محمد داني - في عوالم (يوسف الفحمي) الشعرية، للسهلي عويشي

هل يمكن لنا أن نعتبر النص الشعري الذي أنجزه الشاعر السهلي عويشي نصا ذا خطاب متماسك؟ ما الأشياء التي حققت نصيته؟..
إن نصوص السهلي عويشي الشعرية لا تخلو من رسالة، جميع عناصرها تؤدي وظيفتها الشعرية، وتشكل الخطاب. وما يميز هذا الخطاب الشعري عند شاعرنا عويشي هو تضمنه بنية سردية ، تحمل قصة يعمل الشاعر على تقديمها إلى المتلقي بصورة فنية وجمالية. وبالتالي نصه الشعري حُدَّ بأبعاد ثلاثة: اللغة والإيقاع، والسرد.
إن عمله الشعري (يوسف الفحمي)، عنوانه مفتاح تجربته الشعرية، وهو يحيل على الغائب الكامن في الذاكرة النصية، ويوحي بذاكرة مؤلمة. كما يتضمن قصة مدينة.. قصة ألم وجرد.
وهو في نفس الوقت رسالة شكلت اتصالا وانفصالا. فهو وضع في رمزية يوسف ووصفه وتوصيفه (الفحمي) كاسم للمجموعة الشعرية. هذا العنوان في نفس الوقت علامة لها دلالتها. فقد خلق فعلا تواصليا ما بين النص الشعري والقارئ. وهو عنوان لخطاب: هل (يوسف الفحمي) مجرد ذات ام مجرد زمن؟ أم هو صورة لوضع اجتماعي؟ أو صورة لمأساة إنسانية يريد أن يقدمها عبر هذا الخطاب الشعري؟.
إن هذا العنوان يثير فينا كمتلقين احتمالات وتوقعات كثيرة.
تقع جملة (يوسف الفحمي) مسندا إليه في تقدير حذفين: الأول قبلي، كقولنا (مات يوسف الفحمي)، فيأتي فاعلا للفعل (مات)، ويعطي التركيب جملة فعلية لها دلالتها تغييرا وتحولا.
والثاني: بعدي، كقولنا: (يوسف الفحمي نائم)، فأصبح (يوسف) مبتدأ و(نائم) خبرا، مشكلا صورة جملة اسمية اتصفت بالثبات. والحال مختلف في البعدين أو في الجملتين. ففي الجملة الفعلية تصور الجملة الحالة الماثلة، وفي الجملة الاسمية تمثل الحالة الدائمة.
وعندما نتمعن في الخطاب الشعري في المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي)، نجد أنه يتضمن مجموعة من المعينات Diexis التي تشكل مرجعيته الخطابية، وتشكل نواته التواصلية والتي نمثلها بالخطاطة التالية:
الإنسان المكان الزمان
الشاعر يوسف الفحمي المتلقي جرادة المنجم المساء لا زمان
مرسل الرسالة المتلقي مرجع رسالة
وظيفة انفعالية و. انطباعية و. مرجعية و. شعرية
حضور كثيف صور
حركية مركبة
الكشف/ الشعر
تحيل خطاطة شبكة المعينات إلى أن الرسالة التي يحملها الخطاب الشعري محصورة بين الزمن والحالة وتغيرها. وهو ما يجعل الوظيفة المرجعية والشعرية أكثر حضورا وشيوعا.
والنص الشعري عند السهلي عويشي تجاوز فيه الشعري إلى السرد و الحكائية. ومن ثمة توفر هذا النص الشعري على جميع أركان الفعل السردي. وهذا خلق سردية شعرية وظفت فيها تقنيات السرد. وقد جاءت على الشكل التالي:
العنصر يوسف الفحمي
الحكي - السارد: الشاعر، لا يتعدد.
- يستعمل السرد المباشر، ويتساوى فيه المتن والمبنى.
الصيغة - التوتر
الزمن - الماضي- الذاكرة- الاسترجاع والارتداد.
-قصدية النص الشعري:
إن النص الشعري عند السهلي عويشي يعمل في ثناياه قصدا تأثيريا. فالشاعر يريد أن يوصل حالة إنسانية واجتماعية ومأساوية إلى المتلقي. فعنونها في شموليتها ب(يوسف الفحمي).
والجميل أننا نجد في شعره عبارات تحكل مدلولات معاكسة لمدلولها الحرفي من باب الاستنكار والغضب، والصدمة، كما في قوله:
أهذه مدينتي؟
كلما قدمت إليها
استقبلتني الديار بالغبار
والمدينة كلها
قد غطاها الضباب
أهذه مدينتي؟
أسمع فيها:
أنين اليتامى
والجائعين.
فالشاعر يستنكر ما وجد عليه مدينته ، وما تعيشه من فراغ، وفقر وسواد وألم، وموت. ومن ثمة فهو قد خالف مبدأ التعاون الذي وضعه جرايس. فهو لم يقصد السؤال، لأنه يعرف حقا أن هذه مدينته (مدينة جرادة)، لكنه يستنكر ما يشاهده فيها. يستنكر مظاهرها التي أصبحت ملازمة لها.
وللوقوف على دلالية النص الشعري وجماليته عند السهلي عويشي، يلزم الوقوف على إشارياته ces déictiques. ومن هذه الإشاريات:
* الإشاريات الشخصية: ونقصد بها الضمائر بمختلف تلويناتها، والتي يتحدد مرجعها في سياق خطاب تداولي. فنجد الشاعر السهلي عويشي يستخدم ضمير (أنا) في بعض قصائده، كما في قصيدته ( أين أنت يا أبي):
أنا الطفل الفحمي
أنا الطفل المنسي
يا أبتي..
أتيتك
كي أتلو صلاة الغائب
على عامل
لم نعثر على جثته بين الحفر
وعند قراءتنا لهذا المقطع الشعري، نستطيع أن نحدد مرجع العنصر الإشاري (أنا) في سياقها، حيث تشير (أنا) إلى الشاعر/ الذات الشاعرة. وقد وظفت في المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي) التي تتكون من 1669 كلمة، سبع مرات، محققة نسبة 0.41%.
لكن هناك إشاريات شخصية دالة على ضمير المتكلم، تمثلت في همزة المضارعة، وياء المتكلم، وتاء المتحركة. كما جاءت الضمير الدالة على الجمع (نحن)، وتتمثل في (نا) الدالة على متكلمين وأكثر. وهذا يعطينا إشارة إلى أزمة الذات والشرخ الذي تعانيه.
* الإشاريات الزمنية: وهي الكلمات التي تدل على زمان ما، يحدد حسب التلفظ الذي يشكل مرجعية في فهم الخطاب الشعري. كما يزيل السياق التخاطبي لبوسها وغموضها.
وقد وردت إشاريات زمانية في المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي) خالية من تحديد زمن الخطاب ،أو زمن التلفظ. كما في قوله من قصيدة (الأرض جارحة):
ترشف الماء
من ينبوعك العذب
واليوم صرنا
نسعى بلا بوصلة
والجسد منهوش
مثقوب بالجروح
هذا اليوم الذي صار فيه السعي بلا بوصلة، وإن خلا من زمن التلفظ الذي قيلت فيه القصيدة. إلا أنه من خلال السياق يدل على اليوم الذي سقط فيه والد الشاعر مريضا، منهوكا القوى ولزم الفراش، وانقطع عن العمل. بينما في قصيدته (أبي)، والتي يقول فيها:
أب البسطاء
والفقراء
ودعني في الصباح
وغنى أغنية حزينة
في المساء
ومات.
فإنه قد ورد عنصران إشاريان زمانيا: (في الصباح- في المساء)، والذي نفهم من خلالهما ذهابه إلى العمل صباحا، وفي المساء مات، بعدما انهد عليه سقف الغار.
* الإشاريات المكانية: وهي إشاريات دالة على المكان. تتحدد بألفاظ تدل على مكان التلفظ وزمنه، كظروف المكان، وأسماء الإشارة ( ذلك- هنا- هناك). والسهلي عويشي وظف في مجموعته الشعرية ، مجموعة من الإشاريات المكانية، كما في قوله من قصيدة ( حكاية الحزن):
هديل شجي من النساء يأتي
صداه يتردد قرب النهر
قرب النخل
وسعف يوشوش في صدري
حكايات الحزن المر.
وفي هذاالمقطع وظف إشارية مكانية (قرب) والتي تكررت مرتين، وقد أخذت بعدها الاجتماعي والإنساني، حيث صور الشاعر عويشي تجمع النساء وحديثهن في أمور شتى إما قرب النهر وهن يستقين الماء، أو يصبن غسيلهن، أو وهن جالسات في ظل نخلة يتجاذبن أطراف الحديث عن الهم المأساوي الذي تعيشه جرادة وساكنتها.
- نظرية الكلام:
اهتمت التداولية بتحليل الأفعال الكلامية، وبوظائف المنطوقات اللغوية. وقد تضمنت المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي) ملفوظات إنجازية أو أفعال أدائية. فالفعل الكلامي المنطوق في المجموعة الشعرية أعطانا ثلاثة أفعال في الوقت نفسه:
أ)- الفعل اللفظي: وهو يحتوي فعلا صوتيا بمجرد التلفظ بالعبارة، وفعلا تركيبيا، وفعلا دلاليا يمثل معنى حرفيا للتركيب ومرجعا له. وتنجز كل هذه الأفعال في وقت واحد.
ب)- الفعل الإنجازي: وهو العمل الذي يتحقق بقولنا شيئا ما في الاستعمال. ويقصد أوستين بعبارته هذه ما ينوي تحقيقه المتكلم عندما ينطق جملة مفيدة، كالأمر، او النهي، أو النصيحة، أو التأنيب.
ج)- الفعل التأثري / لازم فعل الكلام: وهو الأثر الذي يحدثه التلفظ بالسامع أو المخاطب.
يقول السهلي عويشي:
يتسولون باسم من ذهبوا
و من لم يذهبوا
خذوا أمتعتكم
وفروا
خذوا حقائبكم
أقلامكم
دفاتركم
أحلامكم
و ارحلوا
أحال الشاعر عويشي في هذا الفعل القولي على المخاطبين (الأنتم) في ( خذوا التي تكررت خمس مرات- فروا- ارحلوا) بصيغة الأمر.
وقوله كذلك:
بالأمس أكان الهوى؟
اخرجي من دائرة التيه
قولي شيئا
انتفضي
اقتليني
أو احييني
فصوتك زغرودة حزينة
وقوله كذلك:
وأبوك كم كان يقول:
يا ولدي
هذه الفاكهة
بيديك لا تقربها
لا تنحتها
كل مما تنبت الأرض من عشبها
أو اهبط إلى مدن أخرى
و أحال على المخاطب (الأنتَ)و(الأنتِ) في ( اخرجي- قولي- انتفضي- اقتليني- أحييني- كل- اهبط) بصيغة الأمر. و على المخاطب (الأنتَ) أيضا في أسلوب النهي (لا تقرب- لا تنحت).
أما الفعل التوجيهي والإرشادي، فيتمثل في النصيحة الموجهة من الأب إلى الابن، والأمر والطلب بالابتعاد عن فاكهة الشتاء، وهي النار والفحم الحجري، وعدم الحفر عنها، والسعي في الأرض إذا ضاقت عنه جرادة برزقها وهوائها.
وأفعال الكلام قد نبهت إلى مأساة جرادة، وما ترك الفحم الأسود من جراح. فكثير من المنجميين انهالت عليهم أسقف السراديب الفحمية، وكثير منهم من نخر الأنتراسيت رئتهم، وسكن السعال حلوقهم.
والمجموعة الشعرية( يوسف الفحمي) رغم بساطة قصائدها وسهولة لفاظها ولعتها، إلا أنها مؤثرة ومثيرة للعواطف، وموقظة للأحاسيس والمواجع. لأنها تعطينا صورة عن جرادة ومأساتها. وتنبهما إلى مأساة ساكنتها ومرضاها. كما انها تصف الواقع الأليم الذي تعيشه مدينة جرادة.
- سيميائية اللون في شعره:
يشكل اللون في المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي) جمالية غير محدودة. وقد لفت النظر استخدام اللون لميل الشاعر عويشي إلى التصوير باللغة والكلمات في شعره. ويرى أن اللون يؤدي وظيفته الدلالية، وقد استخدم اللون في مجموعته الشعرية إما بطريقة صريحة ، أو من خلال السياق ، أو الاشتقاق اللفظي، أو المدلول المعنوي. وقد تكرر اللون 178 مرة ، وحقق تكراره نسبة 10.66%. وقد تم توظيف اللون على مستويات عدة، منها:
* مستوى الغلاف/ أيقونة الصورة: إذا ما تمعنا في غلاف المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي)، نجد أنه يعتمد لوحة من إنجاز الفنان عبد الغفار حلوي، وهي ذات لونين الأبيض والأسود، أي مشكلة من الألوان الأكروماتية.
* مستوى العنونة: فقد عنون المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي)، حيث اعتمد التوصيف باللون. وكذلك نفس الشيء قام به في ( أنا يوسف الفحمي، ص:40- أنا طفلك الفحمي ، ص:53).
* مستوى تشكيل النص الشعري: حيث يصبح اللون من أساسيات المعنى. وتدور حوله القصيدة، ويعطيها بعدها الدلالي والدرامي، كما في قصيدته (أحفاد سيزيف)، والتي قول فيها:
ضباب كثيف يكسو المدينة
والذاهبون إلى الآبار
للبحث عن فاكهة سوداء
يدخلون/ لا يعرفون
هل هم باقون
أم عائدون
ومن الجباه
من الجروح
والوجوه المكدودة
ينبعث النور والضياء
في الصباح
تختنق المدينة بالضباب
وكل شيء يبدو في لون السواد
الأرض/ السماء/ النبات/ الإنسان..
عندما نتمعن في هذا المقطع الشعري نجد أن اللون الأسود شكل درامية النص، وشكل مأساة شخوصها وأمكنتها. إن هذا السواد الضارب المدينة يبرهن على بؤسها وفقرها، ومرضها، ومعاناتها. فالضباب الرمادي يخنقها، وسواد الأتربة والغبار الفحمي يسد منافذها..
يقول العويسي في ( انا يوسف الفحمي):
لم نكن نعرف
طعم الزيتون
ولا طعم الليمون
كل ما كان
رغيف فحمي
وحليب فحمي
كنا نرضعه كم أثداء أمهاتنا
ولعب فحمية
نصنعها بأيدينا كل شيء كان بلون الفحم
إن اللون الأسود أصبح حياة مدينة بكلمها، ومصير أناسها. إنه أصبح يشكل حالة الضيق التي تحسها المدينة ويعيشها سكانها. لا شيء تراه إلا اللون الأسود.
إن اللون الأسود أصبح جوهر القصيدة كلها، ليعطي الصورة الحقيقية للمأساة التي تعيشها مدينة جرادة (مرض- فقر- اللا انتماء- اللاهوية- الفراغ- الضياع- فقدان الأمل- الموت).
المستوى الاستعاري والكنائي: لقد وظف السهلي عويشي اللون كتشبيه أو استعارة، أو كناية...
تغرب الشمس فوق المغارة
تأتي الغربان
تنقر
تنقر الفاكهة
يستعير الشاعر صورا حسية طبيعية، متشحة بالسواد. فيشبه المنجميين بالغربان، وحفرهم بالنقر، وما يستخرجونه من فحم حجري بالفاكهة.
وقد استعار لون الغربان ليصف به المنجميين، حيث يعلق بهم غبار الفحم، فتنمحي ملامحهم، وتتحول إلى سواد .
وجل الألوان التي استعملها ووظفها، هي ألوان أكروماتية(الأسود- الأبيض- الرمادي)، وقد تكررت 87 مرة موزعة على الشكل التالي:( الأسود 65 مرة- الأبيض 10 مرات- الرمادي 12 مرة). كما نجد أيضا:
- الألوان الأساسية: تكررت 52 مرة ( أخضر تكرر 12 مرة – أحمر 19 مرة – أصفر 8 مرات – أزرق 13 مرة). في عوالم (يوسف الفحمي ) الشعرية، للسهلي عويشي
هل يمكن لنا أن نعتبر النص الشعري الذي أنجزه الشاعر السهلي عويشي نصا ذا خطاب متماسك؟ ما الأشياء التي حققت نصيته؟..
إن نصوص السهلي عويشي الشعرية لا تخلو من رسالة، جميع عناصرها تؤدي وظيفتها الشعرية، وتشكل الخطاب. وما يميز هذا الخطاب الشعري عند شاعرنا عويشي هو تضمنه بنية سردية ، تحمل قصة يعمل الشاعر على تقديمها إلى المتلقي بصورة فنية وجمالية. وبالتالي نصه الشعري حُدَّ بأبعاد ثلاثة: اللغة والإيقاع، والسرد.
إن عمله الشعري (يوسف الفحمي)، عنوانه مفتاح تجربته الشعرية، وهو يحيل على الغائب الكامن في الذاكرة النصية، ويوحي بذاكرة مؤلمة. كما يتضمن قصة مدينة.. قصة ألم وجرد.
وهو في نفس الوقت رسالة شكلت اتصالا وانفصالا. فهو وضع في رمزية يوسف ووصفه وتوصيفه (الفحمي) كاسم للمجموعة الشعرية. هذا العنوان في نفس الوقت علامة لها دلالتها. فقد خلق فعلا تواصليا ما بين النص الشعري والقارئ. وهو عنوان لخطاب: هل (يوسف الفحمي) مجرد ذات ام مجرد زمن؟ أم هو صورة لوضع اجتماعي؟ أو صورة لمأساة إنسانية يريد أن يقدمها عبر هذا الخطاب الشعري؟.
إن هذا العنوان يثير فينا كمتلقين احتمالات وتوقعات كثيرة.
تقع جملة (يوسف الفحمي) مسندا إليه في تقدير حذفين: الأول قبلي، كقولنا (مات يوسف الفحمي)، فيأتي فاعلا للفعل (مات)، ويعطي التركيب جملة فعلية لها دلالتها تغييرا وتحولا.
والثاني: بعدي، كقولنا: (يوسف الفحمي نائم)، فأصبح (يوسف) مبتدأ و(نائم) خبرا، مشكلا صورة جملة اسمية اتصفت بالثبات. والحال مختلف في البعدين أو في الجملتين. ففي الجملة الفعلية تصور الجملة الحالة الماثلة، وفي الجملة الاسمية تمثل الحالة الدائمة.
وعندما نتمعن في الخطاب الشعري في المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي)، نجد أنه يتضمن مجموعة من المعينات Diexis التي تشكل مرجعيته الخطابية، وتشكل نواته التواصلية والتي نمثلها بالخطاطة التالية:
الإنسان المكان الزمان
الشاعر يوسف الفحمي المتلقي جرادة المنجم المساء لا زمان
مرسل الرسالة المتلقي مرجع رسالة
وظيفة انفعالية و. انطباعية و. مرجعية و. شعرية
حضور كثيف صور
حركية مركبة
الكشف/ الشعر
تحيل خطاطة شبكة المعينات إلى أن الرسالة التي يحملها الخطاب الشعري محصورة بين الزمن والحالة وتغيرها. وهو ما يجعل الوظيفة المرجعية والشعرية أكثر حضورا وشيوعا.
والنص الشعري عند السهلي عويشي تجاوز فيه الشعري إلى السرد و الحكائية. ومن ثمة توفر هذا النص الشعري على جميع أركان الفعل السردي. وهذا خلق سردية شعرية وظفت فيها تقنيات السرد. وقد جاءت على الشكل التالي:
العنصر يوسف الفحمي
الحكي - السارد: الشاعر، لا يتعدد.
- يستعمل السرد المباشر، ويتساوى فيه المتن والمبنى.
الصيغة - التوتر
الزمن - الماضي- الذاكرة- الاسترجاع والارتداد.
-قصدية النص الشعري:
إن النص الشعري عند السهلي عويشي يعمل في ثناياه قصدا تأثيريا. فالشاعر يريد أن يوصل حالة إنسانية واجتماعية ومأساوية إلى المتلقي. فعنونها في شموليتها ب(يوسف الفحمي).
والجميل أننا نجد في شعره عبارات تحكل مدلولات معاكسة لمدلولها الحرفي من باب الاستنكار والغضب، والصدمة، كما في قوله:
أهذه مدينتي؟
كلما قدمت إليها
استقبلتني الديار بالغبار
والمدينة كلها
قد غطاها الضباب
أهذه مدينتي؟
أسمع فيها:
أنين اليتامى
والجائعين.
فالشاعر يستنكر ما وجد عليه مدينته ، وما تعيشه من فراغ، وفقر وسواد وألم، وموت. ومن ثمة فهو قد خالف مبدأ التعاون الذي وضعه جرايس. فهو لم يقصد السؤال، لأنه يعرف حقا أن هذه مدينته (مدينة جرادة)، لكنه يستنكر ما يشاهده فيها. يستنكر مظاهرها التي أصبحت ملازمة لها.
وللوقوف على دلالية النص الشعري وجماليته عند السهلي عويشي، يلزم الوقوف على إشارياته ces déictiques. ومن هذه الإشاريات:
* الإشاريات الشخصية: ونقصد بها الضمائر بمختلف تلويناتها، والتي يتحدد مرجعها في سياق خطاب تداولي. فنجد الشاعر السهلي عويشي يستخدم ضمير (أنا) في بعض قصائده، كما في قصيدته ( أين أنت يا أبي):
أنا الطفل الفحمي
أنا الطفل المنسي
يا أبتي..
أتيتك
كي أتلو صلاة الغائب
على عامل
لم نعثر على جثته بين الحفر
وعند قراءتنا لهذا المقطع الشعري، نستطيع أن نحدد مرجع العنصر الإشاري (أنا) في سياقها، حيث تشير (أنا) إلى الشاعر/ الذات الشاعرة. وقد وظفت في المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي) التي تتكون من 1669 كلمة، سبع مرات، محققة نسبة 0.41%.
لكن هناك إشاريات شخصية دالة على ضمير المتكلم، تمثلت في همزة المضارعة، وياء المتكلم، وتاء المتحركة. كما جاءت الضمير الدالة على الجمع (نحن)، وتتمثل في (نا) الدالة على متكلمين وأكثر. وهذا يعطينا إشارة إلى أزمة الذات والشرخ الذي تعانيه.
* الإشاريات الزمنية: وهي الكلمات التي تدل على زمان ما، يحدد حسب التلفظ الذي يشكل مرجعية في فهم الخطاب الشعري. كما يزيل السياق التخاطبي لبوسها وغموضها.
وقد وردت إشاريات زمانية في المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي) خالية من تحديد زمن الخطاب ،أو زمن التلفظ. كما في قوله من قصيدة (الأرض جارحة):
ترشف الماء
من ينبوعك العذب
واليوم صرنا
نسعى بلا بوصلة
والجسد منهوش
مثقوب بالجروح
هذا اليوم الذي صار فيه السعي بلا بوصلة، وإن خلا من زمن التلفظ الذي قيلت فيه القصيدة. إلا أنه من خلال السياق يدل على اليوم الذي سقط فيه والد الشاعر مريضا، منهوكا القوى ولزم الفراش، وانقطع عن العمل. بينما في قصيدته (أبي)، والتي يقول فيها:
أب البسطاء
والفقراء
ودعني في الصباح
وغنى أغنية حزينة
في المساء
ومات.
فإنه قد ورد عنصران إشاريان زمانيا: (في الصباح- في المساء)، والذي نفهم من خلالهما ذهابه إلى العمل صباحا، وفي المساء مات، بعدما انهد عليه سقف الغار.
* الإشاريات المكانية: وهي إشاريات دالة على المكان. تتحدد بألفاظ تدل على مكان التلفظ وزمنه، كظروف المكان، وأسماء الإشارة ( ذلك- هنا- هناك). والسهلي عويشي وظف في مجموعته الشعرية ، مجموعة من الإشاريات المكانية، كما في قوله من قصيدة ( حكاية الحزن):
هديل شجي من النساء يأتي
صداه يتردد قرب النهر
قرب النخل
وسعف يوشوش في صدري
حكايات الحزن المر.
وفي هذاالمقطع وظف إشارية مكانية (قرب) والتي تكررت مرتين، وقد أخذت بعدها الاجتماعي والإنساني، حيث صور الشاعر عويشي تجمع النساء وحديثهن في أمور شتى إما قرب النهر وهن يستقين الماء، أو يصبن غسيلهن، أو وهن جالسات في ظل نخلة يتجاذبن أطراف الحديث عن الهم المأساوي الذي تعيشه جرادة وساكنتها.
- نظرية الكلام:
اهتمت التداولية بتحليل الأفعال الكلامية، وبوظائف المنطوقات اللغوية. وقد تضمنت المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي) ملفوظات إنجازية أو أفعال أدائية. فالفعل الكلامي المنطوق في المجموعة الشعرية أعطانا ثلاثة أفعال في الوقت نفسه:
أ)- الفعل اللفظي: وهو يحتوي فعلا صوتيا بمجرد التلفظ بالعبارة، وفعلا تركيبيا، وفعلا دلاليا يمثل معنى حرفيا للتركيب ومرجعا له. وتنجز كل هذه الأفعال في وقت واحد.
ب)- الفعل الإنجازي: وهو العمل الذي يتحقق بقولنا شيئا ما في الاستعمال. ويقصد أوستين بعبارته هذه ما ينوي تحقيقه المتكلم عندما ينطق جملة مفيدة، كالأمر، او النهي، أو النصيحة، أو التأنيب.
ج)- الفعل التأثري / لازم فعل الكلام: وهو الأثر الذي يحدثه التلفظ بالسامع أو المخاطب.
يقول السهلي عويشي:
يتسولون باسم من ذهبوا
و من لم يذهبوا
خذوا أمتعتكم
وفروا
خذوا حقائبكم
أقلامكم
دفاتركم
أحلامكم
و ارحلوا
أحال الشاعر عويشي في هذا الفعل القولي على المخاطبين (الأنتم) في ( خذوا التي تكررت خمس مرات- فروا- ارحلوا) بصيغة الأمر.
وقوله كذلك:
بالأمس أكان الهوى؟
اخرجي من دائرة التيه
قولي شيئا
انتفضي
اقتليني
أو احييني
فصوتك زغرودة حزينة
وقوله كذلك:
وأبوك كم كان يقول:
يا ولدي
هذه الفاكهة
بيديك لا تقربها
لا تنحتها
كل مما تنبت الأرض من عشبها
أو اهبط إلى مدن أخرى
و أحال على المخاطب (الأنتَ)و(الأنتِ) في ( اخرجي- قولي- انتفضي- اقتليني- أحييني- كل- اهبط) بصيغة الأمر. و على المخاطب (الأنتَ) أيضا في أسلوب النهي (لا تقرب- لا تنحت).
أما الفعل التوجيهي والإرشادي، فيتمثل في النصيحة الموجهة من الأب إلى الابن، والأمر والطلب بالابتعاد عن فاكهة الشتاء، وهي النار والفحم الحجري، وعدم الحفر عنها، والسعي في الأرض إذا ضاقت عنه جرادة برزقها وهوائها.
وأفعال الكلام قد نبهت إلى مأساة جرادة، وما ترك الفحم الأسود من جراح. فكثير من المنجميين انهالت عليهم أسقف السراديب الفحمية، وكثير منهم من نخر الأنتراسيت رئتهم، وسكن السعال حلوقهم.
والمجموعة الشعرية( يوسف الفحمي) رغم بساطة قصائدها وسهولة لفاظها ولعتها، إلا أنها مؤثرة ومثيرة للعواطف، وموقظة للأحاسيس والمواجع. لأنها تعطينا صورة عن جرادة ومأساتها. وتنبهما إلى مأساة ساكنتها ومرضاها. كما انها تصف الواقع الأليم الذي تعيشه مدينة جرادة.
- سيميائية اللون في شعره:
يشكل اللون في المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي) جمالية غير محدودة. وقد لفت النظر استخدام اللون لميل الشاعر عويشي إلى التصوير باللغة والكلمات في شعره. ويرى أن اللون يؤدي وظيفته الدلالية، وقد استخدم اللون في مجموعته الشعرية إما بطريقة صريحة ، أو من خلال السياق ، أو الاشتقاق اللفظي، أو المدلول المعنوي. وقد تكرر اللون 178 مرة ، وحقق تكراره نسبة 10.66%. وقد تم توظيف اللون على مستويات عدة، منها:
* مستوى الغلاف/ أيقونة الصورة: إذا ما تمعنا في غلاف المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي)، نجد أنه يعتمد لوحة من إنجاز الفنان عبد الغفار حلوي، وهي ذات لونين الأبيض والأسود، أي مشكلة من الألوان الأكروماتية.
* مستوى العنونة: فقد عنون المجموعة الشعرية (يوسف الفحمي)، حيث اعتمد التوصيف باللون. وكذلك نفس الشيء قام به في ( أنا يوسف الفحمي، ص:40- أنا طفلك الفحمي ، ص:53).
* مستوى تشكيل النص الشعري: حيث يصبح اللون من أساسيات المعنى. وتدور حوله القصيدة، ويعطيها بعدها الدلالي والدرامي، كما في قصيدته (أحفاد سيزيف)، والتي قول فيها:
ضباب كثيف يكسو المدينة
والذاهبون إلى الآبار
للبحث عن فاكهة سوداء
يدخلون/ لا يعرفون
هل هم باقون
أم عائدون
ومن الجباه
من الجروح
والوجوه المكدودة
ينبعث النور والضياء
في الصباح
تختنق المدينة بالضباب
وكل شيء يبدو في لون السواد
الأرض/ السماء/ النبات/ الإنسان..
عندما نتمعن في هذا المقطع الشعري نجد أن اللون الأسود شكل درامية النص، وشكل مأساة شخوصها وأمكنتها. إن هذا السواد الضارب المدينة يبرهن على بؤسها وفقرها، ومرضها، ومعاناتها. فالضباب الرمادي يخنقها، وسواد الأتربة والغبار الفحمي يسد منافذها..
يقول العويسي في ( انا يوسف الفحمي):
لم نكن نعرف
طعم الزيتون
ولا طعم الليمون
كل ما كان
رغيف فحمي
وحليب فحمي
كنا نرضعه كم أثداء أمهاتنا
ولعب فحمية
نصنعها بأيدينا كل شيء كان بلون الفحم
إن اللون الأسود أصبح حياة مدينة بكلمها، ومصير أناسها. إنه أصبح يشكل حالة الضيق التي تحسها المدينة ويعيشها سكانها. لا شيء تراه إلا اللون الأسود.
إن اللون الأسود أصبح جوهر القصيدة كلها، ليعطي الصورة الحقيقية للمأساة التي تعيشها مدينة جرادة (مرض- فقر- اللا انتماء- اللاهوية- الفراغ- الضياع- فقدان الأمل- الموت).
المستوى الاستعاري والكنائي: لقد وظف السهلي عويشي اللون كتشبيه أو استعارة، أو كناية...
تغرب الشمس فوق المغارة
تأتي الغربان
تنقر
تنقر الفاكهة
يستعير الشاعر صورا حسية طبيعية، متشحة بالسواد. فيشبه المنجميين بالغربان، وحفرهم بالنقر، وما يستخرجونه من فحم حجري بالفاكهة.
وقد استعار لون الغربان ليصف به المنجميين، حيث يعلق بهم غبار الفحم، فتنمحي ملامحهم، وتتحول إلى سواد .
وجل الألوان التي استعملها ووظفها، هي ألوان أكروماتية(الأسود- الأبيض- الرمادي)، وقد تكررت 87 مرة موزعة على الشكل التالي:( الأسود 65 مرة- الأبيض 10 مرات- الرمادي 12 مرة). كما نجد أيضا:
- الألوان الأساسية: تكررت 52 مرة ( أخضر تكرر 12 مرة – أحمر 19 مرة – أصفر 8 مرات – أزرق 13 مرة).
- الألوان الثانوية أو الهامشية: وهي ما خرج عن الألوان أعلاه. تكررت 12 مرة( بني- البنفسجي- وردي)
- واللون الأسود أو ما دل عليه في المجموعة الشعرية.
واللون السائد هو الأسود. وهو لون المرض والحرمان والموت، والفقر والألم، والجراح، والضياع، والشقاء، والخوف والقهر...
فاللون كما نرى يشكل دلالة قوية. فالسواد يعلن عن فضائية الخطاب حسب الزمن (الليل)، يوحي بسواده وظلمته وداخل المنجم حيث ينعدم الزمن، يشكل فحمه سوادا يشكل استمرارية الليل. وبالتالي نستنتج علاقة أو صورة حركية ما بين الفضاء والنفس البشرية.
من هنا نجد تناسبا ما بين البنيات العليا والبنيات الكبرى، والدلالية ومن ثمة تشكلت ثنائية: استمرار الظلام- ديمومة الزمن وديمومة الخوف- الظلام واللانور- القلق والخوف واللاهدوء- الاضطراب واللااستقرار- الانقباض واللامتعة- مما يخلق في النص الشعري بعض الثنائيات الضدية.. وتتضح عندما نعرضها على المربع السيميائي:
نور ظلام راحة تعب
إثبات = أمل نفي = خوف
لا ظلام لا نور لا تعب لا راحة
ما تحت التضاد ما تحت التضاد
رؤية الشاعر رؤية يوسف الفحمي
- الألوان الثانوية أو الهامشية: وهي ما خرج عن الألوان أعلاه. تكررت 12 مرة( بني- البنفسجي- وردي)
- واللون الأسود أو ما دل عليه في المجموعة الشعرية.
واللون السائد هو الأسود. وهو لون المرض والحرمان والموت، والفقر والألم، والجراح، والضياع، والشقاء، والخوف والقهر...
فاللون كما نرى يشكل دلالة قوية. فالسواد يعلن عن فضائية الخطاب حسب الزمن (الليل)، يوحي بسواده وظلمته وداخل المنجم حيث ينعدم الزمن، يشكل فحمه سوادا يشكل استمرارية الليل. وبالتالي نستنتج علاقة أو صورة حركية ما بين الفضاء والنفس البشرية.
من هنا نجد تناسبا ما بين البنيات العليا والبنيات الكبرى، والدلالية ومن ثمة تشكلت ثنائية: استمرار الظلام- ديمومة الزمن وديمومة الخوف- الظلام واللانور- القلق والخوف واللاهدوء- الاضطراب واللااستقرار- الانقباض واللامتعة- مما يخلق في النص الشعري بعض الثنائيات الضدية.. وتتضح عندما نعرضها على المربع السيميائي:
نور ظلام راحة تعب
إثبات = أمل نفي = خوف
لا ظلام لا نور لا تعب لا راحة
ما تحت التضاد ما تحت التضاد
رؤية الشاعر رؤية يوسف الفحمي





(فصل من كتاب (مقاربة نقدية في القصيدة المغربية المعاصرة)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى