات الإسبان
يشير مارك توين، ولكن بأسلوب متهكم، إلى التهديدات الإسبانية التي لا تتوقف ضد مراكش، عن طريق إرسال السفن الحربية الهادفة إلى إقلاق راحة المراكشيين. ويقول إن الأميركيين يمتلكون الكثير من الأساطيل الضخمة في البحر المتوسط، ولكنها نادراً ما تقترب من الموانئ الإفريقية، ولذلك فإن المراكشيين يتلكؤون في تسيير أمور الأميركيين والإنكليز والفرنسيين، بينما يسرعون بتلبية مطالب الإسبان على الفور. ويقول إن الإسبان استولوا على مدينة تطوان قبل خمسة أعوام، ثم توصلوا إلى تسوية زادوا فيها مساحة الأرض التابعة لهم على الساحل الأفريقي، وحصلوا على تعويضات من السلطان المراكشي تقدر بعشرين مليون من الدولارات دفعت نقداً، وكذلك التوقيع على معاهدة سلام، قبل أن يعيدوا المدينة لهم.
ولا يفوت توين هذه المناسبة فيسخر من الإسبان سخرية لاذعة، إذ يقول إن الإسبان لم يغادروا تطوان إلا بعد أن التهموا جميع قطط المدينة، وهو ما تسبب بإيغار صدور المراكشيين على الإسبان نظراً لمكانة القطط عندهم؟!
وينقل لنا كاتبنا طبيعة حياة القناصل الأجانب، ومنهم القنصل الأميركي الذي تقضي عائلته حياتها داخل البيت، ولا تخرج إلا للتنزه، من دون الاختلاط بأحد، ولذلك فهم ينتظرون الجرائد القادمة بالبريد البحري، فيقرؤونها أكثر من مرة، ويتلهون بتناول الطعام، والشراب، والنوم طوال وقتهم.
بعد ذلك يتوجه توين وصحبه إلى جبل طارق لكي يعودوا إلى سفينة "كويكر ستي" التي ستواصل طريقها إلى الأراضي المقدسة، ولكن بعد أن تزور موانئ عديدة على المتوسط.
ومع أن أسلوب الكتاب اعتمد السخرية من الحجاج، ومن الأماكن التي زارها، إلَّا أنه قدم وصفاً معقولاً للمدينة المغربية الساحرة حين زارها بصحبة بعض أصدقائه، أثناء استراحة السفينة "كويكر ستي"، فتحدث عن موقعها، وعمارتها، وتنوعها الإثني والديني، ونشاطها الاقتصادي.
حين قام مارك توين بهذه الرحلة كان صحافياً مبتدئاً يوقع باسم صموئيل لانغهورن كليمنص، يكاد الجمهور الأميركي لا يعرفه، وكانت هذه الرحلة التي نشرها في الصحافة الأميركية على حلقات تجربته الأولى في الكتابة الساخرة. ولكنه سرعان ما حقق شهرة واسعة بعد أن نشر روايته "توم سوير".
من جبل طارق إلى طنجة
وصل توين إلى طنجة قادماً من جبل طارق، تاركاً معظم ركاب السفينة وقد توجهوا إلى إسبانيا لقضاء بعض الوقت، حيث يقول: "فلينعم من ذهب إلى إسبانيا بما فيها، أما مجموعتنا الصغيرة فمن الأنسب لها أن تزور أراضي سلطان مراكش، لأننا اكتفينا من إسبانيا كثيراً خلال وجودنا في جبل طارق، فطنجة مكان تشوقنا إلى زيارته، حيث كنا نبحث عن شيء جديد كل الجدة من الداخل والخارج، ولا يذكرنا بشيء عرفناه من قبل، أو بأرض زرناها فيما سبق. نعم رأينا شيئاً شبيهاً في لوحات فنية، ولكننا لا نثق كثيراً باللوحات، بسبب مبالغة فنانيها في تصويرهم للغرابة".
هذا الموقف النقدي من فن الاستشراق الذي كان واسع الانتشار في ذلك الوقت يشير إلى أن توين لم يكن يؤخذ بسهولة، فهو يعرف تماماً التصورات المسبقة للغربيين حيال الشرق، وهي رؤية طالما انتقدها في طيات كتابه. ولذلك حرص على تقديم صورة واقعية للمدينة، عارض فيها تصورات رسامي الاستشراق الخيالية التي لا تنقل إلا نصف الحقيقة.
بلد غريب
وفور دخوله إلى المدينة كتب: "طنجة بلد غريب، هذا إذا افترضنا أنها بلد مستقل، كون شخصيتها الحقيقية لا تظهر إلا في كتاب "ألف ليلة وليلة". لا وجود في المدينة للشقر ممن رأيناهم يحيطون بنا. وهي مدينة مطوقة بسور حجري محكم، عمره لا يقل عن ألف عام، وبيوتها تتكون من طابق أو طابقين على الأكثر، بنيت مستندة على جدار سميك وطليت جدرانها بالجص البيض، مكعبة الشكل، تشبه الصناديق الكبيرة. أبوابها على شكل قنطرة تميزها عن غيرها من الأبواب التي عرفناها، وهي تشبه اللوحات المرسومة في مراكش. أما أرضياتها فقد طليت ببلاط متعدد الألوان على شكن معين متوازي الأضلاع، داخل مربعات خزفية معشقة بزخارف ذات ألوان مختلفة، تم شيها في أفران فاس".
وبعد أن يشير إلى فقر غرف البيوت بالأثاث، باستثناء قاعة الاستقبال الفسيحة، يقول توين إن طرقات المدينة ذات طابع شرقي أصيل، عرض بعضها ثلاث أقدام، وبعضها ست أقدام، ولكن اثنين من طرقاتها يزيد عرضهما على اثنتي عشرة قدماً، ويقول إن شخصاً بمفرده يمكن أن يسد أحد هذه الطرق.
ناس وأزياء
أما التركيبة السكانية التي رآها في شوارع طنجة فقد وصفها كما يلي: "ثمة كثير من فرسان البادية المراكشيين، هؤلاء الذين يفاخرون بتاريخ يصل إلى القرون الوسطى، وهناك اليهود الذين فر أسلافهم إلى هذا المكان منذ قرون عديدة، وهنا السمر الريفيون، من منطقة الريف، المشهورون بالقسوة، والقادمون من الجبال، وهناك الزنوج القادمون من أصول لا تشوبها شائبة، وأيضاً الدراويش، والكثير من العرب، ومن كافة المشارب والنحل؛ ممن يحملون ملامح غريبة لافتة للنظر".
ولا يبخل علينا كاتبنا البارع في وصف الأزياء التي لفتت نظره في شوارع طنجة: "يخرج ما يرتدونه من ثياب عن المألوف، فثمة مراكشي مبرنس، يعتمر عمامة بيضاء ضخمة، ورداءً يثير العجب، ويتمنطق بحزام أحمر يتخلله الذهب، وبنطالاً يصل إلى ما تحت ركبته بقليل، وسيفاً معقوفاً مزخرفاً بشفرة وحيدة، ساقه عارية ولا يرتدي جورباً بل خفين بلون أصفر، على كتفه بندقية طويلة بشكل مبالغ فيه، والغريب أنه جندي، وليس إمبراطوراً".
ويتابع وصفه لهيئات الرجال الذين رآهم فيقول: "هنا المعمرون المراكشيون ذوو اللحى والأردية البيضاء والقلانس الفضفاضة، وهنا البدو ببرانسهم المخططة والمشبوكة بالقلانس، وهنا الزنوج والريفيون حليقو الرؤوس إلا من خصلة شعر مضفورة طويلة خلف الأذن، مرفوعة إلى جانب فروة الرأس، وهنا كل جماعات البربر في ثياب غريبة الألوان. وهنا النساء اللاتي لففن أنفسهن من الرأس إلى القدم في أردية بيضاء خشنة، وينسب لهن أنهم ينفردن بكشف عين واحدة فقط. وثمة خمسة آلاف يهودي يرتدون سترات زرقاء، ويتمنطقون بأحزمة، وينتعلون خفافاً صفراً، ويعتمرون قبعاتهم الصغيرة التي تغطي مؤخرات رؤوسهم".
نقش الكنعانيين
بعد ذلك يستعرض توين تاريخ المدينة بأسلوب لا يخلو من السخرية، منذ الفينيقيين وحتى عصر كولومبوس، ويشير إلى معلومة متداولة على نطاق واسع حول نقش تاريخي يتعلق بهجرة كنعانيين من فلسطين إلى شمالي أفريقيا حيث يقول: "تقع عيني الآن على مكان مقام فوقه نصب تذكاري ذكر تفاصيله المؤرخون الرومان منذ ما لا يقل عن ألفي عام، نقشت عليه عبارة: "نحن الكنعانيين، نحن من طردنا من أرض كنعان من قبل اللص اليهودي يوشع". ومع ذلك لا يمكن التحقق من صحة ما قاله توين، حول هذا النقش الذي يزعم أنه رآه رؤي العيان، فكيف تمكن من قراءته، وهل كانت له ترجمة، وبأي لغة؟
السوق والسجن وسعاة البريد
يعود كاتبنا لوصف مشاهداته في مدينة طنجة فيقول في وصف السوق: "يقارب حجم المتجر في طنجة حجم حمام عادي في بلد متحضر، ويجلس كل من التاجر المسلم، الإسكافي اليهودي، أو بائع الكعك الحلو على أرضية متجره ممدد الساقين، وينادون عليك، ماذا تريد أن تشتري من دون أن يبرحوا أمكنتهم. تستطيع استئجار صف من هذه المحلات بخمسين دولاراً في الشهر. يحتشد السوق بسلال التين والتمر والبطيخ والمشمش التي يأتي بها الباعة على حمير وبغال. يعج المشهد بالحيوية والنشاط والجاذبية، وتفوح منه روائح فواحة. وقد أقام الصرافون اليهود أكشاكهم في أماكن متلاصقة، وتراهم لا يتوقفون طوال اليوم عن عد العملات البرونزية ونقلها في سلال الحبوب إلى سلة أخرى، وأظنهم في هذه الأيام لا يحصون الكثير منها، لأنني لم أر سوى البالي والقديم الذي يعود تاريخه إلى مئات السنين".
ويضيف: "لدى المراكشيين عملات معدنية وفضية صغيرة الحجم، وهناك أيضاً بعض السبائك الفضية الرقيقة ما يعادل في القيمة دولاراً للسبيكة الواحدة، رغم ندرة تلك السبائك لدرجة أن فقراء العرب حين يرون واحدة منها يطلبون تقبيلك. لديهم أيضاً العملات الذهبية التي تعادل الدولارين. يذكرني ذلك بقصة سعاة البريد الذين كانوا ينقلون الرسائل عبر المدينة، ويتقاضون مقابل ذلك رسوماً بريدية كبيرة، وكانوا من حين لآخر يقعون في قبضة اللصوص فينهبون ما معهم من نقود، ولذلك وعلى سبيل الاحتياط، كانوا بعد أن يجمعوا دولارين يقومون باستبدالهما بقطعة ذهبية واحدة من تلك القطع، وحين كان أولئك اللصوص يهاجمونهم كانوا يبتلعون السبيكة على الفور، وبعد ذلك عرف اللصوص بالقصة، وصاروا يقدمون لسعاة البريد الصادر إلى الولايات المتحدة دواءً يسبب القيء ويجلسون للمراقبة فقط".
ويخبرنا توين بأن نظام الضرائب الذي كان يفرضه حكام مراكش كان يضطر بعض سكان طنجة من المسلمين واليهود للاحتماء بالقنصليات الأجنبية. ويستعرض محاولته ورفاقه زيارة مسجد مراكشي جميل مئذنته عالية مزينة بمربعات على شكل رقعة الشطرنج، ومزينة بخزف من شتى الألوان، يشبه آثار الحمراء الأندلسية. ولكنهم لم يتمكنوا من دخول المسجد بسبب منع دخول غير المسلمين. ويتعرض لقصة يرويها بسخرية حول عطل أصاب ساعة المسجد، اضطر المسلمين لقبول دخول مصلح ساعات برتغالي رغم أنه مسيحي.
وفي وصفه لسجن طنجة يقول إن السجناء يصنعون السلال والحصر، وهو العقاب الذي يؤدونه في سجنهم، ويضيف: "يعاقب القتل هنا بالإعدام. اقتيد منذ فترة قصيرة ثلاثة من القتلة إلى خارج أسوار المدينة، وأعدموا رمياً بالرصاص. وبنادق المراكشيين رديئة بشكل غير معقول، والأردأ منها الرماة المراكشيون، فهم يقومون في البداية بجمع القتلة البؤساء في صف طويل، كأي هدف للرمي، ثم يصوبون عليهم البنادق، فيدفعونهم إلى القفز والوثب تلافياً للطلقات لنصف ساعة حتى يتمكن الرامي من إصابة هدفه".
أما عقوبة قطع يد السارق فيصفها كما يلي: "يقطعون يد سارق الماشية اليمنى وساقه اليسرى، ويعلقونها في الساحات لكي يعتبر منها السُّراق، والغريب أنهم لا يقطعون اليد من المفصل بل من العظم، ثم يكسرونه، وقد يتعافى الجريح أو لا يتعافى، ومع ذلك يظهر المجرمون رباطة جأش غير عادية، فهم يتحملون عملية القطع بشكل يحسدون عليه، من دون أن يرمش لهم جفن، ومن دون تهتز شعرة أو أن تصدر منهم نأمة، فليس هناك عقاب يسلب المراكشي اعتزازه بشخصه، ولا لصرخة واحدة أن تنال من كرامته".
وينقل لنا شيئاً مما سمعه عن طقوس الزواج، فيقول إن الزواج يتم من دون معرفة مسبقة بين العروسين، وحين يراها للمرة الأولى ولا تعجبه يمكنه أن يعيدها إلى أهلها، وكذلك إذا كانت مريضة، أو رفضت الإنجاب. ويشير إلى أن تعدد الزوجات ليس حكراً على المسلمين، بل بين اليهود أيضاً.
عادات اجتماعية
يلاحظ توين وجود الرق في طنجة، فثمة الكثير من الزنوج الذي يرزحون تحت نيره، ولكن العبدة التي تصبح محظية لسيدها تنال حريتها، والعبد الذي يحفظ السورة الأولى من القرآن لا يظل بعد ذلك عبداً. وبعد ذلك يشير إلى وجود ثلاثة أيام من العطلة الأسبوعية، لأن عطلة المسلمين الجمعة، واليهود السبت، والقناصل المسيحيين الأحد، ويقول إن اليهود هم الأكثر تشدداً في عطلتهم، بينما المسلم يذهب إلى المسجد ظهر يوم الجمعة ثم يعود لعمله.
ويلفت توين النظر إلى المكانة الرفيعة التي يحظى بها المسلم المراكشي الذي يؤدي فريضة الحج، فالناس يلقبونه بالحاج، ويصير بعد ذلك شخصية ذات شأن، ويقول إن المراكشيين يفدون كل عام إلى طنجة ويتجهزون للسفر إلى مكة، ويقطعون جانباً من الطريق على بواخر إنكليزية، وتكلف الرحلة حوالي 12 دولاراً. ولذلك تجد الكثيرين يعملون كل ما في استطاعتهم لتحصيل هذا المبلغ، وحين يعود واحدهم يظل مفلساً لفترة طويلة. وقد أدى ذلك لأن يصدر السلطان المراكشي قراراً يمنع الحج على الفقراء.
تهديدات الإسبان
يشير مارك توين، ولكن بأسلوب متهكم، إلى التهديدات الإسبانية التي لا تتوقف ضد مراكش، عن طريق إرسال السفن الحربية الهادفة إلى إقلاق راحة المراكشيين. ويقول إن الأميركيين يمتلكون الكثير من الأساطيل الضخمة في البحر المتوسط، ولكنها نادراً ما تقترب من الموانئ الإفريقية، ولذلك فإن المراكشيين يتلكؤون في تسيير أمور الأميركيين والإنكليز والفرنسيين، بينما يسرعون بتلبية مطالب الإسبان على الفور. ويقول إن الإسبان استولوا على مدينة تطوان قبل خمسة أعوام، ثم توصلوا إلى تسوية زادوا فيها مساحة الأرض التابعة لهم على الساحل الأفريقي، وحصلوا على تعويضات من السلطان المراكشي تقدر بعشرين مليون من الدولارات دفعت نقداً، وكذلك التوقيع على معاهدة سلام، قبل أن يعيدوا المدينة لهم.
ولا يفوت توين هذه المناسبة فيسخر من الإسبان سخرية لاذعة، إذ يقول إن الإسبان لم يغادروا تطوان إلا بعد أن التهموا جميع قطط المدينة، وهو ما تسبب بإيغار صدور المراكشيين على الإسبان نظراً لمكانة القطط عندهم؟!
وينقل لنا كاتبنا طبيعة حياة القناصل الأجانب، ومنهم القنصل الأميركي الذي تقضي عائلته حياتها داخل البيت، ولا تخرج إلا للتنزه، من دون الاختلاط بأحد، ولذلك فهم ينتظرون الجرائد القادمة بالبريد البحري، فيقرؤونها أكثر من مرة، ويتلهون بتناول الطعام، والشراب، والنوم طوال وقتهم.
بعد ذلك يتوجه توين وصحبه إلى جبل طارق لكي يعودوا إلى سفينة "كويكر ستي" التي ستواصل طريقها إلى الأراضي المقدسة، ولكن بعد أن تزور موانئ عديدة على المتوسط.