خالد جهاد - الفوضى

لربما كانت علاقتنا مع الإعلام علاقةً تشبه علاقتنا بمعظم الأشياء والأشخاص من حولنا، نعلم بوجوده أو نعتبره من المسلمات لذلك لا نتأمله جيداً منذ كان معظمنا يشعر بوجود الصحف الورقية والمذياع ولاحقاً جهاز التلفزيون والذي تطور بدوره إلى مختلف الأجهزة الذكية التي نستخدمها في حياتنا اليومية وحتى في عملنا، لكن الحقيقة أن الإعلام هو كوكبٌ مستقل بحد ذاته ولا شيء يضاهيه في (صناعة الحياة والأحداث وأفكار الإنسان) أينما كان في هذا العالم..لكن يظل هناك خصوصية للتجارب الغربية، فالإعلام الأوروبي له أسلوبٌ مختلف عن الإعلام الأمريكي الذي يشكل مدرسةً خاصة وصناعةً قائمة بحد ذاتها بكل ما تحتويه، وحتى فيما بين دول الإتحاد الأوروبي خاصةً في دولٍ كان لها السبق في تحديد شكل البرامج والأفلام والمسلسلات ومرت بمراحل مختلفة لتصل إلى ما تقدمه اليوم، خاصةً مع تغير الكثير من المفاهيم داخل المجتمع الأوروبي والتي لم يكن ليتقبل المواطن في الستينات من القرن الماضي الكثير مما يعرضه إعلامه اليوم بمنتهى الأريحية ولا زال يغضب الكثير من الفئات المحافظة من السكان الأصليين (بعيداً عن المهاجرين العرب أو المسلمين)، خصوصاً كلما ابتعدنا عن العاصمة لتصبح المفاهيم تدريجياً أكثر ميلاً للتحفظ فيلفتها كل من لا ينتمي لمجتمعها الصغير..

وكان كل عقد بمثابة خطوة أو نقلة تختلف عن العقد الذي سبقه، حتى بدأ شكل الإعلام في التغير على صعيدٍ عالمي سواءاً في الإعلام الأوروبي خصوصاً في فرنسا، ايطاليا، بريطانيا وألمانيا، أو في الإعلام الأمريكي وذلك تحديداً في عقدي الثمانينات والتسعينات والذي كان يوصف بالعقد الذهبي للترفيه على مستوى العديد من دول العالم حتى في العالم العربي، وكانت المنافسة محمومة لتقديم أفكارٍ جديدة ومبتكرة وجريئة كانت تصطدم حتى مع قيم المجتمعات الغربية، فتثير عاصفةً من الجدل داخل مجتمعاتٍ متحررة كفرنسا لتظل حديث الناس والصحافة رغم أنها لا زالت مطبوعةً في أذهان الفرنسيين والدول التي اقتبست برامجها عنها، أو حتى داخل المجتمع الأمريكي الذي قد لا يصدق الكثيرون وجود فئاتٍ منه في ولاياتٍ بعيدة يمزق أفرادها المجلات والملصقات الدعائية لصور نجماتٍ في هوليوود مثل (مادونا) و (شير) واصفين تلك الصور بالخلاعة والكثير من الصفات المشينة، وقد تم ذكر ذلك مراراً ومناقشته ضمن وثائقياتٍ وسلسلةٍ من الحلقات في برامج مشهورة في الولايات المتحدة كالبرامج التي قدمتها أسماء معروفة مثل أوبرا وينفري وباربرا والترز ولاري كينغ وكان لبعضها صدىً أبعد من حدود الولايات المتحدة بكثير..

ودخل هذا الإعلام وصناعه والعاملون في كواليسه بعد العام ٢٠٠٠ والمتغيرات السياسية والدولية في مراحل كثيرة سببت الكثير من الإرتباك في المشهد الثقافي والحالة الإجتماعية داخل المجتمعات الغربية، وأعادت طرح أسئلةٍ كثيرة ومهمة عن قيم المجتمع وهويته وعادت إلى نقاط كانت هذه المجتمعات تعتقد أنها تخطت فكرة الحديث عنها منذ عقود إلا أن المتغيرات العالمية أثبتت أنه لا زال هناك الكثير للحديث عنه، ونرى ذلك بوضوح من خلال الإنتخابات البرلمانية أو الرئاسية في العديد من الدول الغربية والتي تشير إلى تغيرٍ في المزاج العام وصعودٍ تيارات ٍكنا نعتقد أن بريقها قد خفت منذ عقود، والتي قد تنبأ بظهور مالم نعتد أن نراه ولم يفلح الإعلام في تغييره من حالة الإنغلاق والإنكفاء على الذات والشعور بالتوجس نحو كل غريب، عكس ما يعتقد البعض في بلادنا وسط إعادة ترتيب لأولويات وقيم ومبادىء وهوية كل بلد بناءاً على نتيجة المتغيرات الحالية، والتي مست الإقتصاد والغذاء والأساسيات بشكلٍ موجع جعل الجميع يفكرون في تفكيك المشهد لبناءه من جديد وإن كان ذلك على حساب الكثير من الشعارات والمبادئ الإنسانية التي ترسخت في الوجدان..

وطبعاً فإن تأثير الإعلام القوي الذي ساهم في تغيير شكل المجتمع ومفاهيمه في بلادٍ متطورة سيكون له تأثير كبير في بلادنا وهو ما حدث بالفعل ولكن على مراحل، فلا يستطيع أحدنا أن يرى بلادنا اليوم بنفس العين التي كانت تراها في التسعينات بعد أن قطعت شوطاً كبيراً في تبديل هويتها وتغير أفكارها وميلها لتبني الخطاب الغربي في مختلف جوانب حياتها وعلى رأسها الفنون، مما خلق واقعاً جديداً كان له أثرٌ سلبي إلى جانب المتغيرات السياسية والإجتماعية والإقتصادية مروراً بأزمة جائحة الكورونا على سلوكنا وذوقنا ومبادئنا وأولوياتنا كبشر..
فقد شهدنا منذ نحو ثلاثين عاما ً الكثير من الموجات بعد فترةٍ صعبة أعقبت انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وتغير المشهد في القضية الفلسطينية خاصةً بعد الإنتفاضة الأولى واتفاقية أوسلو وما ترتب عليها من نتائج، إلى جانب الكثير من الأحداث في بلادنا لكن الفارق بين كل الصعوبات التي مررنا بها هو أننا وعكس ما نعتقد أننا كنا مختلفين بين بعضنا، فإننا اليوم أكثر تشرذماً وضياعاً مع وعيٍ هش بواقعنا الذي نعيشه، فقد كانت هناك ثوابت أو نوع من الإجماع حول الكثير من القضايا الإجتماعية والسياسية وهو ما تبدد حالياً لنتحول إلى مجتمعات داخل مجتمع فكنا نعرف سابقاً أن الكيان الصهيوني هو عدو، بينما نلحظ تحييد هذه النقطة تحديداً في الحرب الروسية الأوكرانية الحالية متناسين العلاقات الوطيدة لكلا البلدين ب(إسرائيل)، فروسيا كانت البلد الثاني الذي اعترف بوجودها بعد تأسيسها على أرض فلسطين التاريخية وصدر لنا الكثير من زعمائها المتطرفين، ويبلغ تعدادهم قرابة مليون ونصف المليون داخل الكيان الصهيوني ويتعامل معهم الرئيس الروسي على أنهم مواطنون روس حسب تصريحات صحفية أدلى بها، ولا تختلف العلاقات الأوكرانية الإسرائيلية عن ذلك فقد صدرت الكثير من أبنائها إلى الكيان الصهيوني وأصبحوا جزءاً منه، كما أن أوكرانيا تضم أكبر جاليةٍ يهودية في العالم وبدأ الكثير منهم في الهجرة إلى فلسطين المحتلة بمجرد بدء الأحداث خاصةً بعد أن طلب الرئيس الأوكراني الحالي المساعدة العلنية من الكيان الصهيوني وأصبحت أخبار استدراره لعاطفة قادته متكررةً في نشرات الأخبار عدا عن تذكيره بديانته اليهودية طمعاً في المزيد من الدعم..
ومع ذلك لا زال هناك من يصطف مع هذا البلد أو ذاك بينما هما بلدان استعماريان علاقتهما وطيدة بالإستعمار الصهيوني لأرض فلسطين ولكلٍ منهما أجندته ومصالحه وتحالفاته.. وبكل تأكيد نتمنى السلامة للمدنيين لكن لماذا تسمع اللغات الروسية والأوكرانية بوضوح حالياً في شوارع حيفا والناصرة مثلاً.. وهل تم تخطي نقطة العداء للكيان الصهيوني وأصبح هناك تصنيفات جديدة للإحتلال؟ وهل يتوقع أحد من النظام الروسي أن يضحي بعلاقته التاريخية مع الصهاينة؟ وهل يبرر المتعاطفون مع أوكرانيا كرهاً في النظام الروسي تقارب نظامها مع (إسرائيل) متذرعين بدوافع (إنسانية) ترتبك أو تلتزم الصمت تجاه فلسطين وتجاه هجرة الأوكرانيين إليها فيما شعبها لا زال مشتتاً؟ ولماذا لا تحرك دموع الأطفال الفلسطينيين أصحاب المواقف الحرة كما فعلت دموع الأطفال الأوكرانيين أم أن كل يمت بصلة إلى فلسطين يسبب الإحراج كونه يصيب أكاذيب المنافقين في الصميم ويعري زيفهم وازدواجيتهم واستفادتهم من الفوضى الحالية..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى