طه حسين - النص الكامل لكتاب في الشعر الجاهلي.. الكتاب الثاني

الكتاب الثاني

أسباب انتحال الشعر

-1 ليس الانتحال مقصورا علي العرب

يجب أن يتعود الباحث درس تاريخ الأمم القديمة التي قدر لها أن تقوم بشيء من جلائل الأعمال ، وما اعترض حياتها من الصعاب والمحن وألوان الخطوب والصروف ، ليفهم تاريخ الأمة العربية علي وجهه ويرد كل شيء فيه إلي أصله .
وإذا كان هناك شيء يؤخذ به الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم فلم يوفقوا إلي الحق فيه .
فهو أنهم لم يلموا إلماما كافيا بتاريخ هذه الأمم القديمة ، أو لم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية والأمم التي خلت من قبلها ، وإنما نظروا غلي هذه الأمة العربية كأنها امة فذة لم تعرف أحدا ولم يعرفها احد ، لم تشبه احد ولم يشبهها احد ، لم تؤثر في احد ولم يؤثر فيها احد ، قبل قيام الحضارة العربية انبساط سلطانها علي العالم القديم .
والحق أنهم لو درسوا تاريخ هذه الأمم القديمة وقارنوا بينه وبين تاريخ العرب لتغير رأيهم في الأمة العربية ، ولتغير بذلك تاريخ العرب أنفسهم ، ولست اذكر من هذه الأمم القديمة إلا أمتين اثنتين : الأمة اليونانية والأمة الرومانية .
فقد قدر لهاتين الأنتين في العصور القديمة مثل ما قدر للأمة العربية في العصور الوسطي .
كلتاهما تحضرت بعد بداوة .
وكلتاهما خضعت في حياتها الداخلية لهذه الصروف السياسية المختلفة .
وكلتاهما انتهت إلي نوع من التكوين السياسي دفعها إلي أن تتجاوز موطنها الخاص وتغير علي البلاد المجاورة وتبسط سلطانها علي الأرض .
وكلتاهما لم تبسط سلطانها علي الأرض عبثا وإنما نفعت وانتفعت وتركت للإنسانية تراثا قيما لاتزال تنتفع به غلي الآن : ترك اليونان فلسفة وأدبا ، وترك الرومان تشريعا ونظاما .
وكذلك كان شان هذه الأمة العربية ، تحضرت كما تحضر اليونان والرومان بعد بداوة ، وتأثرت كما تأثر اليونان والرومان بصروف سياسية مختلفة وأنتهي بها تكوينها السياسي إلي ما انتهي التكوين السياسي لليونان والرومان إليه من تجاوز الحدود الطبيعية وبسط السلطان علي الأرض وتركت كما ترك اليونان والرومان للإنسانية تراثا قيما خالدا فيه علم وأدب ودين .
وليس من العجب في شيء أن تكون العوارض التي عرضت لحياة العرب علي اختلاف فروعها مشبهة للعوارض التي عرضت لحياة اليونان والرومان من وجوه كثيرة .
وفي الحق أن التفكير الهادىء في حياة هذه الأمم الثلاث ينتهي بنا إلي متشابهة إن لم نقل متحدة .
ولم لا ؟
أليست هذه الإشارة التي قدمناها إلي ما بين هذه الأمم الثلاث من شبهة تكفي لتحملك علي أن تفكر في أن مؤثرات واحدة أو متقاربة قد أثرت في حياة هذه الأمم فانتهت إلي نتائج واحدة أو متقاربة!
ولسنا نريد أن نترك الموضوع الذي نحن بإزائه للبحث عما يمكن أن يكون من اتفاق أو افتراق بين العرب واليونان والرومان ، فنحن لم نكتب لهذا ، وإنما نريد أن نقول أن هذه الظاهرة الأدبية التي نحاول أن ندرسها في هذا الكتاب والتي يجزع لها أنصار القديم جزعا شديدا ليست مقصورة علي الأمة العربية ، وإنما تتجاوزها إلي غيرها من الأمم القديمة ، ولاسيما هاتين الأمتين الخالدتين .
فلن تكون الأمة العربية أول أمة أنتحل فيها الشعر انتحالا وحمل علي قدمائها كذبا وزورا ، وإنما انتحل الشعر في الأمة اليونانية والرومانية من قبل وحمل علي القدماء من شعراؤهما ، وانخدع به الناس وآمنوا له ، ونشأت عن هذا الانخداع والإيمان سنة أدبية توارثها الناس مطمئنين إليها ، حتى هذا العصر الحديث وحتى استطاع النقاد من أصحاب التاريخ والأدب واللغة والفلسفة أن يردوا الأشياء إلي أصولها ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا .
وأنت تعلم أن حركة النقد هذه بالقياس إلي اليونان والرومان لم تنته بعد ، وأنها لن تنتهي غدا ولا بعد غد .
وأنت تعلم أنها قد وصلت إلي نتائج غيرت تغيرا تاما ما كان معروفا متوارثا من تاريخ هاتي الأمتين وآدابهما.
وأنت إذا فكرت فستوافقني علي أن منشأ هذه الحركة النقدية إنما هو في حقيقة الأمر تأثر الباحثين في الأدب والتاريخ بهذا المنهج الذي دعوت إليه في أول هذا الكتاب ، وهو منهج ديكارت الفلسفي .
وسواء رضينا أو كرهنا فلابد من أن نتأثر بهذا المنهج في بحثنا العلمي والأدبي كما تأثر من قبلنا به أهل الغرب .
ولابد من أن نصطنعه في نقد آدابنا وتاريخنا كما أصطنعه أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم .
ذلك لأن عقليتنا نفسها قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية ، أو قل أقرب إلي الغربية منها إلي الشرقية .
وهي كلما مضي عليها الزمن جدت في التغير وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب .
وإذا كان في مصر الآن قوم ينصرون القديم وآخرون ينصرون الجديد ، فليس ذلك إلا لأن في مصر قوما قد اصطبغت عقليتهم بهذه الصبغة الغربية ، وآخرين لم يظفروا منها بحظ أو لم يظفروا منها إلا بحظ قليل .
وانتشار العلم الغربي في مصر وازدياد انتشاره من يوم إلي يوم واتجاه الجهود الفردية والجماعية إلي نشر هذا العلم الغربي ، كل هذا سيقضي غدا أو بعد غد بأن يصبح عقلنا غربيا ، وأن ندرس آداب العرب وتاريخهم متأثرين بمنهج ديكارت كما فعل أهل الغرب في درس آدابهم وآداب اليونان والرومان .
ولقد أحب أن تلم إلماما قليلا بأي كتاب من هذه الكتب الكثيرة التي تنشر الآن في أوروبا في تاريخ الآداب اليونانية أو اللاتينية ، وأن تسأل نفسك بعد هذا الإلمام ماذا بقي مما كان يعتقده القدماء في تاريخ الآداب عند هاتين الأمتين : أحق ما كان يعتقده القدماء في شان الإلياذة والأوديسا ؟
أحق ما كانوا يتحدثون به بل ما كانوا يؤمنون به في شأن ( هوميروس ) و (هيريودوس ) وغيرهما من الشعراء القصصيين ؟
أحق ما كان القدماء يتخذونه أساسا لسياستهم وعلمهم وآدابهم وحياتهم كلها من أخبار اليونان والرومان ؟
إن من اللذيذ حقا أن تقرأ ما كتب (هيرودوت ) في تاريخ اليونان ، و (تيتوس ليفوس ) في تاريخ الرومان ، وما يكتب المحدثون الآن في تاريخ هاتين الأمتين .
ولكنك لا تكاد تجد شيئا من الفرق بين ما كان يتحدث به ابن إسحاق ويرويه الطبري من تاريخ العرب وآدابهم ، وما يكتبه المؤرخون والأدباء في هذا العصر .
ذلك لأن الكثرة من هؤلاء المؤرخين والأدباء لم تتأثر بعد بهذا المنهج الحديث ، ولم تستطع بعد أن تؤمن بشخصيتها وأن تخلص هذه الشخصية من الأوهام والأساطير .
وإذا كان قد قدر لهذا الكتاب ألا يرضي الكثرة من هؤلاء الأدباء والمؤرخين فنحن واثقون بأن ذلك لن يضيره ولن يقلل من تأثيره في هذا الجيل الناشيء .
فالمستقبل لمنهج ( ديكارت ) لا لمنهج القدماء .


-2 السياسة وانتحال الشعر

قلت أن العرب قد خضعوا لمثل ما خضعت له الأمم القديمة من المؤثرات التي دعت إلي انتحال الشعر والأخبار .
ولعل أهم هذه المؤثرات التي طبعت الأمة العربية وحياتها بطابع لا يمحى ولا يزول هو هذا المؤثر الذي يصعب تمييزه والفصل فيه ، لأنه مزاج من عنصرين قويين جدا ، هما السياسة والدين .
والحق أن لا سبيل إلي فهم التاريخ الإسلامي مهما تختلف فروعه إلا إذا وضحت هذه المسألة (مسألة الدين والسياسة ) توضيحا كافيا .
فقد أرادت الظروف ألا يستطيع العرب منذ ظهور الإسلام أن يخلصوا من هذين المؤثرين في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني .
هم مسلمون لم يظهروا علي العالم إلا بالإسلام ، فهم محتاجون إلي أن يعتزوا بهذا الإسلام ويرضوه ويجدوا في اتصالهم به ما يضمن لهم هذا الظهور وهذا السلطان الذي يحرصون عليه .
وهم في نفس الوقت أهل عصبية وأصحاب مطامع ومنافع ، فهم مضطرون إلي أن يرعوا هذه العصبية ويلائموا بينها وبين منافعهم ومطامعهم ودينهم .
وإذن فكل حركة من حركاتهم وكل مظهر من مظاهر حياتهم متأثر بالدين ، متأثر بالسياسة .
وإذا كانت حياتهم كما نصف تأثرا متصلا بالدين والسياسة ، واجتهادا متصلا في التوفيق بسنهما ، أو بعبارة أصح : في الاستفادة منهما جميعا ، فخليق بالمؤرخ السياسي أو الأدبي أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب أساسا للبحث عن الفرع الذي يريد أن يبحث عنه من فروع التاريخ .
وستري عندما نتعمق بك قليلا في هذا الموضوع أنا لسنا غلاة ولا مخطئين .
وأول ما يحسن أن نلاحظه هو هذا الجهاد العنيف الذي اتصل بين النبي وأصحابه من ناحية ، وبين قريش وأوليائها من ناحية أخري .
أما في أول عهد الإسلام بالظهور حين كان النبي وأصحابه في مكة فقد كان هذا الجهاد جدليا خالصا ، وكان النبي يكاد يقوم به وحده بإزاء الكثرة المطلقة من قومه ، يجادلهم بالقرآن ويقارعهم بهذه الآيات المحكمات ، فيبلغ منهم ويفحمهم ويضطرهم إلي الإعياء .
وهو كلما بلغ من ذلك حظا أنتصر له من قومه فريق حتى تكون له حزبا ذو خطر ولكنه لم يكن حزبا سياسيا ، ولم يكن يطمع في ملك ولا تغلب ولا قهر ، أو لم يكن ذلك في دعوته .
غير أن هذا الحزب كان كلما اشتدت قوته وقوي أسره اشتدت مناضلة قريش له وفتنتها إياه حتى كان ما تعلم من الهجرة الأولي ثم من هجرة النبي إلي المدينة .
وليس هذا موضع البحث عن هذه الهجرة إلي المدينة ، وعما أعد الأنصار لنصر النبي وإيوائه ، وعن النتائج المختلفة التي أنتجتها الهجرة .
ولكنا نستطيع أن نسجل مطمئنين أن هذه الهجرة قد وضعت مسألة الخلاف بين النبي وقريش وضعا جديدا جعلت الخلاف سياسيا يعتمد في حله علي القوة والسيف بعد ان كان من قبل دينيا يعتمد علي الجدال والنضال بالحجة ليس غير .
منذ هاجر النبي إلي المدينة تكونت للإسلام وحدة سياسية لها قوتها المادية وبأسها الشديد ، وأحست قريش أن الأمر قد تجاوز الأوثان والآراء الموروثة والسنن القديمة ، إلي شيئا آخر كان فيما يظهر أعظم خطرا في نفوس قريش من الدين وما يتصل به ، وهو السيادة السياسية في الحجاز ، والطرق التجارية بين مكة والبلاد التي كانت ترحل إليها بتجارتها في الشتاء والصيف .
وأنت تعلم أن الاستيلاء علي العير هو اصل الوقعة الكبرى الأولي بين النبي وقريش في بدر.
فليس من شك إذن في أن الجهاد بين النبي وقريش كان دينيا خالصا ما أقام النبي في مكة .
فلما أنتقل إلي المدينة أصبح هذا الجهاد دينيا وسياسيا واقتصاديا ، وأصبح موضوع النزاع بين قريش والمسلمين ليس مقصورا علي أن الإسلام حق أو غير حق ، بل هو يتناول مع ذلك الأمة العربية أو الحجازية علي أقل تقدير لمن تذعن ، والطرق التجارية لمن تخضع .
وعلي هذا النحو وحده تستطيع أن تفهم سيرة النبي منذ أن هاجر إلي المدينة لا مع قريش وحدها بل مع غيرها من العرب ، بل مع اليهود أيضا .
ولكننا لا نكتب تاريخ النبي وإنما نريد أن نصل مسرعين إلي ما يعنينا من هذا كله ، وهو أن استحالة الجهاد إلي جهاد سياسي بعد أن كان جهاد دينيا قد استحدث عداوة بين مكة والمدينة ، أو بين قريش والأنصار لم تكن موجودة من قبل .
فالسيرة تحدثنا بأن صلات المودة كانت قوية بين قريش وبين الأوس والخزرج قبل أن يهاجر النبي إلي المدينة .
وكان هذا معقولا وطبيعيا ، فقد كان الأوس والخزرج علي طريق قريش إلي الشام .
ولم يكن بد لهذه المدينة التجارية التي تسمي مكة من أن تؤمن طرقها التجارية وتوثق صلات الود مع الذين يستطيعون أن يعرضوا هذه الطريق إلي الخطر .
نشأت إذن بعد الهجرة عداوة بين مكة والمدينة ، وما هي إلا أن اصطبغت هذه العداوة بالدم يوم أنتصر الأنصار في " بدر " ويوم انتصرت قريش في " أحد " .
وما هي إلا أن اشترك الشعر في هذه العداوة مع السيف ، فوقف شعراء الأنصار وشعراء قريش يتهاجون ويتجادلون ويتناضلون ، يدافع كل فريق عن أحسابه وأنسابه ويشيد بذكر قومه .
ثم كان الموقف دقيقا ، فقد كان شعراء الأنصار يدافعون قريشا عن النبي وأصحابه ، وهم من خلاصة قريش .
ويجب أن يكون هذا الهجاء قد بلغ أقصي ما يمكن من الحدة والعنف ، فإن النبي كان يحرض عليه ، ويثيب أصحابه ويقدمهم ويعدهم ، مثل ما كان يعد المقاتلين من الأجر والمثوبة عند الله ، ويتحدث أن جبريل كان يؤيد "حسانا " .
كثر الهجاء إذن واشتد بين قريش والأنصار لما كثرت الحرب واشتدت .
وأنت تعلم مقدار حظ العرب من العصبية وحرصهم علي الثأر للدماء المسفوكة ، وجدهم في الدفاع عن الأعراض المنتهكة .
فليس غريبا أن تبلغ الضغينة بين هذين الحيين من أهل الحجاز أقصي ما كانت تستطيع أن تبلغ .
وقد مضت قريش في جهادها بالسنان واللسان والأنفس والأموال ، وأعانها من أعانها من العرب واليهود ، ولكنها لم توفق .
وأمست ذات يوم إذا خيل النبي قد أظلت مكة ، فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان فإذا هو بين اثنتين: إما أن يمضي في المقاومة فتفني مكة وإما أن يصانع ويصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس وينتظر لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلي المدينة ومن قريش إلي الأنصار أن يعود إلي قريش وإلي مكة مرة أخري .
أسلم أبو سفيان وأسلمت معه قريش ، وتمت للنبي هذه الوحدة العربية ، وأصبح الناس جميعا في ظاهر الأمر أخوانا مؤتلفين في الدين .
ولعل النبي لو عمر بعد فتح مكة زمنا طويلا لاستطاع أن يمحو تلك الضغائن ، وأن يوجه نفوس العرب وجهة أخري ، ولكنه توفي بعد الفتح بقليل ، ولم يضع قاعدة للخلافة ، ولا دستورا لهذه الأمة التي جمعها بعد فرقة.
فأي غرابة في أن تعود تلك الضغائن إلي الظهور وفي أن تستيقظ الفتنة بعد نومها ، وفي أن يزول هذا الرماد الذي كان يخفي تلك الأحقاد !
وفي الحق أن النبي لم يكد يدع هذه الدنيا حنى أختلف المهاجرون من قريش والأنصار من الأوس والخزرج في الخلافة أين تكون ؟ ولمن تكون ؟
وكاد المر يفسد بين الفريقين لولا بقية من دين وحزم نفر من قريش ، ولولا أن القوة المادية كانت إذ ذاك إلي قريش .
فما هي إلا أن أذعنت الأنصار وقبلت أن تخرج منهم الإمارة إلي قريش .
وظهر أن الأمر قد استقر بين الفريقين ، وأنهم قد اجمعوا علي ذلك لا يخلفهم فيه إلا سعد بن عبادة الأنصاري الذي أبي أن يبايع أبا بطر ، وأن يبايع عمر ، وأن يصلي بصلاة المسلمين ، وأن يحج بحجهم وظل يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة ، حتى قيل غيلة في بعض أسفاره .
قتلته الجن فيما يزعم الرواة .
وانصرفت قوة قريش والأنصار إلي ما كان من انتقاض العرب علي المسلمين أيام أبي بكر ، وإلي ما كان من الفتوح أيام عمر .
ولكن المقيمين من أولئك وهؤلاء في مكة والمدينة لم يكونوا يستطيعون أن ينسوا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بنهم أيام النبي ، ولا تلك الدماء التي سفكت في الغزوات .
وليس من شك في إن حزم عمر قد حال بين المهاجرين والأنصار ، أو بعبارة أصح : بين قريش والأنصار وبين الفتنة .
فالرواة يحدثوننا أن عمر نهي رواية الشعر الذي تهاجي به المسلمون والمشركون أيام النبي .
وهذه الرواية نفسها تثبت رواية أخري ، وهي أن قريشا والأنصار تذاكروا ما كان قد هجا به بعضهم بعضا أيام النبي ، وكانوا حراصا علي روايته يجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية إذا وتر أو انتصر .
وقد ذكر الرواة إن عمر مر ذات يوم فإذا حسان في نفر من المسلمين ينشدهم شعرا في مسجد النبي فأخذ بأذنه وقال : أرغاء كرغاء البعير ؟
قال حسان : إليك عني يا عمر، فوالله لقد كنت انشد في هذا المكان من هو خير منك فيرضي ، فمضي عمر وتركه .
وفقه هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدمنا من أن الأنصار كانوا موتورين ، وان عصبيتهم كانت لا تطمئن إلي انصراف الأمر عنهم ، فكانوا يتعزون بنصرهم للنبي وانتصافهم من قريش وما كان لهم من البلاء قبل موت النبي وما أفادوا بأيديهم والسنتهم من مجد .
وكان عمر قرشيا تكره عصبيته أن تزدري قريش ، وتذكر ما اصابها من هزيمة ، وما اشيع عنها من مذكر .
وكان فوق هذا كله اميرا حازما يريد ان يضبط امور الرعية ، وان يؤسس ملك المسلمين علي شيء غير العصبية .
وقد وفق بعض التوفيق ، ولكنه لم يظفر بكل ما كان يريد .
تحدث الرواة ان عبد الله بن الزبعري وضرار بن الخطاب قدما إلي المدينة ايام عمر فذهبا إلي أبي احمد بن جحش ، وكان رجلا ضريرا حسن الحديث يألفه الناس ويتحدثون عنده ، قالا جئناك لتدعو لنا حسان بن ثابت لينشدنا وننشده ، قال : هو ما تريدان ، وأرسل إلي حسان فجاء ، قال هناك اخواك قد اقبلا من مكة يريدان يسمعاك ويسمعا لك قال حسان ان شئتما فابدآ وان شئتما بدأت ، : بل نبدأ ، فأخذا ينشدانه مما قالت قريش في الأنصار حتى فار وأخذ يغلي كالمرجل ، فلما فرغا استوي كل منها علي راحلته ومضيا إلي مكة .
وذهب حسان مغضبا إلي عمر وقص عليه الخبر فقال عمر : سأردهما عليك ان شاء الله .
حتى إذا كانا بين يدي عمر ومعه نفر من أصحاب النبي ، قال لحسان : انشدهما ما شئت ، فأنشدهما حتى اشتفي .
وقال عمر بعد ذلك - فيما يحدثنا صاحب ألاغاني : قد كنت نهيتكم عن رواية هذا الشعر لأنه يوقظ الضغائن ، فأما إذ أبوا فاكتبوه .
وسواء قال عمر هذا ام لم يقله ، فقد كان الأنصار يكتبون هجاءهم لقريش ويحرصون علي إلا يضيع.
قال ابن سلام : وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية ، فاستكثرت منه في الإسلام .
وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يهجي فيه الأنصار .
ولما قتل عمر وانتهت الخلافة إلي عثمان بعد المشقة ، تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوة أخري فلم تصبح الخلافة في قريش فحسب ، بل أصبحت في بني أمية خاصة .
واشتدت عصبية قريش واشتدت عصبية الأمويين ، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب ، وقد هدأت حركة الفتح ، وأخذ العرب يفزع بعضهم لبعض .
وكان من نتائج ذلك ما تعلم من قتل عثمان وافتراق المسلمين وانتهاء الأمر كله إلي بني أمية بعد تلك الفتن والحروب .
في ذلك الوقت تغيرت خطة الخليفة السياسية أو بعبارة أدق : فشلت هذه الخطة التي كان يختطها عمر ، وهي منع العرب ان يتذاكروا ما كان بينهم من الضغائن قبل الإسلام .
وعاد العرب إلي شر مما كانوا فيه في جاهليتهم من التنافس والتفاخر في جميع الأمصار الإسلامية .
ويكفي ان أقص عليك ما كان من تنافس الشعراء من الأنصار وغيرهم عند معاوية ويزيد بن معاوية ، لتعلم إلي اى حد عاد العرب في ذلك الوقت إلي عصبيتهم القديمة .
ولعلك قرأت تلك القصة التي تخبرنا بان عبد الرحمن بن حسان شبب برملة بنت معاوية نكاية في بني أمية.
فأما معاوية فاصطنع الحلم كعادته ، وقال لعبد الرحمن : فاين أنت من أختها هند ! وأما يزيد فقد كان صورة لجده ابي سفيان ، كان رجل عصبية وقوة وفتك وسخط علي الإسلام وما سنه للناس من سنن فاغري كعب بن جعيل بهجاء الأنصار ، فاستعفاه وقال : أتريد ان تردني كافرا بعد إسلام ؟
فاغري الأخطل وكان نصرانيا فأجابه وهجا الأنصار هجاء مقذعا مشهورا .
قلت ان يزيد كان صورة صادقة لجده ابي سفيان ، يؤثر العصبية علي كل شيء .
وأنت لا تنكر ان يزيد هو صاحب وقعة الحرة التي انتهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة ، والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر , والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة .
ولأمر ما يقول الرواة حين يقصون وقعة الحرة إنه قتل فيها ثمانون من اللذين شهدوا بدرا ، اى من اللذين أذلوا قريش .
ولست في حاجة إلي أن أقص عليك هذه القصة الأخرى التي تمثل لنا عمرو بن العاص وقد ضاق ذرعا بالأنصار حتى كره اسمهم هذا ، وطلب إلي معاوية أن يمحوه ، واضطر النعمان بن بشير وهو الأنصاري الوحيد الذي شايع بني أمية إلي أن يقول :
يا سعد لا تجب الدعاء فما لنا = نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيره الإله لقومنا = أثقل به نسبا علي الكفار !
إن اللذين ثووا ببدر منكم = يوم القليب هم وقود النار

وقد سمع معاوية هذا الشعر فلام عمرا علي تسرعه ليس غير .
فلم يكن معاوية اقل بغضا للأنصار وتعصبا لقريش من مشيره عمرو، أو ولي عهده يزيد .
ولكن أصحاب هذه العصبية القرشية كانوا يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا شديدا ، فكان منهم السرف كيزيد، والمقتصد كمعاوية .
وكان منهم من يتجاوز الاقتصاد في العصبية إلي شيء يشبه العطف علي الأنصار والرثاء لهم .
ولعل الزبير بن العوام كان من هؤلاء العاطفين علي الأنصار الراثين لهم الحافظين لعهدهم والراعين لوصية النبي فيهم ، فقد يحدثنا الرواة أنه مر بنفر من المسلمين فإذا فيهم حسان ينشدهم ، وهم غير حافلين بما يقول ، فلامهم علي ذلك وذكرهم موقع شعر حسان من النبي ،وأثر ذلك في نفس حسان فقال يمدحه - وأحب أن تلتفت إلي أول هذا الشعر ، فهو حسن الدلالة علي ما أريد أن اثبته من دخول الحزن علي نفوس الأنصار لهذا الموقف الجديد الذي وقفته منهم قريش :
أقام علي عهد النبي وهديه = حواريه والقول بالفعل يعدل
أقام علي مناهجه وطريقه = يوال ولي الحق والحق أعدل
هو الفارس المشهور والبطل الذي = يصول إذا ما كان يوم محجل
إذا ما كشفت عن ساقها الحرب حشها = بأبيض سباق إلي الموت يرقل
وإن أمرا كانت صفية أمه = ومن أسد في بيتها لمرفل
له من رسول الله قربي قربية = ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل
فكم كربة ذب الزبير بسيفه = عن المصطفي والله يعطي فيجزل
فما مثله فيهم ولا كان قبله = وليس يكون الدهر مادام يذبل
ثناؤك خير من فعال معاشر = وفعلك يابن الهاشمية أفضل

فأنظر إلي هذين البيتين في أول هذه المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي وحزبه عليه وأسفه علي ما فات من موالاة النبي لهم وإنصافه إياهم .
ولكن بقية هذه الأبيات تدعوا إلي شيء من الاستطراد لا بأس به ، لأنه لا يتجاوز الموضوع كثيرا ، فقد يظهر من قراءة هذه الأبيات أنه قصد بها إلي الإلحاح في مدح الزبير وإحصاء مآثره وقد يظهر أن في أخرها ضعفا لا يلائم قوة أولها .
وقد روى هذه القصة نفر من أل الزبير ومن أحفاد عبد الله بن الزبير بالدقة .
أفتستبعد أن تكون عصبية الزبيريين قد مدت هذه الأبيات وطولتها وتجاوزت بها ما كان قد أراد حسان من الاعتراف بالجميل إلي ما كانت تريد العصبية الزبيرية من تفضيل الزبير علي منافسيه أو علي منافسي أبنه عبد الله بنوع خاص .
واستطرد آخر لا بأس به ، لأنه يثبت ما نحن فيه أيضا ، فقد ذكرت لك ما كان من هجاء الأخطل للأنصار .
وهم يتحدثون - كما رأيت - أن النعمان بن بشير غضب لهذا الهجاء وانشد بين يدي معاوية أبيات نرويها لك ، فستري فيها مثل ما رأيت في أبيات حسان من أثر هذه العصبية التي تضيف إلي الشعراء ما لم يقولوا .
وقد كان النعمان بن بشير في الأنصار يتعصب لقريش وبني أمية ، أو قل يمالئهم التماسا للدفع عندهم .
وقد تحدثوا أنه كان الأنصاري الوحيد الذي شهد " صفين " مع معاوية، كما كان الزبير من هذه القلة القرشية التي كانت تعطف علي الأنصار ذكرا لعهد النبي ، أو احتفاظا بمودة الأنصار ليوم الحاجة .
قال النعمان بن بشير لمعاوية :
معاوي ألا تعطينا الحق تعترف = لحي الأزد مشدودا عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم ضلة = ا لي ثأر دون قطع لسانه
فدونك من ترضيه عنك الدراهم = وراع رويدا لا تسمنا دنية
لعلك في غب الحوادث نادم = متي تلق منا عصبة خزرجية
وماذا الذي تجدي عليك الأراقم = فمأو الأوس يوما تخترمك المخارم
وتلقاك خيل كالقطا مستطيرة = شماطيط إرسال عليها الشكائم
يسومها العمران عمرو بن عامر = وعمران حتى تستباح المحارم
ويبدو من الخود العزيزة حجلها = وتبيض من هول السيوف المقادم
فنطلب شعب الصدع بعد التئامه = فتغريه فآلان والأ مر سالم
إلا فثوبي لأمة تبعية = تواريث آبائي وابيض صارم
واسمر خطى كأن كعوبه = بوى القسب فيها لهذمي خثارم
فإن كنت لم تشهد ببدر وقيعة = أذلت قريش والأنوف روا غم
فسائل بنا حيي لؤي بن غالب = وأنت بما يخفي من الأمر عالم
الم تتبدر يوم بدر سيوفنا = وليلك عما ناب قومك قاتم
ضربناكم حتى تفرق جمعكم = وطارت اكف منكم وجماجم
وعادت علي البيت الحرام عرائس = وأنت علي خوف عليك التمائم
وعضت قريش بالأنامل بغضة = ومن قبل ما عضت عليك الأداهم
فكنا لها فى كل آمر نكيدة = ما كان الشجا والأمر فيه تفاقم
فما إن رمي رام فأوهي صفاتنا = ولا ضامنا يوم من الدهر ضائم
وإني لأغضي م عن امور كثيرة = سترقي بها يوما إليك السلالم
أصانع فيها عبد شمس وإنني = لتلك التي في النفس مني أكاتم
فما أنت والأمر الذي لست أهله = ولكن ولي الحق والأمر هاشم
إليهم يصير الأمر عند شتاته = فمن لك بالأمر الذي هو لازم
بهم شرع الله الهدى فاهتدي بهم = ومنهم له هاد إمام وخاتم

فظاهر جدا أن هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة علي أقل تقدير قد حملت علي النعمان بن بشير حملا ، حملها عليه الشيعة .
ومع أننا نعلم أن الأنصار حين أخطأهم الحكم فأضطغنوا علي قريش مالوا بطبيعة موقفهم السياسي إلي تأييد الحزب المناويء لبني أمية ، فانضموا إلي علي ، فلسنا نشك في أن النعمانبن بشير لم يكن هاشمي المذهب ولا علوي الرأي ، إنما كان امويا أو بعبارة أصح : سفيانيا .
فلما أحس أنتقال الأمر من أل ابي سفيان إلي مروان بن الحكم تحول عن الأمويين إلي ابن الزبير وقتل في ذلك .
فأنت ترى إلي أي حد كانت العصبية قد انتهت بقريش والأنصار .
وأنت ترى تأثيرها في الشعر والشعراء .
وأن ترى من هذين الاستطرادين كيف استغلت العصبية الزبيرية والهاشمية شعر حسان وشعر النعمان بن بشير لمناهضة خصومها ولكني لم أفزع بعد من أمر هذه العصبية بين قريش والأنصار وتأثيرها في الشعر والشعراء ، ولا أريد أن أدع هذه العصبية دون أن أذكر ما كان بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم أخي الخليفة مروان من هذا النضال العنيف الذي تبق لنا منه أثار ضئيلة .
والرواة يختلفون في اصل هذه المهاجاة بين هذين الرجلين .
وهم مضطرون إلي أن يختلفوا فقد دخلت العصبية في الرواية أيضا .
أما الأنصار فكانوا يتحدثون أن هذين الرجلين كانا صديقين ، ولكن عبد الرحمن الأنصاري كان يحب امرأة صاحبة القرشي ويختلف إليها ، فبلغ ذلك صاحبه فراسل امرأة عبد الرحمن بن حسان ، وأنبأت هذه زوجها فأحتال حتى حمل امرأة صاحبة علي أن تزوره في بيته ، وأخفاها في أحدى الحجر ، واحتالت امرأة حتى حملت القرشي علي أن يزورها ، فلما استقر به المقام عندها أقبل زوجها فأرادت أن تخفيه فأدخلته في أحدى الحجر فإذا هو يرى امرأته ، ففسد الأمر بين الصديقين .
وأما قريش فكانت تروي القصة نفسها ، ولكنها تعكسها وتظهر صاحبها مظهر الوفي لصديقه بأنه كانت تأتيه رسائل امرأة عبد الرحمن بن حسان فلا يجيبها إلي ما كانت تريد رعاية لحرمة الصديق .
وليس من شك في أن هذه القصة خيال كانت تتفكه به الأنصار وقريش بعد أن هدأت نار الخصومة العملية بسنهما ، وأن ما يرويه صاحب الأغاني عن أصل هذه المهاجاة بعيد كل البعد عن النساء : كان الصديقان يتصيدان بأكلب لهما ، فقال القرشي لصاحبه :
ازجر كلابك إنها قلطية = بقع ومثل كلابك لم تصطد
فرد عليه ابن حسان
من كان يأكل من فريسة صيده = فالتمر يغنينا عن المتصيد
إنا أناس ريقون وأمكم = ككلابكم في الولع والمتمرد
حزناكم للضب تحترشونه = والريف يمنعكم بكل مهند
وعظم الشر بين الصديقين منذ ذلك اليوم .
ولعل عبد الرحمن بن حسان قد أحسن تصوير نفسية الأنصار حين قال :
صار الذليل عزيزا والعزيز به = ذل وصار فروع الناس أذنابا
إني لملتمس حتى يبين لكم = فيكم متى كنتم للناس أربابا
وفارقوا طلعكم ثم أنظروا وسلوا = عنا عنكم قديم العلم انسابا

علي أن الأمر تجاوز هذين الشاعرين ، فاستعان القرشي بشعراء من مضر وربيعة .
ثم تجاوز الأمر الشعر والشعراء إلي معاوية ، فأرسل إلي سعيد بن العاص ، كان واليه علي المدينة ، يأمره بأن يضرب كلا من الشاعرين مائة سوط ، وكان سعيد عطوفا علي الأنصار في ايام معاوية كما كان الزبير عطوفا عليهم أيام عمر ، وكانت بين سعيد وعبد الرحمن بن حسان مودة فكره أن يضربه ، وكره أيضا أن يضرب القرشي فعطل أمر معاوية .
غير أنه لم يلبث أن ترك ولاية المدينة لمروان بن الحكم الذي اسرع فتعصب لأخيه وضرب عبد الرحمن ابن حسان مائة سوط .
هنا ذكر عبد الرحمن بن حسان أن للأنصار سفيرا في الشام هو النعمان بن بشير فكتب إليه :
ليت شعري أغائب انت بالشام = خليلي ام راقد نعمان
أية ما تكن فقد يرجع الغائب = يوما ويوقظ الوسنان
إن عمرا وعامرا أبوينا = وحراما قدما علي العهد كانوا
إنهم مانعوك أم قلة الكتاب = أم أنت عاتب غضبان
أم جفاء أم أعوزتك القراطيس = أم أمري به عليك هوان
يوم أنبئت أن ساقي رضات = وأنتكم بذلك الركبان
ثم قالوا إن ابن عمك في بلوي = أمور أتي بها الحدثان
فنسيت الأرحام والود والصحبة = فيما أتت به الأزمان
إنما الرمح فاعلمن قناة = أو كبعض العيدان لولا السنان

قالوا : فدخل النعمان بن بشير علي معاوية ، فذكر له أن سعيد عطل أمره ، وأن مروان نفذه في الأنصاري وحده ، قال معاوية : فتريد ماذا ؟
قال النعمان : أريد أن تعزم علي مروان ليمضين أمرك في الرجلين جميعا .
ويروى أن النعمان قال في ذلك هذه الأبيات :
يابن أبي سفيان ما مثلنا = جار عليه ملك أو أمير
اذكر بنا مقدم أفراسنا = بالحنو إذا أنت ألينا فقير
واذكر غداة الساعدي الذي = آثركم بالأمر فيها بشير
فاحذر عليهم مثل بدر وقد = مر بكم ببدر يوم عسير
إن ابن حسان له ثائر = فأعطه الحق تصح الصدور
ومثل أيام لنا شتت = ملكا لكم أمرك فيها صغير
أما ترى الأزد وأشياعها = تجول خزرا كاظمات تزير
يصول حولي منهم معشر = إن صلت صالوا وهم لي نصير
يأبي لنا الضيم فلا نعتلي = عز منيع وعديد كثير
وعنصر في عز جرثومة = عادية تنقل عنها الصخور

وانتهي أمر معاوية إلي مروان ، فضرب أخاه خمسين سوطا ، وأستعفي عبد الرحمن بن حسان في الباقي فعفي .
ولكنه أخذ يذيع في المدينة أن مروان قد ضربه حد الحر مائة سوط وضرب أخاه حد العبد خمسين .
فشقت هذه المقالة علي عبد الرحمن بن الحكم وأقبل علي أخيه فطلب أن يتم عليه المائة ففعل .
واتصل الهجاء بين الرجلين .
ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابا خاصا ضخما في هذه العصبية بين قريش والأنصار ، وما كان لها من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية ، لا نقول في المدينة ومكة ودمشق ، بل نقول في مصر وأفريقيا والأندلس .
ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرا مستقلا في ما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام ، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان علي شعرائهما في الجاهلية .
هذا دون أن يتجاوز المؤرخ السياسي أو الأدبي الخصومة بين قريش والأنصار ، فكيف إذا تجاوزها إلي الخصومة بين القبائل الأخرى !
ذلك أن العصبية لم تكن مقصورة علي أهل مكة والمدينة ، ولكنها تجاوزتهم إلي العرب كافة ، فتعصبت العدنانية علي اليمنية ، وتعصبت مضر علي بقية عدنان ، وتعصبت ربيعة علي مضر .
وانقسمت مضر نفسها فكانت فيها العصبية القيسية والتميمية والقرشية .
وانقسمت ربيعة فكانت فيها عصبية تغلب وعصبية بكر .
وقل مثل ذلك في اليمن ، فقد كانت للأزد عصبيتها ، ولحمير عصبيتها ، ولقضاعة عصبيتها .
وكانت كل هذه العصبيات تتشعب وتتفرع وتمتد أطرافها وتتشكل بأشكال الظروف السياسية والإقليمية التي تحيط بها ، فلها شكل في الشام ، وآخر في العراق ، وثالث في خراسان ، ورابع في الأندلس .
وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي ازالت سلطان بني أمية ، لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات ، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب علي فريق .
قووا العصبية ثم عجزوا عن ضبطها ، فأدالت منهم ، بل أدالت من العرب إلي الفرس .
وإذا كان هذا تأثير العصبية في الحياة السياسية وقد رأيت طرفا يسيرا من تأثيرها في الشعر والشعراء، فأنت تستطيع أن تتصور هذه القبائل العربية في هذا الجهاد السياسي العنيف ، تحرص كل واحدة منها علي أن يكون قديمها في الجاهلية خير قديم ، وعلي أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعا مؤثلا بعيد العهد .
وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي ، لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد ، وإنما كانت ترويه حفظا .
فلما كان ما كان في الإسلام من حرب الردة ثم الفتوح ثم الفتن ، قتل من الرواة والحفاظ خلق كبير .
ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أمية وراجعت شعرها ، فإذا أكثره قد ضاع ، وإذا اقله قد بقي .
وهي بعد في حاجة إلي الشعر تقدمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة .
فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعراءها القدماء .
ليس هذا شيئا نفترضه نحن أو نستنبطه استنباطا ، وإنما هو شيء كان يعتقده القدماء أنفسهم .
وقد حدثنا به محمد بن سلام في كتابه " طبقات الشعراء " وهو يحدثنا بأكثر من هذا ، يحدثنا بأن العرب كانت أقل شعرا في الجاهلية ، فاضطرها ذلك غلي أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام .
وابن سلام يحدثنا عن يونس ابن حبيب أنه نقل عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما بقي لكم من شعر الجاهلية إلا اقله ولو جاءكم علم وشعر كثير .
ولابن سلام مذهب من الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع لابأس بأن نلم به المامة قصيرة.
فهو يرى أن طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدهم تقدما ز وهو يرى أن الرواة الصحيحين لم لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر .
فهو يقول : أن لم يكن هذان الشاعران قد قالا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقا هذه الشهرة وهذا التقدم ، وإذن فقد قالا شعرا كثيرا ولكنه ضاع ، ولم يبق منه إلا القليل .
وشق علي الرواة أو غير الرواة أن يروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا ، وحمل عليهما كما يقول أبن سلام حملا كثيرا .
ولكن ابن سلام لا يقف عند هذا الحد ، بل هو ينقد ما يرويه ابن إسحاق وغيره من أصحاب السير من الشعر يضيفونه إلي عاد وثمود وغيرهم ، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق .
وأي دليل علي ذلك اوضح من هذه النصوص القرآنية التي تثبت أن الله قد أباد عادا وثمود ولم يبق منهم باقية !
وسنعرض بعد قليل لهذا النحو من شعر عاد وثمود وغير عاد وثمود.
ولكننا إنما ذكرناه الآن لنبين كيف كان القدماء يتبينون كما نتبين ويحسون كما نحس أن هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين أكثره منحولا ، لأسباب منها السياسي ومنها غير السياسي .
كان القدماء يتبينون هذا .
ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا ، فكانوا يبدءون ثم يقصرون عن الغاية .
ومن هنا زعم ابن سلام أنه يستطيع أن يروي لنا شيئا من أولية الشعر العربي .
فروي أبياتا تنسب لجزيمة الأبرش ، وأخرى تنسب لزهير ابن جناب ، ونحو هذا وسترى أننا نحن لا نستطيع أن نقبل هذا الشعر ، كما أن ابن سلام لم سستطع أن يقبل شعر عاد وثمود .
ومهما يكن من شيء فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلي نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك ، وهي أن العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من اهم السباب التي حملت العرب علي انتحال الشعر وإضافته إلي الجاهليين .
وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلي هذه النتيجة .
وأريد ان ترى أنهم قد شقوا بها شقاء كثيرا .
فإن ابن سلام يحدثنا بأن أهل العلم قادرون علي أن يميزوا الشعر الذي ينتحله الرواة في سهولة ، ولكنهم يجدون مشقة وعسر في تمييز الشعر الذي ينتحله العرب أنفسهم ، ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها ، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمي جاهليا أن يشك في صحته كلما رأى من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب علي فريق .
ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبية التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبية قد لعبت - كما يقولون - دورا في الحياة السياسية للمسلمين .


3- الدين وانتحال الشعر

ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرا في تكلف الشعر وانتحاله وإضافته إلي الجاهليين ، لا نقول في العصور المتأخرة وحدها ، بل فيها وفي العصر الأموي أيضا .
وربما ارتقى عصر الانتحال المتأثر بالدين إلي ايام الخلفاء الراشدين أيضا، ولو أن لدينا من سعة الوقت وفراغ البال ما يحتاج إليه هذا الموضوع للهونا وألهينا القاريء بنوع من البحث لا يخلو من فائدة علمية وأدبية قيمة ، وهو أن نضع تاريخا لهذا الانتحال المتأثر بالدين .
فنحن نرى أنه تشكل إشكالا مختلفة دعت إليها الظروف المختلفة التي أحاطت بالحياة الدينية للعرب خاصة وللمسلمين عامة .
فكل هذا الانتحال في بعض أطواره يقصد به إلي إثبات صحة النبوة وصدق النبي ، وكان هذا النوع موجها إلي عامة الناس .
وأنت تستطيع أن تحمل علي كل هذا كل ما يروى من هذا الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدا لبعثة النبي وكل ما يتصل به من هذه الأخبار والأساطير التي تروى لتقنع العامة بأن علماء العرب وكهانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة .
وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع .
وأنت تستطيع أن تحمل علي هذا لونا آخر من الشعر المنتحل لم يضف إلي الجاهليين من عرب الإنس وإنما أضيف إلي الجاهليين من عرب الجن .
فقد يظهر أن الأمة العربية لم تكن أمة من الناس الذين ينتسبون إلي آدم ليس غير ، وإنما كان بإزاء هذه الأمة الإنسية أمة أخرى من الجن كانت تحيا حياة الأمة الإنسية وتخضع لما تخضع له من المؤثرات ، وتحس مثلما تحس ، وتتوقع مثل ما تتوقع .
وكانت تقول الشعر وكان شعرها أجود من شعر الإنس ، بل كان شعراؤها هم الذين يلهمون شعراء الإنس فأنت تعرف قصة عبيد وهبيد .
وأنت تعرف أن الأعراب والرواة قد لهو بعد الإسلام بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون الشعراء قبل النبوة وبعدها .
وفي القرآن سورة تسمي " سورة الجن " أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن فلانت قلوبهم وآمنوا بالله ورسوله ، وعادوا فأنذروا قومهم ودعوهم إلي الدين الجديد .
وهذه السورة تنبيء أيضا بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع ، ثم يهبطون وقد ألموا إلماما يختلف قوة وضعفا بأسرار الغيب ، فلما قارب زمن النبوة حيل بينهم وبين استراق السمع فرجموا بهذه الشهب وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض حينا .
فلم يكد القصاص والرواة يقرءون هذه السورة وما يشبهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب واستغلوها استغلالا لا حد له ، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر وفنون من السجع ، ووضعوا علي النبي نفسه أحاديث لم يكن بد منها لتأويل آيات القرآن علي النحو الذي يريدونه ويقصدون إليه .
وأعجب من هذا أن السياسة نفسها قد اتخذت الجن أداة من أدواتها وأنطقتها بالشعر في العصر الإسلامي نفسه .
فقد أشرنا في الفصل السابق إلي ما كان من قتل سعد بن عبادة ، ذلك الأنصاري الذي أبي أن يذعن بالخلافة لقريش ، وقلنا أنهم تحدثوا أن الجن قد قتلته .
وهم لم يكتفوا بهذا الحديث ، وإنما رووا شعرا قالته الجن تفتخر فيه بقتل سعد بن عبادة هذا :

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده = ورميناه بسهمين فلم نخطيء فؤاده

وكذلك قالت الجن شعرا رثت فيه عمر بن الخطاب

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت = له الأرض تهتز العضاه بأسوق
جزى الله خيرا من إمام وباركت = يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة = ليدرك ما حاولت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها = بوائق في أكمامها لم تفتق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته = بكفي سبتني أزرق العين مطرق

والعجب أن أصحاب الرواية مقتنعون بأن هذا الكلام من شعر الجن .
وهم يتحدثون في شيء من الإنكار والسخرية بأن الناس قد أضافوا هذا الشعر إلي الشماخ بن ضرار .
ولنعد إلي ما نحن فيه فقد أظهرناك علي نحو من الشعر علي الجن والإنس باسم الدين .
والغرض من هذا الانتحال - فيما نرجح - إنما هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء ، ولا يكرهون أن يقال لهم أن من دلائل صدق النبي في رسالته أنه كان منتظرا قبل أن يجيء بدهر طويل ، تحدثت بهذا الانتظار شياطين الجن وكهان الإنس وأحبار اليهود ورهبان النصارى .
وكما أن القصاص والمنتحلين قد اعتمدوا علي الآيات التي ذكرت فيها الجن ليخترعوا ما اخترعوا من شعر الجن وأخبارهم المتصلة بالدين فهم قد اعتمدوا علي القرآن أيضا فيما رووا أو انتحلوا من الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلي الأخبار والرهبان .
فالقرآن يحدثنا بأن اليهود والنصارى يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
وإذن فيجب أن تخترع القصص والأساطير وما يتصل بها من الشعر ليثبت أن المخلصين من الأحبار والرهبان كانوا يتوقعون بعثة النبي ويدعون الناس إلي الإيمان به حتى قبل أن يظل الناس زمانه .
ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلي الجاهليين ، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش .
فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم ، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف ، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي ، وأن يكون قصي صفوة قريش .
وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب ، والعرب صفوة الإنسانية كلها .
وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة ، فيضيفون إلي عبد الله وعبد المطلب وهاشم وعبد مناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم علي قومهم خاصة وعلي العرب عامة .
وأمن نعلم أن طبيعة القصص عند العرب تستتبع الشعر ، ولا سيما إذا كانت العامة هي التي تراد بهذا القصص .
وهنا تتظاهر العواطف الدينية والعواطف السياسية علي انتحال الشعر .
فقد أرادت الظروف أن تكون الخلافة والملك في قريش رهط النبي ، وأن تختلف قريش حول هذا الملك فيستقر حينا في بني أمية وينتقل منهم إلي بني هاشم رهط النبي الأدنين .
ويشتد التنافس بين أولئك وهؤلاء ، ويتخذ أولئك وهؤلاء القصص وسيلة من وسائل الجهاد السياسي .
فأما في أيام بني أمية فيجتهد القصاص في أثبات ما كان لأمية من مجد في الجاهلية .
وأما في أيام العباسيين فيجتهد القصاص إثبات ما كان لبني هاشم من مجد في الجاهلية .
وتشتد هذه الخصومة بين قصاص هذين الحزبين السياسيين ، وتكثر الروايات والأخبار والأشعار .
ثم لا يقتصر الأمر علي هذين الصنوين من بني عبد مناف ، فالأرستقراطية القرشية كلها طموحة إلي المجد حريصة علي أن يكون لها حظ منه في قديمها كما أن لها حظا منه في حديثها.
وإذن فالبطون القرشية علي اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار وتغري القصاص وغير القصاص بانتحالها .
ولا أصل لهذا كله إلا أن قريشا رهط النبي من ناحية ، وأن الملك قد استقر فيها من ناحية أخرى .
فأنظر إلي تعاون العواطف الدينية والسياسية علي انتحال الشعر أيام بني أمية وبني العباس .
ولست في حاجة إلي أن أضرب لك من الأمثال .
فأنت تستطيع أن تنظر في سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السير والتاريخ لترى من هذا كله الشيء الكثير .
وإنما أضرب لك مثلا واحدا يوضح ما ذهبت إليه من أن بطون قريش كانت تحث علي انتحال الشعر منافسة للأسرة المالكة أموية كانت أو هاشمية .
وهذه القصة التي سأرويها تمس رهط بني مخزوم من قريش ، وهي تعطيك مثلا صادقا قويا لحرص قريش علي انتحال الشعر لا تتحرج في ذلك ولا ترعى فيه صدقا ولا دينا .
تحدث صاحب الأغاني بإسناد له عن عبد العزيز بن أبي نهشل قال : قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث ابن هشام وجئته اطلب منه مغرما : يا خال هذه أربعة آلاف درهم وانشد هذه الأبيات الأربعة وقل سمعت حسان ينشدها رسول الله صلي الله عليه وسلم ؛ فقلت أعوذ بالله أن أفتري علي الله ورسوله ، ولكن إن شئت أن أقول سمعت عائشة تنشدها فعلت.
فقال لا ، إلا أن تقول سمعت حسان ينشدها رسول الله صلي الله عليه وسلم ورسول الله صلي الله عليه وسلم جالس ؛ فأبي علي وأبيت عليه .
فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال .
فأرسل إلي فقال قل أبياتا تمدح بها هشاما - يعني ابن المغيرة - وبني أمية ؛ فقلت سمهم لي ؛ فسماهم ، وقال اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك ؛ فقلت :
ألا لله قوم ولدت أخت بني سهم = هشام وأبو عبد مناف مدرة الخصم
وذو الرمحين أشباك علي القوة والحزم = فهذان يذودان وذا عن كثب يرمي
أسود تزدهي الأفران مناعون للهضم = وهم يوم عكاظ منعوا الناس من الهزم
وهم من ولدوا أشبوا بسر الحسب الضخم = فإن أحلف وبيت لله لا أحلف علي إثم
لما من أخوة تبني قصور الشام والردم = بأزكى من بني ربطة أو أوزن في الحلم

قال : ثم جئت فقلت : هذه قالها أبي ؛ فقال لا ولكن قل قالها ابن الزبعري ؛ قال فهي إلي الآن منسوبة في كتب الناس إلي ابن الزبعري .
فأنظر إلي عبد الرحمن ابن الحارث ابن هشام كيف أراد صاحبه علي أن يكذب وينتحل الشعر علي حسان ؛ ثم لا يكفيه هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه أنه سمع حسانا ينشد هذا الشعر بين يدي النبي ، كل ذلك بأربعة الآلاف درهم .
ولكن صاحبنا كره أن يكذب علي النبي بهذا المقدار ، وأستباح أن يكذب علي عائشة .
وعبد الرحمن لا يرضيه إلا الكذب علي النبي ؛ فاختصما .
وكلاهما شديد الحاجة إلي صاحبه ، هذا يريد شعرا لشاعر معروف ، والآخر يريد المال ؛ فيتفقان آخر الأمر علي ان ينحل الشعر عبد الله بن الزبعري شاعر قريش .
ومثل هذا كثير .
نحو آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وهو هذا الذي يلجأ إليه القصاص لتفسير ما يجدونه مكتوبا في القرآن من أخبار الأمم القديمة البائدة كعاد وثمود ومن إليهم .
فالرواة يضيفون إليهم شعرا كثيرا .
وقد كفانا ابن سلام نقده وتحليله حين جد في طبقات الشعراء في إثبات أن هذا الشعر وما يشبهه مما يضاف إلي تبع وحمير موضوع منتحل ، وضعه ابن إسحاق ومن إليه من أصحاب القصص .
و ابن إسحاق ومن إليه من أصحاب القصص لا يكتفون بالشعر يضيفونه إلي عاد وثمود وتبع وحمير ، وإنما هم يضيفون الشعر إلي آدم نفسه ، فهم يزعمون أنه رثى هابيل حين قتله أخوه قابيل .
ونظن أن من الإطالة والإملال أن نقف عند هذا النحو من السخف .
ونحو آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر ، وذلك حين ظهرت الحياة العلمية عند العرب بعد أن اتصلت الأسباب بينهم وبين الأمم المغلوبة .
فأرادوا هم أو الموالي أو أولئك وهؤلاء أن يدوسوا القرآن درسا لغويا ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه .
ولأمر ما شعروا بالحاجة إلي إثبات أن القرآن كتابا عربيا مطابق في ألفاظه للغة العرب .
فحرصوا علي أن يستشهدوا علي كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلي الشك في عربيتها .
وأنت توافقني في غير مشقة علي أن من العسير كما قدمت في الكتاب الأول أن نطمئن إلي كل هذا الشعر الذي يستشهد به الرواة والمفسرون علي ألفاظ القرآن ومعانيه .
وقد عرفت رأينا في ذلك وفي قصة عبد الله بن عباس ونافع ابن الأزرق ، فلا حاجة إلي أن نعيد القول فيه .
وإنما نعيد شيئا واحدا وهو أننا نعتقد أنه إذا كان هناك نص عربي لا تقبل لغته شكا ولا ريبا وهو لذلك أصدق مصدر للغة العربية فهو القرآن .
وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن نستشهد علي صحة ما يسمونه الشعر الجاهلي بدل أن نستشهد بهذا الشعر علي نصوص القرآن .
ولست أفهم كيف يمكن أن يتسرب الشك إلي عالم جاد في عربية القرآن واستقامة ألفاظه وأساليبه ونظمه علي ما عرف العرب أيام النبي من لفظ ونظم وأسلوب !
وإنما هناك مسألة أخرى وهي أن العلماء وأصحاب التأويل من الموالي بنوع خاص لم يتفقوا في كثير من الأحيان علي فهم القرآن وتأويل نصوصه ، فكانت بينهم خصومات في التأويل والتفسير .
وعن هذه الخصومات نشأت خصومات أخرى بين الفقهاء وأصحاب التشريع .
وهنا نوع جديد من تأثير الدين في انتحال الشعر .
فهذه الخصومات بين العلماء كان لها تأثير غير قليل في مكانة العالم وشهرته ورأي الناس فيه وثقة الأمراء والخلفاء بعلمه .
ومن هنا كان هؤلاء العلماء حراصا علي أن يظهروا دائما مظهر المنتصرين في خصوماتهم الموفقين إلي الحق والصواب فيما يذهبون إليه من رأي .
وأي شيء يطيح لهم هذا مثل الاستشهاد بما قالته العرب قبل نزول القرآن !
وقد كثر استغلالهم لهذا الاستشهاد فاستشهدوا بشعر الجاهليين علي كل شيء وأصبحت قراءة الكتب الأدبية واللغوية وكتب التفسير والمقالات تترك في نفسك أثرا قويا وصورة غريبة لهذا الشعر الجاهلي ، حتى ليخيل إليك أن أحد هؤلاء العلماء علي اختلاف ما كان ينظر فيه من فروع العلم لم يكن عليه إلا أن يمد يده إذا احتاج فيظفر بما شاء الله من كلام العرب قبل الإسلام كأن كلام العرب قبل الإسلام قد وعي كل شيء وأحصي كل شيء .
هذا وهم مجمعون علي أن هؤلاء الجاهليين الذين قالوا في كل شيء كانوا جهلة غلاظا فظاظا .
أفترى إلي هؤلاء الجهال الغلاظ يستشهد بجهلهم وغلظتهم علي ما انتهت إليه الحضارة العباسية من علم ودقة فنية !
فالمعتزلة يثبتون مذاهبهم بشعر العرب الجاهليين .
وغير المعتزلة من أصحاب المقالات ينقضون آراء المعتزلة معتمدين علي شعر الجاهليين .
وما أرى إلا أنك ضاحك مثلي أمام هذا الشطر الذي رواه بعض المعتزلة ليثبت أن كرسي الله الذي هو وسع السماوات والأرض هو علمه ؛ وهذا الشطر هو قول الشاعر ( المجهول طبعا ) : " ولا بكرسي علم الله مخلوق " .
وكذلك أصحاب العلم علي الجاهليين كثير لا سبيل إلي إحصائه أو استقصائه .
فهو ليس مقصورا علي رجال الدين وأصحاب التأويل والمقالات ورجال اللغة وأهل الأدب ، وإنما هو يجاوزهم إلي غيرهم من الذين قالوا في العلم مهما يكن الموضوع الذي تناولوه .
لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق من الناس أن يرد كل شيء إلي العرب حتى الأشياء التي استحدثت أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم .
وإذا كان الأمر كذلك فليس لانتحال الشعر علي الجاهليين حد .
وأنت إذا نظرت في كتاب الحيوان للجاحظ رأيت من هذا الانتحال ما يقنعك ويرضيك .
ولكني لا أريد أبعد عما أنا فيه من تأثير العواطف والمنافع الدينية في انتحال الشعر وإضافته إلي الجاهليين .
وقد رأينا إلي الآن فنونا من هذا التأثير ولكننا لم نصل بعد إلي أعظم هذه الفنون كلها خطرا وابعدها أثرا وأشدها عبثا بعقول القدماء والمحدثين ، وهو هذا النوع الذي ظهرعندما استأنف الجدال في الدين بين المسلمين وأصحاب الملل الأخرى ، ولا سيما اليهود والنصارى .
هذا الجدل الذي قوي بين النبي وخصومة ، ثم هدأ بعد أن تم انتصار النبي علي اليهود والوثنيين في بلاد العرب ، وانقطع أو كاد ينقطع أيام الخلفاء الراشدين ؛ لأن الكلمة في أيام هؤلاء لم تكن للحجة ولا للسان ، وإنما كانت لهذا السيف الذي أزال سلطان الفرس وأقتطع من دولة الروم الشام وفلسطين ومصر وقسما من أفريقيا الشمالية .
فلما انتهت هذه الفتوح واستقر العرب في الأمصار واتصلت الأسباب بينهم وبين المغلوبين من النصارى وغير النصارى استؤنف هذا الجدال وأخذ صورة أقرب إلي النضال منها إلي شيء آخر .
وذهب المجادلون في هذا النوع من الخصومة مذاهب لا تخلو من الغرابة نحب أن نشير إلي بعضها في شيء من الإيجاز .
أما المسلمين فقد أرادو أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي ، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلي الأنبياء من قبل .
فليس غريبا أن نجد قبل الإسلام قوما يدينون بالإسلام أخذوه من هذه الكتب السماوية التي أوحيت قبل القرآن .
والقرآن يحدثنا عن هذه الكتب ، فهو يذكر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى .
وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئا آخر هو صحف إبراهيم .
ويذكر غير دين اليهود والنصارى دين آخر هو ملة إبراهيم ، هو هذه الحنيفية التي لم نستطيع إلي الآن أن نتبين معناها الصحيح .
وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله ، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله ، وكان القرآن قد وقف من أولئك وهؤلاء موقف من ينكر عليهم صحة ما يزعمون ، فطعن في صحة ما بين أيديهم من التوراة والإنجيل واتهمهم بالتحريف والتغيير ، ولم يكن أحد قد أحتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها ، فقد أخذ المسلمون يردون الإسلام في خلاصته إلي دين إبراهيم هذا الذي هو أقدم وانقي من دين اليهود والنصارى .
وشاعت في العرب أثناء ظهور وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم .
ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت إلي عبادة الأوثان .
ولم يحتفظ بدين إبراهيم إلا أفراد قليلون يظهرون من حين إلي حين .
وهؤلاء الأفراد يتحدثون فنجد من أحاديثهم ما يشبه الإسلام .
وتأويل ذلك يسير ، فهم أتباع إبراهيم ، ودين إبراهيم هو الإسلام .
وتفسير هذا من الوجهة العلمية يسير أيضا ، فأحاديث هؤلاء الناس قد وضعت لهم وحملت عليهم حملا بعد الإسلام لا لشيء إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمه وسابقة .
وعلي هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلي الجاهليين والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن من الحديث شبه قوي أو ضعيف .
وهنا نصل إلي مسألة عني بها الباحثون عن تاريخ القرآن من الفرنج والمستشرقين خاصة ، وهي تأثير المصادر العربية الخالصة في القرآن .
فقد كان هؤلاء الباحثون يرون أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية ومذاهب أخرى بين بين كانت شائعة في البلاد العربية وما جاورها .
ولكنهم رأوا أن يضيفوا إلي هذه المصادر مصدرا عربيا خالصا ؛ والتمسوا هذا المصدر من شعر العرب الجاهليين ، ولاسيما الذين كانوا يتمنعون منهم .
وزعم الأستاذ ( كليمان هوار ) - في فصل طويل نشرته له المجلة الأسيوية سنة 1804 - أنه قد ظفر من ذلك بشيء قيم واستكشف مصدرا جديدا من مصادر القرآن ، هذا الشيء القيم وهذا المصدر الجديد هو شعر أمية بن أبي الصلت .
وقد أطال الأستاذ ( هوار ) في هذا البحث وقارن بين هذا الشعر الذي ينسب إلي أمية ابن أبي الصلت وبين آيات القرآن ، وانتهي من هذه المقارنة إلي نتيجتين :

( الأولى ) أن هذا الشعر الذي ينسب لأمية ابن أبي الصلت صحيح لأن هناك فروقا بين ما جاء فيه وما جاء في القرآن من تفصيل بعض القصص ، ولو كان منتحلا لكانت المطابقة تامة بينه وبين القرآن .
وإذا كان هذا الشعر صحيحا ، فيجب في رأي الأستاذ ( هوار ) أن يكون النبي قد استعان به قليلا أو كثيرا في نظم القرآن .
( الثانية ) أن صحة هذا الشعر واستعانة النبي به في نظم القرآن قد حملتا المسلمين علي محاربة شعر أمية ابن أبي الصلت ومحوه ليستأثر القرآن بالجدة وليصح أن النبي قد انفرد بتلقي الوحي من السماء .

وعلي هذا النحو استطاع الأستاذ ( هوار ) أو خيل أليه أنه استطاع أن يثبت أن هناك شعرا جاهليا صحيحا ، وأن هذا الشعر الجاهلي قد كان له أثر في القرآن .
ومع أني من أشد الناس إعجابا بالأستاذ ( هوار ) وبطائفة من أصحابه المستشرقين وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث ، فأني لا استطيع أن أقرأ مثل هذا الفصل الذي أشرت إليه آنفا دون أن أعجب كيف يتورط العلماء أحيانا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم .
وليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون ، فأنا لا أؤرخ القرآن ، وأنا لا أزود عنه ولا أتعرض للوحي وما يتصل به ، ولا للصلة بين القرآن وما كان يتحدث به اليهود والنصارى .
وإنما الذي يعنيني هو شعر أمية بن أبي الصلت وأمثاله من الشعراء .
والغريب من أمر المستشرقين في هذا الموضوع وأمثاله أنهم يشكون في صحة السيرة نفسها ويتجاوز بعضهم الشك إلي الجحود ، فلا يرون في السيرة مصدرا تاريخيا صحيحا ، وإنما هي عندهم كما ينبغي أن تكون عند العلماء جميعا : طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلي التحقيق والبحث العلمي الدقيق ليمتاز صحيحها من منتحلها .
هم يقفون هذا الموقف العلمي من السيرة ويغلون في هذا الموقف ؛ ولكنهم يقفون من أمية بن أبي الصلت وشعره موقف المستيقن المطمئن ، مع أن أخبار أمية ليست ادني إلي الصدق ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة .
فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلي نحو من الأخبار دون النحو الآخر ؟ أيمكن أن يكون المستشرقين أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات ؟
أما أنا فلست مستشرقا ولست رجلا من رجال الدين .
وإنما أريد أن اقف من شعر أمية بن أبي الصلت نفس الموقف العلمي الذي وقفته من شعر الجاهليين جميعا .
وحسبي أن شعر أمية ابن أبي الصلت لم يصل إلينا إلا من طريق الرواية والحفظ لأشك في صحته كما شككت في شعر أمريء القيس والأعشى وزهير ، وأن لم يكن لهم من النبي موقف أمية بن أبي الصلت .
ثم أن هذا الموقف نفسه يحملني علي أن ارتاب الارتياب كله في شعر أمية ابن أبي الصلت ؛ فقد وقف أمية من النبي موقف الخصومة : هجا أصحابه وأيد مخالفيه ورثي أهل بدر من المشركين .
وكان هذا وحده يكفي لينهي عن رواية شعره ، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هجا فيه النبي وأصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينهم وبين مخالفيهم من العرب الوثنيين واليهود .
وليس يمكن أن يكون من الحق في شيء أن النبي نهي عن رواية شعر أمية لينفرد بالعلم والوحي وأخبار الغيب .
فما كان شعر أمية ابن أبي الصلت إلا شعرا كغيره من الشعر لا يستطيع أن ينهض للقرآن كما لم يستطع غيره من الشعر أن ينهض للقرآن .
وما كان علم أمية ابن أبي الصلت بأمور الدين إلا كعلم أحبار اليهود ورهبان النصارى . وقد ثبت النبي لأولئك وهؤلاء واستطاع أن يغلبهم علي عقول العرب بالحجة مرة وبالسيف مرة أخرى .
فأمر النبي مع أمية بن أبي الصلت كأمره مع هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين هجوه وناهضوه وألبوا عليه .
ومن هنا تستطيع أن تفهم ما يروى من أن النبي أنشد شيئا من شعر أمية فيه دين وتحنف فقال : " آمن لسانه وكفر قلبه " آمن لسانه لأنه كان يدعو إلي مثل ما كان يدعو إليه النبي ، وكفر قلبه لأنه كان يظاهر المشركين علي صاحب هذا الدين الذي كان يدعو إليه . فأمره كأمر هؤلاء اليهود الذين أيدوا ووادعوه ، حتى إذا خافوه علي سلطانهم السياسي والاقتصادي والديني ظاهروا عليه المشركين من قريش .
ليس إذا شعر أمية بن ابي الصلت بدعا في شعر المتحنفين من العرب أو المنتصرين والمتهودين منهم .
وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه ؛ إلا ما كان منه هجاء النبي وأصحابه ونعيا علي ألإسلام ؛ فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أهمل حتى ضاع .
ولكن في شعر أمية بن ابي الصلت وردت في القرآن كأخبار ثمود وصالح والناقة والصيحة .
ويرى الأستاذ ( هوار ) أن ورود هذه الأخبار في شعر أمية مخالفة بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل علي صحة هذا الشعر من جهة ، وعلي أن النبي قد استقى منه أخباره من جهة أخرى .
ولست أدري قيمة هذا النحو من البحث .
فمن الذي زعم أن ما جاء في القرآن من أخبار كان كله مجهولا قبل أن يجيء به القرآن ؟ ومن الذي يستطيع أن ينكر أن كثيرا من القصص القرآني كان معروفا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم ، وكان من اليسير أن يعرفه النبي ، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي من المتصلين بأهل الكتاب .
ثم كان النبي وأمية متعاصرين .
فلم يكون النبي هو أخذ عن أمية ولا يكون أمية هو الذي أخذ عن النبي ؟
ثم من الذي يستطيع أن يقول : إن من ينتحل الشعر ليحاكي القرآن ملزم أن يلائم بين شعره وبين نصوص القرآن ؟
أليس المعقول أن يخالف بسنهما ما استطاع ليخفي الانتحال ويوهم أن شعره صحيح لا تكلف فيه ولا تعمل ؟ بلى !
ونحن نعتقد أن هذا الشعر الذي يضاف إلي أمية بن أبي الصلت وإلي غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي أو جاءوا قبله ، إنما انتحل انتحالا .
انتحله المسلمون ليثبتوا - كما قدمنا - أن للإسلام قدمه وسابقه في البلاد العربية ، ومن هنا لا نستطيع أن نقبل ما يضاف إلي هؤلاء الشعراء والمتحنفين إلا مع شيء من الاحتياط والشك غير قليل .
هذا شأن المسلمين .
فأما غير المسلمين من أصحاب الديانات الأخرى فقد نظروا فإذا لهم في حياة الأمة العربية قبل الإسلام قديم .
وفي الحق أن اليهود قد استعمروا جزءا غير قليل من بلاد الحجاز في المدينة وحولها وعلي طريق الشام .
وفي الحق أيضا أن اليهود قد جاوزت الحجاز إلي اليمن .
ويظهر أنها استقرت حينا عند سراة اليمن وأشرافها ، وأنها أثرت بوجه ما في الخصومة التي كانت بين أهل اليمن وبين الحبشة ، وهم نصارى .
ثم في الحق أن اليهودية قد استتبعت حركة اضطهاد للنصارى في نجران قد ذكرها القرآن في سورة البروج .
كان هذا حق لا شك فيه .
وكل هذا ظاهر في أخبار العرب وأساطيرهم ، وهو ظاهر في القرآن بنوع خاص ؛ فليس قليلا ما يمس اليهود من سور القرآن وآياته .
وأنت تعلم ما كان بين النبي واليهود من خصومة انتهت بإجلاء اليهود عن بلاد العرب أيام عمر بن الخطاب .
وكان اليهود قد تعربوا حقا ، وكان كثير من العرب قد تهودوا .
وليس من شك عندي في أن الاختلاط بين اليهود وبين الأوس والخزرج قد أعد هاتين القبيلتين لقبول هذا الدين الجديد وتأييد صاحبه .
هذا حال اليهود .
فأما النصارى فقد انتشرت ديانتهم انتشارا قويا في بعض بلاد العرب فيما يلي الشام حيث كان الغسانيون الخاضعون لسلطان الروم .
وفيما يلي العراق حيث كان المناذرة الخاضعون لسلطان الفرس ، وفي نجران من بلاد اليمن التي كانت علي اتصال بالحبش وهم نصارى .
ويظهر أن قبائل من العرب البادين تنصرت قبل الإسلام بأزمان تختلف طولا وقصرا .
فنحن نعلم مثلا أن تغلب كانت نصرانية وأنها أثارت مسألة من مسائل الفقه .
فالقاعدة أنه لا يقبل من العربي إلا الإسلام أو السيف ؛ فأما الجزية فتقبل من غير العرب .
ولكن تغلب قبلت منها الجزية ، قبلها عمر فيما يقول الفقهاء .
تغلغلت النصرانية إذن كما تغلغلت اليهودية في بلاد العرب .
وأكبر الظن أن الإسلام لو لم يظهر لانتهى الأمر بالعرب إلي اعتناق إحدى هاتين الديانتين .
ولكن الأمة العربية كان لها مزاجها الخاص الذي لم يستقم لهذين الديانتين والذي استتبع دينا جديدا أقل ما يوصف به أنه ملائم ملائمة تامة لطبيعة الأمة العربية .
مهما يكن من شيء ، فليس من المعقول أن ينتشر هذان الدينان في البلاد العربية دون أن يكون لهما أثر ظاهر في الشعر العربي قبل الإسلام .
وقد رأيت أن العصبية العربية حملت العرب علي أن ينتحلوا الشعر ويضيفوه إلي عشائرهم في الجاهلية بعد أن ضاع شعر هذه العشائر .
فالأمر كذلك في اليهود والنصارى : تعصبوا لأسلافهم من الجاهليين وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين ، وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد كما كان لغيرهم مجد وسؤدد أيضا ، فانتحلوا كما انتحل غيرهم ، ونظموا شعرا أشافوه إلي السموءل بن عادياء وإلي عدي بن زيد وغيرهم من شعراء اليهود والنصارى .
والرواة القدماء أنفسهم يحسون شيئا من هذا فهم يجدون فيما ينسب إلي عدي بن زيد من الشعر سهولة ولينا لا يلائمان العصر الجاهلي ، فيحاولون تعليل ذلك بالإقليم والاتصال بالفرس واصطناع الحياة الحضرية التي كان يصطنعها أهل الحيرة .
ونحن نجد مثل هذه السهولة في شعر اليهود ، في شعر السموءل بنوع خاص .
ولا نستطيع أن نعللها بمثل ما عللت به في شعر عدي .
فقد كان السموءل - إن صحت الأخبار - يعيش عيشة خشنة أقرب إلي حياة السادة البادية منها إلي حياة أصحاب الحضر .
ويحدثنا صاحب الأغاني بأن ولد السموءل انتحلوا قصيدة قافية أضافوها إلي أمريء القيس وزعموا أنه مدح بها السموءل حين أودعه سلاحه في طريقه إلي قسطنطينية .
ونرجح نحن أن ولد السموءل هم الذين انتحلوا هذه القصيدة الرائية التي تضاف للأعشى والتي يقال إنه مدح بها شرحبيل بن السموءل في قصته المشهورة مع الكلبي .
فأنت ترى أن للعواطف الدينية علي اختلافها وتنوع أغراضها مثل ما للعواطف السياسية من التأثير في انتحال الشعر وإضافته إلي الجاهليين .
وإذا كان من الحق أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء السياسية ، فمن الحق أيضا أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء الدينية .
وأكبر الظن أن الشعر الذي يسمى جاهليا مقسم بين السياسة والدين ، ذهبت هذه بشطر منه وذهب هذا بالشطر الآخر ولكن أسباب الانتحال ليست مقصورة علي السياسة والدين بل هي تتجاوزها إلي أشياء أخرى .


4- القصص وانتحال الشعر

من هذه الأشياء شيء ليس دينا ولا سياسة ولكنه يتصل بالدين وبالسياسة اتصالا قويا ، بريد به القصص الذي أشرنا إليه غير مرة فيما قدمنا من القول .
فالقصص في نفسه ليس من السياسة ولا من الدين ، وإنما هو فن من فنون الأدب العربي توسط بين آداب الخاصة والآداب الشعبية .
وكان مرآة للون من ألوان الحياة النفسية عند المسلمين .
وأزهر في عصر غير قصير من عصور الأدب العربي الراقية ، أزهر أيام بني أمية وصدرا من أيام بني العباس ، حتى إذا كثر التدوين وانتشرت الكتب واستطاع الناس أن يلهوا بالقراءة دون أن يتكلفوا الانتقال إلي مجالس القصاص ، ضعف أمر هذا الفن وأخذ يفقد صفته الأدبية الراقية شيئا فشيئا حتى ابتذل وأنصرف عنه الناس .
وهذا الفن الأدبي تناول الحياة العربية والإسلامية كلها من ناحية خيالية لم يقدرها الذين درسوا تاريخ الآداب العربية قدرها ، لا أكاد أستثني منهم إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ؛ فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلي القدماء ، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه " تاريخ آداب العرب " .
نقول أن هذا الفن تناول الحياة العربية والإسلامية من ناحية خيالية خالصة .
ونعتقد أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لو أنهم عنوا بدرس هذا الفن عناية علمية صحيحة لوصلوا إلي نتائج قيمة ولغيروا رأيهم في تاريخ الأدب .
فمهما تكن الأسباب التي دعت إلي نشأة فن القصص عند المسلمبن ، فقد نشأ هذا الفن ، وكانت منزلته عند المسلمين هي بعينها منزلة الشعر القصصي عند قدماء اليونان .
وكانت الصلة بينه وبين الجماعات هي الصلة بين الشعر القصصي اليوناني وجماعات القدماء .
وليس من شك عندنا في أن هؤلاء القصاص من المسلمين قد تركوا آثارا قصصية لا تقل جمالا وروعة وحسن موقع في النفس عن " الإلياذة " و" الأودسا " .
وكل ما بين القصص الإسلامي واليوناني من الفرق هو أن الأول لم يكن شعرا كله وإنما كان نثرا يزينه الشعر من حين إلي حين بينما كان الثاني كله شعرا ، وأن الأول لم يكن يلقيه صاحبه علي أنغام الأدوات الموسيقية بينما كان القاص اليوناني يعتمد علي الأداة الموسيقية اعتمادا ما ، وأن الأول لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد الثاني من عناية اليونان ؛ فبينما كان اليونان يقدس " الإلياذة "و" الأودسا " ويعنون بجمعهما وترتيبهما وروايتهما وأذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن ، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا .
وفي الحق أن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإسلامية الأولى لنفسه وإنما درس من حيث هو وسيلة إلي تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه ومن الحديث .
وكان هذا كله أدني إلي الجد وألصق به من هذا القصص الذي كان يمضي مع الخيال حيث أراد ويتقرب من نفس الشعب ويمثل له أهواءه وشهواته ومثله العليا . فليس غريبا أن ينصرف عن القصص أصحاب الجد من المسلمين .
كان قصاص المسلمين يتحدثون إلي الناس في مساجد الأمصار فيذكرون لهم قديم العرب والعجم وما يتصل بالنبوات ، ويمضون معهم في تفسير القرآن والحديث ورواية السيرة والمغازي والفتوح إلي حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم لا إلي حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا .
وكان الناس كلفين بهؤلاء القصاص مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث .
وما أسرع ما فطن الخلفاء والأمراء لقيمة هذه الأداة الجديدة من الوجهة السياسية والدينية , فاصطنعوها وسيطروا عليها واستغلوها استغلالا شديدا ، وأصبح القصص أداة سياسية كالشعر وليس من شك في أن العناية بدرس هذا الفن ستنتهي إلي مثل ما انتهت إليه العناية بدرس الشعر من أن الأحزاب السياسية علي اختلافها كانت تصطنع القصاص ينشرون لها الدعوة في طبقات الشعب علي اختلافها ، كما كانت تصطنع الشعراء يناضلون عنها ويذودون عن آرائها وزعمائها .
ونحن نعرف من سيرة ابن إسحاق أنه كان هاشمي النزعة والهوى ، وأنه لقي في ذلك عناء من الأمويين في آخر عهدهم بالسلطان ، وأنه ظفر بحسن المنزلة عند العباسيين في أول عهدهم بالملك .
والتعمق في درس حياة القصاص الذين كانوا يقصون في البصرة والكوفة ومكة والمدينة وغيرها من الأمصار يظهرنا من غير شك علي الصلات التي كانت تصل بين هؤلاء القصاص وبين الأحزاب السياسية .
غير أن القصص لم يتأثر بالسياسة وحدها ، وإنما تأثر بالدين أيضا .
وقد رأيت في الفصل الماضي مثلا توضح هذا التأثر .
وتأثر القصص بشيء آخر غير الساسة والدين هو روح الشعب الذي كان يتحدث إليه .
ومن هنا عني عناية شديدة بالأساطير والمعجزات وغرائب الأمور .
ومن هنا اجتهد في تفسير هذه الأساطير وإكمال الناقص منها وتوضيح الغامض .
فنحن نستطيع أن نقول أن هذا القصص كان يستمد قوت وثروته من مصادر مختلفة أهمها أربعة :

( الأول ) مصدر عربي هو القرآن وما كان يتصل به من الأحاديث والروايات ، وما كانت تتحدث به العرب في الأمصار من أخبارها وأساطيرها وما كانت تروي من شعر ،وما كان يتحدث به الرواة من سيرة النبي والخلفاء وغزواتهم وفتوحهم.
( الثاني ) مصدر يهودي نصراني ، وهو ما كان يأخذه القصاص عن أهل الكتاب من أخبار الأنبياء والأحبار والرهبان وما يتصل بذلك ، وليس ينبغي أن ننسى هنا تأثير أولئك اليهود والنصارى الذين أسلموا وأخذوا يضعون الأحاديث ويدسونها مخلصين أو غير مخلصين .
( الثالث ) مصدر فارسي ، وهو هذا الذي كان يستقيه القصاص في العراق خاصة من الفرس مما يتصل بأخبارهم وأساطيرهم وأخبار الهند وأساطيرها .
ثم المصدر الرابع مصدر مختلط هو هذا الذي يمثل نفسية العامة غير العربية من أهل العراق والجزيرة والشام من الأنباط والسريان ومن إليهم من هؤلاء الأخلاط الذين كانوا منبثين في هذه الأقطار والذين لم تكن لهم سيادة ولا وجود سياسي ظاهر .
كل هذه المصادر كانت تمد القصاص .
فكنت ترى في قصصهم ألوانا من القول وفنونا من الحديث قد لا تعجب العالم المحقق لاضطرابها وظهور سلطان الخيال عليها ؛ ولكن لها جمالا أدبيا فنيا رائعا يعجب به من يستطيع أن يقدر التئام هذه الأهواء المختلفة التي تتصل بشعوب مختلفة وأجيال متباينة من الناس .
ويعجب به بنوع خاص الذين يحاولون أن يستبينوا فيه نفسية الشعوب والأجيال التي كانت تلهم هؤلاء القصاص .
مهما يكن من شيء فإن هذه المصادر كلها كانت تطلق ألسنة القصاص بما كانوا يتحدثون به إلي مسامعيهم في الأمصار .
وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزنه الشعر من حين إلي حين .
ويكفي في أن تنظر في ألف ليلة وليلة وفي قصة عنترة وما يشبهها ، فسترى أن هذه القصص لا تستطيع أن تستغني عن الشعر ، وأن كل موقف قيم أو ذي خطر من مواقف هذه القصص لا يستقيم لكاتبه وسامعه إلا إذا أضيف إليه قدر من الشعر قليل أو كثير يكوون عمادا له ودعامة .
وإذن فقد كان القصاص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلي مقادير لا حد لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه .
وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون وفوق ما كانوا يشتهون .
وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يستقلون بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر في هذا القصص ، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها ، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها .
ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض ؛ فقد يحدثنا ابن سلام أن ابن إسحاق كان يعتذر عما كان يروى من غثاء الشعر فيقول : لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله .
فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله .
فمن هؤلاء القوم ؟
أليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلي الناس فحسب ، وإنما كان كل واحد منهم يشرف علي طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين ، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق وتنسيق هؤلاء طبعوا بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس .
وكان مثلهم في هذا مثل القاص الفرنسي المعروف ( ألكسندر دوما ) الكبير .
وأنت تدهش إذا رأيت هذه الكثرة الشعرية التي تنبث فيما بقي لنا من آثار القصاص .
فلديك في سيرة ابن هشام وحدها دواوين من الشعر نظم بعضها حول غزوة بدر ، وبعضها حول غزوة أحد ، وبعضها في غير هاتين الغزوتين من المواقف والوقائع ، وأضيف كل هذا إلي الشعر من الأشخاص المعروفين ، وأضيف بعضه إلي حمزة ، وبعضه إلي علي ، وبعضه إلي حسان ، وبعضه إلي كعب بن مالك ، وأضيف بعضه إلي نفر من شعراء قريش ، وإلي نفر من قريش لم يكونوا شعراء قط ، وإلي نفر آخرين من غير قريش .
وليس غير سيرة ابن هشام أقل منها حظا في هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين مرة وإلي المخضرمين مرة أخرى .
وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سببا في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به ، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعا ، وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة ، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته ، يكفي أن يصرف همه إلي القول فإذا هو ينساق إليه انسياقا .
كان القدماء يعتقدون هذا ، وما زال المحدثون يرونه .
وعذر أولئك وهؤلاء أن لديهم كثرة فاحشة من الشعر تضاف إلي ناس منهم المعروف ومنهم غير المعروف ، منهم الحضري ومنهم البدوي .
فأما العلماء والمحققين منهم استطاعوا أن ينفوا من هذا الشعر مقدارا قليلا أو كثيرا لم يستطيعوا أن يقبلوا ولا أن يطمئنوا إليه .
ولكنهم بعد الحذف والنفي والنقد والتمحيص نظروا فإذا لديهم مقادير ضخمة تضاف إلي ناس منهم المعروف ومنهم المجهول ، ومنهم الحضري ومنهم البدوي .
فأي شيء أيسر من أن يعتقدوا أن العربي شاعر بفطرته ، وأنه يكفي أن يكون الرجل عربيا ليقول الشعر متى شاء وكيف شاء .
ولكن رأيا كهذا لا يلائم طبيعة الأشياء .
فنحن نستطيع أن نؤمن بأن الأمم تتفاوت حظوظها من الشعر ، فبعضها أشعر من بعض ، وبعضها أكثر شعراء من بعضها الآخر .
ولكن لا نستطيع أن نفهم أن يكون جيل من الناس شاعرا كله ، أو أن تكون امة من الأمم شاعرة كلها رجالا ونساء شبانا وشيبا وولدانا أيضا .
ولدينا نصوص قديمة تدلنا علي أن العرب لم يكونوا جميعا شعراء .
فكثيرا ما حاول العربي قول الشعر فلم يوفق إلي شيء .
وقد طلب إلي النبي في بعض المواقف التي أحتاج فيها المسلمون إلي الشعر أن يأذن لعلي في أن يقول شعرا يرد به علي شعراء قريش فأبى النبي أن يأذن له ، لأنه لم يكن من ذلك في شيء وأذن لحسان .
وما نظن أننا في حاجة إلي أن نقيم الأدلة ونبسط البراهين علي أن العرب لم يكونوا كلهم شعراء .
وإنما سبيلنا أن نوضح أن كثرة هذا الشعر هي التي خيلت إلي القدماء والمحدثين أن لفظ العربي مرادف للفظ الشاعر .
فإذا ما أضفت إلي ما قدمنا أنك تجد كثيرا من الشعر يضاف إلي قائل غير معروف بل غير مسمى ، فتراهم يقولون مرة قال الشاعر ، وأخرى قال الأول ، وثالثة قال الآخر ، ورابعة قال رجل من بني فلان ، وخامسة قال أعرابي وهلم جرا - نقول إذا لاحظت هذا كله عذرت القدماء والمحدثين إذا اعتقدوا أن العرب كلهم شعراء .
والحق أن العرب كانوا كغيرهم من الأمم ذات الفصاحة واللسن والأذهان القوية ويكثر فيهم الشعر دون أن يعم كافتهم ، وأن أكثر هذا الشعر الذي بضاف إلي غير قائل أو إلي قائل مجهول إنما هو شعر مصنوع موضوع انتحل انتحالا بسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها ومنها القصص .
كثرة هذا الشعر الذي أحتاج إليه القصاص لتزدان به قصصهم من ناحية وليسيغها القراء والمستمعون من ناحية أخرى خدعت فريقا من العلماء ، فقبلوها علي أنها صدرت عن العرب حقا .
وقد فطن بعض العلماء إلي ما في هذا الشعر من تكلف حينا ومن سخف وإسفاف حينا آخر ، وفطن إلي أن بعض هذا الشعر يستحيل أن يكون قد صدر عن الذين ينسب إليهم .
ومن هؤلاء العلماء محمد ابن سلام الذي أنكر - كما رأيت - ما يضيفه ابن إسحاق إلي عاد وثمود وحمير وتبع ، وأنكر كثيرا مما رواة ابن إسحاق في السيرة من شعر الرجال والنساء سواء منهم من عرف بالشعر ومن لم يقل شعرا قط .
وآخرون غير ابن سلام أنكروا ما روى ابن إسحاق وأصحابه القصاصون ؛ نذكر منهم ابن هشام الذي يروي لنا في السيرة ما كان يرويه ابن إسحاق ، حتى إذا فرغ من رواية القصيدة.
قال : وأكثر أهل العلم بالشعر أو بعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة أو ينكرها لمن تضاف إليه .
ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في انتحال الشعر خدعوا أيضا؛ فلم يكن صناع الشعر جميعا ضعافا ولا محمقين ، بل كان منهم ذو البصيرة النافذة والفؤاد الذكي والطبع اللطيف ، فكان يجيد الشعر ويحسن انتحاله وتكلفه ، وكان فطنا يجتهد في إخفاء صنعته ويوفق من ذلك إلي الشيء الكثير .
وابن سلام نفسه يحدثنا بأنه إذا سهل علي العلماء النقاد أن يعرفوا ما تكلفه الضعفاء من المنتحلين ، فمن العسير عليهم أن يميزوا ما كان يتكلفه العرب أنفسهم كانوا يتكلفون ويضعون ويكذبون ، فيسرفون في هذا كله .
ولعل من أوضح الأمثلة لانخداع ابن سلام عن هذا الشعر المنتحل هذه الطائفة التي رواها علي أنها أقدم ما قالته العرب من الشعر الصحيح ؛ والتي يضاف بعضها إلي جذيمة الأبرش ، وبعضها إلي زهير بن جناب ، وبعضها إلي العنبر بن تميم ، وبعضها إلي أعصر بن سعد ابن قيس عيلان .
وكل هذا الشعر إذا نظرت فيه ، سخيف سقيم ظاهر التكلف بين الصنعة .
واضح جدا أن راويا من الرواة أو قاصا من القصاص تكلفة ليفسر مثلا من الأمثال أو أسطورة من الأساطير أو لفظا غريبا أو ليلذ القاريء أو السامع ليس غير .
ولنضرب مثلا هذين البيتين الذين يضافان إلي أعصر بن سعد ابن قيس عيلان ، وهما :

قالت عميرة ما لرأسك بعد ما = نفذ الزمان أتى بلون منكر
أعمير أن أباك شيب رأسه = كر الليالي واختلاف الأعصر

قال ابن سلام وغيره من العلماء والرواة : أن هذا الرجل إنما سمي " أعصر " لهذا البيت الأخير .
قال ابن سلام : وبعض الناس يسميه " يعصر " وليس بشيء .
وابن سلام نفسه يحدثنا أن " معدا " كان يعيش في العصر الذي كان يعيش فيه موسى بن عمران ، أي قبل المسيح بقرون عدة أي قبل الإسلام بأكثر من عشرة قرون .
فإذا لاحظنا أن أعصر هذا هو ابن سعد بن قيس عيلان بن إلياس ابن مضر بن نزار بن معد ، رأينا أنه أن عاش فقد عاش في زمن متقدم جدا أي قبل الإسلام بعشرة قرون علي اقل تقدير .
أفتظن أن هذين البيتين الذين قرأتهما آنفا يمكن أن يكونا قد قيلا قبل الإسلام بألف سنة !
ونحن لا نعرف اللغة العربية قبل الإسلام بثلاثة قرون أو أربعة قرون ؛ ونحن نجد مشقة غير قليلة في فهم الشعر العربي الصحيح الذي قيل أيام النبي أو بعد النبي ، ولا نجد شيئا من العسر في فهم هذا الكلام الذي إن صح رأي ابن سلام فقد قيل قبل النبي بأكثر من عشرة قرون أليس واضحا جليا أن هذين البيتين إنما قيلا في الإسلام ليفسرا أسم هذا الرجل الذي هو في حقيقة الأمر من أشخاص الأساطير لا نعرف أوجد في حقيقة الأمر أم لم يوجد .
وقل مثل هذا فيما يضيفه ابن سلام إلي مالك وسعد ابنى زيد مناة ابن تميم . فنحن لا نعرف من سعد ومن مالك ومن زيد مناة ومن تميم . وأكبر الظن عندنا أنهم أشخاص أساطير لم يوجدوا قط .
ولكن رأى الرواة والقصاص مثلا تستعمله العرب وهو : " ما هكذا تورد يا سعد الإبل " .. وهم فى حاجة إلى تفسير الأمثال ؛ والشعوب نفسها فى حاجة إلى تفسير الأمثال أيضاً .
من هنا اخترعت هذه القصة التى نطق فيها سعد ومالك بما يضاف إليها من الرجز .
وقل مثل هذا فيما يضاف للعبير ابن تميم وهو:

قد رابنى من دلوي اضطرابها
والنأي في بهراء واغترابها
إلاًّ تجئ ملأى يجئ قرابها


فالأمر عندنا لا يتجاوز تفسير هذا البيت الأخير الذى كان يجرى مجرى المثل فيما يظهر وقل مثل هذا فى هذا الشعر الذى يضاف إلى جذيمة الأبرش , وفى كل ما يتصل بجذيمة وصاحبته الزبّاء وابن أخته عمرو بن عدى ووزيره قصير .فليس لهذا كله إلا أصل واحد هو تفسير طائفة من الأمثال ذكرت فيها أسماء هؤلاء الناس كلهم أو بعضهم كقولهم " لا يطاع لقصير أمر " .
وقولهم : " لأمر ما جدع قصير أنفه " , وقولهم : " شب عمرو على الطوق " . أو ذكر فيها ما يتصل بهؤلاء الناس فى هذه القصص التى كانت شائعة عند هؤلاء الأخلاط من سكان العراق والجزيرة الشأم وما يتصل بها من بوادي العرب , كفرس جذيمة التى كانت تسمى " العصا " والبرج الذى بناه قصير على العصا بعد أن نفقت وكان يسمى " برج العصا" , ودم جذيمة الذى جمعت الزباء فى طست من الذهب , وجمال عمرو بن عدى التى احتال قصير فى إدخالها تدمر وعليها الرجال فى الغرائر . وتستطيع أن تذهب هذا المذهب من الفهم والتفسير فى كل هذه الحكايات والأساطير التى تتصل بالأسماء والأمثال والأمكنة وما إليها وما ينشد فيها من الشعر . ولكن القدماء لم يذهبوا هذا المذهب ؛ وإنما قلبوا هذه الأخبار والأشعار على علاتها ورووها على أنها صحيحة لأنهم سمعوها من رواة كانوا يعتقدون أنهم ثقات مصححون .
ومن هنا روى ابن سلام وغيره أبياتاً لجذيمة على أنها من أقدم الشعر العربي التي تبتدئ بهذا البيت :
ربما أوفيت فى علم = ترفعن ثوبى شمالات

وهناك لون من ألوان القصص كان الناس يتحدثون به ويميلون إليه ميلا شديدا ويروون فيه الأكاذيب والأعاجيب وهو أخبار المعمرين الذين مدّت لهم الحياة إلى أبعد مما ألف الناس .
وقد رويت حول هؤلاء المعمّرين أخبار وأشعار قبلها العلماء الثقات فى القرن الثالث للهجرة كأبي حاتم السجستانى وابن سلام نفسه , وهو يروى لنا فى كتاب الطبقات هذا الشعر المتكلف السخيف الذى يضاف إلى أحد هؤلاء المعمّرين وهو المستوغر ابن ربيعه بن كعب بن سعد الذى بقى بقاء طويلا حتى قال :
ولقد سئمت من الحياة وطولها = وازددت من عدد السنين مئينا
مائة أتت من بعدها مئتان لي = وازددت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقى إلا كما قد فاتنا = يوم يكــرّ وليلة تحـدونــا

ويروى لنا ابن سلام شعراً آخر ليس أقل من هذا الشعر سخفًا ولا تكلفًا ولا انتحالا يضيفه إلى دويد بن زيد بن نهد حين حضره الموت :
اليوم يبنى لدويد بيته = لو كان للدهر بلىً أبليته
أو كان قرني واحداً كفيته = يارب نهب صالح حويته
ورب غيل حسن لويته = ومعصم مخضّب ثنيته

فأنت ترى أن ابن سلام على ما أظهر من الشك فيما كان ريوى ابن إسحاق من شعر عاد وثمود ويبع وحمير , قد انخدع عما كان يرويه ابن إسحاق وغير ابن إسحاق من القصاص من الشعر يضيفونه إلى القدماء من حاضرة العرب وباديتهم .
والرواة أشدّ انخداعًا حين يتصل الأمر بالبادية اتصالا شديداً , وذلك فى هذه الأخبار التى يسمونها " أيام العرب " أو " أيام الناس " .
فهم سمعوا بعض هذه الأخبار من الأعراب ثم رأوها تقص مفصلة مطوّلة فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جدّ من الأمر , ورووه وفسروه وفسروا به الشعر واستخلصوا منه تاريخ العرب ؛ مع أن الأمر فيه لا يتجاوز ما قدمناه .
فليست هذه الأخبار إلا المظهر القصص لهذه الحياة العربية القديمة , ذكره العرب بعد أن استقرّوا فى الأمصار فزادوا فيه ونموه وزيّنوه بالشعر ؛ كما ذكر اليونان قديمهم فأنشأوا فيه " الإلياذة " و " الأودسا " وغيرهما من قصائد الشعر القصص التى لم يكن يكاد يبلغها الإحصاء .
فحرب البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفساد وهذه " الأيام " الكثيرة التى وضعت فيها الكتب ونظم فيها الشعر ليست فى حقيقة الأمر - إن استقامت نظريتنا - إلا توسيعًا وتنمية لأساطير وذكريات كان العرب يتحدّثون بها بعد الإسلام .
ومن هنا نستطيع أن نقول مطمئنين إن مؤرّخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك - إن لم يقف موقف الإنكار الصريح - أمام هذا الشعر الذى يضاف إلى الجاهليين , والذي هو في الحقيقة الأمر تفسير أو تزيين لقصة من القصص أو توضيح لاسم من الأسماء أو شرح لمثل من الأمثال .
كل ما يروى عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق موضح لا أصل له . وكل ما يروى عن تبع وحمير وشعراء اليمن فى العصور القديمة , وأخبار الكهان , وما يتصل بسيل العرم وتفرّق العرب بعده موضوع لا أصل له .
وكل ما يروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من شعر خليق أن يكون موضوعاً .
والكثرة المطلقة من موضوع من غير شك . وكل ما يروى من هذه الأخبار والأشعار التى تتصل بما كان بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة خليق أن يكون موضوعاً .
وكثرته المطلقة موضوعة من غير شك . ولسنا نكر شعر آدم وما يشبهه فنحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين .


5- الشعوبية وانتحال الشعر

والشعوبية ما رأيك فيهم وفيما يمكن أن يكون لهم من الأثر القوى فى انتحال الشعر والأخبار وإضافتها إلى الجاهليين ؟
أما نحن فنعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد انتحلوا أخباراً وأشعاراً كثيرة وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين .
ولم يقف أمرهم عند انتحال الأخبار والأشعار , بل هم قد اضطروا خصومهم ومناظريهم إلى الانتحال والإسراف فيه .
وأنت تعلم أن أصل هذه الفرقة إنما هو هذا الحقد الذى أضمره الفرس المغلوبون للعرب الغالبين , وأنت تعلم أن هذه الخصومة قد أخذت مظاهر مختلفة منذ تم الفتح للعرب , وأحدثت آثاراً مختلفة بعيدة فى حياة المسلمين الدينية والسياسية والأدبية .
ولكنا لا نريد أن نتجاوز فى هذا الفصل تأثير الشعوبية فى الحياة الأدبية وحدها وفى انتحال الشعر على الجاهليين بنوع خاص .
لم يكد ينتصف القرن الأول للهجرة حتى كان فريق من سبئ الفرس قد استغرق وأتقن العربية واستوطن الأقطار العربية الخالصة , وأخذ يكون له فيها نسل وذرية , وأخذ هذا الشباب الفارسى الناشئ يتكلم العربية كما يتكلمها العرب أنفسهم . وما هى إلا أن أخذ هذا الشباب يحاول نظم الشعر العربي على نحو ما كان ينظمه شعراء العرب .
ثم لم يقف أمرهم عند نظم الشعر بل تجاوزوه إلى أن شاركوا العرب فى أغراضهم الشعرية السياسية , فكان من هؤلاء الموالى شعراء يتعصبون للأحزاب العربية السياسية ويناضلون عنها .
وهذا الموقف السياسى الذى وقفه الموالى من الأحزاب يسر الأمر عليهم تيسيرا شديدا , فقد كان أحدهم لا يكاد يظهر تأييده لحزب من هذه الأحزاب حتى يفرح به هذا الحزب ويعطف عليه ويجزل له الصلات ويذهب فى تشجيعه كل مذهب , على نحو ما تفعل الأحزاب السياسية الآن بالصحف التى تقف منها مواقف التأييد , تقبل عليها وتمنحها المعونة لا تبالي في ذلك بشئ , لأنها لا تزيد إلا نشر الدعوة , ولأنها لا تزيد إلا الفوز .
ومن ابتغى الفوز وحده كان خليقاً ألا يحقق فى اختيار الوسائل وتدبر العواقب .
وكذلك كانت تفعل الأحزاب العربية أيام بنى أمية , كان المولى يعلن تأييده للأمويين فى قصيدة من الشعر فما أسرع ما يضمه الأمويون إليهم لا يعنيهم أكان مخلصًا لهم أو مبتغيًا للحظوة وتزلفي .
وكذلك كان يفعل حزب آل الزبير وحزب الهاشميين .
وكذلك ماتت الخصومة بين الأحزاب العربية تبيح للمغلوبين الموتورين من الموالى أن يتدخلوا فى السياسة العربية وأن يهجوا أشراف قريش وقرابة النبى .
كان بنو أمية يشجعون أبا العباس الأعمى , وكان آل الزبير يشجعون إسماعيل بن يسار , وكان هذان الشاعران يستبيحان لأنفسهما هجو أشراف قريش خاصة والعرب عامة فى سبيل التأييد لآل مروان .
وآل حرب أو آل الزبير .
ولم يكن هؤلاء الموالى مخلصين للعرب حقا، إنما كانوا يستغلون هذه الخصومة السياسية بين الأحزاب ليعيشوا من جهة وليخرجوا من حياة الرق أو حياة الولاء إلى حياة تشبه حياة الأحرار والسادة من جهة أخرى ، ثم ليشفوا ما فى صدورهم من غل وينفسوا عن أنفسهم ما كانوا يضمرون من ضغينة للعرب من جهة ثالثة .
ولعل إسماعيل بن يسار أظهر مثل لهذه الطائفة من الشعراء الموالى الذين كانوا يبغضون العرب ويزدرونهم ويستغلون ما بينهم من الخصومات السياسية لحاجاتهم ولذاتهم وأهوائهم .
قالوا : كان إسماعيل بن يسار زبيرى الهوى ، فلما ظفر آل مروان بآل الزبير أصبح إسماعيل مر وانيا وقبله بنو أمية ، فاستأذن ذات يوم على الوليد بن عبد الملك فأخره ساعة حتى إذا أذن له دخل عليه يبكى، فلما سأله عن بكائه هذا قال : أخرتني وأنت تعلم مروانيتى ومروانية أبى؛ فأخذ الوليد يهون عليه ويعتذر إليه وهو لا يزداد إلا إغراقا فى البكاء ، حتى وصله الوليد فأحسن صلته ، فلما خرت تبعه بعض من حضر فسأله عن هذه المر وانية التي ادعاها: ما هى؟ ومتى كانت ؟
فأجاب : إن هذه المر وانية هي بغضنا لآل مروان وهى التى حملت اباه يسارم وهو يموت على أن يتقرب إلى الله بلعن مروان بن الحكم ، وهى التى تحمل أمه على أن تلعن آل مروان مكان ما تتقرب به من التسبيح . ولكن آل مروان كانوا في حاجة إلى اصطناع هؤلاء الشعراء يذودون عنهم ويناضلون بنى هاشم خاصة ، فقد علمت منزلة بنى هاشم فى نفوس الموالى والفرس .
والرواة يحدثوننا بأن حب بنى أمية لشاعرهم أبى العباس الأعمى لم يكن له حد؟ فقد كانت صلات بنى أمية ترسل إليه فى مكة .
وحج عبد الملك مرة فدخل عليه هذا الشاعر وأنشده شعرا هجا به ابن الزبير، فحلف عبد الملك على من فى المجلس من قرابته ومن قريش ليكسونه كل واحد منهم ؟ قالوا فألقيت عليه الحلل والثياب حتى كادت تخفيه ، ونهض فجلس عليها بقية مجلسه مع عبدا لملك .
ولم تكن سيرة الهاشميين مع أنصارهم من الموالى أقل من سيرة الأمويين والزبيريين .
وكانت النتيجة لهذا كله أن استباح هؤلاء الموالى لأنفسهم هجو العرب أولا ثم ذكر قديمهم والافتخار بالفرس ثانيا .
وقد ضاع أكثر ما قال هؤلاء الموالى فى الافتخار بالفرس وهجاء العرب أيام بنى أمية؟ ولكنك تجد من ذلك طرفا مجزئا مغنيا فى الأغانى وغيره من كتب الأدب .
أما العصر العباسي فيكفى أن تقرأ هذه القصيدة التى قالها أبو نواس يهجو فيها العرب وقريشا ، والتي يقال إن الرشيد أطال حبسه فيها .
وهم يحدثوننا أن الجرأة بلغت بإسماعيل بن يسار أن أنشد فخره بالفرس بين يدى هشام بن عبدا لملك فغضب عليه الخليفة وأمر به فألقى في بركة كانت بين يديه ولم يخرج إلا وقد أشرف على الموت .
نسوق هذا كله لنعطيك صوره من حقد الفرس على العرب وما كان له من أثر في الحياة الأدبية لهؤلاء الشعراء.
وقد وصلنا إلى ما كنا نريد من تأثير هذه الشعوبية فى انتحال الشعر، فيكفى أن يحاول الشاعر من الموالى الافتخار على العرب ليفكر فى أن يثبت ان العرب أنفسهم كانوا قبل أن يطيح لهم الإسلام هذا التغلب يعترفون بفضل الفرس وتقدمهم ، ويقولون فى ذلك الشعر يتقربون به إليهم ويبتغون به المثوبة عندهم ، ولاسيما إذا كانت الحوادث التاريخية والأساطير تعين على ذلك وتدنى منه .
ومن الذى يستطيع أن ينكر أن الفرس قد سيطروا قبل الإسلام على العراق وأخضعوا لسلطانهم من كان يسكن حضره وباديته من العرب !
ومن ذا الذى يستطيع أن ينكر أن الفرس قد أرسلوا جيشا احتل اليمن وأخرج منه الحبشة !
ومن ذا الذى يستطيع أن ينكر أنه قد كانت بين الفرس والعرب وقائع ، وأن ملوك الحيرة كانوا أتباعا للفرس يوفدون إليهم من حين إلى حين أشراف البادية العربية ؟ وإذا كان هذا كله حقا فلم لا يستغله الموالى؟ ولم لا يعتزون به على العرب المتغلبين الذين يزدرونهم ويتخذونهم رقيقا وخدما ؟ الحق أن الموالى لم يقصروا فى هذا ، فهم أنطقوا العرب بكثير من نثر الكلام وشعره ، فيه مدح للفرس وثناء عليهم وتقرب منهم .
وهم زعموا لنا أن الأعشى زار كسرى ومدحه وظفر بجوائزه .
وهم أضافوا الى عدى بن زيد ولقيط بن يعمر وغيرهما من إياد والعباد كثيرا من الشعر فيه الإشادة بملوك الفرس وسلطانهم وجيوشهم .
وهم أنطقوا شاعرا من شعراء الطائف بأبيات رواها السقاة من الرواة على أنها صحيحة لاشك فيها وهى أبيات تضاف إلى أبى الصلت بن رييعة ، وهو أبو أمية بن ابى الصلت المعروف .
وقد يكون من الخير أن نروى هذه الأبيات وهى:
لله درهم من عصبة خرجوا = ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غرا جحا جحة = أسدا تربب فى الغيضات أشبالا
لا يرمضون إذا حرت مغافرهم = ولا ترى منهم في الطعن ميالا
من مثل كسرى وسابورالجنود له = أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا = في رأس غمدان دارا منك محلالا
واحتطم بالمسك إذا شالت نعامتهم = وأسبل اليوم فى بريدك إسبالا
تلك المكارم لا كعبان من لبن = شيبا ماء فعادا بعد ابوالا
والشعر في مدح سيف بن ذىيزن . وقد زاد ابن قتيبة فى أوله هذه الأبيات وهى أبلغ فى الدلالة على ما نريد أن ندل عليه وهى:
لن يطلب الوتر أمثال ابن ذى يزن = لحج في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته = فلم يجد عنده القول الذى قالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد تاسعة = من السنين ، لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم = إنك عمري لكد أسرعت قلقالا
فانظر إليه كيف قدم الفرس على الروم فى أول الشعر و على العرب فى سائرة !
ولو أن العرب غلبوا الروم بعد الإسلام وأزالوا سلطانهم كما أزالوا سلطان الفرس وأخضعوهم لمثل ما أخضعوا له الفرس لكان للروم مع العرب شأن يشبه شأن الفرس معهم .
ولكن العرب لم يقوضوا سلط!ان الروم وانما اقتطعوا طائفة من أقاليمهم وظلت دولتهم قائمة .
ومن الخيران نرى أبياتا قالها إسماعيل بن يسار فى الفخر بالفرس ، فسترى بينها وبين الشعر الذى يضاف إلى أبى الصلت ما يحمل على شيء من الشك والريبة
بذي خور عند الحفاظ = ولا حوضي بمهدوم
أصلى كريم ومجدي لا يقاس به = ولى لسان كحد السيف مسموم
أحمى به مجد أقوام ذوى حسب = من كل قرم بتاج الملك معموم
جحا جح سادة بلج مرازبة ج = رد عتاق مساميح مطاعيم
من مثل كسرى وسابورالجنود معا = والهرمزان لفخر أو لتعظيم
أسد الكتائب يوم الروع ان زحفوا = وهم أذلوا ملوك الترك والروم
يمشون فى حلق الماذى سابغه = مشى الضراغمة الأسد اللهاميم
هناك إن تسألى تنبي بأن لنا = جرثومة قهرت عز الجراثيم على هذا النحو من انتحال الموالى للشر والأخبار يضيفونها إلى العرب ذكرا مضطرين إلى أن يجيبوا بلون من الانتحال يشبه هذا اللون ، فيه تغليب للعرب على الفرس ، وفيه إئبات لأن ملك الفرس فى الجاهلية وتسلطهم على العرب لم لكن من شأنه أن يذل هؤلاء أو أن يقدم عليهم أولئك .
ومن هنا مواقف هذه الوفود التى تتحدث أمام كسرى بمحامد العرب وعزتها ومنعتها وابائها للضيم . ومن هنا هذه المواقف التى تضاف إلى ملوك الحيرة والتي تظهر هؤلاء الملوك أحيانا عصاة مناهضين للمك الأعظم .
ثم من هنا هذه الأيام والوقائع التى كانت للعرب على الفرس والني تحدث النبي عن بعضها وهو يوم ذى قار .
فأنت ترى أن الشعوبية فى مظهرها السياسى الأول قد حملت الفرس على انتحال الأشعار والأخبار وأكرهت العرب على أن يلقوا الانتحال بمثله .
على أن هذه الشعوبية لم تلبث أن استحالت بعد سقوط الأمويين وقيام سلطان الفرس على يد العباسيين إلى خلاف له صورة علمية أدبيه أقرب إلى البحث والجدل فى أنواع العلم منها إلى ما كان معروفا من الخصومة السياسية بين الغالب والمغلوب .
وكان هذا النحو من الشعوبية أخصب من النوع السابق وأبلغ فى حمل العرب والفرس على الانتحال والإسراف فيه . ولعلك تلاحظ أن الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالى ، وكانوا يستظلون بسلطان الوزراء والمشيرين من الفرس أيضا ؟ وكانت غايتهم قد استحالت من إثبات سابقة الفرس فى الملك والسلطان إلى ترويج هذا السلطان الذى كسبوه أيام بنى العباس وإقامة الأدلة الناهضة على أن الأمر قد رد الى أهله وعلى أن هؤلاء العرب الذين حيل بينهم وبين السيادة الفعلية ليسوا ولم يكونوا أهلا لهذه السيادة .
ومن هنا كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب ازدراء للعرب ونعى عليهم وغض من أقدارهم .
فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى الذى يرجع العرب إليه فيما يروون من لغة وأدب ، فقد كان اشد الناس بغضا للعرب وازدراء لهم ؟ وهو الذى وضع كتابا لا نعرف الآن إلا اسمه وهو " مثالب العرب " .
وأما غير ابى عبيدة من علماء الموالى ومتكلميهم وفلاسفتهم فقد كانوا يمضون فى ازدراء العرب إلى غير حد : ينالونهم فى حروبهم ، ينالونهم فى شعرهم ، ينالونهم فى خطابتهم ، وينالونهم فى دينهم أيضا .
فليست الزندقة إلا مظهرا من مظاهر الشعرية ، وليس تفضيل النار على الطين وإبليس على آدم إلا مظهرا من مظاهر الشعوبية الفارسية التي كانت تفضل المجوسية على الإسلام .
وأنت تجد فى " البيان والتبيين " ، كلاما كثيرا تستبين منه إلى أي حد كان الفرس يعجبون بآثار الأمم الأعجمية ويقدمونها على آئار العرب ، فهم يعجبون بخطب الفرس وسياستهم ، وعلم الهند وحكمتها، ومنطق اليونان وفلسفتهم ؟ وهم ينكرون على العرب أن يكون لهم شيء يقارب هذا .
والجاحظ ينفق ما يملك من قوة ليثبت أن العرب يستطيعون أن ينهضموا لكل هذه المفاخر الأعجمية وأن يأتوا بخير منها .
ولعل أصدق مثال لهذه الخصومة العنيفة بين علماء العرب والموالى : هذا الكتاب الذى كتبه الجاحظ فى البيان والتبيين وهو " كتاب العصا " . واصل هذا الكتاب كما تعلم ان الشعوبية كانوا ينكرون على العرب الخطابة ، وينكرون على خطباء العرب ما كانوا يصطنعون أثناء خطابتهم من هيئة وشكل وما كانوا يتخذون من أداة ، وكانوا يعيبون على العرب اتخاذ العصا والمخصرة وهم يخطبون . فكتب الجاحظ كتاب العصا ليثبت فيه أن العرب أخطب من العجم ، وأن اتخاذ الخطيب العربي للعصا لايغض من فنه الخطابي .
أليست العصا محمودة فى القرآن والسنة وفى التوراة وفى أحاديث القدماء ؟ ومن هنا مضى الجاحظ فى تعداد فضائل العصا حتى أنفق فى ذلك سفرا ضخما .
والذي يعنينا من هذا كله هو أن نلاحظ أن الجاحظ وأمثاله من الذين كانوا يعنون بالرد على الشعوبية ، مهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم لم يستطيعوا أن يعصموا أنفسهم من الانتحال الذى كانوا يضطرون الله اضطرارا ليسكتوا خصومهم من الشعوبية .
فليس من اليسير ان نصدق أن كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة يضيفه الى الجاهليين صحيح .
ونحن نعلم حق العلم ان الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب .
وكانت الشعوبية تنتحل من الشعر ما فيه عب للعرب وغض منهم .
وكان خصوم الشعوبية ينتحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع لأقدارهم .
ونوع آخر من الانتحال دعت إليه الشعوبية ، نجده بنوع خاص فى كتاب الحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التى ينحو بها أصحابها نحو الأدب .
ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى ان يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة .
فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلابد من أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويمون به .
ومن هنا لا تكاد تجد شيئا من هذه الأنواع الحيوانية التى عرض لها الجاحظ فى كتاب الحيوان إلا ولقد قالت العرب فيه شيئا قليلا أو كثيرا طويلا أو قصيرا ، واضحا أو غامضا. يجب أن يكون للعرب قول فى كل شيء وسابقة في كل شئ ، هم مضطرون إلى ذلك اضطرارا ليثبتوا فضلهم على هذه الأمم المغلوبة .
واضطرارهم يشتد ويزداد شدة بمقدار ما يفقدون من الشطان السياسى ، وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رءوسها. وأنا أستطيع أن أمضى فى تفصيل هذه الآثار المختلفة التي تركتها الشعوبية فى الأدب العربي وفى الانتحال بنوع خاص ؟ ولكني لم أكتب هذا الكتاب إلا لألم إلماما بكل هذه الأسباب التى تحمل على الشك فى قيمة ما يضاف إلى الجاهليين من الشعر. وأحسبنى قد ألممت بالشعوبية وتأثيرها فى ذلك إلماما ، كافيا .

6 - الرواة وانتحال الشعر
فإذا فرغنا من هذه الأسباب العامة التى كانت تحمل على الانتحال والتي كانت تتصل بظروف الحياة السياسية والدينية والفنية للمسلمين فلن نفرغ من كل شيء ، بل نحن مضطرون إلى أن نقف وقفات قصيرة عند طائفة أخرى من الأسباب ، ليست من العموم والاطراد بمنزلة الأسباب المتقدمة .
ولكنها ليست أقل منها تأثيرا فى حياة الأدب العربي القديم ، وحثا على تحميل الجاهليين ما لم يقولوا من الشعر والنثر.
أريد بها هذه الأسباب التى تتصل بأشخاص أولئك اللذين نقلوا إلينا أدب العرب ودونوه . وهؤلاء الأشخاص هم الرواة .
وهم بين اثنتين : إما أن يكونوا من العرب ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب .
وإما أن يكونوا من الموالى ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالى من تلك الأسباب العامة . وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هى التى أريد أن اقف عندها وقفات قصيرة كما قلت .
ولعل أهم هذه المؤثرات التى عبثت بالأدب العربي وجعلت حظه من الهزل عظيما : مجون الرواة وإسرافهم فى اللهو والعبث وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق الى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق .
ولعلى لا أحتاج بعد الذى كتبته مفصلا فى الجزء الأول من " حديث الأربعاء " إلى ان أطيل فى وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون . ولست اذكر هنا إلا اثنين إذا ذكرتهما فقد ذكرت الرواية كلها والرواة جميعا : فأما أحدهما فحماد الراوية .
وأما الآخر فخلف الأحمر .
كان حماد الراوية زعيم أهل الكوفة فى الرواية والحفظ .
وكان خلف الأحمر زعيم أهل البصرة فى الرواية والحفظ أيضا .
وكان كلا الرجلين مسرفا على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار .
كان كلا الرجلين سكيرا فاسقا مستهترا بالخمر والفسق . وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون .
فأما حماد فقد كان صديقا لحماد عجرد وحماد الزبرقان ومطيع بن إياس .
وكلهم أسرف فيما لا يليق بالرجل الكريم الوقور. وأما خلف فكان صديقا لوالبه ابن الحباب وأستاذا لأبى نواس .
وكان هؤلاء الناس جميعا فى أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة ؟ ليس منهم إلا من اتهم فى دينه ورمى بالزندقة ، يتفق على ذلك الناس جميعا : لا يصفهم أحد بخير، ولا يزعم لهم أحد صلاح فى دين أو دنيا .
وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم فى الرواية حماد ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب .
وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم فى الرواية خلف ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضا .
وأهل الكوفة والبصرة مجمعون على تجريح الرجلين فى دينهما وخلقهما ومروءتهما.
وهم مجمعون على أنهما لم يكونا يحفظان الشعر ويحسنان روايته ليس غير؟ وانما كانا شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطلع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينتحلان .
فأما حماد فيحدثنا عنه راوية من خيرة رواة الكوفة هو المفضل الضبي أنه قد افسد الشعر إفسادا لا يصلح بعده أبدا ؟ فلما سئل عن سبب ذلك ألحن أم خطأ ؟ قال : ليته كان كذلك ، فإن أهل العلم يردون من أخطأا إلى الصواب ، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم ، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله فى شعره ويحمل ذلك عنه فى الآفاق ، فتختلط أشعار القدماء ، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد ، وأين ذلك ؟ ويحدثنا محمد بن سلام أنه دخل على بلال بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري ، فقال له بلال : ما أطرفتني شيئا فغدا عليه حماد فأنشده قصيدة للخطيئة في مدح أبى موسى ة قال بلال : ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعرف ذلك ، وأنا أروى شعر الخطيئة !
ولكن دعها تذهب فى الناس ؟
وقد تركها حماد فذهبت فى الناس وهى فى ديوان الحطيئة .
والرواة أنفسهم يختلفون ، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقا.
وكان يونس بن حبيب يقول : العجب لمن يروى عن حماد، كان يكسر ويلحن ويكذب .
وثبت كذب حماد فى الرواية للمهدى فأمر حاجبه فأعلن فى الناس أنه يبطل رواية حماد .
وفى الحق أن حمادا كان يسرف فى الرواية والتكثر منها .
وأخباره فى ذلك لا يكاد يصدقها أحد، فم يكن يسأل عن شئ إلا عرفه .
وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لمن لم يعرفهم من الشعراء .
قالوا وامتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم امتحانه ثم أجازه ، وأما خلف فكلام الناس فى كذبه كثير.
وابن سلام ينبئنا بأنه كان أفرس الناس ببيت شعر. ويتحدثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم ، ثم نسك فى آخر أيامه فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر، فأبوا تصديقه . واعترف هو للأصمعي بأنه وضع غير قصيدة .
ويزعمون أنه وضع لامية العرب على الشنفرى، ولامية أخرى على تأبط شرا رويت فى الحماسة.
وهناك راوية كوفي لم يكن أقل حظا من صاحبيه هذين فى الكذب والانتحال .
كان يجمع شعر القبائل حتى إذا جمع شعر قبيلة كتب مصحفا بخطه ووضعه فى مسجد الكوفة.
ويقول خصومه : إنه كان ثقة لولا إسرافه فى شرب الخمر، وهو أبو عمرو الشيبانى . ويقولون : إنه جمع شعر سبعين قبيلة .
وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع لكل واحدة منها شعرا يضيفه إلى شعرائها. وليس هذا غربتا فى تاريخ الأدب ، فقد كان مثله كثيرا فى تاريخ الأدب اليونانى والرمانى .
وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وابى عمرو الشيبانى ، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والانتحال ككسب المال والتقرب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين ونكاية العرب - نقول : إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف ، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء .
والعجب أن رواه لم تفسد مروءتهم ولم يعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضا وانتحلوا . فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتا :
وانكرتنى وما كان الذى نكرت = من الحوادث إلا الشيب والصلعا
ويعترف الأصمعى بشئ يشبه ذلك .
وبقول اللاحقي إن سيبوبه سأله عن إعمال العرب " فعلا " ، فوضع له هذا البيت :
حذر أمورا لا تضير وآمن = ما ليس ينجيه من الأقدار
ومثل هذا كثير.
وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك فى أنهم كانوا يتخذون الانتحال فى الشعر واللغة وسيله من وسائل الكسب .
وكانوا يفعلون ذلك فى شئ من السخرية والعبث ، نريد بهم هؤلاء الأعراب الذين كان يرتحل إليهم فى البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب .
فليس من شك عند من يعرف أخلاق الأعراب فى أن هؤلاء الناس حين رأوا إلحاح أهل الأمصار عليهم فى طلب الشعر والغريب وعنايتهم بما كانوا يلقون إليهم منهما، قدروا بضاعتهم واستكثروا منها .
ثم لم يلبثوا أن أحسوا ازدياد حرص الأمصار على هذه البضاعة ، فجدوا فى تجارتهم وأبوا أن يظلوا فى باديتهم ينتظرون رواه الأمصار.
ولم لا يتولون هم إصدار بضاعتهم بأنفسهم ؟
ولم لا يهبطون إلى الأمصار يحملون الشعر والغريب والنوادر إلى الرواة فيريحونهم من الرحلة ومشاق السفر ونفقاته ، ويحدثون التنافس بينهم ، ويفيدون من ذلك ما لم يكونوا يفيدون حين لم يكن يقتحم الصحارى إليهم إلا رجل كالأصمعي أو أبى عمرو ابن العلاء ؟ وكذلك فعلوا : انحدروا إلى الأمصار فى العراق خاصة ، وكثر ازدحام الرواة حولهم فنفقت بضاعتهم ، تعلم أن نفاق البضاعة أدعى إلى الإنتاج ، فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون وأسرفوا فى الكذب ، حنى أحس الرواة أنفسهم ذلك .
فالأصمعى يحدثنا عن أحد هؤلاء الأعراب ، واسمه أبو ضمضم ، أنه أنشد لمائة شاعر أو ثمانين شاعرا كلهم يسمى عمرا ؛ قال الأصمعى :فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين .
ويحدثنا ابن سلام عن أبى عبيدة أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب ، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه وكفاه حاجته ؟ فلما فرغ داود من رواية شعر أبيه وكره أن تنقطع عناية أبى عبيدة به أخذ يضع على أبيه ما لم يقل ، وعرف ذلك أبو عبيدة .
ونظن أننا قد بلغنا ما كنا نريد من إحصاء الأسباب المختلفة التى حملت على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، والتي تضطرنا نحن فى هذا العصر إلى أن نقف موقف الشك والاحتياط أمام هذا الشعر.
كل شئ فى حياة المسلمين فى القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه سواء فى ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة ، والحياة السيئة حياة الفساق وأصحاب المجون .
فإذا كان الأمر على هذا النحو فهل تظن أن من الحزم والفطنة أن نقبل ما يقول القدماء فى غير نقد ولا تحقيق؟
وقد قدمنا أن هذا الكذب والانتحال فى الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب ، وانما هما حظ شائع فى الآداب القديمة كلها .
فخير لنا أن نجتهد فى تعرف ما يمكن أن تصح إضافته إلى الجاهليين من الشعر.
وسبيل ذلك أن ندرس الشعر نفسه فى ألفاظه ومعانيه بعد أن درسنا ما يحيط به من الظروف .



.../...



الكتاب الثالث

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى