خالد جهاد - مولان روج

لطالما اعتاد الناس على المبالغة في خوفهم أو المبالغة في مدحهم أو تأييدهم أو عدائهم لما يجهلون، فهم من حيث لا يدرون أعداءٌ لأنفسهم أو للمجهول أو حتى مستعبدون له ولمعتقداتٍ قد لا يكون لها أساسٌ من الصحة سواءاً كان ذلك حول مفهوم ٍ قريب من بيئتهم أو بعيدٍ عنها، كونهم ببساطة يخافون من التفكير أو متوقفون عنه بمحض ارادتهم أو يعيشون بأفكار غيرهم، لنصل إلى صورٍ مختلفة متطرفة ومضطربة لا نقرأ في ملامحها توازناً أو عقلانيةً أو إنصافاً، ولا صوت يعلو بينها على صوت الغريزة..

أضواء..شهرة..تريند..جوع..حملات إعلانية ضخمة..إشاعات..ارتفاع أسعار السلع الغذائية والمحروقات..فن هابط.. تنزيلات تكتسح الأسواق بمناسبة (الأعياد)..عنف..انقطاع الكهرباء والمياه..فرقعات إعلامية رخيصة..البحث عن أدوية...مطاعم فاخرة تعزف الموسيقى الكلاسيكية لروادها..أطفال تنام على الأرصفة وتأكل من حاويات النفايات..عروض خاصة لرحلات التسوق والإستجمام..انتخابات (نزيهة).. انفصال النجمة اللامعة عن رجل الأعمال الشهير (يشغل) الرأي العام..ارتفاع نسبة البطالة وانخفاض في معدلات الإنجاب..واااااااااااا..

كابوس.. ينام الطفل من شدة الجوع والتعب..لفرط ما بكى، ويخاف أهله الذين لا يتقنون سوى الخوف من إندلاع الحروب، معتقدين أن هذه المشاهد التي تحتل التلفاز والعناوين التي تتصدر الصحف والمواقع الإلكترونية مجرد (مناوشاتٍ بسيطة) وليست بمثابة حربٍ فعلية، كون مفهوم الحرب لا زال (تقليدياً) لدى الكثيرين ففقد معناه.. (حميميته وسخونته) بعدما أصبحت الصور اليومية القادمة من فلسطين والكثير من بلادنا مملةً كئيبةً وروتينية كحياة أي زوجين، وتحتاج إلى بعض (التجديد) والبهارات..الخبطات الإعلامية، الألوان الفاقعة والأضواء المجنونة الشبيهة بالنوادي الليلية.. تحتاج إلى الإثارة.. إلى اللون الأحمر الناري الصارخ.. أحمر.. لون الشفاه والقبلات والورود والطماطم (البندورة) التي يحلم بها الجوعى، لون الدماء التي تتدفق كالشلال لكنها لا (تلبي) احتياجات السوق، لا تحقق نسبة المشاهدات، لا تزيد من الإعلانات.. لكنها تقفز برشاقة لتتحرك على خريطة بلادنا بمنتهى الخفة ضمن استعراض ٍ متقن على مسرحٍ عالمي ضخم، مزودٍ بكل الإمكانات وعناصر الجاذبية والإبهار، وسط مجموعةٍ من الأجساد العارية التي تتمايل على أنغام الأغنيات المثيرة والضحكات المجنونة والماجنة..

وااااااااا.. دموع الأطفال وملابسهم وملابس أهلهم الممزقة تبدو عنصراً مميزاً ضمن فقرات (برنامج السهرة) الحافل وقد يضيف (بعداً فلسفياً وجمالياً) لهذا (المشهد المؤسف)، والذي يمكن استثماره وإعادة تقديمه في عروض ٍ يذهب جزءٌ من ريعها ل(خدمة قضايا الإنسان) وبذلك نمسح دمعته في خبر بعد التسبب في هطولها على وجنتين لم تعرفا يوماً لمسة حنان في خبرٍ آخر، ليتحقق السبق وتؤدى (الرسالة) من أصحاب القلوب الرحيمة والأيادي البيضاء، ويظل هؤلاء الأشخاص في حالة انتظار.. انتظار وطن وانتظار حياة وانتظار انسانيتهم وحتى مساومتهم عليها، وليظلوا منقسمين بإستمرار بين مؤيد ومعارض دون التفكير في صحة خبرٍ أو موقفٍ من عدمه، وسط كمٍ من المعلومات والإتجاهات والتيارات والصراعات التي تشتت الأذهان وتزيغ الأبصار فتخدرهم ليخطوا نحو اختيار ما رفضوه بمحض ارادتهم معتقدين أنهم أصحاب القرار..

وليخيل إليهم أن الدنيا (متجرٌ) كبير يمكنك أن تبتاع منه ما تريد طالما امتلكت (الثمن)، دون أن يسأل أحد عن الثمن الذي دفعوه ليمتلكوا هذا (الثمن)، وعن الأقنعة التي ارتدوها وجلودهم التي خلعوها ليحظوا بمظهرٍ (عصري متحضر ومتمدن)، بلسانٍ غريب يبيع إليهم هويتهم وأفكارهم، يفرق بينهم وبين إخوتهم ليقربهم ممن ذبحهم، ويعدهم برغدٍ ودفىءٍ في أحضان من غرّبهم وننسى أنهم مثله لا تحكمهم سوى مصالحهم، نقف بين شرقٍ وبين غربٍ وندعي أننا لا نعرف لكننا نفهم منطقهم، و(نتنازل بإرادتنا) فتظهر حقيقتنا وحقيقتهم، يبيعون الوهم فنشتري ونزايد على منطقهم..

إنه منطق السوق.. الملهى.. المكسب.. المتعة.. الشهوة.. الغريزة.. المصلحة.. التسليع لتتحول كل قيمة إلى مشروع استثماري وان كان ذلك كالرقص على حساب آلام الغير بأرخص صورةٍ ممكنة وأكثرها فجاجة مغلفة بأسلوب (منطقي عملي ثقافي فني نخبوي) يزين بإتقان منطق الشيطان الذي لا دين له ولا وطن.. أطفال العالم تصرخ.. يموت الكثيرون جوعاً.. الإعلام يلتزم الصمت.. الدماء في كل مكان.. هتافات الحرية ملطخة بدماء الضحايا.. صورهم تتساقط تحت أقدام الراقصات في ملهى المولان روج.. في بلاد الحريات.. اللون الأحمر يعمي الأعين.. الحب والدم والحرية والصمت والمجون والموت.. مجاناً وبلا صوت.. سوى صوت الأقدام في حلبة الرقص وسط الكثير من اللون الأحمر بدون استجابة.. سألنا كثيراً لكن..لا تعليق..لا تعليق.. لا تعليق..لا تعليق.. لا تعليق.. لا تعليق..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى