خالد جهاد - اغتيال الذاكرة

اعتقد البعض أن مقالي عن (القبح والجمال) منذ أيام قليلة هو مجرد فكرةٍ عابرة، لكنها في الحقيقة جزءٌ من سلسلة تمهلت كثيراً قبل كتابة بعضها وتحفظت على البعض الآخر ل(استحالة) نشره، ويظل بعضها (قيد المراجعة) لتشعب اسقاطاتها بشكل لم أتوقعه رغم ملاحظتي له إلا عند كتابته، فبدى لي الحجم الحقيقي لهذه الظاهرة بعد الإنتهاء من صياغته وكتابته، فقد يعتقد أي منا أن المشاعر التي تنتابنا بشكلٍ عادي كالكآبة والملل والحزن أو المشاكل العاطفية بين الأحبة وبقية العلاقات الإنسانية منفصلة عن مفهومي (القبح والجمال) وهو ليس بصحيح، فالإنسان كائنٌ يؤثر ويتأثر بكل ما حوله حتى وإن اعتقد العكس وحتى إن لم يلحظ ذلك..

وتفرض من وقتٍ لآخر بعض الأحداث نفسها على الساحة في أي مجال حتى في المجال الطبي كما حدث عندما انشغل العالم بجائحة الكورونا، فيؤثر كل منها علينا بشكلٍ ما من حيث لا ندري، لذا فإن مفهومي (القبح والجمال) موجودان تقريباً في كل شيء من خلال آثارهما وتوابعهما، هما كالهواء والماء يحيطان بنا من كل جانب وتأثيرهما عميق جداً، كونه يؤثر علينا من الناحية النفسية التي تحكم خياراتنا وحياتنا وان كان البعض لا زال ينكر ذلك تبعاً لأفكارٍ نمطية وبالية عن الصحة النفسية وعلم النفس، وبالنسبة للمشهد الحالي أو الحدث الذي يشغل الكثيرين مؤخراً وهو اغتيال المراسلة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة فهو يصب في موضوعنا.. كيف؟ لنعد إلى شيرين..

أولاً.. كون شيرين امرأة تعمل في هذه المهنة الخطرة فهذا بطبيعة الحال يعطي مسحةً من العاطفة على المضمون الذي تقدمه كما يضفي عليه جاذبيةً إنسانية، وهو ما تحققه المرأة في الإعلام أكثر من الرجل، فهناك الكثير من المهن التي لا يستطيع أحدنا إنكار الحضور الطاغي فيها للمرأة لتوافقها مع طبيعتها التي تشبه الحياة وتشبه روح الإنسان، مما يخلق تعاطفاً مع المادة التي تقدمها ويلفت الأنظار إليها، كما أن ملامحها قريبة من ملامح الناس على امتداد خريطتنا مما يقربها منهم والإحتلال يريد عكس ذلك ويريد أن لا يهتم أحد بالقضية الفلسطينية..

ثانياً.. كون شيرين سيدة فلسطينية مسيحية محبوبة من كافة أطياف الشعب الفلسطيني وتتمتع بقبول واسع لدى الشعوب العربية وبلادنا بكافة مكوناتها الثقافية الأخرى من أكراد وأمازيغ وأرمن وغيرهم، وبشكلٍ جعلها عابرة للطوائف والأعراق والثقافات فإنه يلتقي مع نفس النقطة السابقة وهي رغبة الإحتلال في محو أي تعاطف مع القضية الفلسطينية أياً كان نوعه، كما أن وجودها بين أهل القدس المسلمين يوصل صورةً طبيعية وحقيقية عن الحياة بين الفلسطينيين على اختلاف طوائفهم، بينما تريد دولة الإحتلال من المسيحيين أو أي طائفة أخرى بأن يشعروا بأنهم أقلية أو خائفون ومضطهدون على الدوام مما يدفعهم للهجرة والرحيل بحثاً عن الأمان وهو غاية الإحتلال، إلى جانب محو المكون الثقافي المسيحي من منطقتنا (وهو أبعد وأثقل وأهم من مجرد إرث ديني) وجعل الغرب ينظر للقضية الفلسطينية على أنها مجرد (نزاع إسلامي يهودي) وليس استعماراً أو تطهيراً عرقياً لشعب بكامل مكوناته وطوائفه، إلى جانب شيطنة صورة المسلمين في الإعلام الغربي واستخدام معاداة السامية كتهمة وورقة ضغط عند انتقاد ممارسات الإحتلال..

ثالثاً.. المرحلة العمرية التي كانت تعيشها شيرين مكنتها من حصد خبرة كبيرة في عملها وجعلها من القلائل في جيلها من اللواتي استمرين في العمل الإعلامي، مما جعلها اسماً ذا ثقل للأجيال الشابة من المراسلين الميدانيين خاصة ً الشابات، كون العقلية العربية تميل حالياً لملأ الشاشة بالجميلات دون موهبة أو ثقافة أو تمكن من الأدوات المهنية وادارة الحوار ومخارج الحروف والتعامل بحرفية مع الحدث والكاميرا كالجيل السابق، والذي كان يخضع لمعايير قاسية واختبارات كثيرة قبل الظهور على الشاشة، وهذه الخبرة التي قد تجعلها تبدأ مرحلة جديدة بعطاء وزخم وخبرة أكبر تجعل من مكانتها أكثر عمقاً وتقدمها كأيقونة ومرجعية، وهو ما يشكل عبئاً يجب التخلص منه ليتصدر المشهد من لا يصلحون أو يقدرون على تغطيته ونقله بنفس القوة والتأثير وهو ما يسهم بشكل عام في حالة التدني والرداءة وقلة الكفاءة ليجعلنا نعتاد القبح والنشاز المعنوي على شاشاتنا، وكي لا تستخدم هذه الحصيلة في أفكار مستقبلية قد تخدم القضية الفلسطينية إعلامياً..

رابعاً.. كونها تحظى بإحترام الناس رغم تحفظ قطاع واسع ضد القناة التي كانت تعمل بها، وهو ما يجعل وجودها مؤرقاً للإحتلال، خاصةً وأنها منخرطة في نشاطات اجتماعية وثقافية ونسوية فلسطينية مما يعني تأثيراً أكبر لتجربتها التي استطاعت من خلالها أن تظل في أذهان الناس بعيدة عن كل التجاذبات إلى جانب تدريسها في جامعة بيرزيت والذي يعني انتقال هذه الحصيلة لجيل جديد وتبلور خبرتها إلى أبعاد أكثر أهمية..

وكان وجود الشهيدة شيرين أبو عاقلة يعد بمثابة وجود شيء من الجمال والمهنية والإحترافية التي تغيب تدريجياً، لتترك فراغاً ومشهداً ملتبساً يتصدره أجيالٌ أقل كفاءة تؤثر سلباً على رؤيتنا لحياتنا، خاصةً عندما لا يتوفر بديل من نفس المستوى مما يجعل المعايير أقل من المفترض، وليساهم ذلك تدريجياً في تقبل (القبح) وجعل ما نراه هو السقف الذي لا نستطيع تجاوزه، ولتكون الكثير من الوجوه غير المؤهلة للظهور هي القدوة لجيلٍ سيكبر دون أن يعرف القامات التي كان ينبغي أن يعرفها من أسماء كان كل منها مدرسةً قائمة بحد ذاتها في الأداء والكفاءة والمهنية والمثابرة.. وهو ما يصب في تغييب (الجمال) بمعناه الواسع لصالح القبح عن طريق (اغتيال الذاكرة) كما حصل مع الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وما يجب أن يدفعنا لتقدير كل ما يستحق التقدير وكل من يستحقه في حياتنا لأنهم جميعاً يلتقون لصناعة شيء هو في المحصلة ذاكرتنا وهويتنا..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى