لحسن أوزين - قراءة في كتاب حسام الدين درويش: المعرفة والايديولوجيا في الفكر السوري المعاصر

في هذا الكتاب يواصل حسام الدين درويش تجذير السؤال النقدي في الفكر العربي المعاصر، وهي مهمة ومخاطرة معرفية ونقدية صعبة ومعقدة. كان قد بدأها في كتابه "نصوص نقدية في الفكر السياسي العربي والثورة السورية واللجوء ؛ بشارة وباروت أنموذجاً" حيثاشتغل نقديا على نصوص محمد جمال باروت وعزمي بشارة. هذا يعني أن الكتاب الذي بين أيدينا يمكن فهمه في سياق تكون وتطور السيرورة الفكرية والنقدية التي ميزت كتاباته السابقة، بعيدا عن أي ظرفية فجائية اجتماعية سياسية، فجرتها السيرورة التاريخية للمجتمعات العربية، فيما صار يعرف في منطق التحولات التاريخية الاجتماعية لهذه المجتمعات، بثورات الربيع العربي.لذلك لم يحاول حسام الدين ركوب موجة هذا المنعطف التاريخي بتحايل إيديولوجي، أو بانتهازية سياسية، بل كان يتجذر معرفيا في صيرورة تُوسّع زاوية النظر، ابتعادا عن عماء تصلب اليقين.وتبعا لهذا الفهم، ووفقا لهذا المنظور المتعدد الأبعاد، سنحاول مقاربة بعض أفكار وطروحات هذا الكتاب المعرفية الثقافية/ الأيديولوجية المعيارية، والمنهجية النقدية.

أولا خصوبة وثراء انفتاح جدلية الممارسة النقدية

فصول هذا الكتاب تؤطرها رؤية واضحة محددة، في التناول والمعالجة النقدية، تبعا لاستراتيجية في الكتابة. يمكن القول إنها من النوع الجدلي النقدي، الذي يحاول مقاربة الكثير من المشكلات الفكرية السياسية التي رافقت بشكل أو بآخر الثورة السورية. معتمدا فيها حسام الدين على منطلقات مبدئية وقواعد وآليات منهجية، تستند على خلفيات فلسفية ومعرفية وإيديولوجية، منفتحة على التعدد والاختلاف، وعلى جميع الوجوه المحتملة. وهي واعية بصيرورتها في النظر، والهدم والبناء والنماء. فالكاتب يؤسس جهدا فكريا ونقديا، من خلال تناوله النقدي لبعض أقنعة الأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر. وذلك قصد بلورة رؤية نقدية واضحة للطرائق والمضامين التي تقترحها بعض كتابات الفكر السوري المعاصر، في متابعتها للصراع السياسي والايديولوجي الذي فرضته سياقات الثورة السورية. بظروفها والتباساتها، وتعقد تحولاتها، وتعدد واختلاف الفاعلين فيها. إننا أمام نقد بخلفية فكرية وفلسفية محددة، لنصوص وتيارات فكرية سياسية، قصد كشف ما تتحايل إيديولوجيا عليه هذه الكتابات والتيارات، التي تتعامل مع المفاهيم بشكل معزول ومبتور، اعتمادا على رؤية أحادية معيارية. وبعقلية إجرائية، لا تخلو من المصلحة الضيقة. و الى حدما،يمكن وصفها بالانتهازية، وهي تخشى الاعتراف بخصوبة وثراء جدل التكامل في التنوع و التعدد والاختلاف.لأنها– الكتابات والتيارات- تتعمد فصل المفاهيم عن خلفياتها المعرفية والفلسفية والسياسية، وتتجاهل ترابطاتها الشديدة التعقيد والتركيب بالواقع الحي. حيث لايمكن مثلا الحديث عن الليبرالية والحرية والوطنية والديمقراطية والفردية والجماعاتية...، بشكل معزول عن الأرضية الأساس التاريخية الاجتماعية، والفلسفية المعرفية،والفكرية السياسية، وعلاقة كل هذا بوحل الواقع الحي في محليته وارتباطه العالمي. هكذا يعمل حسام الدين على تحليل و تفكيك ونقد تلك الكتابات والتيارات، بانفتاح في المقاربة والمعالجة المتسعة المنظور، بما يسمح له برؤية جميع الوجوه والخبايا التي تتستر عليها الأيديولوجيا، وتتعمد على إخفائها أو تشويهها أو وكبتها ودفنها، كمسكوت عنه، بوعي أو بدون وعي، من طرف أصحابها. ولا يتحرج الكاتب في إبراز عمائها الأيديولوجي،و مدى تهافتها في إخفاء فقرها المعرفي. منتصرة في ذلكلأهدافها المتناقضة، مع القيم والمبادئ الثقافية والفكرية، والسياسية الاجتماعية، لتلك المفاهيم إذا ما تم النظر إليها في أسسها الفلسفية والمعرفية، ومنطلقاتها السياسية الاجتماعية(الحداثية). الشيء الذي يسمح له بمواجهة طروحاتها الضيقة، ومواقفها الهووية الغارقة في الخصوصية الدينية أوالاثنيةأوالطائفيةأوالمذهبية أو القبلية...

مطاردة حسام الدين لخبث الأيديولوجيا، ما كان ليتحقق إلا بابتعاده عن التصلب والتعصب الفكري الأيديولوجي المانع لعيش التعدد والاختلاف في أبهى صوره، وبالتالي انفتاح جدلية الممارسة النقدية، عنده، على الوجوه المختلفة والمتعدد للقضايا التي تعالجها. مما سمح له بالدفاع عن مقاربة محددة، في التحليل والنقد المعرفي/ المعياري،متوخيا التوضيح، والإلمام الشامل بكل المعطيات،بالقدر المستطاع،وتسليط الأضواء على الظلال المعتمة التي تفرضها سطوة الأيديولوجيا على المفاهيم والأفكار والمواقف والممارسات.

وهذا ما يجعل مقاربة ومراجعة هذا الكتاب ليس بالأمر الهين، لان صاحبه يناقش قضايا معقدة وخلافية. وهو يحلل وينتقد ويستنطق النصوص والبيانات والمواقف والممارسات. كاشفا الغطاء عما يخفيه التعصب والتصلب الأيديولوجي للهويات القاتلة الغريبة كليا عن المضامين الحداثية للهوية الوطنية،و الحريات الديمقراطية، و التعايش الاجتماعي السياسي المشترك...، إنه نقد يسعى باجتهاد الى بلورة رؤية نقدية شاملة، قادرة على مقاربة الوضع السوري بكل محنه وأوضاع وآلامه، في ظل التأبيد القهري التسلطي للاستبداد الأسدي.

إننا أمام ممارسة نقدية يقظة، تفكك وتحلل وتضيء الزوايا المعتمة، التي يخلفها التعامل الإجرائي مع المفاهيم المبتورة الخلفيات والمضامين الفلسفية و المعرفية، والسياقات التاريخية الاجتماعية، والسياسية الراهنة. ممارسة نقدية تكشف وتستنبط، وتوسع زاوية النظر، وهي تحرص على الترابطات المفاهيمية، والأدوات المنهجية، لإنتاج المعرفة. لأنها تفكر جديا فيما تنتقده من كتابات وتيارات في توجهاتهاومنطلقاتها ومفاهيمها ذات الأفق المسدود. إنها ممارسة نقدية توضح محدودية سقف هذه الكتابات، بسبب سطوة الأيديولوجي عليها، من خلال أقنعة الحيادية والطائفية واللاسياسية والاثنية والقبلية السياسية. كما تعمل على تعرية مدى ارتباطها بالواقع السياسي الاستبدادي، بوعي أو بدون وعي، في أبعادها الفكرية والأيديولوجية، وهي تغيب السياسي، في الرؤية والتحليل والمواقف والممارسات.

إنها ممارسة نقدية ترى البديل في توسيع الرؤية الفلسفية والمعرفية والسياسية، وفي التسلح بالعدة الفكرية والمنهجية النقدية. وذلك للتخلص من الالتباسات الأيديولوجية الضيقة، التي تفرضها التحيزات الطائفية والاثنية والدينية، المتناقضة مع المضامين الحداثية والسياسية الديمقراطية للهوية الوطنية. والانفتاح على الجهود المتعددةوالمختلفة في بناء البديل، الذي هو النظام السياسي الوطني والديمقراطي، القادر على احتضان التعدد والاختلاف، وتفعيل القيم الانسانيةلعيش مشترك، في الحرية والديمقراطية والمواطنة والمساواة...

ثانيا تجذير الممارسة الجدلية النقدية في العلاقة بين الثقافي والسياسي

في دراساته النقدية للفكر السوري المعاصر، حاول حسام الدين درويش تسليط الضوء على الكثير من الجوانب المغيبة معرفيا ومنهجيا وسياسيا في التقارير التي أنجزها المركز السوري لبحوث السياسات حول جذور و آثار الأزمة السورية. وقد مهد لدراسته النقدية بخلفية معرفية علمية للمستويات الثلاث لمفهوم السياسة، التي انطلاقا منها قام بتحليل نقدي لحدود ومحدودية تقارير المركز التي ظلت عاجزة عن التناول النقدي المعرفي والسياسي لهذه الأزمة. حيث سجنت نفسها ضمن ما هو اقتصادي اجتماعي بشكل ضيق ومعزول عن البنى السياسية للنظام. إذ يستحيل فهم ما يحدث في هذين الحقلين بدون تحديد نظري فكري وسياسي لطبيعة الدولة ومؤسساتها، وللنظام السياسي. خاصة وأن الأمر يتعلق بالبحث عن الجذور ، وفي جذور الأزمة السورية التي أنتجتها هيمنة وسيطرة الممارسة السياسية للنظام السياسي السوري على المشهد السياسي، و الاقتصادي الاجتماعي. وهذا ما لم تفلح فيه تقارير المركز، رغم اضطرارها معرفيا الى تناول البعد السياسي، وإن بشكل محدود، لا تتجاوز فيه المستوى السياسي/ المؤسساتي الذي ظل رغم ذلك خجولا ومحتشما في مضامين هذه التقارير، الغارقة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية التنموية، بعيدا عن بنية النظام السياسي الأمني والعسكري. لهذا ظلت جذور الأزمة مغيبة في تقارير المركز نتيجة تركيزه على واجهة السلطة الشكلية دون الاهتمام بعلاقات السلطة/القدرة، أي الاهتمام بالسلطة الفعلية التي تقف خلف كل الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يلحق المؤسسات من تشوهات و اختناقات تؤدي الى تهميش واقصاء المجتمع من دائرة الفعل السياسي والاقتصادي التنموي. هكذا تبقى بنيات مؤسسات الاستبداد السياسي مغيبة في التحليل النقدي الذي يسعى إليه جهد واضعي هذه التقارير. وفي هذا السياق يستغرب وينتقد حسام الدين درويش اهتمام تقارير المركز بالقوة والقدرة الشكلية للحكومة في إدارة الأزمة، مع التغييب الواضح لدور الرئيس الذي استبد بكل السلطات الشكلية والفعلية واضعا نفسه فوق المؤسسات، التي ليست أكثر من واجهة لتغطية جذور الأزمة الحقيقية المسببة للاختناق المؤسساتي والمجتمعي. وبسبب الرؤية الايديولوجية السياسية، التي تؤطر هذه التقارير في تناولها السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ظلت جذور الأزمة المرتبطة ببنية السلطة السياسية مغيبة، الشيء الذي قلل من القيمة المعرفية والمنهجية العلمية، لهذه التقارير، وجعلها بعيدة عن الأهداف الفكرية و السياسية في الكشف عن جذور الأزمة والعمل على تجاوزها. ويمكن القول إن هذه التقارير -بوعي أو بدون وعي- عملت على طمس جذور الأزمة أكثر مما عملت على الكشف عنها، كما عملت على تبييض صفحة النظام السياسي في شخص الرئيس وأجهزته الأمنية والعسكرية، الى حد براءته مما حدث ويحدث في سورية من أزمات وكوارث ومآسي. و هذا النوع من التقارير يشبه الى، حد ما، الخطاب الأيديولوجي الإعلامي والسياسي للنظام في التعمية على دور الرئيس والتخفي وراء "حرية" الانتقاد والتهجم على التجليات الشكلية للنظام السياسي، المتمثلة في الحكومة ومجلس الشعب. لكن " جذور الأزمة تكمن في بنية النظام السياسي، وفي بنية الدولة المبتلعة – جزئيا على الأقل- من السلطة الفعلية الحاكمة، ودور هذه البنية عموما وماهية السلطة الفعلية ودورها خصوصا، ليس في حصول الأزمة، وفي استمرارها حتى الآن، وفي اتخاذها الصيغ والأشكال الكارثية التي اتخذتها خلال السنوات التسع من عمرها فحسب، بل الدور الجذري لهذه البنية وتلك السلطة في الجذور والآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة التي يركز المركز جل اهتمامه عليها أيضا. "
وهذا ما لم تقو تقارير المركز على رؤيته وفهمه وتحليله نقديا، بشكل يسمح باستعمال لغة ومفاهيم معرفية سياسية تسمي الجذور الفعلية للأزمة بأسمائها الحقيقية المرتبطة بالطبيعة التسلطية الاستبدادية للنظام السياسي. وتحدد بدقة الحراك المجتمعي بوصفه ثورة سياسية تستهدف النظام السياسي ورئيسه.


وتبعا لهذه المقاربة النقديةفي كشف المغالطات الأيديولوجية، و إبرازحدود ومحدودية الرؤية الأحادية المعيارية، تناول الكاتب جدل الثقافي والسياسي، المعرفي والإيديولوجي، الذاتي والموضوعي،من خلال مجموعة من النصوص، وعلى رأسها كلمة العدد،المنشورة ضمن ملف " التفاعل بين الدين والمجتمع في سورية" في مجلة قلمون العدد13و14. مؤكدا على أن أغلب هذه النصوص تميزت بطغيان المستوى المعياري التقويمي في مقابل الحضور الهش للمستوى المعرفي، الوصفي التحليلي. الشيء الذي جعلها غارقة في التفكيرالماهوي، الهووي، الجوهراني، المؤسس على المنطقي الثنائي ( إما أو)( معي أو ضدي )، الدين أو الحداثة، الشر أو الخير...

فكلما غاب المستوى المعرفي، الوصفي التحليلي، وحضرت بقوة الرؤية الانغلاقية المعيارية، إلا وكان من الصعب الأقرب الى المستحيل رؤية التنوع والتعدد، و مختلف التناقضات الكامنة، ليس بين الأطراف، بل داخل كل طرف على حدة( إسلامات، حداثات...). مما يؤدي الى الانزلاق الى التربة الأيديولوجية نفسها للاستبداد، الذي يعمل في ممارسته النظرية والفكرية والسياسية، على سيطرة التفكير الأيديولوجي. بخلق التباسات مفاهيمية، و عوائق وهمية، وتناقضاتمثنويةمانوية معيارية، بين الدين والسياسة، بين الإسلام والحرية، والمواطنة، والديمقراطية، والحداثة...

وهذا ما جعل هذه النصوص غارقة في التبسيط والتسطيح والابتسار، وصراع الأضداد الزائف والمعياري،المعبر عن البعد الأيديولوجي، المحكومبالرغبة السياسية الذاتية. بعيدا عن التناول المعرفي النقدي الموضوعي، و العميق.

ولمواجهة هذه الرؤية الأحادية الأيديولوجية، التي لا تتسع معرفيا لأكثر من التقابل بين الاتجاهالحداثويالعلمانوي، والاتجاه الإسلاموي، في ظل هيمنة الأحكام المعيارية المسبقة والعقلية الاختزالية، يشدد حسام معرفيا/ ثقافيا،و إيديولوجيا/سياسيا، على التمييز المفاهيمي، الوصفي والمعياري، الذي يعطي قيمة للبعد المعرفي الثقافي، و يستحضر جميع المنظورات المعرفية والأيديولوجية. خاصة وأنها نصوص بحثية معرفية وجدت نفسها غارقة في الأيديولوجية، مما يسيء ويضعف القيمة العلمية والمعرفية الثقافية لهذه البحوث.

ثالثا قراءة في سرديات الثورة: نحو جدل التكامل بين المعرفي والإيديولوجي

بناء على المقاربة النقدية نفسها التي ميزت فصول الكتاب، في سعيها لبناء وتأسيس فكر نقدي متعدد الأبعاد، يواصل حسام الدين النظر والتدقيق، والوصف والتحليل المنهجي، والحذر المعياري التقويمي، في اشتغاله النقدي على المفاهيم المتداولة، إعلاميا، وفي الفكر السوري المعاصر. فهو لا يقبل بالمعطى المتداول كبديهيات ناجزة ونهائية، بل يقوم بتفكيكها من الداخل. لتأسيس أدوات معرفية قادرة على تملك الواقع الحي معرفيا، عوض الانتصار للرغبة الذاتية في إصدار الأحكام المعيارية التقويمية. هكذا يتناول مفهومي الثورة والحرب الأهلية في سورية، انطلاقا من خلفية معرفية لها معاييرها، في ضبط معنى ومضمون و مصداقية وأخلاقية الانحياز لمفهوم دون آخر، في الوصف والحكم على أن الأمر يتعلق بحرب أهلية، أو بثورة على نظام استبدادي. وبعد تحليل وصفي معرفي للحدث السوري، يقتنع القارئ مع سيرورة القراءة، بأن الأمر يتعلق بثورة سلميةتجسدت على الأرض، من خلال ممارسات، وتعبيرات نضالية، شعبية و مدنية. أهدافها قيما نقيضة للقهر والتسلط والعبودية والحكم العائلي. هذا يعني أن قضايا الحرية والديمقراطية والعدالة للضحايا ومعاقبة الجناة...، هي مسائل مرتبطة بالثورة، وبعيدة عن الوسم السيء، الآن هنا، لمفهوم الحرب الأهلية، الذي بلورته الأحكام الأيديولوجية،بوصفه- المفهوم-سردية، ضمن سرديات كثيرة، مختلفة الى حد التناقض، تناولت الحدث السوري. وهذا ما يتطلب في نظر حسام الدين قدرا كبيرا من المقاربة الموضوعية في التحليل النقدي الوصفي، مع الحذر التقويمي المعياري.دون أن يعني ذلك التنكر، لمنظورية المعرفة وذاتيتها، أو لجميع المنظورات الحاضرة في صراع السرديات.وذلك للسيطرة على المعنى والدلالة والوجود، إعلاميا وسياسيا وميدانيا، ولامتلاك الماضي، وتوثيقه بالجرم المشهود، والهدر المقصود لحياة الناس العزل.الذين تعرضوا لأشكال مختلفة من العنف الرمزي، عبر تاريخهم الحديث والمعاصر، الذي سرعان ما كشف أيضا عن وجهه- العنف الرمزي- الدموي، مع محاولة الناس، في ثورتهم، معاودة امتلاك اللغة والخطاب والمعنى المسروق لحياتهم ووجودهم.ومعركة امتلاك المعنىهذه( الحرية، الوطنية، الكرامة، الديمقراطية...) هي التي تحدد مدى قدرتهم على التحكم في زمام مصيرهم وصناعة مستقبلهم.

وانسجاما مع المقاربة النقدية المتسعة المنظور، في تحليل مختلف المنظورات التي تناولت الثورة السورية، بين نجاحها وفشلها، بين جذريتها ومرونتها السياسية، بين واقعيتها ونزوعها الأخلاقوي، بين الميوعة وغياب التقدير الموضوعي للواقع الحي، بما يفرضه من ممكنات للممارسة واختيارات في الجذرية والمرونة، والتحالفات القائمة على أساس جذرية قيم الثورة، وليس في الاختيار بين السيء والأسوأ. يقدم حسام الدين تحليلا نقديا معرفيا وصفيا، من زاوية إيديولوجية مرتبطة بالمعاني والقيم التي فجرتها الثورة، ضد الحكم العائلي الذي أعدم المعنى وبالتالي أجهز على الحياة.

رابعا في ضرورة التحليل المفاهيمي وامتلاك الملفات المعرفية والميدانية

انسجاما مع الخلفية الفلسفية المعرفية والفكرية السياسية الأيديولوجية التي ينطلق منها حسام الدين في كتابه هذا، للتأسيس لمقاربة نقدية جدلية، تحرص على توسيع المنظور، لرؤية أغلب الوجوه الواقعية والممكنة والمحتملة لكل قضية أو ظاهرة أو مشكلة ما مثل: اللجوء، الاندماج، الارتزاق...، يواصل التشديد على ضرورة ممارسة التحليل المفاهيمي. وضبطه معرفيا ومنهجيا، وسياسيا أيديولوجيا. لأنه يعرف بأن الكلمات والمصطلحات والمفاهيم، ليست بريئة ولا شفافة واضحة، بل هي مشحونة فكريا ومعياريا بمصالح وأهداف وخلفياتمغرضة. هكذا تعامل مع مفاهيم الثائر/النازح، والثائر/ المرتزق، كوضعيات إنسانية تعيش صيرورتها ومعاناتها المؤلمة. حيث وضعت الشفرة الوراثية النفسية والفكرية والمعيارية، لللاشعور الثقافي الجمعي للنازحين/اللاجئين على المحك. فقد اكتشف النازحون، الذين فرض عليهم التهجير الأسدي واقعا مرا جديدا.، مدى هشاشة تصلبهم الذهني، و الفقر المعرفي لأحكامهم المعيارية السلبية الجازمة والثابتة في حق الآخر. كما اكتشفوا أهمية الاحتكاك والتثاقف المعرفي الاجتماعي، والتفاعل الخلاق الإنساني، خلال التواصل والتعارف اليومي. الشيء الذي فتح لهم سبل عيش صيرورة ثراء الهوية والاختلاف الوجودي.

وفي هذا السياق تناول حسام الدين مفهوم الاندماج من كل جوانبه المعيارية الإيجابية والسلبية، المعاشة والمدروسة بحثيا. مبينا خطورة الاطمئنان الى المفاهيم الجاهزة التي تأخد طابع البديهياتالمنزلة . وهذا ما يحتم في نظره الاشتغال معرفيا ونقديا على مفهومي الاندماج والارتزاق. فالاشتغال العلمي المعرفي والنقدي على المفاهيم يحولها الى أدوات قادرة على إنتاج معرفة بالواقع المبحوث. ملحا على ضرورة امتلاك الأسس المعرفية والقواعد الفكرية التحليلية، الى جانب امتلاك الملفات الوضعية الميدانية للواقع الحي المعاش في تعقيده وتركيبه، في دلالاته وعلاقات أطرافه، في اكراهاته وملابساته وقواه المتحكمة في سلطة الفعل والقرار. هذا ما ينبغي وعيه وإنجازه قبل استسهال اللجوء الى العنف الرمزي، في حق الناس الذين نجهل واقعهم المرير والمفجع.

ما كان لهذا الكتاب أن يكون ثريا ومفيدا وممتعا، خلال سيرورة القراءة، إلا لأن صاحبه لم يكن يفكر بوثوقية السياسي الأيديولوجي. ولم يكن ينطلق من موقع سياسي معياري جاهز. فقد كان مسكونا بهم معرفي علمي، وسياسي إيديولوجي، يؤمن بالاشتغال النقدي على المفاهيم، كأدوات لإنتاج المعرفة وامتلاك الملفات البحثية الوضعية والميدانية، قبل ممارسة التفكير المعياري الأيديولوجي العقيم. كما أنه يرى نفسه جزءا عضويا من الحدث السوري التاريخي الذي فتح مسارات وآفاقا جديدة، حيث لا يمكن التوقف، ولا الرجوع الى الوراء.

الهوامش:

الكتاب: المعرفة والايديولوجيا في الفكر السوري المعاصر
الكاتب: د. حسام الدين درويش، أستاذ ومحاضر في قسم الدراسات الشرقية بكلية الفلسفة في جامعة كولونيا بألمانيا، وفي قسم الفلسفة/ جامعة ديسبورغ – إيسن بألمانيا.
الناشر: دار ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى