ينهض العمل على الدهشة من أول رشفة إلى آخر جرعة في الكأس. فالغلاف بمختلف محمولاته يمنح العين جمالا ويثير في الذهن دهشة.
فالعنوان مثير للاستغراب، ومحفز على التساؤل، والرغبة في الاكتشاف، فكيف يمكن احتواء نصف العالم في كأس؟ كيف للصغير حجما أن يحتوي ما هو أكبر منه؟ هل التعبير حقيقي أم مجازي؟
والتجنيس مثير للاستغراب ومحفز على الغوص في القراءة للتزود بالمعرفة وإرواء عطشه. فلم طوارئ قصصية وليست نصوصا قصصية؟ لم اختار الناص كلمة طوارئ ذات الحمولة التحذيرية بدل قصص قصيرة المتعارف عليها؟ أهي رغبة في خلق الاختلاف والتميز، أم هي تحذير واجب وتنبيه ضروري للقارئ حتى يتعامل مع نصوص المجموعة بشكل مختلف كونها لا تسير على صراط ما سبقها؟
واللوحة مستفزة بجمعها بين السائل والصلب، وبجمال الألوان المشكلة لها. يغلب السائل على بقية عناصر اللوحة، فحتى الكأس التي تنتمي للصلب تصير بفضل الماء سائلة، كونها من ذات لونه. فرغم انتصابها، إلا أنها مغمورة القاعدة بالماء، وفي جوفها ماء، والأكيد أن الماء سيغلبها ويصيرها على شكلها. العنصر الصلب المتبقي هو جزء من شكل كروي يشير إلى الكرة الأرضية المغمور ثلثاها بالماء، ليضل الباقي ظاهرا على السح ومهدد بالغرق.
هل الصورة أبوكاليبسية؟ هل تنذر بغرق قادم؟ هل هناك خطر ما يتهدد الأرض؟
تحفز الناظر على التأكيد بأن النهاية اعتمادا على الأحمر القاني المرتبط بالغروب؛ هذا اللون يحمله على هذا الاعتقاد أو هذا التصور، لكن الأزرق المتدرج في قوة لونه يمنح فرصة التخفف من هذا الجحيم، ليصنع بارقة أمل منعش للحياة لاسيما وأن الماء يحمل معنيين متعارضين؛ معنى الإغراق، ومعنى الحياة.
يتضمن “نصف العالم في كأس” عناوين قصص قصيرة هي عتبات للقراءة والتأويل؛ مثل: “قصة للبيع”، و”عالم ليس لأحد”، و”السمع والبصر”، و”مسعود”، بالإضافة إلى عناوين مختلفة ومتنوعة من قبيل “رأس أفعى” و”بياض الثلج”، “هواء البحر”، “ولأمر ما” و”الثلاجة” و”عادات”، و”مرمدة”، وأخيرا “قصة للإيجار” .تروم المجموعة خلق الدهشة بلغة شعرية تناصر السرد ولا تخاصمه.
مضامين وأبعاد المجموعة:
قصص المجموعة تتداخل فيها الأبعاد، السيكواوجية و القيمية و الاجتماعية و المعرفية و الفنية. وتطرح بضمائر مختلفة، المتكلم، والغائب و المخاطب..وفي الجملة القصصية تعتمد على الإيجاز و التكثيف و التلميح، و في البناء، تتكئ على الاسترسال و التداعي و التقطيع. من هنا أرادت المجموعة مخاطبة قارئها الضمني، قارئ مختلف يشغل أدوات القراءة، بدءا من الاستمتاع إلى التخييل إلى إدراك العلاقات.. يمكن عد العمل محاولة للخروج بالقصة من السهل إلى الصنعة.
بعض تقنيات العمل:
1_ التشظية:
في عالم القهر وإهدار كرامة الإنسان يصير الحكي مشتتا ومتشظيا معبرا عن تشظي الشخصة المحورية وتفككها، وهو ما يحتاج إلى قراءات للملمته وإعادة بنائه من جديد. ذاك ما يلاحظ على معظم قصص المجموعة، وبخاصة قصة "لأمر ما" ص 33.
يستدعي النص قصة آدم والتفاحة ليستثمرها في سياق مختلف؛ سياق الموظف المقهور، خالقا بها مفارقة دالة، بين آدم أبي البشرية الذي كانت له الأرض سكنا، وبين آدم القصة الذي وجد نفسه في جحر بقروض ثقيلة. ولم يكتف النص بتلك القصة بل عمقها بقصة نوح عليه السلام، إذ تنتهي بطوفان أغرق الكل.
وكما تم تقطيع التفاحة إلى أربعة أجزاء، تم تقطيع الحكاية التي كانت تنمو مع كل جزء يتم التهامه من طرف آدم القصة، لنصل في النهاية بعد التركيب إلى معرفة خفايا القصة وحفايا نفسية الشخصية المحورية.
ويستدعي تشظية القصة تدخل القارئ في تنسيقها وإخراجها وعرضها.
لكن القصة لم تكتف بالتشظي بل زاوجت بين اللذة والألم؛ لذة التهام التفاحة الحلوة وألم الماء المكتسح للمكان.
قام الناص ب"خلخلة القص من الداخل وتخييب أفق انتظار القارئ باستمرار، بجعله يواجه ممكنات قصصية عديدة بكسر كل ما هو خطي والخروج عنه، وهو ما يزرع التمرد في الشخصية القصصية، إذ لا تبدو مهادنة يستعملها الكاتب بنوايا مسبقة، وإنما هي في مستوى من المستويات ند للكاتب تتفاعل معه ويتفاعل معها في دائرة المحتمل. إن القصص، بمعنى أدق، مختبر بقدر ما يعني الكاتب يعني القارئ، ذلك أن التجربة الجمالية لا تنحصر في الكاتب، بل تفيض عليه لتشمل القارئ من خلال فعله التأويلي.... جمالية التجريب القصصي واستفزاز القارئ في «تقارير تونسية مهربة، أصيل الشابي، جريدة القدس.»
ويظل التشظي السمة المهيمنة على العمل حيث يحضر في قصص متعددة، ومنها:
ف"مرمدة" ص45: نجد البناء فيها يعتمد على التقطيع، احتراق العالم و التاريخ و حالات التشظي. فالمقاطع جاءت مرقمة تبلغ عدد شهور السنة في غياب لجامع بينها لا يمكن بلوغه إلا بعد تمعن عميق، وتأمل طويل، وبحث عن الروابط المضمرة. ويتجلى التشظي من خلال قول السارد مخاطبا شخصية قصته بالقول: العالم بيتك الجديد. أيها الطريد، حين تركت البيت وحيدا فأصبحت على الجسر قاطع طريق"أمين" ثم آمنت بالنهايات {الصغرى}، كيف تخرب القصة القصيرة؟
لا أحد يجيب{صيحة في واد} ص48.
و"قصة للإيجار"ص51: فالبناء مقطعي فيها يدل على تشظي العالم و تيه الفرد و فقدان السيطرة. هناك فجوة فادحة بين الهو والهي؛ كل في فلك يسبح وداخل عالم مجنون يجعل الفرد فيه فاقدا للسيطرة عليه، وعاجزا عن فهم نفسه. مما يضطره للتخلي عن أناه، وبالتقسيط الممل ينسحب عائدا إلى الغرفة، حيث يغلق الباب وينام. ص52.
وليس من شخصية – بطل في هذه القصة ، فقد اكتفي في الدلالة عليها بضمير: هي، هو، ما يعني أنها تمثل حالة وليس شخصاً معيناً. ويرى بعض الباحثين؛ في تفسير ذلك، أن الإنسان في المجتمع المعاصر والغربي خاصة، رقم، أو كائن مستهلك، ليس من فاعلية له سوى قبول الواقع وتحسينه، إن أمكن، بتوفير المزيد من السلع الاستهلاكية، فالأشياء هي الفاعلة في هذا العالم، ولهذا تم التركيز عليها، بوصفها «مرايا الوجود المعاصر». عبد المجيد زراقط، التجريب القصصي وتقنيات القصة الجديدة. جريدة القدس.
وفي "عالم ليس لأحد" ص7: نجده نصا تفاعليا بضمير المخاطب، يخاطب السارد توأمه ويسرد قصته وفي الوقت نفسه يسرد قصته هو؛ أي أن هناك داخلا بين القصتين حد التماهي مع وجود بعض الاختلافات الجوهرية بين الشخصيتين، فالسارد يهرب إلى المواجهة في حين يهرب توأمه منها.
القصة تمثيل بالصورة والحكي واللغة عن العلاقات الاجتماعية التي صارت معطوبة، وعن حالات الضياع الفردي وعن تشظي الجماعة. تنتهي بصورة عن المأساة التي يحملها السارد جراء غرق أخيه والتي جعلته يعيش غريبا في عالم ليس له.
2_ توظيف العجائبي:
نلحظ أن العمل قد وظف العجائبي في بعض قصصه، من مثل:
"هواء البحر" ص29: وهي قصة تستدعي قصة "عالم ليس لأحد " ص7، وتلقي أضواء على سبب التوأم غرقا في البحر؛ لقد كان ذلك انتحارا بسبب حبه للصديقة التي تجلس في هذه القصة إلى جوار توأمه وتحكي له القصة كاملة، وبسببها تم استدعاء الشرطة، لتنتهي نهاية عجيبة تتمثل في تبخر الحبيبة في الهواء كما لو كانت قصة مكتوبة ببخار الماء. فالقصة، إذا، تخييل عجيب لحكاية حب ...أعجب.
ويتجلى العجيب في"الثلاجة" ص39: من خلال سارد يحكي عن جثته التي بعث بها إلى المشرحة، فكيف لجثة أن تملك صوتا وبالأحرى أن تتحدث وتسرد؟ وتنتهي بما هو أعجب وإن كان بأسلوب مجازي حيث يقول السارد:
سأخرج الآن من الثلاجة وسأطير من الفرح !ص41.
تتعمد القصة توظيف العجيب و الغريب، بحثا عن من هو الميت؟
من هنا، يمكن القول إن الصنعة الحقيقية في العمل تمكن في اختراق الواقع، وصوغ التجربة صوغاً دلالياً جمالياً، والاحتفاء بهذا الواقع في تجليات حضوره المعرفي والإنساني.
3_ الميتا سرد:
ويتجلى في قصة:
"قصة للبيع" ص5: حيث تطرح قضية القصة التي تتمنع أمام من يستسهلها؛ لهذا فالعنوان يدل على تجارة الصنعة.
وكتابة القصة تستضمر التواء يخفي أزمة القصة و كتابتها.
كما تستثمر في العلاقة المعطوبة بين الأنثى و الذكر، إذ تطرح الشطط في توظيف السلطة الذكورية و سلطة القصة نفسها.
ففي الوقت الذي تنتقد فيه السلطة الذكورية نجدها تنتقد الاستسهلال، والميوعة في كتابة القصة القصيرة. إنها صرخة ضد شططي الطرفين معا.
عن بقية قصص العمل:
"السمع و البصر" ص11: توظف الخرافات و المحكي الاجتماعي الموروث الذي تكشفه فوضى الحواس؛ إنه الجنون الموروث الذي يتمرد عليه بطل القصة..
"مسعود" ص15: يسرد بضمير الغائب، ويحكي عن سجين بلا تهمة، ماضيه غامض يثير الأسئلة و ينتهي بالخروج من السجن و الاختفاء أو الانتحار أو التلاشي، لقد خرج من سجنه ليجد سجنا آخر.
"بياض الثلج" ص25: تحكي القطيعة بين زوجين بسبب الاختلاف و عدم الفهم، كل يغني على مأساته.
"عادات" ص43: اليومي، و تعتمد على التقطيع، و تصوير التوتر والسخرية من الواقع وتعريته، و نقد أشكال السلطة المتأبدة.
عن اللغة في العمل:
... أما اللغة القصصية ففيها ترميز و شعرية خاصة، فهي نادرا ما تقول الواقع مباشرة لأن الرهان في المجموعة على القصصية كلغة و فكر و جنس أدبي يجرب لا يعيد نفس التجارب، فالقصة من هذا المنظور لا بد لها أن تختلف عن باقي أنماط الكتابة من حيث ضرورة حماية هذا الجنس فنيا و فكريا وقيميا من الابتذال.
فالمادة القصصية لا تتمثل في عناصر الحياة الواقعية الخارجية فقط بل، في ما يعتمل بداخل الإنسان وما ترسخ في لاشعوره، كما تتمثل في اللاواقع والمسكوت عنه؛ أي في ما هو عجائبي، المعبر عما ترغب فيه الشخصيات.
والمجموعة، بذلك، تدرك "أن المرجعي مخادع في مستوى أدق إذ يستدرج القارئ ـ المتفرج إلى عوالم متخيلة يبنيها بنفسه ضمن دائرة تجمع في أساسها بين فعل القراءة وفعل الإنصات."
جمالية التجريب القصصي واستفزاز القارئ في «تقارير تونسية مهربة، أصيل الشابي، جريدة القدس.»
نصف العالم في كأس، طوارئ قصصية، محمد لغويبي. دار القرويين للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى سنة 2021.
فالعنوان مثير للاستغراب، ومحفز على التساؤل، والرغبة في الاكتشاف، فكيف يمكن احتواء نصف العالم في كأس؟ كيف للصغير حجما أن يحتوي ما هو أكبر منه؟ هل التعبير حقيقي أم مجازي؟
والتجنيس مثير للاستغراب ومحفز على الغوص في القراءة للتزود بالمعرفة وإرواء عطشه. فلم طوارئ قصصية وليست نصوصا قصصية؟ لم اختار الناص كلمة طوارئ ذات الحمولة التحذيرية بدل قصص قصيرة المتعارف عليها؟ أهي رغبة في خلق الاختلاف والتميز، أم هي تحذير واجب وتنبيه ضروري للقارئ حتى يتعامل مع نصوص المجموعة بشكل مختلف كونها لا تسير على صراط ما سبقها؟
واللوحة مستفزة بجمعها بين السائل والصلب، وبجمال الألوان المشكلة لها. يغلب السائل على بقية عناصر اللوحة، فحتى الكأس التي تنتمي للصلب تصير بفضل الماء سائلة، كونها من ذات لونه. فرغم انتصابها، إلا أنها مغمورة القاعدة بالماء، وفي جوفها ماء، والأكيد أن الماء سيغلبها ويصيرها على شكلها. العنصر الصلب المتبقي هو جزء من شكل كروي يشير إلى الكرة الأرضية المغمور ثلثاها بالماء، ليضل الباقي ظاهرا على السح ومهدد بالغرق.
هل الصورة أبوكاليبسية؟ هل تنذر بغرق قادم؟ هل هناك خطر ما يتهدد الأرض؟
تحفز الناظر على التأكيد بأن النهاية اعتمادا على الأحمر القاني المرتبط بالغروب؛ هذا اللون يحمله على هذا الاعتقاد أو هذا التصور، لكن الأزرق المتدرج في قوة لونه يمنح فرصة التخفف من هذا الجحيم، ليصنع بارقة أمل منعش للحياة لاسيما وأن الماء يحمل معنيين متعارضين؛ معنى الإغراق، ومعنى الحياة.
يتضمن “نصف العالم في كأس” عناوين قصص قصيرة هي عتبات للقراءة والتأويل؛ مثل: “قصة للبيع”، و”عالم ليس لأحد”، و”السمع والبصر”، و”مسعود”، بالإضافة إلى عناوين مختلفة ومتنوعة من قبيل “رأس أفعى” و”بياض الثلج”، “هواء البحر”، “ولأمر ما” و”الثلاجة” و”عادات”، و”مرمدة”، وأخيرا “قصة للإيجار” .تروم المجموعة خلق الدهشة بلغة شعرية تناصر السرد ولا تخاصمه.
مضامين وأبعاد المجموعة:
قصص المجموعة تتداخل فيها الأبعاد، السيكواوجية و القيمية و الاجتماعية و المعرفية و الفنية. وتطرح بضمائر مختلفة، المتكلم، والغائب و المخاطب..وفي الجملة القصصية تعتمد على الإيجاز و التكثيف و التلميح، و في البناء، تتكئ على الاسترسال و التداعي و التقطيع. من هنا أرادت المجموعة مخاطبة قارئها الضمني، قارئ مختلف يشغل أدوات القراءة، بدءا من الاستمتاع إلى التخييل إلى إدراك العلاقات.. يمكن عد العمل محاولة للخروج بالقصة من السهل إلى الصنعة.
بعض تقنيات العمل:
1_ التشظية:
في عالم القهر وإهدار كرامة الإنسان يصير الحكي مشتتا ومتشظيا معبرا عن تشظي الشخصة المحورية وتفككها، وهو ما يحتاج إلى قراءات للملمته وإعادة بنائه من جديد. ذاك ما يلاحظ على معظم قصص المجموعة، وبخاصة قصة "لأمر ما" ص 33.
يستدعي النص قصة آدم والتفاحة ليستثمرها في سياق مختلف؛ سياق الموظف المقهور، خالقا بها مفارقة دالة، بين آدم أبي البشرية الذي كانت له الأرض سكنا، وبين آدم القصة الذي وجد نفسه في جحر بقروض ثقيلة. ولم يكتف النص بتلك القصة بل عمقها بقصة نوح عليه السلام، إذ تنتهي بطوفان أغرق الكل.
وكما تم تقطيع التفاحة إلى أربعة أجزاء، تم تقطيع الحكاية التي كانت تنمو مع كل جزء يتم التهامه من طرف آدم القصة، لنصل في النهاية بعد التركيب إلى معرفة خفايا القصة وحفايا نفسية الشخصية المحورية.
ويستدعي تشظية القصة تدخل القارئ في تنسيقها وإخراجها وعرضها.
لكن القصة لم تكتف بالتشظي بل زاوجت بين اللذة والألم؛ لذة التهام التفاحة الحلوة وألم الماء المكتسح للمكان.
قام الناص ب"خلخلة القص من الداخل وتخييب أفق انتظار القارئ باستمرار، بجعله يواجه ممكنات قصصية عديدة بكسر كل ما هو خطي والخروج عنه، وهو ما يزرع التمرد في الشخصية القصصية، إذ لا تبدو مهادنة يستعملها الكاتب بنوايا مسبقة، وإنما هي في مستوى من المستويات ند للكاتب تتفاعل معه ويتفاعل معها في دائرة المحتمل. إن القصص، بمعنى أدق، مختبر بقدر ما يعني الكاتب يعني القارئ، ذلك أن التجربة الجمالية لا تنحصر في الكاتب، بل تفيض عليه لتشمل القارئ من خلال فعله التأويلي.... جمالية التجريب القصصي واستفزاز القارئ في «تقارير تونسية مهربة، أصيل الشابي، جريدة القدس.»
ويظل التشظي السمة المهيمنة على العمل حيث يحضر في قصص متعددة، ومنها:
ف"مرمدة" ص45: نجد البناء فيها يعتمد على التقطيع، احتراق العالم و التاريخ و حالات التشظي. فالمقاطع جاءت مرقمة تبلغ عدد شهور السنة في غياب لجامع بينها لا يمكن بلوغه إلا بعد تمعن عميق، وتأمل طويل، وبحث عن الروابط المضمرة. ويتجلى التشظي من خلال قول السارد مخاطبا شخصية قصته بالقول: العالم بيتك الجديد. أيها الطريد، حين تركت البيت وحيدا فأصبحت على الجسر قاطع طريق"أمين" ثم آمنت بالنهايات {الصغرى}، كيف تخرب القصة القصيرة؟
لا أحد يجيب{صيحة في واد} ص48.
و"قصة للإيجار"ص51: فالبناء مقطعي فيها يدل على تشظي العالم و تيه الفرد و فقدان السيطرة. هناك فجوة فادحة بين الهو والهي؛ كل في فلك يسبح وداخل عالم مجنون يجعل الفرد فيه فاقدا للسيطرة عليه، وعاجزا عن فهم نفسه. مما يضطره للتخلي عن أناه، وبالتقسيط الممل ينسحب عائدا إلى الغرفة، حيث يغلق الباب وينام. ص52.
وليس من شخصية – بطل في هذه القصة ، فقد اكتفي في الدلالة عليها بضمير: هي، هو، ما يعني أنها تمثل حالة وليس شخصاً معيناً. ويرى بعض الباحثين؛ في تفسير ذلك، أن الإنسان في المجتمع المعاصر والغربي خاصة، رقم، أو كائن مستهلك، ليس من فاعلية له سوى قبول الواقع وتحسينه، إن أمكن، بتوفير المزيد من السلع الاستهلاكية، فالأشياء هي الفاعلة في هذا العالم، ولهذا تم التركيز عليها، بوصفها «مرايا الوجود المعاصر». عبد المجيد زراقط، التجريب القصصي وتقنيات القصة الجديدة. جريدة القدس.
وفي "عالم ليس لأحد" ص7: نجده نصا تفاعليا بضمير المخاطب، يخاطب السارد توأمه ويسرد قصته وفي الوقت نفسه يسرد قصته هو؛ أي أن هناك داخلا بين القصتين حد التماهي مع وجود بعض الاختلافات الجوهرية بين الشخصيتين، فالسارد يهرب إلى المواجهة في حين يهرب توأمه منها.
القصة تمثيل بالصورة والحكي واللغة عن العلاقات الاجتماعية التي صارت معطوبة، وعن حالات الضياع الفردي وعن تشظي الجماعة. تنتهي بصورة عن المأساة التي يحملها السارد جراء غرق أخيه والتي جعلته يعيش غريبا في عالم ليس له.
2_ توظيف العجائبي:
نلحظ أن العمل قد وظف العجائبي في بعض قصصه، من مثل:
"هواء البحر" ص29: وهي قصة تستدعي قصة "عالم ليس لأحد " ص7، وتلقي أضواء على سبب التوأم غرقا في البحر؛ لقد كان ذلك انتحارا بسبب حبه للصديقة التي تجلس في هذه القصة إلى جوار توأمه وتحكي له القصة كاملة، وبسببها تم استدعاء الشرطة، لتنتهي نهاية عجيبة تتمثل في تبخر الحبيبة في الهواء كما لو كانت قصة مكتوبة ببخار الماء. فالقصة، إذا، تخييل عجيب لحكاية حب ...أعجب.
ويتجلى العجيب في"الثلاجة" ص39: من خلال سارد يحكي عن جثته التي بعث بها إلى المشرحة، فكيف لجثة أن تملك صوتا وبالأحرى أن تتحدث وتسرد؟ وتنتهي بما هو أعجب وإن كان بأسلوب مجازي حيث يقول السارد:
سأخرج الآن من الثلاجة وسأطير من الفرح !ص41.
تتعمد القصة توظيف العجيب و الغريب، بحثا عن من هو الميت؟
من هنا، يمكن القول إن الصنعة الحقيقية في العمل تمكن في اختراق الواقع، وصوغ التجربة صوغاً دلالياً جمالياً، والاحتفاء بهذا الواقع في تجليات حضوره المعرفي والإنساني.
3_ الميتا سرد:
ويتجلى في قصة:
"قصة للبيع" ص5: حيث تطرح قضية القصة التي تتمنع أمام من يستسهلها؛ لهذا فالعنوان يدل على تجارة الصنعة.
وكتابة القصة تستضمر التواء يخفي أزمة القصة و كتابتها.
كما تستثمر في العلاقة المعطوبة بين الأنثى و الذكر، إذ تطرح الشطط في توظيف السلطة الذكورية و سلطة القصة نفسها.
ففي الوقت الذي تنتقد فيه السلطة الذكورية نجدها تنتقد الاستسهلال، والميوعة في كتابة القصة القصيرة. إنها صرخة ضد شططي الطرفين معا.
عن بقية قصص العمل:
"السمع و البصر" ص11: توظف الخرافات و المحكي الاجتماعي الموروث الذي تكشفه فوضى الحواس؛ إنه الجنون الموروث الذي يتمرد عليه بطل القصة..
"مسعود" ص15: يسرد بضمير الغائب، ويحكي عن سجين بلا تهمة، ماضيه غامض يثير الأسئلة و ينتهي بالخروج من السجن و الاختفاء أو الانتحار أو التلاشي، لقد خرج من سجنه ليجد سجنا آخر.
"بياض الثلج" ص25: تحكي القطيعة بين زوجين بسبب الاختلاف و عدم الفهم، كل يغني على مأساته.
"عادات" ص43: اليومي، و تعتمد على التقطيع، و تصوير التوتر والسخرية من الواقع وتعريته، و نقد أشكال السلطة المتأبدة.
عن اللغة في العمل:
... أما اللغة القصصية ففيها ترميز و شعرية خاصة، فهي نادرا ما تقول الواقع مباشرة لأن الرهان في المجموعة على القصصية كلغة و فكر و جنس أدبي يجرب لا يعيد نفس التجارب، فالقصة من هذا المنظور لا بد لها أن تختلف عن باقي أنماط الكتابة من حيث ضرورة حماية هذا الجنس فنيا و فكريا وقيميا من الابتذال.
فالمادة القصصية لا تتمثل في عناصر الحياة الواقعية الخارجية فقط بل، في ما يعتمل بداخل الإنسان وما ترسخ في لاشعوره، كما تتمثل في اللاواقع والمسكوت عنه؛ أي في ما هو عجائبي، المعبر عما ترغب فيه الشخصيات.
والمجموعة، بذلك، تدرك "أن المرجعي مخادع في مستوى أدق إذ يستدرج القارئ ـ المتفرج إلى عوالم متخيلة يبنيها بنفسه ضمن دائرة تجمع في أساسها بين فعل القراءة وفعل الإنصات."
جمالية التجريب القصصي واستفزاز القارئ في «تقارير تونسية مهربة، أصيل الشابي، جريدة القدس.»
نصف العالم في كأس، طوارئ قصصية، محمد لغويبي. دار القرويين للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى سنة 2021.