أدب السجون محمود الورداني - عن المخزنجي في عُزلته (2) من سجن المرج إلى سجن القناطر

(2)
من سجن المرج إلى سجن القناطر

أواصل هنا ماسبق أن كتبته حول صديقي محمدالمخزنجي الذي اختار عزلته اختيارا منذ عدة سنوات. سوف أكتب عن هذه العزلة لاحقا، لكنني أود أن أكتب أولا عن مجموعته القصصية الأولى" الآتي" –عام 1983 التي لفتت الأنظار إليها بقوة، ونالت احتفاءً تستحقه، ومازالت حتى الآن مبهرة في بساطتها وماتنطوي عليه من طاقة روحية، وفي الوقت نفسه شكّلت منحى جديدا في الكتابة.
ربما لايعرف الكثيرون أنها مكتوبة أصلا للفتيان، وقرأها وتابع مراحلها بدقة الراحل الكبير عبد الفتاح الجمل الذي كان آنذاك يشرف على سلسلة قصصية في دار الفتى العربي. وعلى الرغم من أنها منشورة في سلسلة للفتيان إلا أن الجميع قرأوها وأحبوها سواء كانوا كبارا أو صغارا، وهنا تحديدا يكمن سحرها وسحر الكتابة عن الأخيار والأشرار والبحث وافتقاد اليقين، ويكمن أيضا سحر المخزنجي ولغته الدقيقة التي اشتغل عليها كثيرا.
أود أن أضيف سريعا أن خط المخزنجي يشبه قصصه. خط معتنى به. خط فيه تأن وتوقف وغير متعجل. أحتفظ بين أوراقي بكروت أرسلها من روسيا لصديقتيه الطفلتين لينا وسلمى- ابنتيّ- عندما كان يدرس الطب النفسي في أوكرانيا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فضلا عن خطابات أرسلها لي، لكنها تحتاج من أجل العثور عليه لهمّة وصبر أتمنى أن أحتشد من أجل العثور عليها.
وقبل أن يصدر مجموعته الثانية: الموت يضحك" 1988 ، وبالتحديد في أوائل شتاء 1982 بعد اغتيال السادات أسعدني زماني بزمالة المخزنجي في واحد من أحط السجون وأشدها وطاة: سجن المرج الحقير. سجن مبني حديثا( سبق أن كتبت عن هذا السجن في كتابي " الأمساك بالقمر" الصادر عن دار الشروق في العام الماضي)، وفي زنازينه الانفرادية الضيقة حشروا كل اثنين معا، لكن المخزنجي كان قد زُجّ به في زنازين زملائنا الصعايدة في آخر العنبر، ولم يتح لنا أن نلتقي إلا بعد مرور مايزيد عن أسبوعين عندما سُمح لنا بالفُسحة القصيرة لدقائق قليلة لم تكن كافية بالطبع لنتأمل معا مايجري .
مالاحظته ولمسته جيدا المحبة الغامرة التي تمتع بها المخزنجي من رفاق السجن الذين كان أغلبهم لايعرفونه شخصيا. ويحبونه محبة بلاحدود، على الرغم من حيائه الطبيعي الذي يمنعه من التعبير عن مشاعره. وعندما بدأنا إذاعة السجن، كان الزملاء يطالبون بقصصه، وكان صاحبنا يحفظ الكثير من قصصه ويتلوها علينا في أمسيات سجن المرج.
من نافل القول أن أتحدث عن شجاعة المخزنجي وهدوئه واحتماله في صمت وكبرياء يليقان به، على الرغم من أنها كانت حبسة" ظلومة يادي الحكومة" وتافهة جدا، فقتلة السادات كانوا في قبضة الحكومة فعلا، ومن المقطوع به أنه لاعلاقة لنا بما يجري، وتردد أن القبض علينا لمجرد إحداث التوازن بالقبض على اليساريين!!ولم تكن هناك ضرورة لأن يقتحم المأمور الزنازين ويأمر الواحد بالوقوف وتتعرّض للمهانة وهو ينظر لك بقرف واستهانة متعمدة لإذلالك ويسألك في كل مرة : إنت بتشتغل إيه ياولد..؟ وأنت مجبر على أن ترد على السؤال صاغرا.
وعندما رحلّونا إلى سجن القناطر قبل أن ننفذ تهديدنا بالإضراب، أصبح من الميسور أن نلتقي- المخزنجي وأنا- وأتيح لنا أن نتحث ونثرثر كيفما نشاء، وبالمناسبة سجن القناطر يُطلّ على فضاء ساحر وألوان مرتعشة وحقول ومجار مائية تتغير ألوانها تبعا لرحلة الشمس في السماء.
صدر قرار بالإفراج عن المخزنجي قبل صدور قرار مماثل لي، وأخفى القصة الوحيدة التي كنت قد كتبتها في سجن المرج، وعمل على نشرها في الخارج بعد الإفراج عنه.
أستكمل في الأسبوع القادم إذا امتد الأجل..
كتابة
عن المخزنجي في عُزلته ( 2)
من سجن المرج إلى سجن القناطر
محمود الورداني
أواصل هنا ماسبق أن كتبته حول صديقي محمدالمخزنجي الذي اختار عزلته اختيارا منذ عدة سنوات. سوف أكتب عن هذه العزلة لاحقا، لكنني أود أن أكتب أولا عن مجموعته القصصية الأولى" الآتي" –عام 1983 التي لفتت الأنظار إليها بقوة، ونالت احتفاءً تستحقه، ومازالت حتى الآن مبهرة في بساطتها وماتنطوي عليه من طاقة روحية، وفي الوقت نفسه شكّلت منحى جديدا في الكتابة.
ربما لايعرف الكثيرون أنها مكتوبة أصلا للفتيان، وقرأها وتابع مراحلها بدقة الراحل الكبير عبد الفتاح الجمل الذي كان آنذاك يشرف على سلسلة قصصية في دار الفتى العربي. وعلى الرغم من أنها منشورة في سلسلة للفتيان إلا أن الجميع قرأوها وأحبوها سواء كانوا كبارا أو صغارا، وهنا تحديدا يكمن سحرها وسحر الكتابة عن الأخيار والأشرار والبحث وافتقاد اليقين، ويكمن أيضا سحر المخزنجي ولغته الدقيقة التي اشتغل عليها كثيرا.
أود أن أضيف سريعا أن خط المخزنجي يشبه قصصه. خط معتنى به. خط فيه تأن وتوقف وغير متعجل. أحتفظ بين أوراقي بكروت أرسلها من روسيا لصديقتيه الطفلتين لينا وسلمى- ابنتيّ- عندما كان يدرس الطب النفسي في أوكرانيا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فضلا عن خطابات أرسلها لي، لكنها تحتاج من أجل العثور عليه لهمّة وصبر أتمنى أن أحتشد من أجل العثور عليها.
وقبل أن يصدر مجموعته الثانية: الموت يضحك" 1988 ، وبالتحديد في أوائل شتاء 1982 بعد اغتيال السادات أسعدني زماني بزمالة المخزنجي في واحد من أحط السجون وأشدها وطاة: سجن المرج الحقير. سجن مبني حديثا( سبق أن كتبت عن هذا السجن في كتابي " الأمساك بالقمر" الصادر عن دار الشروق في العام الماضي)، وفي زنازينه الانفرادية الضيقة حشروا كل اثنين معا، لكن المخزنجي كان قد زُجّ به في زنازين زملائنا الصعايدة في آخر العنبر، ولم يتح لنا أن نلتقي إلا بعد مرور مايزيد عن أسبوعين عندما سُمح لنا بالفُسحة القصيرة لدقائق قليلة لم تكن كافية بالطبع لنتأمل معا مايجري .
مالاحظته ولمسته جيدا المحبة الغامرة التي تمتع بها المخزنجي من رفاق السجن الذين كان أغلبهم لايعرفونه شخصيا. ويحبونه محبة بلاحدود، على الرغم من حيائه الطبيعي الذي يمنعه من التعبير عن مشاعره. وعندما بدأنا إذاعة السجن، كان الزملاء يطالبون بقصصه، وكان صاحبنا يحفظ الكثير من قصصه ويتلوها علينا في أمسيات سجن المرج.
من نافل القول أن أتحدث عن شجاعة المخزنجي وهدوئه واحتماله في صمت وكبرياء يليقان به، على الرغم من أنها كانت حبسة" ظلومة يادي الحكومة" وتافهة جدا، فقتلة السادات كانوا في قبضة الحكومة فعلا، ومن المقطوع به أنه لاعلاقة لنا بما يجري، وتردد أن القبض علينا لمجرد إحداث التوازن بالقبض على اليساريين!!ولم تكن هناك ضرورة لأن يقتحم المأمور الزنازين ويأمر الواحد بالوقوف وتتعرّض للمهانة وهو ينظر لك بقرف واستهانة متعمدة لإذلالك ويسألك في كل مرة : إنت بتشتغل إيه ياولد..؟ وأنت مجبر على أن ترد على السؤال صاغرا.
وعندما رحلّونا إلى سجن القناطر قبل أن ننفذ تهديدنا بالإضراب، أصبح من الميسور أن نلتقي- المخزنجي وأنا- وأتيح لنا أن نتحث ونثرثر كيفما نشاء، وبالمناسبة سجن القناطر يُطلّ على فضاء ساحر وألوان مرتعشة وحقول ومجار مائية تتغير ألوانها تبعا لرحلة الشمس في السماء.
صدر قرار بالإفراج عن المخزنجي قبل صدور قرار مماثل لي، وأخفى القصة الوحيدة التي كنت قد كتبتها في سجن المرج، وعمل على نشرها في الخارج بعد الإفراج عنه.
أستكمل في الأسبوع القادم إذا امتد الأجل..
كتابة
عن المخزنجي في عُزلته ( 2)
من سجن المرج إلى سجن القناطر
محمود الورداني
أواصل هنا ماسبق أن كتبته حول صديقي محمدالمخزنجي الذي اختار عزلته اختيارا منذ عدة سنوات. سوف أكتب عن هذه العزلة لاحقا، لكنني أود أن أكتب أولا عن مجموعته القصصية الأولى" الآتي" –عام 1983 التي لفتت الأنظار إليها بقوة، ونالت احتفاءً تستحقه، ومازالت حتى الآن مبهرة في بساطتها وماتنطوي عليه من طاقة روحية، وفي الوقت نفسه شكّلت منحى جديدا في الكتابة.
ربما لايعرف الكثيرون أنها مكتوبة أصلا للفتيان، وقرأها وتابع مراحلها بدقة الراحل الكبير عبد الفتاح الجمل الذي كان آنذاك يشرف على سلسلة قصصية في دار الفتى العربي. وعلى الرغم من أنها منشورة في سلسلة للفتيان إلا أن الجميع قرأوها وأحبوها سواء كانوا كبارا أو صغارا، وهنا تحديدا يكمن سحرها وسحر الكتابة عن الأخيار والأشرار والبحث وافتقاد اليقين، ويكمن أيضا سحر المخزنجي ولغته الدقيقة التي اشتغل عليها كثيرا.
أود أن أضيف سريعا أن خط المخزنجي يشبه قصصه. خط معتنى به. خط فيه تأن وتوقف وغير متعجل. أحتفظ بين أوراقي بكروت أرسلها من روسيا لصديقتيه الطفلتين لينا وسلمى- ابنتيّ- عندما كان يدرس الطب النفسي في أوكرانيا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فضلا عن خطابات أرسلها لي، لكنها تحتاج من أجل العثور عليه لهمّة وصبر أتمنى أن أحتشد من أجل العثور عليها.
وقبل أن يصدر مجموعته الثانية: الموت يضحك" 1988 ، وبالتحديد في أوائل شتاء 1982 بعد اغتيال السادات أسعدني زماني بزمالة المخزنجي في واحد من أحط السجون وأشدها وطاة: سجن المرج الحقير. سجن مبني حديثا( سبق أن كتبت عن هذا السجن في كتابي " الأمساك بالقمر" الصادر عن دار الشروق في العام الماضي)، وفي زنازينه الانفرادية الضيقة حشروا كل اثنين معا، لكن المخزنجي كان قد زُجّ به في زنازين زملائنا الصعايدة في آخر العنبر، ولم يتح لنا أن نلتقي إلا بعد مرور مايزيد عن أسبوعين عندما سُمح لنا بالفُسحة القصيرة لدقائق قليلة لم تكن كافية بالطبع لنتأمل معا مايجري .
مالاحظته ولمسته جيدا المحبة الغامرة التي تمتع بها المخزنجي من رفاق السجن الذين كان أغلبهم لايعرفونه شخصيا. ويحبونه محبة بلاحدود، على الرغم من حيائه الطبيعي الذي يمنعه من التعبير عن مشاعره. وعندما بدأنا إذاعة السجن، كان الزملاء يطالبون بقصصه، وكان صاحبنا يحفظ الكثير من قصصه ويتلوها علينا في أمسيات سجن المرج.
من نافل القول أن أتحدث عن شجاعة المخزنجي وهدوئه واحتماله في صمت وكبرياء يليقان به، على الرغم من أنها كانت حبسة" ظلومة يادي الحكومة" وتافهة جدا، فقتلة السادات كانوا في قبضة الحكومة فعلا، ومن المقطوع به أنه لاعلاقة لنا بما يجري، وتردد أن القبض علينا لمجرد إحداث التوازن بالقبض على اليساريين!!ولم تكن هناك ضرورة لأن يقتحم المأمور الزنازين ويأمر الواحد بالوقوف وتتعرّض للمهانة وهو ينظر لك بقرف واستهانة متعمدة لإذلالك ويسألك في كل مرة : إنت بتشتغل إيه ياولد..؟ وأنت مجبر على أن ترد على السؤال صاغرا.
وعندما رحلّونا إلى سجن القناطر قبل أن ننفذ تهديدنا بالإضراب، أصبح من الميسور أن نلتقي- المخزنجي وأنا- وأتيح لنا أن نتحث ونثرثر كيفما نشاء، وبالمناسبة سجن القناطر يُطلّ على فضاء ساحر وألوان مرتعشة وحقول ومجار مائية تتغير ألوانها تبعا لرحلة الشمس في السماء.
صدر قرار بالإفراج عن المخزنجي قبل صدور قرار مماثل لي، وأخفى القصة الوحيدة التي كنت قد كتبتها في سجن المرج، وعمل على نشرها في الخارج بعد الإفراج عنه.
أستكمل في الأسبوع القادم إذا امتد الأجل..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى