المجتمع بوصفه شخصية في خطاب الرحلة لدى الطهطاوي

يمثل المجتمع أهم العناصر التي تلازم أدب الرحلة، إذ يسعى عبر مختلف الوسائل الى فهم هويته، عبر بناء شخصية المجتمع وفهم طبيعتها، ويرتبط بناء الشخصية في سرد الرحلة بخصوصيته الإجناسية. ويمكن الإشارة الى أن الرحلة انفردت ببناء نوعين من الشخصية: الأولى رئيسة وهي القيمة على فعل الارتحال، فمع حركتها يبدأ السرد، وبنزولها يظهر الوصف، وبين الوصف والسرد يُشيد عالم فريد. أما النوع الآخر فهي الشخصية بوصفها مجتمعًا أو الشخصية العامة التي يحاول الراوي الرحّالة تكوينها، ولا يمكن فهم هذه النوع وبناء تصور متكامل عنه ، من دون فهم الأمكنة والظواهر الاجتماعية التي قدمت, وكذلك التصورات القبْلية والبعْدية التي يحملها الرحالة عن المجتمع المرتحل إليه؛ لذا لا قيمة حقيقية للشخصيات الثانوية إذا ما تتبع الدارس حيواتها، فهي تطلّ دليلًا لظواهر اجتماعية تتبعها الرحالة؛ أي أنها لا تقدم الى المتلقي بوصفها ذاتًا فردية، بل نموذجٌ يدلّ على شخصية العالم الذي يرتحل فيه (- الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر, مستويات السرد: 226). فهذه الشخصية في الواقع جزء من شخصية المجتمع التي يسعى الرحالة الى صياغتها. فالرحلة خطاب سفر مأخوذ بمعرفة المجتمعات وفهم طبيعتها, وقد اتضح هذا الهاجس أكثر في عصر النهضة العربية, حين ارتحل المفكرون العربي يقودهم أمل التعلم وأمل الاكتشاف وتعريف مجتمعه بالآخر المجهول. وقد توقف المقال لدى رحلة(تخليص الإبريز في تلخيص باريز) لرفاعة رافع الطهطاوي (1826-1831), التي تعد أولى رحلات عصر النهضة العربية الى الآخر الأوربي, وكانت سفرًا في فرنسا وكتابة لها. إذن لا يمكن فهم الخطاب إلا في حال تلمّس شخصية المجتمع الفرنسي, فقد نظر إليه الطهطاوي بوصفه شخصية, وساعده في بناء ذلك الوعي التنويريّ, فالرحالة رسول وعي مجتمعٍ يتطلع الى النهضة, أي أنه صاغ خطابه لا الى فرد بعينه بل الى المجتمع العربي كله, لذا يستند في زمن النهضة الى وسيلة التقابل بوصفها أداة للتعبير عن محمولات التنوير. وقد نظر الى المجتمع الفرنسي من أبعاد عدة, محاولًا رصد ظاهره وباطنه, ساعيًا عبر ذلك لرسم تصورٍ مكتملٍ عنه, "ومما يستحسن في طباع الإفرنج دون من عداهم من النصارى حب النظافة الظاهرية، فإن جميع ما ابتلى لله سبحانه وتعالى به قبط مصر من الوخم والوسخ أعطاه للإفرنج من النظافة. ولو على ظهر البحر! فإن أهل المركب التي كنا فيها يحافظون على تنظيفها وإذهاب الوسخ ما أمكن، حتى إنهم يغسلون مقعدها كل يوم من الأيام، ويكنسونها في غرف النوم كل نحو يومين، وينفضون الفراش وغيره، ويشمونها رائحة الهواء، ويزيلون أوخامها، مع أن النظافة من الإيمان، وليس عندهم منه مثقال ذرة! "( تخليص الابريز في تلخيص باريز: 46- 47). ساعدت هوية الطهطاوي الدينية في توجيه خطابه, فقد نظر الى أقباط مصر بوصفهم آخر, من خلال هجائهم والحط من شأنهم, مقابل المجتمع الفرنسي المتقدم الذي رأى فيه ذاته المفقودة, والذي ادهشته قيمه, فقد اتضح بشكل جلي الوجه الإشكالي الذي يحمله الآخر الفرنسي, فثنائية(النظافة من الإيمان) التي استندت إليها منظومة القيم العربية الإسلامية بدأ الآخر بخلخلتها في ذهن الرحالة وذهن متلقيه, مؤسسًا لفهم مختلف, فالنظافة يمكن أن تكون حاضرة من دون إيمان, والإيمان يمكن أن يكون حاضرًا من دون نظافة, أي أن الآخر منذ بداية الرحلة يحمل رؤية مختلفة لتفسير الحياة وإشكالات الواقع, ويحمل معه تصورًا مختلفًا لمنظومة القيم التي ينتمي إليها الرحالة. وقد تعددت مواقع الطهطاوي التي شغلها داخل خطاب الرحلة منها ذات تنويرية ذات امتداد غربي, ومرة ينطلق من موقع ديني في بث تنويره, وقد سعى في ذلك كله الى استغوار الشخصية الفرنسية, فقد رأى "أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل، ودقة الفهم وغوص ذهنهم في الغويصات، وليسوا مثل النصارى القبطة، في أنهم يميلون بالطبيعة إلى الجهل والغفلة، وليسوا أسراء التقليد أصلاً، بل يحبون دائمًا معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى إن عامتهم أيضًا يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة، كل إنسان على قدر حاله، فليست العوام بهذه البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة. وسائر العلوم والفنون والصنائع مدونة في الكتب حتى الصنائع الدنيئة، فيحتاج الصنائعي بالضرورة إلى معرفة القراءة والكتابة لإتقان صنعته، وكل صاحب فن من الفنون يحب أن يبتدع في فنه شيئًا لم يسبق به، أو يكمل ما ابتدعه غيره. ومما يعينهم على ذلك زيادة عن الكسب حب الرياء والسمعة ودوام الذكر "(ص83) وقد قابل بين الشخصية الباريسية وأقباط مصر مبينًا رفعة الإنسان الغربي, وهنا يبعد الطهطاوي الإنسان العربي المسلم عن غياب العقل ودقة الفهم, ويرمي ذلك على الاقباط. وأظهر الراوي ما تتميز به الشخصية الباريسية من سمات جعلت منها مثالاً للتمدن, وقد سار تقديمه لها في اتجاهين: أخذ الاتجاه الأول صفة التقديم المباشر, وفيه فسر تفوقها الذي يرتبط بنفسيتها وإمكاناتها العقلية, فذهب الى اتسامها بذكاء العقل ودقة الفهم والاهتمام بالعلم, كذلك أشار الى أنهم ليسوا أسراء التقليد, بل يميلون الى الابتكار, وكثيرًا ما نلمح تقديم الراوي شخصية من خلال أخرى, وهذا ما يكثر في الرحلات العربية الحديثة, فقد قدم الشخصية الفرنسية عبر الشخصية المصرية, مثلما فعل العكس. فالمصري يغلب عليه الجهل والغفلة والانقياد للتقليد, والتسليم للموروث, وهنا تظهر التقابلات بشكل مباشر وغير مباشر بين المجتمعين العربي والغربي, ولكل مجتمع قيمه وأسسه المعرفية التي يستند إليها, وقد تنكر الرحالة لتلك القيم التي قادت المجتمع العربي الى التخلف ؛ لتعارضها مع موقفه التنويري, وقد جرى تبني وعي الآخر؛ لأنه رأى فيه تحريرًا للكائنات البشرية من ضغط الوصايات الخارجية, فالدعوة الى مركزية الإنسان بينة عبر صفات الشخصية الفرنسية, فقد حاول إعادة النظر بما تعاهدت عليه الذات من أسس وثوابت. ويقول في ذلك: "ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها، وذلك أنهم أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية، لا نعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسي للجلوس عليها؛ لأن هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض، فضلاً عن الجلوس بالأرض، ثم مدوا السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحًا من (القزاز)، وسكينًا، وشوكة، وملعقة، وفي كل طبلية نحو قزازتين من الماء، وإناء فيه ملح، وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حوالي الطبلية كراسي، لكل واحد كرسي، ثم جاءوا بالطبيخ فوضعوا في كل طبلية صحنًا كبيرًا أو صحنين، ليغرف أحد أهل الطبلية، ويقسم على الجميع، فيعطي لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل الإنسان بيده أصلًا، ولا بشوكة غيره، أو سكينه، أو يشرب من قدحه أبدًا. ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عاقبة "( ص58). فلم يكتف الآخر بالنظافة والترتيب, بل رسخوا فهمًا آخر لهما, فهمًا لا يمكن تجاهله, لا سيما أن ذلك الفهم والاختلاف منح الآخر الصدارة, وقاده الى أن يكون مهيمنًا, على العكس من الأنا العربية التي قادها اكتفاؤها الى أن تقع في التخلف والانحطاط, ولا يقارن الرحالة بين نمطين من أنماط العيش فحسب بل يقابل بين شكلين من أشكال الوعي, وبذلك لم يصف الرحالة شخصية المجتمع الفرنسي فحسب, بل وصف مجتمعه أيضًا, فقد وجد في الآخر صفات كان ينتظرها لدى العربي, وهنا يعيد وعيه بالكون والوجود من خلال نقطة الالتقاء بين وعي الذات ووعي الآخر, أي أن الآخر يثري الوعي البشري ويعقده, ويبعده عن التبسيط. ومن الصفات التي تقرب الشخصيتين الفرنسية والعربية من بعض قوله:"ومن طباعهم الغالبة: وفاء الوعد، وعدم الغدر، وقلة الخيانة[...]الصدق، ويعتنون كثيرًا بالمروءة الإنسانية, ومن الصفات التي يقبح وصف الإنسان بها عندهم: كفر النعم، مثل غيرهم. فيرون أن شكر المنعم واجب "(ص85) فلم يكن الآخر مغايرًا في صفاته, بل هو مختلف يمكن احتذاؤه وتحقيق ما حققه من رقي في العلوم والفنون. يؤكد ذلك قوله: "ومن الأمور المستحسنة في طباعهم، الشبيهة حقيقة بطباع العرب: عدم ميلهم إلى الأحداث، والتشبب فيهم أصلًا، فهذا أمر منسي الذكر عندهم، تأباه طبيعتهم وأخلاقهم، فمن محاسن لسانهم وأشعارهم أنها تأبى تغزل الجنس في جنسه "(ص87). ويشير الى الصفات السيئة قائلًا: "ومن خصالهم الرديئة: قلة عفاف كثير من نسائهم كما تقدم. وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة بمثل المصاحبة والملاعبة والمسايرة[...]وبالجملة فهذه المدينة؛ كباقي مدن فرانسا وبلاد الإفرنج العظيمة، مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات "(88-89) يقف الرحالة هنا في موقع رجل الدين المسؤول, وموقعه هذا يقوده الى أخذ دوره بوصفه مشيرًا الى سلبيات الآخر ولقيمه الطارئة التي يخشى انتقالها, ويسعى الطهطاوي الى حماية نفسه ومجتمعه من الآخر الذي تحول من موقع التنوير - في هذا المقتبس- الى موقع العداء, مثلما أعلنت الذات العربية تفوقها الأخلاقي. وهنا تبدو صفات الشخصية الفرنسية ليست خالصة, بل تتداخل معها الذات الواصفة ومحمولاتها المعرفية, ولا يعني ذلك أن الآخر كان موضوعًا للتأمل فحسب, وموصوفًا صامتًا لا صوت له, بل هو متكلمٌ وحاضرٌ واعٍ بحضوره من لدن الرحالة ومتلقيه ,( ينظر: الرحلة في الأدب العربي: التجنيس، آليات الكتابة، خطاب التخييل، شعيب حليفي: 269- 270) فكثيرًا ما يعيد قراءة وعي الواصف, الذي يغدو هو الآخر محلًا للقراءة والتأمل, وبذلك يخضع وعي الرحالة الى وعي الآخر منتجًا بذلك وصفًا أكثر اعتدالًا ووسطية مما لو جلست الأنا مع نفسها لوصف الآخر؛ لذا نجده أحيانًا يعلق على صفات الشخصية الفرنسية, وأخرى يضرب عن ذلك , ولعل إضرابه نابع من وقوفه بين منظومتين للقيم, واحدة ترى أن التقبيح والتحسين يقرّهما العقل وهو ما يذهب إليه العقل الغربي , وأخرى ترى في قوى الغيب عاملًا حاسمًا في معرفة التحسين والتقبيح, فالأولى تجعل من الإنسان مركزًا للكون, وأخرى تعد اللاهوت مركزًا, وتوسطه بين منظومات القيم يكشف عن مسعاه الى صناعة مجتمعٍ جديدٍ يستند الى القيم النبيلة والرؤى التنويرية؛ كون التنوير يعد الأنسان والعقل أس الحياة. وقد أشار الرحالة الى السمات التي تظهر المجتمع الفرنسي شخصية الى غير مكتملة, وقدرتها على التطور, قائلًا: "ومن طباع الفرنساوية التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة، وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور، وخصوصًا في أمر الملبس، فإنه لا قرار له أبدًا عندهم، ولم تقف لهم إلى الآن عادة في التزيين[...]وإن الفنون باللغة الفرنساوية قد بلغت درجة أوجها حتى إن كل علم فيه قاموس مرتب على حروف المعجم في ألفاظ العلوم الاصطلاحية، حتى علوم السوقة، فإنها لها مدارس كمدرسة الطباخة، يعني مجلس علماء الطباخة وشعرائها، وإن كان هذا من أنواع الهوس، غير أنه يدل على اعتناء هذه البلاد بتحقيق سائر الأشياء، ولو الدنيئة وسواء في ذلك الذكور والإناث، فإن للنساء تآليف عظيمة ومنهن مترجمات للكتب من لغة إلى أخرى، مع حسن العبارات وسبكها وجودتها "(ص84, 100) ينبه الرحالة الى ميل الشخصية الفرنسية الى الجديد والتولع به, وتقابلها الشخصية العربية المولعة بالقديم المشبعة به, ولا يقتصر على الشكل والتزين بل الأمر يتعلق بالوعي والبحث عنه, فقد أشار الرحالة الى موقع العلوم داخل المجتمع الفرنسي, التي قيدت الفنون والعلوم في قواميس ترسخ وجودها وتسهل استقبالها, وقد تساوى في ذلك الاستقبال الرجال والنساء ليؤكد ضمنًا على الطابع غير المكتمل للشخصية الفرنسية, وقد أعطى الرحالة المرأة الفرنسية حظًّا من الوصف مادحًا حينًا وذامًا أخرى, فهو يصغي للصوت الآخر في ضرورة حضور المرأة في مختلف مجالات الحياة, بوصفها منتجًا ومفسرًا شأنها شأن الرجل, ويرمي عبر الموقع التي حددها للذات الفرنسية الى خلخلة الوعي المكتملة داخل المجتمع العربي.
يشير الرحالة الى مواد الدستور الفرنسي قائلًا: " سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة، معناه سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره، فانظر إلى هذه المادة الأولى، فإنها لها تسلطًا عظيمًا على إقامة العدل وإسعاف المظلوم، وإرضاء خاطر الفقير بأنه كالعظيم؛ نظرًا إلى إجراء الأحكام. ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحضرية. وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف وذلك؛ لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجوز الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة "(ص113) التفت الرحالة الى أهمية الدستور في تشكيل بنية الأمم, فالهرمية التي يجدها حاضرة في المجتمع العربي تزول في الدساتير العادلة لا سيما الدستور الفرنسي, فالرفيع والوضيع كلاهما سواء أمامه, وهذا التساوي يدفع التسلط والجور عن الفقراء, مثلما يمنحهم صوتًا للمطالبة بحقوقهم, صوتًا يوازي صوت الحاكم, ويقابل الرحالة بين مفهوم الحرية في المجتمع الفرنسي, ومفهوم العدل والانصاف في المجتمعات العربية ليخرج بتصور متكامل عن الدستور الفرنسي ومواده. وينتبه الطهطاوي الى أن الحاكم في الأمة الفرنسية ليس هو الشخص الحاكم نفسه بل هي القوانين والتشريعات, وهو ما دفع الجور عنها, وهذا الأمر يؤكد التغاير الكبير بينها وبين الأمم الشرقية التي التي استبد بها الجور نتيجة تسلط الحكام. فالرحالة في سياق عصر النهضة يقع في ازدواج وجداني, فهو يعيش مغتربًا في البلاد العربية لاغتراب القيم التنويرية وسيادة قيم الاستبداد, وبذلك أخذت الألفة طورًا جديدًا في خطاب الرحلة, فهي تتحقق في الأمكنة التي تحمل الاشتراطات التنويرية, وهذا الفعل لا يساعد في تطوير حساسيته النقدية في النظر الى الأشياء فحسب, بل يساعد في بسطها الى المتلقي لغرض انتاج مجتمع مختلف استنادًا الى ما يمتلكه المجتمع المرتحل إليه.
ويمكن أن ننتهي الى أن الرحالة العرب وهم يقدمون شخصية المجتمع الغربي وقعوا في أسرها, لا سيما أنهم مدفوعون بهاجس تنويري, وذاك الهاجس قادهم الى أن يقابلوا بين عالمين, عالم ينتمون إليه وآخر يسعون الى اكتشافه؛ لذا كانوا في وضعية الراوي الذي لم يتمكن عن طريق إرساليته من استيعاب العالم الحديث, بل يسعى الى ذلك من خلال تأمله ماديًا ولغويًا, وهو ما يجعله راويًا ومرويًّا له (- ينظر: الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر:243.), ويكشف الاندهاش وانحسار التفسيرات عن عجز منظومة القيم التي ينتمي إليها، كذلك يكشف الآخر عن غربة الأنا وانطفاء زمنها، وتخلفها الحضاري، فقد وقع الرحالة في مأزق الانتقال بين زمنين: زمن تقليدي عربي ما زال يستند الى التقليد في تشكيل هُويته، وزمن تقدمي تجسد في الفضاء الأوربي. وإحساسه أثناء اكتشافه الآخر أنه يمر بنهاية دورة تاريخية جديدة جعله يقف في موقع المروي له؛ لذا يحاول أن يستوعب النظام الجديد الذي يتعارض مع نظامه القديم أحيانًا ويتواشج أخرى ليتمكن عبر ذلك من إعادة خلق المجتمع العربي من جديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى