نادية الزقان - الحاحظ مؤسس السخرية السردية.. "رسالة التربيع والتدوير أنموذجا"

في البداية يجب التأكيد أن تجليات السرد العربي قديمة، قِدَمَ الشعر الذي كان يضم مرويات العرب و بطولاتهم ووقائعهم: داحس والغبراء...والتي اتخذت فيما بعد شكل حكايات ذات أبعاد أسطورية، وهو ما عَبَّرَ عنه القرآن الكريم بأساطير الأولين..
ومع مجيء الإسلام، أصبح السرد يأخذ طابع الوعظ والإرشاد الديني كما هو حال قصص القرآن، غير أن ازدهار الدولة الإسلامية وانفتاحها على الأمم الأخرى، أدى إلى تنوع الثقافة العربية انْتِهالا وترجمة ونسخا، فظهر الورق وكثر النساخون، وتطورت الدواوين وازداد عدد الکُتَّاب وأصبح الاهتمام بالكتابة النثرية أمرا مفروغا منه، خاصة وأن تطورات الحياة الاجتماعية والثقافية للدولة العربية الإسلامية وتناقحها مع مختلف الثقافات، أدى إلى بروز ظواهر اجتماعية وتجليات تقضي بضرورة انبثاق سارد أو راو يوثق لنقلها أو التنبيه لها... وبالتالي تم الانتقال في هذه المحكيات من الطابع الشفهي الى الكتابي مع الجاحظ والتوحيدي والحريري والبديع...
وبذلك أصبح للنثر الفني - كشكل أدبي - مكانه ضمن التلقي العربي، فاجتهد الدارسون للتموضع حول مسمياته، وهذا سعيد يقطين يحدد منها: الأدب القصصي، أدب القصة، الحكايات العربية...إلى أن تَمَّ التوافق على النثر الفني...
فكان الجاحظ أول من أسس لهذا الشكل الفني (النثر) لأنه كان يملك ما يؤهله لذلك:
بحكم كونه كان معتزلي المذهب، والمعروف أن هذا المذهب يشكك في كل المُسَلَّمات، ويقوم بإعادة تصحيح المفاهيم، لذلك كان أول من طرح أسئلة نقدية عميقة:
• ما الذي يعطي للشعر قيمة؟
• كيف يمكن التأسيس لنوع من الكتابات الأدبية بشكل خاص؟
عند شوقي ضيف، فإن الجاحظ هو من يرجع له الفضل في نقل الأدب من بلاغة الأسلوب إلى مرتع الحياة، أي أن الأدب لم يعد معتمدا على براعة الكلمة، بل على موضوعات تهم الطبيعة والإنسان والعقل...
وهذا زكي نجيب محمود يقول بأن الجاحظ نقل الثقافة العربية من ثقافة شعرية إلى ثقافة واقعية، وهذا يعني نقلها من الوجدانية إلى العقلية، لتهتم بمواضيع الجسد ، العقل، الأخلاق...
فالأخلاق كموضوع فلسفي كان قد تَجَسَّد أدبا في شكل الهجاء والمدح...هنا سيأخذ الجاحظ هذا الموضوع منطلقا ومستفيدا مما جاء عند سقراط " اعرف نفسك" لتدقيق صفة "المراء" التي انتشرت في عهده، متخذا أحمد عبد الوهاب، - وهو كاتب عند الامير الواثق في عهد الدولة العباسية – مَطِيَّةً حَلَّلَ عبره هذه الصفة...
سقراط كان يقول《 الدعابة ضرورة في السجالات 》 وهذا أوحى للجاحظ بأن يتخذ طريقة في الكتابة عن تلك الظاهرة (المراء) يعتمد فيها منهج القياس الصوري: أحمد عبد الوهاب يدعي أنه مفرط الطول، يدعي السباطة والرشاقة، يدعي أنه طويل الباد رفيع العماد، قد أعطى البسطة في الجسم والسعة في العلم...إلى غيرها من الادعاءات التي أوردها رسالة "التربيع والتدوير".
وعليه قام الجاحظ باعتباره يعلم أن الأدب جاء أصلا من المأدبة والمؤانسات في المجالس، والتي يكون عمادها التنويع والتشكيل والفكاهة والهزل...فكتب لنا شكلا نثريا رسالة تنطلق من مقدمة كبرى يؤكد فيها الحقيقة التي عليها أحمد عبد الوهاب، ومقدمة صغرى بها المراء وما ادعاه هذا الأخير عن نفسه من مغالطات، فكانت النتيجة هي السخرية والضحك....يقول
Arthur Shopenhauet
" أينما تكون حياة جدية، يكون هناك تناقض، وحيثما يكون التناقض، يكون الضحك"
إذا الجاحظ هنا يؤسس لأدب الهزل ومزجه بالجدية، وهي حيلة فنية جاء فيها بشخصية حقيقية ليوهم بالواقعية في عمله النثري ويضفي عليه نوعا من العقلانية.
الجاحظ خلال هذه الرسالة يساجل أحمد عبد الوهاب ويكشف عن حقيقته باعتماد مكون التصوير الطاغي على أرجاء الرسالة، بل والمبالغ فيه أحيانا بهدف خلق صورة كاريكاتورية تفضي إلى الضحك، يقول هوراس" الحياة كوميديا لمن يفكرون ومأساة لمن يشعرون"...
إذا الجاحظ بكل ذلك أَثَّثَ لنوع سردي جديد سعى من خلاله انتقاد الظواهر الاجتماعية التي انتشرت بزمانه عن طريق السخرية منها، لخلق الضحك عليها وبالتالي دعوة أصحابها لإعادة النظر ومراجعة أنفسهم فيها، أمر أكده السيد عبد الحليم محمد حسين في كتابه" السخرية عند الجاحظ" بقوله إن الجاحظ في سخريته لم يعتمد لا على عاطفته ولا على الشتم والسب...وهذا لأنه كان يعتمد على ثلاث مكونات أساسية:
1 ) المحاورة: دخل في حوار مع أحمد عبد الوهاب يحاججه.
2) التصوير: المبالغة في تشويه صورة أحمد عبد الوهاب يقول " كان أحمد عبد الوهاب مفرط القصر – كان مربعا – كان جعد الأطراف - ..." صورة كاريكاتورية مضحكة.
3 ) الهزل: المقاربة بالسخرية للإضحاك وإضفاء الكوميديا...
فهذه الأخيرة كانت قد وجدت عند أرسطو بثلاث أنواع:
• الكوميديا الشخصية
•الكوميديا الاستدلالية
•الحكمة
وفي هذا النص يكون الجاحظ قد وظفها ثلاثتها من أجل انتقاد خصلة المراء وبهدف تصحيحها.
لأنه وبحسب النص، أحمد عبد الوهاب يريد أن يقنع نفسه بصورة محبوبة ويعطي لنفسه صفات يعمل الجاحظ على تقويضها وتبيان زيفها،
إذا أحمد عبد الوهاب أراد أن يبني صورة (إيتوس) لكن الجاحظ هدمها وهذا ما كان يعرف عند كانط بنظرية "الرجاء الخائن"
والضحك هو محصلة لذلك الصراع أو التفاوت المعرفي بين المتصور للعالم والمدرك الحسي الخاص...
في النهاية لا يسعنا أن نقول إلا أن سُخْر الجاحظ كان متصلا بطبيعة المرحلة وبموقفه من الحياة، وهو موقف التوجيه والنقد، لأنه عاش في مجتمعه بعين الخبير الناقد، فكان يعالج المشكلات بالضحك والسخرية طمعا في رد صاحبها عن نصابه منها، خاصة حين يأتي في محاججته بالأدلة والبراهين ...الدينية منها على الخصوص، فكانت موضوعات السخرية عنده تتأرجح ببن:
• العيوب الجسمية الخلقية
• غرابة الطباع والأخلاق
• القصور العقلي
هنا نؤكد أن الجاحظ من خلال هذا التصوير السردي لصورة أحمد عبد الوهاب في رسالة "التربيع والتدوير" يكون قد ساهم في تأسيس فن النثر الذي سيفتح الباب بعده لابتكار ما يعرف لاحقا بأدب المقامة عند البديع والحريري
المصادر والمراجع
• السخرية في ادب الجاحظ، هيفاء عكاوي الرفاعي بمجلة المورد، بغداد، المجلد 11 العدد 2 ، 1982م.
• التربيع والتدوير، عمر بن بحر الجاحظ، تح، فوزي عطوي، الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت 1969
• ذم اخلاق الكتاب ضمن ثلاث رسائل للجاحظ، نشرها المستشرق يوشع فنكل .
بقلم ذة. نادية الزقان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى