أطلق على مي أدباء عصرها ومفكروه العديد من الألقاب منها: الأديبة، النابغة، فريدة العصر، ملكة دولة الإلهام، حلية الزمان، الدرة اليتيمة، وغيرها من الألقاب التي تعكس قدر الاحترام، والإجلال اللذين حظيت بهما مي من كتّاب عصرها.
مي زيادة استأثرت بالقلوب قبل العقول، فهي العذراء المبدعة الأنيسة المتفرّدة الشابة الأنيقة التي استحوذت قلوب الكثيرين ولكن لم يستحوذ قلبها سوى جبران خليل جبران.
ولدت فكرة مي زيادة بصالونها الأدبي في فترة تحوّل جذريٍ شاملٍ في جميع مناحي الحياة، بعد الدعوة إلى الاستقلال السياسي، وظهور الرغبة الملحة في الحريّة الفرديّة والمساواة، والدعوة إلى تحرير المرأة، وقد أدّى التمدّن ونشر العلم إلى تغييرٍ في البنية الاجتماعية، وإلى ظهور طبقة مثقفة سريعة النمو يجتمع أبناؤها في مجالسٍ وندواتٍ ومقاهٍ وجمعياتٍ لتبادل الأفكار والمقترحات.
من هذا الجوّ الفكريّ والأدبيّ ونضج العقول، أعلن منتدى مي في شهر تموز عام 1930والتي شبهت ولادة فكرة الصالون بكائن حي يولد.
صالون مي الذي زعزع القيم البالية، وعبّد الطريق إلى المستقبل، صحيحٌ أنّ المرتادين في البداية على الصالون مقتصرٌ على الرجال، وأنّ بعض النساء كنّ قد بدأن الالتحاق بالمؤسسات التعليمية، وأنّ الكتابة كانت بأسماء مستعارة أحيانا، من أجل كلّ ذلك وُجد صالون مي لإنهاء التجمعات التقليدية وفتح منزلها وتحويله إلى صالون يحضره الجنسين معاً؛ الذي هيّأ وفسح المجال للتعامل المتساوي بين الرجل والمرأة، وبذلك وُجد نوعٌ جديدٌ من أنماط المجالس ونوعيةٌ جديدةٌ من السلوك الاجتماعي.
الصالونات ذات الطابع النسائي أدبيّة بكلّ معنى الكلمة، هذا الصالون كان منتدياً فكرياً وملتقى الأدباء والفنانين من مصر وسوريا ولبنان وأوروبا، وكان يرتاده الأدباء ورجال السياسة والفنانون والشعراء والكتّاب.
الصالونات الأدبيّة كانت ثورةً صامتةً على العادات والتقاليد التي تكبّل حريّة المرأة، إنّها ثورة الأروح الظريفة وثورةٌ على كلّ المفاهيم الخاطئة، من أجل ذلك انبرى الشاعر المصري إسماعيل صبري الذي كان من أوائل المترددين على صالون مي إلى المقارنة بين مجالس الرجال موضحاً الفرق بينه وبين صالون مي: “لاحظ مجلساً من مجالسنا احتشد فيه الرجال والشباب، فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة والأصوات الناشزة، والمناقشات الفجّة، الأحاديث الجريئة والذوق العامي، والإحساس البطيء، لاحظ هذا المجلس وقد حضرته امرأةٌ واحدةٌ لا غير، تجد الحركات تتزن والأصوات تدق، والمناقشات تنتج، والأحاديث تحتشم، والكلمات تنتقى، والذوق يسمو، والإحساس يدقُّ” .
لقد حققت مي أعلى مستوى للتعليم والثقافة والتحقت في الجامعة المصرية في وقت لم يكن يسمح رسمياً للنساء بالدراسة بعد. كما منحتها جريدة والدها الفرصة لنشر مقالاتها الأولى والتعرف على أوساط الناشرين والصحفيين والأدباء.
صالون مي الوحيد في مصر الذي تديره امرأة وتستقبل فيه ضيوفاً من الجنسين، هذا الصالون الذي يعقد أمسيةً كلّ ثلاثاء وكلّ من يرتاده يخاف أن تفوته أمسية منه، طبعاً لما تمتع به هذا الصالون من حريّة فكريّة واجتماعيّة وحركة ثقافيّة وفّرها كلٌّ من المضيفة والضيوف وشكّل منبعاً للإنتاج الأدبي.
تمكّنت مي من توطيد العلاقات مع الأدباء بالنقد المتبادل خاصةً مع محمود عباس العقاد وطه حسين الذي وصف صالون مي بأنه “ديمقراطي” على عكس صالون الأميرة نازلي فاضل “الأرستقراطي” طبعاً صالون نازلي كان أول صالون قد تأسس في الوطن العربي.
اتّسم صالون مي بالتبادل الفكري وخاصةً أن المترددين على الصالون يقترحون أفكاراً تصلح لكتبٍ جديدةٍ تؤلّفها، وكان الرواد من المؤلّفين يكتبون المقدمات لبعض مؤلّفاتها وهي أيضاً تكتب المقدمات لأعمالهم، فكانوا يهزّون بأحاديثهم ومناقشاتهم أغصاناً ذات ثمر.
أتاحت المناقشات وتبادل وجهات النظر من إثراء قريحتها على بناء الأحكام مما جعلها تتميز فيما بعد في مجالات النقد الاجتماعي والفني والأدبي، وكان الجوّ العامّ للطقوس المتبعة في صالونها هو الحرص على الكلام المنتقى والولع بالملح واللطائف المنطوية على البلاغة والحكمة في الإيجاز تأثيراً واضحاً على كتاباتها مثل: “خواطر متناثرة” و”سطور”.هذا وقد عنّون العقاد ” رجال حول مي” عن اللقاءات الوديّة وتبادل الأفكار مع مي قد ألهب الخيال وأثرى الإبداع وأصبحت لغة القلوب أو الفن العاطفي هي السمة الغالبة على الأدب.
صالون مي كان مفعماً بالمحبة المتبادلة والصادقة والإعجاب والتقدير لمي بعيدا عن العلاقة المتعارف عليها بين الرجل والمرأة وهي علاقة الزواج، بل كان الميل إلى إجلال مي الرومانتيكي سواء في صورة الإلهة إيزيس كما هو الحال في قصائد خليل مطران، أو في شخصية مريم العذراء كما رسمها العقّاد في قصيدةٍ له.
كانت اللهجة الأسرية للتعامل في الصالون هو أسلوب الرسائل المتبادلة بين الحاضرين وبين ضيوفها بصبغتها، فاتسمت بالزّهد في عبارات المجاملة المستهلكة، والبساطة والوضوح والعفويّة التي كانت بمثابة مواصلة للحديث خارج الصالون وفي غير أوقاته، كان تعبيراً عن الشوق لذلك الأنس الذي لم يكن يتسنى لرواد الصالون معايشته في واقعهم الاجتماعي. بهذا المعنى كتب يعقوب صروف مرةً يردّ على رسالةٍ من مي: ” أما أنت وكتابك يا حبيبتي فقد رفعاني…إلى “الأتوبيا” التي نحلم بها”.
خلق صالون مي صنفاٌ جديداً من صنوف الأدب العربي وهو ” الأدب الخاص” وتطور فن المراسلة من العامّ إلى الخاصّ، والحفلات التي كانت تقام فيه تكريماً لبعض المؤلفين وعلى شرف أدباء وعلماء جعلته محطّ أنظار الرأي العامّ وساهمت في إيجاد حواراً أدبيّاً عالميّاً.
إنّ الذين أدمنوا على ندوة الثلاثاء كثيرون ومعروفون في الأوساط العلميّة والثقافيّة والشعريّة منهم خليل مطران، أنطون الجميل، يعقوب صروف، أحمد شوقي الذي وصف مي وعذوبة حديثها في شعره:
أسائل نفسي عما سباني أحُسن الخلق أم حسن البيان؟
رأيت تنافس الحسنين فيها كأنهما لمية عاشقان
إذا نطقت صبا عقلي إليها وإن بسمت إليّ صبا جناني
مي كاتبة عصرها وسيدة النساء وقتها، قد حوّلت المنتدى إلى منبرٍ يدعم تيار الفكر والثقافة والفن، والتي أدارت هذا الصالون وافتتحته وهي في العشرين من عمرها، مي التي أتقنت عدة لغات قراءةً وكتابةً ومن هنا تنبع ثقافة مي المميزة، ولكنّها تحدّثت في صالونها باللغتين العربية والإنكليزية.
من كلّ ما تقدّم نعلم كيف أسهمت مي في انتشار حركة الوعي في المجتمعات العربية وكيف أسهمت شخصيتها في تعليم الفتيات بمصر، حتى قال الكثيرون أنّ منتدى مي تحول إلى فرعٍ من فروع سوق عكاظ.
والحقُّ يُقال: لو كُتبت المناقشات التي حدثت في منتدى مي لضاهت كتاب الأغاني في العصر العباسي وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه في عصره دون مبالغة.
مي زيادة استأثرت بالقلوب قبل العقول، فهي العذراء المبدعة الأنيسة المتفرّدة الشابة الأنيقة التي استحوذت قلوب الكثيرين ولكن لم يستحوذ قلبها سوى جبران خليل جبران.
ولدت فكرة مي زيادة بصالونها الأدبي في فترة تحوّل جذريٍ شاملٍ في جميع مناحي الحياة، بعد الدعوة إلى الاستقلال السياسي، وظهور الرغبة الملحة في الحريّة الفرديّة والمساواة، والدعوة إلى تحرير المرأة، وقد أدّى التمدّن ونشر العلم إلى تغييرٍ في البنية الاجتماعية، وإلى ظهور طبقة مثقفة سريعة النمو يجتمع أبناؤها في مجالسٍ وندواتٍ ومقاهٍ وجمعياتٍ لتبادل الأفكار والمقترحات.
من هذا الجوّ الفكريّ والأدبيّ ونضج العقول، أعلن منتدى مي في شهر تموز عام 1930والتي شبهت ولادة فكرة الصالون بكائن حي يولد.
صالون مي الذي زعزع القيم البالية، وعبّد الطريق إلى المستقبل، صحيحٌ أنّ المرتادين في البداية على الصالون مقتصرٌ على الرجال، وأنّ بعض النساء كنّ قد بدأن الالتحاق بالمؤسسات التعليمية، وأنّ الكتابة كانت بأسماء مستعارة أحيانا، من أجل كلّ ذلك وُجد صالون مي لإنهاء التجمعات التقليدية وفتح منزلها وتحويله إلى صالون يحضره الجنسين معاً؛ الذي هيّأ وفسح المجال للتعامل المتساوي بين الرجل والمرأة، وبذلك وُجد نوعٌ جديدٌ من أنماط المجالس ونوعيةٌ جديدةٌ من السلوك الاجتماعي.
الصالونات ذات الطابع النسائي أدبيّة بكلّ معنى الكلمة، هذا الصالون كان منتدياً فكرياً وملتقى الأدباء والفنانين من مصر وسوريا ولبنان وأوروبا، وكان يرتاده الأدباء ورجال السياسة والفنانون والشعراء والكتّاب.
الصالونات الأدبيّة كانت ثورةً صامتةً على العادات والتقاليد التي تكبّل حريّة المرأة، إنّها ثورة الأروح الظريفة وثورةٌ على كلّ المفاهيم الخاطئة، من أجل ذلك انبرى الشاعر المصري إسماعيل صبري الذي كان من أوائل المترددين على صالون مي إلى المقارنة بين مجالس الرجال موضحاً الفرق بينه وبين صالون مي: “لاحظ مجلساً من مجالسنا احتشد فيه الرجال والشباب، فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة والأصوات الناشزة، والمناقشات الفجّة، الأحاديث الجريئة والذوق العامي، والإحساس البطيء، لاحظ هذا المجلس وقد حضرته امرأةٌ واحدةٌ لا غير، تجد الحركات تتزن والأصوات تدق، والمناقشات تنتج، والأحاديث تحتشم، والكلمات تنتقى، والذوق يسمو، والإحساس يدقُّ” .
لقد حققت مي أعلى مستوى للتعليم والثقافة والتحقت في الجامعة المصرية في وقت لم يكن يسمح رسمياً للنساء بالدراسة بعد. كما منحتها جريدة والدها الفرصة لنشر مقالاتها الأولى والتعرف على أوساط الناشرين والصحفيين والأدباء.
صالون مي الوحيد في مصر الذي تديره امرأة وتستقبل فيه ضيوفاً من الجنسين، هذا الصالون الذي يعقد أمسيةً كلّ ثلاثاء وكلّ من يرتاده يخاف أن تفوته أمسية منه، طبعاً لما تمتع به هذا الصالون من حريّة فكريّة واجتماعيّة وحركة ثقافيّة وفّرها كلٌّ من المضيفة والضيوف وشكّل منبعاً للإنتاج الأدبي.
تمكّنت مي من توطيد العلاقات مع الأدباء بالنقد المتبادل خاصةً مع محمود عباس العقاد وطه حسين الذي وصف صالون مي بأنه “ديمقراطي” على عكس صالون الأميرة نازلي فاضل “الأرستقراطي” طبعاً صالون نازلي كان أول صالون قد تأسس في الوطن العربي.
اتّسم صالون مي بالتبادل الفكري وخاصةً أن المترددين على الصالون يقترحون أفكاراً تصلح لكتبٍ جديدةٍ تؤلّفها، وكان الرواد من المؤلّفين يكتبون المقدمات لبعض مؤلّفاتها وهي أيضاً تكتب المقدمات لأعمالهم، فكانوا يهزّون بأحاديثهم ومناقشاتهم أغصاناً ذات ثمر.
أتاحت المناقشات وتبادل وجهات النظر من إثراء قريحتها على بناء الأحكام مما جعلها تتميز فيما بعد في مجالات النقد الاجتماعي والفني والأدبي، وكان الجوّ العامّ للطقوس المتبعة في صالونها هو الحرص على الكلام المنتقى والولع بالملح واللطائف المنطوية على البلاغة والحكمة في الإيجاز تأثيراً واضحاً على كتاباتها مثل: “خواطر متناثرة” و”سطور”.هذا وقد عنّون العقاد ” رجال حول مي” عن اللقاءات الوديّة وتبادل الأفكار مع مي قد ألهب الخيال وأثرى الإبداع وأصبحت لغة القلوب أو الفن العاطفي هي السمة الغالبة على الأدب.
صالون مي كان مفعماً بالمحبة المتبادلة والصادقة والإعجاب والتقدير لمي بعيدا عن العلاقة المتعارف عليها بين الرجل والمرأة وهي علاقة الزواج، بل كان الميل إلى إجلال مي الرومانتيكي سواء في صورة الإلهة إيزيس كما هو الحال في قصائد خليل مطران، أو في شخصية مريم العذراء كما رسمها العقّاد في قصيدةٍ له.
كانت اللهجة الأسرية للتعامل في الصالون هو أسلوب الرسائل المتبادلة بين الحاضرين وبين ضيوفها بصبغتها، فاتسمت بالزّهد في عبارات المجاملة المستهلكة، والبساطة والوضوح والعفويّة التي كانت بمثابة مواصلة للحديث خارج الصالون وفي غير أوقاته، كان تعبيراً عن الشوق لذلك الأنس الذي لم يكن يتسنى لرواد الصالون معايشته في واقعهم الاجتماعي. بهذا المعنى كتب يعقوب صروف مرةً يردّ على رسالةٍ من مي: ” أما أنت وكتابك يا حبيبتي فقد رفعاني…إلى “الأتوبيا” التي نحلم بها”.
خلق صالون مي صنفاٌ جديداً من صنوف الأدب العربي وهو ” الأدب الخاص” وتطور فن المراسلة من العامّ إلى الخاصّ، والحفلات التي كانت تقام فيه تكريماً لبعض المؤلفين وعلى شرف أدباء وعلماء جعلته محطّ أنظار الرأي العامّ وساهمت في إيجاد حواراً أدبيّاً عالميّاً.
إنّ الذين أدمنوا على ندوة الثلاثاء كثيرون ومعروفون في الأوساط العلميّة والثقافيّة والشعريّة منهم خليل مطران، أنطون الجميل، يعقوب صروف، أحمد شوقي الذي وصف مي وعذوبة حديثها في شعره:
أسائل نفسي عما سباني أحُسن الخلق أم حسن البيان؟
رأيت تنافس الحسنين فيها كأنهما لمية عاشقان
إذا نطقت صبا عقلي إليها وإن بسمت إليّ صبا جناني
مي كاتبة عصرها وسيدة النساء وقتها، قد حوّلت المنتدى إلى منبرٍ يدعم تيار الفكر والثقافة والفن، والتي أدارت هذا الصالون وافتتحته وهي في العشرين من عمرها، مي التي أتقنت عدة لغات قراءةً وكتابةً ومن هنا تنبع ثقافة مي المميزة، ولكنّها تحدّثت في صالونها باللغتين العربية والإنكليزية.
من كلّ ما تقدّم نعلم كيف أسهمت مي في انتشار حركة الوعي في المجتمعات العربية وكيف أسهمت شخصيتها في تعليم الفتيات بمصر، حتى قال الكثيرون أنّ منتدى مي تحول إلى فرعٍ من فروع سوق عكاظ.
والحقُّ يُقال: لو كُتبت المناقشات التي حدثت في منتدى مي لضاهت كتاب الأغاني في العصر العباسي وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه في عصره دون مبالغة.