خالد جهاد - جسد غريب

أنا: ماما بديش أروح المدرسة..
أمي: ليش؟
أنا: أنا خايف، ما بعرف حدا.. ليش ما أدرس بالبيت؟
أمي: لا تخاف.. شوي شوي بيصير عندك صحاب تلعب معهم، لازم تروح على المدرسة..
أنا: ليش ما تيجي معي.. هيك برتاح..
أمي: ما حدا بيرتاح برا بيته..

١٥ مايو/ أيار ١٩٤٨- ١٥ مايو/ أيار ٢٠٢٢

يتحدث الكثيرون في مثل هذا اليوم من كل عام، فنسترجع ذكريات آبائنا وأجدادنا.. نطالع الصور ونستمع إلى شهادات من تبقى من الجيل الذي عاصر تلك الذكرى المشؤومة التي لم تغير حياة الفلسطينيين كما يعتقد البعض بل غيرت وجه المنطقة والعالم ومعايير الإنسانية ككل، فنتذكر بفرح ذاك التطور والتحضر الذي عاشته بلادنا كإحدى منارات الشرق والعالم وذاك الحراك الفكري والثقافي والتنوع الحقيقي الذي كان سمةً أساسية تميز مجتمعاتنا قبل النكبة، لكن لا يتم كثيراً الحديث عن معنى ذلك الحدث في نفوس الأجيال التي لم تعاصره أو ولدت خارج البلاد بعد أن أصبح الدخول إليها شبه مستحيل، فعاشت نكبتها على طريقتها الخاصة دون أن يحكي عنها أحد، لتبدو القصة كئيبةً كمن يمشي وحيداً في نفقٍ طويل ومظلم بحثاً عن خيطٍ من أشعة الشمس التي تصله بالحياة، وفي هذه الرحلة يسمع الكثير من الأصوات واللغات واللهجات والضحكات الخبيثة والتساؤلات، فأحياناً تفاجأه يدٌ مجهولة تمسكه في الظلام بغية اخافته وأحياناً أخرى تجد تلك اليد الحانية التي لا تلبث أن تختفي لتكمل المسيرة بحثاً عن البسيط، القليل والبديهي الذي يبدو مستحيلاً في كثيرٍ من الأحيان..

وكلما مر الوقت زاد استيعاب الإنسان لكل شيء بدءاً من نفسه من جسده من روحه، يدرك موقعه كنقطةٍ صغيرة في هذا الكون الفسيح ويدرك أن لا شيء يمكنه أن يحضن القلب كما يمكن أن تحضنه جدران بيته لتغمره بشعور الستر والأمان مهما كان متواضعاً، وأن هذه الجدران هي ما يخلق لدى أيٍ منا رغبةً في البقاء أو الإستمرار أو الصمود، لأنها تعطيه سبباً ومكاناً للعودة إليه ولأن كل ما شعر به كان من وحيها، فألهمته الصبر والحب، ربتت على دمعته دون أن تبللها وعلمته التعايش مع الخوف، الخوف الذي ولد من رحم ذلك الوطن المسلوب، من رحم نظرات الحزن، وحكاياتٍ مملوءة بالمرارة، وأصواتٍ تتشابك مع لحن الغربة التي لا يلمحها أحد، وأحاسيس لا ندرك أنها جميعاً تبحث عن ذات الشيء.. تبحث عن بيت..

ذلك البحث الذي لا يخلو من الخيبات كمحاولة الرقص ابتهاجاً على نغمة حزينة لا تحتفي سوى بالوجع، لا تفهم كيف يمكن أن يشدو لها طيرٌ وتعانقها هرةٌ ويسعها ظل شجرة فيما يضيق بها قلب انسان لا يرى من انسانيتها سوى جواز سفر لم يستخدم على الأغلب، لكنه يتضمن كل ما يمكن أن يجعلها مختلفةً من الإسم والصورة مروراً بالجنسية وانتهاءاً بالديانة لتزيد الأمور صعوبة ً حتى بين الناس، ففي جيلنا عايشنا أكثر من حلم، امتلأت ذاكرتنا بالكوابيس، وقفت أمنياتنا على الحواجز ورأينا مشاعرنا تتساقط كأوراق الخريف ذابلةً دون أن يحزن لرحيلها أحد، كنا نرى الحياة أسهل، أجمل، أكثر نضارة ً وبريقاً وسط الكثير من الألوان المبهجة في أعين الأطفال التي انطفأت في عيني عندما فهمت (اختلافي)، فأصبحت أكثر حذراً وعزلةً وخوفاً كي لا يذكرني أحدٌ بغربتي التي حفظتها عن ظهر قلب والتصقت بها أكثر من أمي، لأنها أصبحت أمي الجديدة وبيتي الصغير وعنواني المؤقت الذي ألازمه مخافة أن يضيع مني كما ضاع عنواني الأول قبل أن أولد، وأصبح فقده هاجسي على الدوام وصار كل ما يحكي لغة البيوت لسان حالي، صارت الأبنية حكايتي، تفاصيلها أغنيتي، زواياها قصيدتي وجدرانها لوحتي، عشقت تفاصيلها وأدمنت عطرها وبت أسمع انشادها بكل لغات العالم بعد أن ذرفت في أحضانها كل دموع الكون، حتى فقدت ذاكرتي التي استبقت بيت عمتي المتهالك، والذي أحببته بجدرانه المتشققة، وسلالمه المكسورة، وممراته الضيقة، ورائحته القديمة الذي كنا نعده على سبيل الدعابة الأعجوبة الثامنة من عجائب الدنيا والذي كان (بيتاً) بكل معنى الكلمة..

وأصبحت كلمة (بيت) بالنسبة لي نوعاً من التكريم والإمتنان وشكلاً من أشكال الوصف لكل ما هو نقي وصادق وكل من هو كذلك ممن من يحمل في ثناياه إيماناً بالإنسان والحب وكل من يوجد في روحه مكان ٌ لهما، فتعلقت بأغنية (خليك بالبيت) ودعوت في مخيلتي كل أحبتي الذين حلقوا بعيداً ليجالسوني كل مساء في (بيتي) داخل قلبي، وطناً يداوي نكبة الروح التي تركته جسداً غريباً.. صورةً لطفلٍ يبحث عن أرضه رغم مرور الزمن في ملامح الكبار..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى