أ. د. عادل الاسطه - الداعشية... نهايات روايتين : يهودية وعربية (أ‌.ب. سنجر) وجمال ناجي..

في 90 ق20 ترجمت، عن الإنجليزية، نص محاضرة أستاذ ألماني عن غسان كنفاني، ولفت نظري، فيما كتبه ما قاله عن التشابه البنائي بين معاناة الشعبين؛ اليهودي والفلسطيني. وذهب الدارس إلى أن حلاً ما، وسطا، يجب أن ينجز، يعترف فيه بحق الشعب الفلسطيني، إلى جانب دولة إسرائيل، كمخرج للصراع الذي دار منذ عقود، وما زال قائماً.
ما كتبه الأستاذ الألماني في 70 ق20 كتبه أيضاً بعبارات شعرية الشاعر محمود درويش في مطولته "مديح الظل العالي"، وكم مرة كررت سطره: ضحية قتلت ضحيتها وصارت لي هُويتها.
في الحفر في أدبيات غسان كنفاني، وفي التوقف أمام مغازي روايته "رجال في الشمس" (1963) يلفت النظر مغزى مصير أبطال روايته، فالثلاثة ماتوا لأنهم لم يدقوا جدران الخزان، وماتوا أيضاً لأنهم بحثوا عن حل خارج فلسطين، وبعيداً عنها، لا عن حل بالعودة إليها، فلا حل لمأساة الشعب الفلسطيني إلاّ بالعودة إلى بلاده. لقد قادهم المنفى إلى مناف جديدة، وقادهم البحث عن حل فردي إلى الموت. هل كان ما اقترحه كنفاني بعيداً عن الحلول التي اقترحها (ثيودور هرتسل) وآباء الحركة الصهيونية لمعاناة اليهود في أوروبا؟
لو لم يكتب كنفاني كتابه "في الأدب الصهيوني" (1966) لذهبت إلى أن الأمر مجرد توارد أفكار، ولأن غسان درس الأدب الصهيوني، وحلل الروايات البارزة فيه، فقد يكون أمعن النظر في مأساة شعبه وقلبها على وجوهها العديدة وتوصل إلى أن لا حل إلاّ بالعودة إلى فلسطين، وهذا يتطلب جهداً جماعياً.
منذ موت (هرتسل) واستشهاد غسان جرت مياه كثيرة في نهر الأردن، وجفت بحيرات، أو جففت (بحيرة الحولة)، ولم يختلف أمر الأحزاب الصهيونية الحاكمة التي كانت تميل إلى اليسار، ولم يبق اليسار الفلسطيني أيضاً كما كان عليه بعد هزيمة حزيران، بل إن حركة فتح لم تبق الفصيل الأكبر والأقوى، وأخذت قوى المتدينين، هنا وهناك، تقوى وتتزايد، وأخذ يُحسب لها حساب ربما ما كان يخطر على بال كثيرين في يوم من الأيام. ومن يمعن النظر فيما يجري في العالم العربي، وفي قوة الأحزاب الدينية في إسرائيل، لا يحتاج إلى أدلة وبراهين ليعزز كلامه، فالواقع يقول هذا.
مؤخراً فاز الروائي جمال ناجي المقيم في الأردن، وهو لاجئ أقام قبل عام 1967 في مخيمات أريحا، ونزح منها في حرب حزيران 1967 إلى عمان، فاز بجائزة الدولة الأردنية للرواية، مع الكاتبة الساحورية المولد ليلى الأطرش، والأديبة الأردنية سميحة خريس، وبهذه المناسبة قررت جريدة الرأي الاحتفاء بالكاتب، وإصدار ملحق أدبي خاص بتجربته، وقد استشرت فيما إذا كنت على استعداد لكتابة مقال بهذه المناسبة، ولم أمانع.
بعد أن أنهيت كتابة المقال توقفت أمام شخصية لافتة في رواية جمال ناجي "عندما تشيخ الذئاب" (2005 ط1، ط2 ـ 2010)، وهي شخصية الشيخ عبد الحميد الجنزير، ولفت نظري الأطوار التي مر بها، والممارسات التي مارسها، والنهاية التي اختتم بها حياته.
كان الشيخ عبد الحميد الجنزير المقيم في جبل الجوفة يمارس السحر والشعوذة، متظاهراً بالتدين، وكان في هذه الأثناء يستغل النساء اللاتي يترددن عليه، لدرجة أنه يمارس معهن الجنس، وقد يحملن منه. ينتهي المطاف بالجنزير هذا بتأدية فريضة الحج، وتختتم الرواية أصلاً بما يقصه هو عن نفسه (الرواية تقوم على تعدد الأصوات ويرويها غير راو). هكذا تقرأ ما يورده:
"أنا الآن في مكة المكرمة، حيث الأرض التي كرمها الله وأنزل فيها رسالته على نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
منذ أن دخلت هذه الأرض المباركة وأنا أشعر بأنني سأقابل وجه ربي عما قريب، أنبأني بذلك بدني الذي هزل، وروحي التي صارت تتقافز متبلدة عني عائدة إليّ، كأنها تقوم بتحضيري للقاء ربي.
حمدت الله وشكرته على نعمائه ورحمته التي غمرني بها، حين أمهلني وأبقاني حياً لأؤدي مناسك الحج للمرة الأخيرة، وأُكفّر عما اقترفته من ذنوب في حياتي التي طالت، وأتوب إلى الله توبة نصوحاً، وأمحو خطاياي متمسكاً بكتاب الله وسُنّة رسوله الكريم، مبتعداً متنائياً عما يُدنّس فطرتي، ويزيغ بصري، ويخطف اليقين من قلبي وصدري؟
وهناك في مكة، وهو يؤدي فريضة الحاج يتذكر ماضيه المليء بالسلوكات البائسة، ويتذكر رجال الأعمال المتهافتين، المتكالبين على الدنيا و"أبدان النساء الباذخات والفقيرات في غرفة المداواة"... إلخ، ومع ما ارتكبه فإنه في مكة أحسّ برياح الجنة تهبّ على شقوق الخيمة، وتنسم شذاها وتشمم طيبها ومسكها، ورأى نفسه مضطجعاً ومن حوله الحوريات، قرب نهر من الماء الزلال وأرض خضراء يانعة لم تطأها قدم خبيثة من قبل. ولكنه تذكر وهو يتذكر عزمي أحد شخصيات الرواية الذي كان ابناً لرجل عقيم، تذكره وهو في خيمته، يدخل عليه ليسأل سؤالاً واحداً فقط هو: "أريد أن أعرف من هو أبي؟" ولا يحتاج القارئ لتفكير معمق ليعرف من هو والد عزمي الذي أكدت فحوصات أبيه أنه لا ينجب، فقد أوحى الشيخ الجنزير إلى أم عزمي، وهو يعالجها، أن جِنّاً يركبها، وهكذا تم حملها.
شخصية الشيخ عبد الحميد الجنزير هذه أعادتني خمسة وعشرين عاماً إلى الوراء، إلى أيام دراستي في ألمانيا، حيث كنت أحياناً أغتنم الفرصة لقراءة نماذج من الأدب الألماني لأمرين: التعرف إلى نماذج منه، وتقوية لغتي الألمانية، وهكذا قرأت لبريخت وهاينريش بول وكافكا وآخرين، ولم أكتف بقراءة الأدب الألماني، فقد أخذت أقرأ لأدباء يهود؛ إسرائيليين وغير إسرائيليين، وهكذا وجدتني أقرأ إحدى روايات الكاتب اليهودي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل (أ. ب. سنجر)، بالإضافة إلى بعض سيرته في كتابه (طفولة في وارسو)، وما زلت أحتفظ بالكتاب الأخير، فيما أهديت الرواية إلى (فرانسيسكا) ابنة العائلة الألمانية التي أقمت في منزلها في (بون). والرواية هي ما يهمني.
عنوان الرواية هو (التائب) (Der Buesser)، وهي رواية طريفة أشرت إليها، وأنا أكتب مقالاً أسبوعياً في جريدة نابلس في العام 1993، وهي جريدة سرعان ما توقفت ولم يُكتب لها النجاح.
بطل رواية (أ. ب. سنجر) هو (يوسف شابيرو)، وكان شابيرو هذا يهودياً أمريكياً لا يكترث بالدين ولا يلتفت إليه، وقد مارس في حياته، في أثناء وجوده في أمريكا الموبقات كلها؛ أكل لحم الخنزير، ومارس الزنا، بل والدعارة، ولم يكن يأبه للذات الإلهية إطلاقاً، وفجأة قرر أن يقوم برحلة إلى الديار المقدسة، فقد ضجر من الحياة المادية في أمريكا، وشعر، في النهاية، بلا جدواها، وهكذا قرر أن يتوب، وعاد إلى القدس وتحول إلى شخص آخر مختلف تماماً عما كان عليه. لقد تاب، وعنوان الرواية يلخص الحكاية: إنه التائب. وماذا يفعل اللا أخلاقي القديم؟
من أمثالنا مثل يقول: عرصات القدماء صاروا علماء.
أهي محض صدفة نهاية رواية (أ. ب. سنجر) ونهاية رواية جمال ناجي؟ وأنا أعتقد ذلك، إلاّ إذا كان جمال قرأها بالإنجليزية ـ أنا قرأتها مترجمة إلى الألمانية ـ وأشك في ذلك، ولا أعرف لها ترجمة إلى العربية، بل إنني بحثت عن مراجعات لها باللغات الثلاث؛ الإنجليزية والألمانية والعربية فلم أعثر على أية مراجعة. ما هو تفسير هذا التشابه؟ طبعاً الأمر لا يحتاج إلى كثير ذكاء: المجتمع الإسرائيلي يسير نحو اليمين والدين ومثله المجتمعات العربية، وقد يذهب تحذير الرئيس محمود عباس من تحويل الصراع إلى صراع ديني أدراج الرياح. قد ...

عادل الأسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى