حينما يكون الخوف مظلة يحتمى تحتها المروء من ايامه القاسية، فلربما تكون تلك المظلة سببا في نجاته من الغرق في بحر التفكك والتناثر ومخاصمة الواقع على الدوام. والكاتب الشاعر المبدع محمود الديداموني ربما نكأ جرحا داخله، وداخل قرائه سواء عن وعي وبصيرة، أو انحرفت به بصيرة المبدع الانسان داخل دهايز عقله الباطن لترى ما اراد لنا ان نراه معه. ان التجول داخل صفحات مجموعته القصصية الجديدة " شدو الكازورينا" يمنحنا الفرصة للتعرف على ملامح الكاتب الشخصية والانسانية، سيرته الذاتية تكشف عن ميلاده في قرية ديرب نجم تلك المنطقة القديمة التي عسكر فيها السلطان نجم الدين ايوب بدعم غير محدود من المصريين أجداد الكاتب لمحاربة الغزاة الصليبيين وقتها، هذه المنطقة حارت حدودها بين اقليمي الشرقية والدقهلية قبل ان يصدر قرارا سياسيا بضمها الى حدود محافظة الشرقية، وان حال الشخصيات الحائرة من حال مدنها، تتلبسهم ملامح الحزن والاستغراق وعدم اليقين. لكن تكمن الصلابة وقوة البأس وروح التحدي داخل عروقهم، وهكذا فعل ابناء ديرب نجم مع الصليبيين الغزاة وهكذا يبدو الكاتب محمود الديداموني الذي يعمل بالمؤسسة التعليمية المصرية بروح المحارب سليل الاجداد المحاربين القدماء، ولايمكن ان تتملكك الدهشة حينما تتابعه مستغرقا وفي وصف التفاصيل الدقيقة الخاصة بعوالم المدرسة والتلاميذ والمدرسين في الكثير من نصوص هذه المجموعة. الكاتب المولود في اواخر شهر اكتوبر من عام 1969 وصاحب الاثنين وخمسون عاما، أكد ملكاته وقدراته في عالم الثقافة والابداع داخل الاوساط المتخصصة لدرجة ان تم تكريمه في الكثير من المحافل الثقافية المحلية نتيجة لجهده ونشاطه الدؤب في خدمة الثقافة والابداع، وتنوعت اصداراته الابداعية ما بين كتابة القصة القصيرة والرواية والمسرحية والشعر، الأمر الذي يكشف عن مبلغ الثراء المعرفي/ الوجداني/ اللغوي لدى الكاتب المنشغل على الدوام بتفاصيل واقعه المعاش والجدل معه مثل أي مبدع جاد دائما تشغله مسألة تغيير واقعه الى الأفضل، ومطاردة القيم النبيلة للاستحواذ عليها ونثرها في ابداعاته الروائية والشعرية أو في قصصه القصيرة مثلما الحال في مجموعة شدو الكازورينا التي نحن بصددها. مجموعة شدو الكازورينا تتضمن ثلاثة عناوين رئيسة هي: أصوات ، متوالية البحر، و ترنيمة البوح والألم. ينبثق عنها واحد وعشرون عنوانا فرعيا يمثل كل عنوان قصة. واذا كان الصراع الدرامي محور المجموعة القصصية يتمحور حول شجرة الكازورينا بهيبتها وضخامتها وقدراتها اللامحدودة على الاحتواء واستيعاب كافة انواع الكائنات، فتتملكنا الدهشة حينما يقرر الكاتب اهداء نصه الى شجرة الصفصاف وليس شجرة الكازورينا التي قد يكون شدوها صدى لفقراء القرية ومعاناتهم مع ظروفهم الصعبة وثقافتهم القديمة التي لم تعد مناسبة للواقع الحالي. وعلى العموم نكتشف ان تيمة الصمود هي المهيمنة على خلجات الكاتب مثلما هيمنت على تفاصيل حياته كلها. وبمراجعة قصص المجموعة يتبين لنا التالي من عوالم الكاتب
اولا: الكاتب لايكشف عن نفسه بسهولة، ويتعامل مع الداخل العميق بمنتهى الاريحية. عوالمه متداخلة كما في قصة "أصوات"، حيث نلحظ اصوات داخلية /طرق على الباب/ حب مجهض/ اصوات اطفال عالقة في الزمن. وأزمة صريحة لمبدع يجتر الما وقلقا وابداعا يقول "
" ينساب عبيرك في اوردتي، تتخلق في قلبي زهرة. تنمو حول جداول عمري،تزهر حرة. اصبح كالنحلة أو ما أشبه، امتص رحيقك، فاحلق نحو فضاءات قدسية. لا املك فيها الاك ونفسي". وهجمة داخلية تبدو مباغتة يقول " صوتها المرتفع ونداءات الاطفال المتكررة تعصف باذني".
ثانيا: يكاشفنا الكاتب بما يفعله الخوف في الانسان كما في قصة اعصار. ان الخوف حينما يتملك الانسان يصبح مثل الأعصار الجامح يستلب مشاعره، أفكاره، مدركاته، وكامل مفردات وعيه. يتحول لديه الواقع الى مجرد صور سيريالية، ويضخ عقله الباطن المأزوم صورا من الماضي البعيد وفانتازيا الحواديت القديمة، وطاقة رهيبة من القلق المشبع بارادة الحماية لأطفاله. وتساؤلات وجودية متشبثة بتلابيب الواقع يقول " ماذا لو كان هذا اعصارا، كيف يكون المفر والخلاص؟. ان الطيران في فضاءات الخوف والقلق سمة حياتنا المعاصرة، والمبدع الأصيل يرى ذلك جيدا لكن على طريقته الخاصة جدا، فهو لايرى في ظل تلك الغمامة سوى اطفاله، وحتمبة حمايتهم من الأخطار المحدقة بهم، يقول " الملم اطفالي وادسهم عنوة تحت الغطاء"، وفي موضع آخر يقول "السرير يرتفع رويداا رويدا، اتعلق به لاثبته على الأرض، لم اعد استطيع التمسك به، احاول ما استطعت النداء على اطفالي لتصحو". وفي موضع ثالث يقول اتماسك من جديد، أقفز كطائر مندفعا مع الهواء الخارج من الغرفة، احتضن اطفالي، فحططت بهم على فرع شجرة يتمايل من شدة الريح". انها تبدو محاولات مستميتة لحمايتهم من غمامة الخوف والقلق والخطر والاضطراب الذي في داخله والتي استحالت من شدتها الى واقع مرئي بالنسبة له يعيشه بكامل تفاصيله، حتى ضربه الانهاك وأعلن عجزه عن استمرار تلك المحاولة "الوهم"، والاستسلام أخيرا، كأنما خرج شعاع بسيط من البصيرة والرؤية تجاوز كل هذا التناثر الذي حدث في الداخل لديه لدرجة الاضطراب فيقول " لم تعد لدي القدرة على الاحتفاظ بهم، فقد وهنت قوتي، وبدوت امام نفسي جثة هامدة، فاستسلمت لهم واطلقت جسدي مع العاصفة، بينما لاتزال عيني تستجديهم الفرار". هذا النص كاشف لعوامل ربما خرجت في غيبة عن العقل الواعي للكاتب فتحرر من قيود الواقع الثقيلة التي تثقل كاهله وتبعاتها المزعجة من حتمية التمسك بتلك الحيل النفسية البغيضة التي تضطرنا الى تزييف الواقع وتجميله والقبول بتلك الحالة من التوازن النفسي الزائف على امل احتمال كل هذا القلق والتوتر الى المغامرة بالبوح والولوج في تلك الحالة من التناثر أو التفسخ الداخلي واعلان رعبه اللامحدود من الواقع، ورعبه اللامحدود على المستقبل الذي لم يتمكن من حمايته في نهاية المطاف، وأمل في امكانية ان المستقبل فد يتمكن من حماية الحاضر المضطرب.
ثالثا: ان تيمة استشراف الخطر والمصائب والكوارث والتشاؤم مما سوف يجيئ، وحواديت وحكم العجائز وحكاياتهم للاطفال، واجواء الريف وقاطنيه الفقراء، كما قصة شدو شجرة الكازورينا: على الرغم من تقليديتها وعراقتها من حيث كثرة دورانها في خيالات المبدعين، وسكونها داخل اعمال ابداعية كثيرة، غير ان هذا النص يتسق تماما في اجوائه مع الحالة المزاجية لمبدع تلك النصوص فيما يتعلق بمبلغ قلقه وخوفه على ومن المستقبل. وترقبه لتلك النذر التشاؤمية التي التقطتها راداراته شديدة الحساسية والالتصاق بوعي بواقعه المعاش. ان هذا النص الذي اختار الكاتب ان يكون ترويسة الكتاب انعكاس فعلي لعالمه الداخلي والواقعي. ان شجرة الكازورينا التي جلبوها من استراليا التي تقع في آخر الدنيا من نصف الكرة الجنوبي وغرب المحيط الهادي وزرعوها في قرية نائية في الريف المصري العتيق تبدو مهيبة، فارعة الطول والهيئة، تنمو بسرعة. تتفرع بسرعة أسفل جزعها وتقضي على النباتات القريبة منها، تعتبر مهبط مريح وملاذ آمن لجميع الطيور وخاصة طائر البوم. ان هذه الشجرة "الوحش" المجلوبة من غرب المحيط الهادي في نصف الكرة الجنوبي، يراها مبدع خرج من جوف ثقافة تقليدية تراثية، ويعيش في قلب قرية صغيرة نائية فقيرة في الريف المصري، مفعم بقلق وخوف مما سوف يجيئ من خلف الأيام، بفضل بصيرته المتقدة، ووعيه الهارب من قيود تلك الثقافة التي باتت غريبة على عقله ووجدانه، يراها في هيئتها المهيبة، وقدرتها المتوحشة على الاستطالة والتمدد والقضاء على كل ما ينافسها في الجوار، وكذلك جاذبيتها اللامحدودة لطيور البوم التي تظل تنعق وتصخب في انحاء القريبة الفقيرة، لدرجة ان يكون هذا النعيق أو الصخب مقلقا ومزعجا وصادما للقلوب المتعبة التي عصرها البؤس والشقاء والفقر، لذلك اعتبروها بمثابة الشماعة، أو المبرر السهل الذي يركنون اليه أسباب البؤس والمصائب التي تتلبسهم دوما. هكذا اعتاد الناس ان يفعلوا ويقولوا، وهذا الأمر انتقل بين الناس منذ قديم الأزل، توارثونه فيما بينهم حتى صار موروثا ضمن خلاياهم العصبية الغائرة داخل اجسادهم. وبفضل الموروثات الشعبية الغائرة في القدم التي تحولت لاحقا الى معتقدات جينية عضوية، وبفضل تلك الصورة الذهنية في الذاكرة الجمعية الشعبية القديمة، اعتاد الناس على الارتكان الى هذا التفسير الغيبي المريح بخصوص ان نعيق البوم هو الذي يستدعي الكوارث والمصائب اللاحقة. ان هؤلاء الفقراء يعتقدون في ذلك بديلا عن اجتهادهم أو خوفهم من البحث عن الأسباب الحقيقية والواقعية للبؤس والشقاء والكوارث والمصائب التي يصادفونها ويصادقونها أيضا. يقول الكاتب " تقول جدتي لم أسمع صوتها (البومة) منذ كنتت طفلة، صوتها ينذر بشئوم قادم" . لكن الراوي على لسان الكاتب يقول " هكذا يفكر الناس، بينما اختلف معهم في تصورهم، فهي خلق من مخلوقات الله". لكن يبدو ان شجرة الكازورينا المهيبة الطلة ليست مجرد الملاذ الآمن للكائن الذي يستدعي الكوارث والمصائب لأهل االقرية الفقيرة فحسب، بل يراها الراوي شيطان عظيم يهيمن على مقدرات الناس ويزرع داخلهم الخوف والرعب يقول " حلف احدهم انه رأى تعابين من نار تساقط من أعلى شجرة الكازورينا، تابعه آخر حالفا بالطلاق "ان الصوت الذي يأتي من فوق تلك الشجرة ما هو الا صوت جني فقد حبيبته واستوطن قريتنا للنيل ممن أغواها، بينما أكد ثالث ان مايسمعه هو صوت بومه فقط ينذر بخراب". نحن اذن بصدد حالة فريدة من تحالف قوى الشر (شجرة الكازورينا، الثعابين النارية، الجني الغاضب، صوت البومة) ضد الفلاحين الفقراء الذين استوطنت الخرافة داخل رؤسهم لدرجة أكثر فتكا عليهم من الحياة البائسة التي يعيشونها. لكن الكاتب الحاذق يدرك الاسباب الحقيقية خلف بؤس وشقاء هؤلاء الفقراء، يقول " الساهرون ممن اذلهم الدين واعجزهم الفقر، مازالوا يخمسون في سيجارة محشوة بالبانجو، يتبادلون النكات الجنسية البذيئة، فيسعلون من شدة الضحك، يريلون، فيغيبون تماما وسط الليل". نحن اذن بصدد حالة من التبلد والامبالاة والكسل والاستسلام لواقع متردي دون ادنى محاولة لتغييره سوى بتعاطي البانجو والثرثرة . ايضا يقول الراوي " غيطانهم التي يفلحونها استحالت الى عيدان ناشفة يبسها العطش وطالتها الحشرات، ومع اشراقة كل صباح تقل حيلتهم فيستسلمون لليل". " حقول القمح انهكها العطش، لتتسع شقوقها كأخاديد تمرح بها الثعابين والسحالي والفئران، بينما العيون ساهمة والاجساد واهنة، والأفواه مفتحة يعشعش على جانبيها الذباب". الكاتب خلال سرده لحال اهل البلدة وأحوالهم يكون اشبه بطبيب جراح يحمل مبضعه، يفتح أحشاء مجتمع القرية البائس، يكتشف عن البلادة والكسل، والاستسلام وعدم الرغبة في تغيير الواقع، يكتشف اعتمادية من نوع خاص ليس على المخدرات والراحة والاتكال فحسب، بل على الارتكان لحواديت وخرافات الأولين أيضا، يبدو ان محاولات الخلاص أو الثورة على هذه الأوضاع بعد تفاقم الأمور وهجوم اسراب البوم والعناكب على القرية لم يعتمد على رجل الدين أو شيخ المسجد المصلح التقليدي وفق الثقافة السائدة في القرية، فرجل الدين فقد قدرته على الاقناع يقول احدهم " لابد من التخلص منه، فقد صار صداعا في رؤسنا". بل جاء الخلاص من قبل الجدة مالكة الحكمة والحكايات التي صرخت في الناس بالدعاء والتضرع وراحت تستحثهم على الخروج بعد احتجاب الضوء وغياب الرؤية واستحالة النهار الى ظلام بسبب خروج العناكب واسراب وتشكيلات البوم التي حجبت الشمس. الجدة والاحفاد خرجوا يقذفون شجرة الكازورينا بما لديهم من ادوات، يقول الراوي " كنا نحن احفادها قد تحلقنا حولها، ممسكين ببعض صحون وملاعق الطعام نضرب بها ، متجهين معها نحو شجرة الكازورينا، وملوحين بما في ايدينا للبوم الذي يحجب بتشكيلاته ضوء النهار ، ويشوش بنعيقه فضاء القرية". حقا ان شدو شجرة الكازورينا له شجن خاص، كاشف لواقع ثقافي اجتماعي علقنا فيه كثيرا، وآن الأوان لمقاومته بجدية، والأمل في الاجيال الجديدة ان تحمل معاول المقاومة والتغير المنشود حتى تصبح شجرة الكازورينا وشجوها مصدرا للفرحة والبهجة والحب والجمال، وليست ملاذا لنعيق البوم والثعابين والجن الغاضب.
رابعا: فاجئنا الكاتب بصدمة مكانية وفكرية أيضا بعد تغير التيمة، ونعنى هنا النصوص الخاصة بمتوالية البحر، التي يمكن اعتبارها رسالة تحية الى مدينة بورسعيد الباسلة من قبل الكاتب. يدور الحكي حول عبد الصمد العامل باليومية في مدينة بورسعيد المثقف الذي أتى من قاع الريف ، وكما ذكرنا يفاجأنا الكاتب خلال هذه المتوالية بتحول دراماتيكي في لغة السرد ونقلة نوعية لمكان الاحداث والشخصيات، وان ظل الانشغال بهموم الوطن منعكسا في اتجاه مدينة بورسعيد الباسلة، وفي نص رائحة البحر ينتقل عبد الصمد الذي ربما يمثل الراوي أو الكاتب نفسه، الصبي النابه المثقف الذي يملك من الوعي ما يؤهله للتميز عن اقرانه، ينتقل الى هذه المدينة للعمل ضمن عمال التراحيل على الرغم من حداثة سنه لظروف عائلية قاهرة، تشعل رأسه المقارنات بين البنايات في قريته الصغيرة وتلك المدينة الكبيرة، هنا حدث ما يمكن تسميته بالصدمة الحضارية للصبي الصغير، وفي نص الوصل يكشف لنا الكاتب عن خلفية عبد الصمد ومشاكل امه مع خاله بسبب تجنيه على والده، ولماذا اضطر للسفر مع عمال التراحيل الى بوسعيد، وفضوله المفرط في التعرف على خبايا الحرب في عام 56 ، وهزيمة 67 المريرة وما نتج عنها من انهيار محروس الذي اصبح لايفعل شيئا في حياته سوى تمزيق علب البيبسي الصفيح رمز الثقافة الامريكية العدوانية. الكاتب خلال هذه المتوالية القصصية يدخل قارئه في عالم مختلف يتميز بروح الحماس والوطنية خاصة في لقاءه مع الريس محجوب رئيسه في العمل والذي اتضح انه مناضل قديم وشارك في الحرب وفقد أحد ابنائه المدفون في مقبرة الشهداء. وتختم المتوالية بحديقة فريال هذا المكان الذي كان مسرحا لهبوط المظليين الاعداء ومسرحاء ايضا للبطولة والفداء وتلاحم الجميع من أجل هزيمة العدوان الثلاثي في بوسعيد يقول الكاتب " الناس جسدا واحدا في مواجهة الجراد المغتصب" هكذا كانت اجابة تساؤل عبد الصمد الصبي النابه .
خامسا: يدهشنا الكاتب بتكنيك مختلف في اللغة السردية التي يستخدمها، لايعتمد على الحكي أو استخدام المفردات التقليدية بقدر اعتماده على لغة المناجاة بين فتاة عاشقة لم تفلح مساعيها في الاحتفاظ بحبيبها الذي هجرها غدرا، وبين الليل الذي كانت تحتمي فيه آخر اليوم مع نباح الكلاب ونقيق الضفادع كما في قصة البوح والألم .البوح هنا تبادلي بين الاثنين الفتاة العاشقة والليل . الفتاة اتجهت الى الليل حيث انه الشاهد الوحيد على قصتها مع حبيبها الغادر، تبوح له بكل اسرارها التي يعلمها ويرد عليها الليل " كم كانت احلامك مدهشة وانتي طفلة، لكن عندما خرطك خراط البنات بدأت تنظرين الى نفسك في المرأة". وفي سياق آخر ترد على الليل بحرقة وتقول " ياسيدي الليل اعترف اني ما احببت أحدا سواك لكني الآن اعترف لك أيضا كم اتوق لانبلاج الصباح من عباءتك وقد اغتسلت من الآمي". نص بحسب للكاتب انه قادر على كسر ايقاع الحكي عن طريق الولوج الى مناطق اخرى من السرد لاتبتعد عن عالمه الحكائي ولا طريقته المميزة في السرد. وفي قصة ضاربة الودع يكشف الكاتب عن حالة الشغف الانساني بالاطلال على المستقبل والتعرف عليه الذي يمثل صدى واسع لحالات الخوف والقلق التي يعيشها الانسان. وقصة اتجاهات تعتبر نص لايكشف عن نفسه لقارئه بسهولة على غرار اغلب نصوص المجموعة. الكاتب يتعرض لخبرة "الفقد" المؤلمة وتأثيراتها على وعي الراوي، وتداخل العقل الواعي مع العقل الباطن، وامكانية التمييز بين الواقع والخيال، الطفل وحيد فقيد والده "الراوي" ، ووالدته التي يبدوا انها مفقودة ايضا وتبحث عن فتاها المفقود، ورسالة مؤلمة كاشفة عن نص مركب يتداخل فيه الواقع مع الخيال والباطن مع المعلوم.
سادسا: يبدو ان الكاتب اعترته حالة من السأم أو ربما الانهاك النفسي من جراء اللجوء الى عمق اعماقه والتفاعل مع خلجاته الدقيقة فخرج علينا بنص سلس ومباشر على الطريقة الديكنزية قصة مقاومة يكشف عن ظلم العمدة لابناء قريته من الفلاحين الفقراء وابنائهم بلغة مباشرة، وتأتي المقاومة أخيرا من جانب صبية المدرسة، الجيل الذي لن يقبل الظلم بعد الآن، هكذا يبلغنا الكاتب أخيرا. وفي قصة تماثيل كما في أغلب قصص المجموعة لايستطيع الكاتب ان يتخلى عن هويته كأحد المنتمين للمؤسسة التعليمية وعاشق للعلم والتعليم. السرد بسيط، والفكرة منبنية على أساس تساؤل عن امكانية الممازجة بين الفن والعلم، وفشل بطل النص في امكانية ان يظل يرسم ويتعلم في نفس الوقت، وكنت أحسب ان رفض الراوي ممارسة عملية التعلم والتمسك بممارسة الفن مرده الى انتقادات للعملية التعليمية "يقول الراوي بطل النص للصبي الذي عرض عليه المبادلة يكفيني ما اراه في عيونكم عند العودة"، لكن يبدو ان الكاتب لم يقصد ذلك. كنت ايضا اتمنى ان يختتم النص عندما يراه صديقه الذي اصبح شابا جامعيا يحمل ادوات الهندسة بصحبة فتاة تشاركه الحديث وكفى، وان يترك لنا النهاية نضعها على طريقتنا . وفي قصة موائد صغيرة للبحر يستمر الكاتب في اتباع نفس اللغة البسيطة المباشرة حلم السفر والخروج من شرنقة الفقر والعوز وتحقيق الأماني، التيمة تقليدية، مجموعة شباب مغامرين يمخرون عباب البحر في الخفاء. اسقاط مدهش على زعيم الفلاحين البطل احمد عرابي ومغامرته الثورية والخيانة التي تعرض لها، هكذا حال احفاده الآن، يتعرضون لخديعة كبرى مثلما تعرض في الماضي وكادوا يصبحون مائدة عظيمة لاسماك البحر. النص مكتوب بحرفية فائقة، ولايبوح باسراره بسهولة ويسر، يترك لقارئه الاجتهاد لقراءة السطور وما بينها على شاكلة غالبية نصوص المجموعة القصصية. ثم يعود الكاتب الى الى حالة من استحلاب العقل الباطن والولوج في تفاصيل الواقع المقموعة كما في قصة زمن ، الناس انصرفت عن المساجد، والمصاحف اختفت سوى واحد فقط مهترئ من الصعب تنظيفه، تلك التهويمات مخيفة ومفزعة لهؤلاء الريفيين البسطاء الذين لايتصورون شيئا يمكن ان يبعدهم عن المسجد أو هجران المصحف الشريف.
سابعا: يحسب للكاتب اهتمامه بقضايا معاصرة تنتفض لها المجتمعات لمقاومتها في هذا الزمن وخاصة في المؤسسات التربوية وهي قضية التنمر ضد الآخرين بأي صورة من الصور. وقصة رقصة نص انساني بامتياز يتعرض لحالة طفل برئ يعاني من متلازمة تيرنر Turner Syndrome وهي متلازمة متعلقة بعيب خلقي (ليس بالضرورة وراثي) يصيب الذكور والاناث يترتب عليه فقدان الكروموسون الثاني (x) لدى الاناث، و (X,Y) لدى الذكور، ومن أعراض هذا المرض نمو الصفات الجنسية الانثوية وقصر القامة، تضخم الصدر، وتأخر ظهور الشعر على الجسم اضافة الى صعوبات في التعلم، وصعوبة في تمييز الاتجاهات وعدم التركيز، ومشاكل اجتماعية تؤدي الى عدم القدر على التعامل مع بعض المواقف.... الخ. الكاتب يحسب له التقاط صورة التنمر بهذا الطفل البدين صاحب متلازمة تيرنر الذي فيه انعكاس للجهل بهذه الحالات والحماقة وغياب صريح للوازع الاخلاقي الديني عند هؤلاء الحمقى، الأمر الذي دعى الكاتب ان يسخر من هذا الواقع المؤلم ويزاوج بين رقصة الصبي المسكين على نغمات الموسيقى، وبين طير مذبوح يرقص الما وحسرة على واقع شديد القسوة والغباء.
ثامنا: دخل الكاتب في تجارب قصصية تعتمد على النتف السردية أو المشاهد القصيرة فنجده يعتمد على التناص من القرآن الكريم كما في قصة هو وهي " قال هذه عصاي اتوكأ عليها ولي فيها مآرب أخري" ، كمدخل لرؤية ابداعية خاصة، لاتنفصل عن باقي نصوص المجموعة السابقة، فمازال الكاتب يزامل حالات الفشل والهزيمة في مواقف الصراع والصدام، وغدر الرفاق والصحاب والأحبة. ويستمر التناول الانساني لنص بطلته طفلة محدودة الذكاء في قصة ثقب صغير باتجاه السماء الذي يعتبر مزيج معتبر من الواقع والخيال، يبدو ان الكاتب نجح في عكس صورة واقع اليم لاسرة طفلة صغيرة محدودة القدرة العقلية حينما تتمرد على واقعها وتندمج مثل فراشة عبر الاعمدة الملونة وتندفع بقوة نحو الضوء حيث يتلون جسدها بلون قوس قزح، وتتحرر الى رحابة السماء الواسعة حيث تلتقى السعادة والمرح. ثم نلحظ سقطة غريبة تتمل في تكرار قصة هو وهي التي سبق الحديث عنها لكن تحت عنوان آخر هو "سقوط"، الأمر الذي يستلزم مراجعتها في الطبعات التالية للمجموعة القصصية.
اولا: الكاتب لايكشف عن نفسه بسهولة، ويتعامل مع الداخل العميق بمنتهى الاريحية. عوالمه متداخلة كما في قصة "أصوات"، حيث نلحظ اصوات داخلية /طرق على الباب/ حب مجهض/ اصوات اطفال عالقة في الزمن. وأزمة صريحة لمبدع يجتر الما وقلقا وابداعا يقول "
" ينساب عبيرك في اوردتي، تتخلق في قلبي زهرة. تنمو حول جداول عمري،تزهر حرة. اصبح كالنحلة أو ما أشبه، امتص رحيقك، فاحلق نحو فضاءات قدسية. لا املك فيها الاك ونفسي". وهجمة داخلية تبدو مباغتة يقول " صوتها المرتفع ونداءات الاطفال المتكررة تعصف باذني".
ثانيا: يكاشفنا الكاتب بما يفعله الخوف في الانسان كما في قصة اعصار. ان الخوف حينما يتملك الانسان يصبح مثل الأعصار الجامح يستلب مشاعره، أفكاره، مدركاته، وكامل مفردات وعيه. يتحول لديه الواقع الى مجرد صور سيريالية، ويضخ عقله الباطن المأزوم صورا من الماضي البعيد وفانتازيا الحواديت القديمة، وطاقة رهيبة من القلق المشبع بارادة الحماية لأطفاله. وتساؤلات وجودية متشبثة بتلابيب الواقع يقول " ماذا لو كان هذا اعصارا، كيف يكون المفر والخلاص؟. ان الطيران في فضاءات الخوف والقلق سمة حياتنا المعاصرة، والمبدع الأصيل يرى ذلك جيدا لكن على طريقته الخاصة جدا، فهو لايرى في ظل تلك الغمامة سوى اطفاله، وحتمبة حمايتهم من الأخطار المحدقة بهم، يقول " الملم اطفالي وادسهم عنوة تحت الغطاء"، وفي موضع آخر يقول "السرير يرتفع رويداا رويدا، اتعلق به لاثبته على الأرض، لم اعد استطيع التمسك به، احاول ما استطعت النداء على اطفالي لتصحو". وفي موضع ثالث يقول اتماسك من جديد، أقفز كطائر مندفعا مع الهواء الخارج من الغرفة، احتضن اطفالي، فحططت بهم على فرع شجرة يتمايل من شدة الريح". انها تبدو محاولات مستميتة لحمايتهم من غمامة الخوف والقلق والخطر والاضطراب الذي في داخله والتي استحالت من شدتها الى واقع مرئي بالنسبة له يعيشه بكامل تفاصيله، حتى ضربه الانهاك وأعلن عجزه عن استمرار تلك المحاولة "الوهم"، والاستسلام أخيرا، كأنما خرج شعاع بسيط من البصيرة والرؤية تجاوز كل هذا التناثر الذي حدث في الداخل لديه لدرجة الاضطراب فيقول " لم تعد لدي القدرة على الاحتفاظ بهم، فقد وهنت قوتي، وبدوت امام نفسي جثة هامدة، فاستسلمت لهم واطلقت جسدي مع العاصفة، بينما لاتزال عيني تستجديهم الفرار". هذا النص كاشف لعوامل ربما خرجت في غيبة عن العقل الواعي للكاتب فتحرر من قيود الواقع الثقيلة التي تثقل كاهله وتبعاتها المزعجة من حتمية التمسك بتلك الحيل النفسية البغيضة التي تضطرنا الى تزييف الواقع وتجميله والقبول بتلك الحالة من التوازن النفسي الزائف على امل احتمال كل هذا القلق والتوتر الى المغامرة بالبوح والولوج في تلك الحالة من التناثر أو التفسخ الداخلي واعلان رعبه اللامحدود من الواقع، ورعبه اللامحدود على المستقبل الذي لم يتمكن من حمايته في نهاية المطاف، وأمل في امكانية ان المستقبل فد يتمكن من حماية الحاضر المضطرب.
ثالثا: ان تيمة استشراف الخطر والمصائب والكوارث والتشاؤم مما سوف يجيئ، وحواديت وحكم العجائز وحكاياتهم للاطفال، واجواء الريف وقاطنيه الفقراء، كما قصة شدو شجرة الكازورينا: على الرغم من تقليديتها وعراقتها من حيث كثرة دورانها في خيالات المبدعين، وسكونها داخل اعمال ابداعية كثيرة، غير ان هذا النص يتسق تماما في اجوائه مع الحالة المزاجية لمبدع تلك النصوص فيما يتعلق بمبلغ قلقه وخوفه على ومن المستقبل. وترقبه لتلك النذر التشاؤمية التي التقطتها راداراته شديدة الحساسية والالتصاق بوعي بواقعه المعاش. ان هذا النص الذي اختار الكاتب ان يكون ترويسة الكتاب انعكاس فعلي لعالمه الداخلي والواقعي. ان شجرة الكازورينا التي جلبوها من استراليا التي تقع في آخر الدنيا من نصف الكرة الجنوبي وغرب المحيط الهادي وزرعوها في قرية نائية في الريف المصري العتيق تبدو مهيبة، فارعة الطول والهيئة، تنمو بسرعة. تتفرع بسرعة أسفل جزعها وتقضي على النباتات القريبة منها، تعتبر مهبط مريح وملاذ آمن لجميع الطيور وخاصة طائر البوم. ان هذه الشجرة "الوحش" المجلوبة من غرب المحيط الهادي في نصف الكرة الجنوبي، يراها مبدع خرج من جوف ثقافة تقليدية تراثية، ويعيش في قلب قرية صغيرة نائية فقيرة في الريف المصري، مفعم بقلق وخوف مما سوف يجيئ من خلف الأيام، بفضل بصيرته المتقدة، ووعيه الهارب من قيود تلك الثقافة التي باتت غريبة على عقله ووجدانه، يراها في هيئتها المهيبة، وقدرتها المتوحشة على الاستطالة والتمدد والقضاء على كل ما ينافسها في الجوار، وكذلك جاذبيتها اللامحدودة لطيور البوم التي تظل تنعق وتصخب في انحاء القريبة الفقيرة، لدرجة ان يكون هذا النعيق أو الصخب مقلقا ومزعجا وصادما للقلوب المتعبة التي عصرها البؤس والشقاء والفقر، لذلك اعتبروها بمثابة الشماعة، أو المبرر السهل الذي يركنون اليه أسباب البؤس والمصائب التي تتلبسهم دوما. هكذا اعتاد الناس ان يفعلوا ويقولوا، وهذا الأمر انتقل بين الناس منذ قديم الأزل، توارثونه فيما بينهم حتى صار موروثا ضمن خلاياهم العصبية الغائرة داخل اجسادهم. وبفضل الموروثات الشعبية الغائرة في القدم التي تحولت لاحقا الى معتقدات جينية عضوية، وبفضل تلك الصورة الذهنية في الذاكرة الجمعية الشعبية القديمة، اعتاد الناس على الارتكان الى هذا التفسير الغيبي المريح بخصوص ان نعيق البوم هو الذي يستدعي الكوارث والمصائب اللاحقة. ان هؤلاء الفقراء يعتقدون في ذلك بديلا عن اجتهادهم أو خوفهم من البحث عن الأسباب الحقيقية والواقعية للبؤس والشقاء والكوارث والمصائب التي يصادفونها ويصادقونها أيضا. يقول الكاتب " تقول جدتي لم أسمع صوتها (البومة) منذ كنتت طفلة، صوتها ينذر بشئوم قادم" . لكن الراوي على لسان الكاتب يقول " هكذا يفكر الناس، بينما اختلف معهم في تصورهم، فهي خلق من مخلوقات الله". لكن يبدو ان شجرة الكازورينا المهيبة الطلة ليست مجرد الملاذ الآمن للكائن الذي يستدعي الكوارث والمصائب لأهل االقرية الفقيرة فحسب، بل يراها الراوي شيطان عظيم يهيمن على مقدرات الناس ويزرع داخلهم الخوف والرعب يقول " حلف احدهم انه رأى تعابين من نار تساقط من أعلى شجرة الكازورينا، تابعه آخر حالفا بالطلاق "ان الصوت الذي يأتي من فوق تلك الشجرة ما هو الا صوت جني فقد حبيبته واستوطن قريتنا للنيل ممن أغواها، بينما أكد ثالث ان مايسمعه هو صوت بومه فقط ينذر بخراب". نحن اذن بصدد حالة فريدة من تحالف قوى الشر (شجرة الكازورينا، الثعابين النارية، الجني الغاضب، صوت البومة) ضد الفلاحين الفقراء الذين استوطنت الخرافة داخل رؤسهم لدرجة أكثر فتكا عليهم من الحياة البائسة التي يعيشونها. لكن الكاتب الحاذق يدرك الاسباب الحقيقية خلف بؤس وشقاء هؤلاء الفقراء، يقول " الساهرون ممن اذلهم الدين واعجزهم الفقر، مازالوا يخمسون في سيجارة محشوة بالبانجو، يتبادلون النكات الجنسية البذيئة، فيسعلون من شدة الضحك، يريلون، فيغيبون تماما وسط الليل". نحن اذن بصدد حالة من التبلد والامبالاة والكسل والاستسلام لواقع متردي دون ادنى محاولة لتغييره سوى بتعاطي البانجو والثرثرة . ايضا يقول الراوي " غيطانهم التي يفلحونها استحالت الى عيدان ناشفة يبسها العطش وطالتها الحشرات، ومع اشراقة كل صباح تقل حيلتهم فيستسلمون لليل". " حقول القمح انهكها العطش، لتتسع شقوقها كأخاديد تمرح بها الثعابين والسحالي والفئران، بينما العيون ساهمة والاجساد واهنة، والأفواه مفتحة يعشعش على جانبيها الذباب". الكاتب خلال سرده لحال اهل البلدة وأحوالهم يكون اشبه بطبيب جراح يحمل مبضعه، يفتح أحشاء مجتمع القرية البائس، يكتشف عن البلادة والكسل، والاستسلام وعدم الرغبة في تغيير الواقع، يكتشف اعتمادية من نوع خاص ليس على المخدرات والراحة والاتكال فحسب، بل على الارتكان لحواديت وخرافات الأولين أيضا، يبدو ان محاولات الخلاص أو الثورة على هذه الأوضاع بعد تفاقم الأمور وهجوم اسراب البوم والعناكب على القرية لم يعتمد على رجل الدين أو شيخ المسجد المصلح التقليدي وفق الثقافة السائدة في القرية، فرجل الدين فقد قدرته على الاقناع يقول احدهم " لابد من التخلص منه، فقد صار صداعا في رؤسنا". بل جاء الخلاص من قبل الجدة مالكة الحكمة والحكايات التي صرخت في الناس بالدعاء والتضرع وراحت تستحثهم على الخروج بعد احتجاب الضوء وغياب الرؤية واستحالة النهار الى ظلام بسبب خروج العناكب واسراب وتشكيلات البوم التي حجبت الشمس. الجدة والاحفاد خرجوا يقذفون شجرة الكازورينا بما لديهم من ادوات، يقول الراوي " كنا نحن احفادها قد تحلقنا حولها، ممسكين ببعض صحون وملاعق الطعام نضرب بها ، متجهين معها نحو شجرة الكازورينا، وملوحين بما في ايدينا للبوم الذي يحجب بتشكيلاته ضوء النهار ، ويشوش بنعيقه فضاء القرية". حقا ان شدو شجرة الكازورينا له شجن خاص، كاشف لواقع ثقافي اجتماعي علقنا فيه كثيرا، وآن الأوان لمقاومته بجدية، والأمل في الاجيال الجديدة ان تحمل معاول المقاومة والتغير المنشود حتى تصبح شجرة الكازورينا وشجوها مصدرا للفرحة والبهجة والحب والجمال، وليست ملاذا لنعيق البوم والثعابين والجن الغاضب.
رابعا: فاجئنا الكاتب بصدمة مكانية وفكرية أيضا بعد تغير التيمة، ونعنى هنا النصوص الخاصة بمتوالية البحر، التي يمكن اعتبارها رسالة تحية الى مدينة بورسعيد الباسلة من قبل الكاتب. يدور الحكي حول عبد الصمد العامل باليومية في مدينة بورسعيد المثقف الذي أتى من قاع الريف ، وكما ذكرنا يفاجأنا الكاتب خلال هذه المتوالية بتحول دراماتيكي في لغة السرد ونقلة نوعية لمكان الاحداث والشخصيات، وان ظل الانشغال بهموم الوطن منعكسا في اتجاه مدينة بورسعيد الباسلة، وفي نص رائحة البحر ينتقل عبد الصمد الذي ربما يمثل الراوي أو الكاتب نفسه، الصبي النابه المثقف الذي يملك من الوعي ما يؤهله للتميز عن اقرانه، ينتقل الى هذه المدينة للعمل ضمن عمال التراحيل على الرغم من حداثة سنه لظروف عائلية قاهرة، تشعل رأسه المقارنات بين البنايات في قريته الصغيرة وتلك المدينة الكبيرة، هنا حدث ما يمكن تسميته بالصدمة الحضارية للصبي الصغير، وفي نص الوصل يكشف لنا الكاتب عن خلفية عبد الصمد ومشاكل امه مع خاله بسبب تجنيه على والده، ولماذا اضطر للسفر مع عمال التراحيل الى بوسعيد، وفضوله المفرط في التعرف على خبايا الحرب في عام 56 ، وهزيمة 67 المريرة وما نتج عنها من انهيار محروس الذي اصبح لايفعل شيئا في حياته سوى تمزيق علب البيبسي الصفيح رمز الثقافة الامريكية العدوانية. الكاتب خلال هذه المتوالية القصصية يدخل قارئه في عالم مختلف يتميز بروح الحماس والوطنية خاصة في لقاءه مع الريس محجوب رئيسه في العمل والذي اتضح انه مناضل قديم وشارك في الحرب وفقد أحد ابنائه المدفون في مقبرة الشهداء. وتختم المتوالية بحديقة فريال هذا المكان الذي كان مسرحا لهبوط المظليين الاعداء ومسرحاء ايضا للبطولة والفداء وتلاحم الجميع من أجل هزيمة العدوان الثلاثي في بوسعيد يقول الكاتب " الناس جسدا واحدا في مواجهة الجراد المغتصب" هكذا كانت اجابة تساؤل عبد الصمد الصبي النابه .
خامسا: يدهشنا الكاتب بتكنيك مختلف في اللغة السردية التي يستخدمها، لايعتمد على الحكي أو استخدام المفردات التقليدية بقدر اعتماده على لغة المناجاة بين فتاة عاشقة لم تفلح مساعيها في الاحتفاظ بحبيبها الذي هجرها غدرا، وبين الليل الذي كانت تحتمي فيه آخر اليوم مع نباح الكلاب ونقيق الضفادع كما في قصة البوح والألم .البوح هنا تبادلي بين الاثنين الفتاة العاشقة والليل . الفتاة اتجهت الى الليل حيث انه الشاهد الوحيد على قصتها مع حبيبها الغادر، تبوح له بكل اسرارها التي يعلمها ويرد عليها الليل " كم كانت احلامك مدهشة وانتي طفلة، لكن عندما خرطك خراط البنات بدأت تنظرين الى نفسك في المرأة". وفي سياق آخر ترد على الليل بحرقة وتقول " ياسيدي الليل اعترف اني ما احببت أحدا سواك لكني الآن اعترف لك أيضا كم اتوق لانبلاج الصباح من عباءتك وقد اغتسلت من الآمي". نص بحسب للكاتب انه قادر على كسر ايقاع الحكي عن طريق الولوج الى مناطق اخرى من السرد لاتبتعد عن عالمه الحكائي ولا طريقته المميزة في السرد. وفي قصة ضاربة الودع يكشف الكاتب عن حالة الشغف الانساني بالاطلال على المستقبل والتعرف عليه الذي يمثل صدى واسع لحالات الخوف والقلق التي يعيشها الانسان. وقصة اتجاهات تعتبر نص لايكشف عن نفسه لقارئه بسهولة على غرار اغلب نصوص المجموعة. الكاتب يتعرض لخبرة "الفقد" المؤلمة وتأثيراتها على وعي الراوي، وتداخل العقل الواعي مع العقل الباطن، وامكانية التمييز بين الواقع والخيال، الطفل وحيد فقيد والده "الراوي" ، ووالدته التي يبدوا انها مفقودة ايضا وتبحث عن فتاها المفقود، ورسالة مؤلمة كاشفة عن نص مركب يتداخل فيه الواقع مع الخيال والباطن مع المعلوم.
سادسا: يبدو ان الكاتب اعترته حالة من السأم أو ربما الانهاك النفسي من جراء اللجوء الى عمق اعماقه والتفاعل مع خلجاته الدقيقة فخرج علينا بنص سلس ومباشر على الطريقة الديكنزية قصة مقاومة يكشف عن ظلم العمدة لابناء قريته من الفلاحين الفقراء وابنائهم بلغة مباشرة، وتأتي المقاومة أخيرا من جانب صبية المدرسة، الجيل الذي لن يقبل الظلم بعد الآن، هكذا يبلغنا الكاتب أخيرا. وفي قصة تماثيل كما في أغلب قصص المجموعة لايستطيع الكاتب ان يتخلى عن هويته كأحد المنتمين للمؤسسة التعليمية وعاشق للعلم والتعليم. السرد بسيط، والفكرة منبنية على أساس تساؤل عن امكانية الممازجة بين الفن والعلم، وفشل بطل النص في امكانية ان يظل يرسم ويتعلم في نفس الوقت، وكنت أحسب ان رفض الراوي ممارسة عملية التعلم والتمسك بممارسة الفن مرده الى انتقادات للعملية التعليمية "يقول الراوي بطل النص للصبي الذي عرض عليه المبادلة يكفيني ما اراه في عيونكم عند العودة"، لكن يبدو ان الكاتب لم يقصد ذلك. كنت ايضا اتمنى ان يختتم النص عندما يراه صديقه الذي اصبح شابا جامعيا يحمل ادوات الهندسة بصحبة فتاة تشاركه الحديث وكفى، وان يترك لنا النهاية نضعها على طريقتنا . وفي قصة موائد صغيرة للبحر يستمر الكاتب في اتباع نفس اللغة البسيطة المباشرة حلم السفر والخروج من شرنقة الفقر والعوز وتحقيق الأماني، التيمة تقليدية، مجموعة شباب مغامرين يمخرون عباب البحر في الخفاء. اسقاط مدهش على زعيم الفلاحين البطل احمد عرابي ومغامرته الثورية والخيانة التي تعرض لها، هكذا حال احفاده الآن، يتعرضون لخديعة كبرى مثلما تعرض في الماضي وكادوا يصبحون مائدة عظيمة لاسماك البحر. النص مكتوب بحرفية فائقة، ولايبوح باسراره بسهولة ويسر، يترك لقارئه الاجتهاد لقراءة السطور وما بينها على شاكلة غالبية نصوص المجموعة القصصية. ثم يعود الكاتب الى الى حالة من استحلاب العقل الباطن والولوج في تفاصيل الواقع المقموعة كما في قصة زمن ، الناس انصرفت عن المساجد، والمصاحف اختفت سوى واحد فقط مهترئ من الصعب تنظيفه، تلك التهويمات مخيفة ومفزعة لهؤلاء الريفيين البسطاء الذين لايتصورون شيئا يمكن ان يبعدهم عن المسجد أو هجران المصحف الشريف.
سابعا: يحسب للكاتب اهتمامه بقضايا معاصرة تنتفض لها المجتمعات لمقاومتها في هذا الزمن وخاصة في المؤسسات التربوية وهي قضية التنمر ضد الآخرين بأي صورة من الصور. وقصة رقصة نص انساني بامتياز يتعرض لحالة طفل برئ يعاني من متلازمة تيرنر Turner Syndrome وهي متلازمة متعلقة بعيب خلقي (ليس بالضرورة وراثي) يصيب الذكور والاناث يترتب عليه فقدان الكروموسون الثاني (x) لدى الاناث، و (X,Y) لدى الذكور، ومن أعراض هذا المرض نمو الصفات الجنسية الانثوية وقصر القامة، تضخم الصدر، وتأخر ظهور الشعر على الجسم اضافة الى صعوبات في التعلم، وصعوبة في تمييز الاتجاهات وعدم التركيز، ومشاكل اجتماعية تؤدي الى عدم القدر على التعامل مع بعض المواقف.... الخ. الكاتب يحسب له التقاط صورة التنمر بهذا الطفل البدين صاحب متلازمة تيرنر الذي فيه انعكاس للجهل بهذه الحالات والحماقة وغياب صريح للوازع الاخلاقي الديني عند هؤلاء الحمقى، الأمر الذي دعى الكاتب ان يسخر من هذا الواقع المؤلم ويزاوج بين رقصة الصبي المسكين على نغمات الموسيقى، وبين طير مذبوح يرقص الما وحسرة على واقع شديد القسوة والغباء.
ثامنا: دخل الكاتب في تجارب قصصية تعتمد على النتف السردية أو المشاهد القصيرة فنجده يعتمد على التناص من القرآن الكريم كما في قصة هو وهي " قال هذه عصاي اتوكأ عليها ولي فيها مآرب أخري" ، كمدخل لرؤية ابداعية خاصة، لاتنفصل عن باقي نصوص المجموعة السابقة، فمازال الكاتب يزامل حالات الفشل والهزيمة في مواقف الصراع والصدام، وغدر الرفاق والصحاب والأحبة. ويستمر التناول الانساني لنص بطلته طفلة محدودة الذكاء في قصة ثقب صغير باتجاه السماء الذي يعتبر مزيج معتبر من الواقع والخيال، يبدو ان الكاتب نجح في عكس صورة واقع اليم لاسرة طفلة صغيرة محدودة القدرة العقلية حينما تتمرد على واقعها وتندمج مثل فراشة عبر الاعمدة الملونة وتندفع بقوة نحو الضوء حيث يتلون جسدها بلون قوس قزح، وتتحرر الى رحابة السماء الواسعة حيث تلتقى السعادة والمرح. ثم نلحظ سقطة غريبة تتمل في تكرار قصة هو وهي التي سبق الحديث عنها لكن تحت عنوان آخر هو "سقوط"، الأمر الذي يستلزم مراجعتها في الطبعات التالية للمجموعة القصصية.