ضياء الدين خليفة - بين الأفعوان والغراب

سقطت الشمس، فأكل الظلام من السماء زرقتها، والسحب الرمادية الحبلى بالمطر أحاطت قرص القمر حتى اختنق، وألقت مطرًا غزيرًا غسل الطرق من السائرين، البرق يشق السماء شقًا فيمزقها بشروخ سرعان ما تلتئم، أبنية وبيوت عالية غلقت نوافذها حتى الأسطح لتحفظ دفئها، فوق أحد الأبنية كان شبح أسود ضبابي عظيم الهيئة، ينظر بعينين مضيئتين إلى شاب يهرب راكضًا من بلل المطر، مختصرًا طريقه بين الأزقة والدروب الضيقة، وفي كل درب يدخله الشاب يتبعه ذلك الشبح العظيم مثل ظله، وعندما خرج الشاب من الزقاق مسرعًا في خطاه، لاحظته مصابيح الإنارة لسيارة جاءت مسرعة فصرخت منذرة وفرملت، ولكن الطريق الزلق لم يسعف مكابحها، فخبطت الشاب حتى أطاحت به نحو السماء، هجمت السحب على القمر بقسوة حتى انطوى تحتها مقتولًا، ونزفت أمطارها سيولًا، ثم ومض البرق، وسقط الشاب على الطريق تحت ماء المطر المنهمر وفوقه، هربت السيارة حتى اختفت من الطريق مع اختفاء البرق فلم يلحقها الرعد الثائر غضبا، ولم يشهد تلك الجريمة سوى ذلك الشبح الأسود الذي كان يتبعه منذ وقت طويل، حتى القمر المستتر لم يرى شيئًا، رغم أن أشعة منه حاولت التسلل جاهدة من أبخرة السحب الثقيلة القاتمة، هجم الشبح على الشاب، الذي كان يلفظ شهقات الموت الأخيرة من فمه، الذي امتلأ حتى آخره بماء المطر والدماء، اقترب رويدًا حتى كادت أذرعه الممتدة تلامس وجه الشاب الصريع، ثم جاء من بعيد شبح آخر، عظيم أحمر اللون بأعين أكثر احمرارًا، فدفع الشبح الأسود بعيدًا وقال بصوت مفزع يشبه زئير الرعد:
- اتركه يا عزرائيل.. ماذا أفادك أن تقبض روحه؟!
رمقه الآخر بغضب امتزج بالعجب، وقال:
- إبليس!! وما دخل الشيطان بموت انسان؟!
نظر كل منهما للآخر بوجه مشدوه، اثنان من أشد خلق الله يجتمعان في بقعة واحدة، في ساعة موت واحدة، يقفان أمام بعضهما البعض كالأفعوان والغراب، يتبادلان مناورات ما قبل القتال على ضحية واحدة، أفعوان ضخم يعيش تحت الأرض وبين ثنايا الصخور لينفث سمًا حارقًا في العابرين، وغراب أسود يحلّق فوق الموت وحوله ليتخذ منه رزقًا ومعاشًا، أجاب إبليس:
- اتركه ليتعلم، ليعرف الحقيقة ويفهم أنني أريد له خيرًا، أخبرني أنت يا عزرائيل لماذا تريد موته؟
- أُمِرت.. فأطعت.
قال عزرائيل وأنفاس الموتى تفوح منه، وأجاب إبليس وهو يتلوى حول غراب الموت وضحيته:
- بماذا افادتك الطاعة، قضيت حياة أبدية لا وظيفة لك إلا الطاعة فماذا كسبت؟! حتى البشر يكرهونك أكثر مما يكرهونني.. أنت لهم مبغوض، وأنا معبود.
- لست ملعونا عاصيا مثلك.
قال الغراب مستهزئاً، فأجاب الأفعوان وقد بدأ يستشيط غضبًا:
- أنا لست عاصيا يا عزرائيل، أنا الأكثر طاعة فيكم، أتفهم؟ الأكثر طاعة.. ألم يأمرنا ألا نعبد إلا اياه، لماذا أراد أن نسجد إلى آدم؟ إن ذلك هو الاختبار، لقد أبيت أن أسجد إلا له وحده، حتى الآن أراكم كلكم مخطئون إلا أنا، لذا فأنا ثابت على موقفي حتى اليوم، وإلى الأبد.
ابتسم عزرائيل في سخرية من كلامه، ثم قال:
- لماذا تكره آدم هكذا يا خبيث؟
- أكره!! (وضحك وأردف) من الذي يقتله أأنا أم أنت، اقبض روحي عوضاً عنه، اقتلني أنا حتى أثبت لك أنني لا أنوي له شرا.. ألم تدرك بعد أنه ليس إلا وسيلة للخالق كي يختبرنا نحن بها، إنه أقل من أن يكون مخلوقًا، وأقل من أن أكنَّ له كرهًا، هو ليس إلا دمية رخيصة من طين أحببت أن أداعبها من حين إلى حين، فاقتلني أنا إذا أردت أن تقبض شيئا له قيمة.
هجم عليه عزرائيل بقوة، دفعه بعيدًا ثم قال:
- خبيث ومغرور! جئت تغويني أنا أيضا، ليته يأمرني بأن أقبض روحك وأنا لن أتردد.
قليلًا حتى استعاد ابليس هدوئه فاستطرد يلومه بصوت خفيض، وهو يدنو منه ببطء شديد:
- انظر كيف نمضي، ألم نكن أصدقاء، قبل كل هذا، وقبل آدم، ألم نكن أصدقاء، أنا وأنت بالجنة، أتذكر؟ لماذا حدث كل ذلك! أليس هو السبب.. أليس آدم السبب يا صديقي؟
- بل السبب أنك لم تطيع.
قالها عزرائيل فأغضبته الكلمة من جديد حتى كاد وجهه يتوهج نارًا من شدة السخط، وارتفع صوته صارخًا:
- بماذا أفادتك الطاعة يا عزرائيل، أخبرني ماذا أخذت يا مكروه، تسير هائمًا بين أرواحهم، كالمملقين بين النفايات يبحثون عن رزق رخيص، أنت لهم شؤم وموت وفراق وحزن وفزع، لقد جعلك ربك مكروه أكثر مني وأنت لم تفعل شيء، أنت مثلي تماما ولكنني أكثر منك عزة وقوة.
- لا تشبّهني بك يا خبيث، واتركني أتمم ما أنزلت من أجله.
قال عزرائيل ثم انقضّ على الشاب المحتضر يقبض روحه، تصلبت أطرافه وارتسمت سكرات الموت على ملامحه، شاب وسيم أحاله الموت بغتة صورة للقبح، خير مثال أن الجمال يكمن في الروح، هدأ جسده تمامًا بعد انتفاضة أخيرة، ذلك بينما يصرخ الشيطان خلفه:
- اتركه، اتركه حتى اريكم حقيقة من سجدتم اليه..
وخرجت روح الشاب مثل نجمة لامعة تعدو نحو السماء عدوًا، ثم استقر المطر وغابت الغيوم، فظهر القمر المتواري شاحبًا، وأردف الغراب قبل أن يترك الساحة منقضيًا:
- إن موته رحمة له من وساوسك، فالموت نهاية للمعاناة والشرور.
وتمتم الأفعوان ساخرًا:
- كم يضحكني أن أرى قابض الأرواح يتكلم عن الرحمة.
واختفى إبليس كانطفاء النار من الريح، ولم يبقى على الطريق سوى جثة خرج منها صاحبها، فأصبحت مثل تربة بني الموت منها بيتًا واستقر فيه.

ضيــــاء الديــن خليفـة
أعلى