في كل مرة يُنْشَر ُله قصيد، أتذكر مقولة ت.س. إليوت عن فردية الأديب وأصالته في علاقته بثرات الماضي، لأنه يقلق لتأثره بمن سبقوه، وهو تأثر محسوم، لذلك يحاول عامدا أن يختلف بعد البدايات...
ذاك ما يميز الشاعر/ الدكتور وليد السبيعي، الذي عُرِفَ معارضا لأهم قصائد من سبقوه من شعراء الجاهلية والإسلام وكذا المحدثين، حتى وصل به النظم إلى هَوَسٍ بِحُمَّى، طرقت بابه ليلا، يقول" أزائرة بليل لا تعودي/ أيا حمى، دعيني بسلام"، وكأنها تخبره أنه ليس أقل شعرا من المتنبي، بل ولهبت خياله سُهادا...
ومن يَأنَسُ لحوارية Dialogisme "بختين" وتناص Intertextualité "كريستيفا" يدرك أن الشاعر قد نظم قصيده وهو ممتلئ بأبيات وكلمات المتنبي" وزائرتي كأن بها حياء/ فليس تزور إلا في الظلام"...هذا التماهي اللفظي بين النصوص الأدبية، يجعل منها نصوصا مفتوحة على سمات تفاعلية لرؤى القراء أيضا (الشريك الثالث) بل ويعطيها دلالات جديدة مخالفة لدلالة المقتبس والمُضَمَّن تماشيا مع السياق الاجتماعي والتاريخي العام، وهنا أستحضر كلمة اللثام في بيته" تقبلني فتحرق لي شفاهي/ أدفعها...فتنزع لي لثامي"، فتوظيف اللثام هنا يحيل على أن الشاعر قد عاد بدون وعي منه إلى عيادته كطبيب أسنان يتصارع مع زائرته، وبحسب البلاغة الجديدة، فإن ترتيب الكلام، بدءا بالاتفاق المسبق (مسلمات – تأكيدات – بديهيات...) من شأنه أن يشد الانتباه لمتابعة القصيد وتَفَكُّرِ معناه، فالمتكلم/ الشاعر/... ينطلق من واقعه كطبيب، وهذا يكسبه المصداقية التي تنعكس على إيتوسه (صورة الذات الشاعرة الصادقة والمقنعة)، يقول" تعانقني وأهرب دون جدوى/ تقيدني ...تحطم لي عظامي" أمام هذا التصوير التخييلي لتأثير الحمى على الأجساد، يدفعنا به الشاعر لأن نسبح معه في عالم خيالي تؤثته التمثلات الذهنية لكل واحد منا، ومن ذلك أنه أوحى لي شخصيا بتوليد مشاهد رأيت فيها انشطار المتلفظ/ المتكلم/ الناظم... إلى ثلاثة أشخاص:
• وليد/ الشخص المريض: رجل عادي وإنسان يعاني من الحمى ويصارع ألمها
" وعابثة بصدري بالسقام/ أ عاصرة برأس كل حين"...
• وليد/ الطبيب: تشخيص دقيق لحالة المصابين بالحمى، وفحص شعري يكاد يكون
سريريا "تملأني سعالا من جراح/تعصر لي دموعي/تخنقني/عابثة بصدري..."
• وليد/ الشاعر: الذي يصارع الكلمات العلمية التشخيصية الطبية وينمقها أدبيا بشعرية
ذائقة "وتعصر لي دموعي بدون حزن/على الخدين...بحرا من آلامي"...
ولعل هذا الصراع التخييلي هو السقطة الفرويدية للشاعر الذي تابع دراسته في مسار علمي بالرغم من شغفه الأدبي بالشعر، وهو حال كل البلدان العربية التي إلى الآن مناهجها الدراسية بعيدة عن اعتبار وصقل المواهب والهوايات التي يتمتع بها كل فرد منذ مرحلة الطفولة، أمر تفطنت له البلدان المتقدمة اليوم مثل اليابان وفنلندا (التعليم النشيط).
إذا وبنوع من التعمق في معاني القصيد، نجد أن الشاعر يعلن مرضا قد تفشى بجسد الأمة العربية، حتى أخنقها ومنعها من الصراخ، يقول" وتخنقني...وتمنعني من الصراخ/وتعجزني على نزر الكلام"، هذا الوأد في أحقية وحرية التعبير أوجد له سبيلا (الطبيب/ المواطن/ الحر...) في النظم وقول ما يجب التنبيه له وتشخيصه شعرا، على نحو يكشف قدرته على تحريك الباتوس (الأهواء والمشاعر) عند المتلقي تجاوبا وانفعالا، فعندما تخيلناه عاجزا عن نزر الكلام، وجدناه شاديا يحاورها "مؤنثا" لفحته بحرارة الآلام:
أ هي مرارة الحياة؟ هل هي حالة نفسية عابرة؟ أم ربما تكون فعلا حمى أسلبت عينيه الكرى؟ مع أن مجيئها خلسة فقط ليلا يجعل الأخيرة عن أذهاننا تتوارى. خاصة وكلنا يعلم ، أن الإنسان عند النوم يعيد التفكير في أحواله، وإذا تعمق، طار نومه وتألم من واقع صار لا يسر...فكانت القصيد بالتالي خير تفعيل لما عَبَّر عنه رولان بارت «ديمومة صغيرة ممتلئة تماما" تمكننا من إدخالها في عباءة الأدب الوجيز، لأن الشاعر وليد السبيعي فيها قد سعى إلى تمثيل واقع جارح ومؤلم، محاولا جعل فعل التمثيل الأدبي، أحد آليات الهيمنة والاخضاع والضبط...لواقع أصبح منفلتا وزئبقيا إلا من حبر قلم.
انتهى
بقلم ذة. نادية الزقان
نص القصيد للشاعر وليد السبيعي
ما لم يقله المتنبي في الحمى
تقبلني فتحرق شفاهي
وأدفعها...فتنزع لي لثامي
تعانقني وأهرب دون جدوى
تقيدني تحطم لي عظامي
وتملأني سعالا من جراح
أشد علي من وقع السهام
وتعصر لي دموعي بدون حزن
على الخدين...بحرا من آلامي...
وتخنقني ...وتمنعني من الصراخ
وتعجزني على نزر الكلام
وتلفحني – جهنم – باللهيب
وتحجزني على سقيا الغمام
أ طارقة الليالي دون إذني
وعابثة بصدري بالسقام
أ عاصرة برأسي – كل حين-
وساقيتي بمر في الظلام
أ ساهرة معي...والناس ناموا
وكاتمة لصوتي والكلام
أ سالبة الكرى من جفن عيني
وقاتلة لحلمي بالمنام
أ زائرة بليل لا تعودي
أيا حمى دعيني في سلام
ذاك ما يميز الشاعر/ الدكتور وليد السبيعي، الذي عُرِفَ معارضا لأهم قصائد من سبقوه من شعراء الجاهلية والإسلام وكذا المحدثين، حتى وصل به النظم إلى هَوَسٍ بِحُمَّى، طرقت بابه ليلا، يقول" أزائرة بليل لا تعودي/ أيا حمى، دعيني بسلام"، وكأنها تخبره أنه ليس أقل شعرا من المتنبي، بل ولهبت خياله سُهادا...
ومن يَأنَسُ لحوارية Dialogisme "بختين" وتناص Intertextualité "كريستيفا" يدرك أن الشاعر قد نظم قصيده وهو ممتلئ بأبيات وكلمات المتنبي" وزائرتي كأن بها حياء/ فليس تزور إلا في الظلام"...هذا التماهي اللفظي بين النصوص الأدبية، يجعل منها نصوصا مفتوحة على سمات تفاعلية لرؤى القراء أيضا (الشريك الثالث) بل ويعطيها دلالات جديدة مخالفة لدلالة المقتبس والمُضَمَّن تماشيا مع السياق الاجتماعي والتاريخي العام، وهنا أستحضر كلمة اللثام في بيته" تقبلني فتحرق لي شفاهي/ أدفعها...فتنزع لي لثامي"، فتوظيف اللثام هنا يحيل على أن الشاعر قد عاد بدون وعي منه إلى عيادته كطبيب أسنان يتصارع مع زائرته، وبحسب البلاغة الجديدة، فإن ترتيب الكلام، بدءا بالاتفاق المسبق (مسلمات – تأكيدات – بديهيات...) من شأنه أن يشد الانتباه لمتابعة القصيد وتَفَكُّرِ معناه، فالمتكلم/ الشاعر/... ينطلق من واقعه كطبيب، وهذا يكسبه المصداقية التي تنعكس على إيتوسه (صورة الذات الشاعرة الصادقة والمقنعة)، يقول" تعانقني وأهرب دون جدوى/ تقيدني ...تحطم لي عظامي" أمام هذا التصوير التخييلي لتأثير الحمى على الأجساد، يدفعنا به الشاعر لأن نسبح معه في عالم خيالي تؤثته التمثلات الذهنية لكل واحد منا، ومن ذلك أنه أوحى لي شخصيا بتوليد مشاهد رأيت فيها انشطار المتلفظ/ المتكلم/ الناظم... إلى ثلاثة أشخاص:
• وليد/ الشخص المريض: رجل عادي وإنسان يعاني من الحمى ويصارع ألمها
" وعابثة بصدري بالسقام/ أ عاصرة برأس كل حين"...
• وليد/ الطبيب: تشخيص دقيق لحالة المصابين بالحمى، وفحص شعري يكاد يكون
سريريا "تملأني سعالا من جراح/تعصر لي دموعي/تخنقني/عابثة بصدري..."
• وليد/ الشاعر: الذي يصارع الكلمات العلمية التشخيصية الطبية وينمقها أدبيا بشعرية
ذائقة "وتعصر لي دموعي بدون حزن/على الخدين...بحرا من آلامي"...
ولعل هذا الصراع التخييلي هو السقطة الفرويدية للشاعر الذي تابع دراسته في مسار علمي بالرغم من شغفه الأدبي بالشعر، وهو حال كل البلدان العربية التي إلى الآن مناهجها الدراسية بعيدة عن اعتبار وصقل المواهب والهوايات التي يتمتع بها كل فرد منذ مرحلة الطفولة، أمر تفطنت له البلدان المتقدمة اليوم مثل اليابان وفنلندا (التعليم النشيط).
إذا وبنوع من التعمق في معاني القصيد، نجد أن الشاعر يعلن مرضا قد تفشى بجسد الأمة العربية، حتى أخنقها ومنعها من الصراخ، يقول" وتخنقني...وتمنعني من الصراخ/وتعجزني على نزر الكلام"، هذا الوأد في أحقية وحرية التعبير أوجد له سبيلا (الطبيب/ المواطن/ الحر...) في النظم وقول ما يجب التنبيه له وتشخيصه شعرا، على نحو يكشف قدرته على تحريك الباتوس (الأهواء والمشاعر) عند المتلقي تجاوبا وانفعالا، فعندما تخيلناه عاجزا عن نزر الكلام، وجدناه شاديا يحاورها "مؤنثا" لفحته بحرارة الآلام:
أ هي مرارة الحياة؟ هل هي حالة نفسية عابرة؟ أم ربما تكون فعلا حمى أسلبت عينيه الكرى؟ مع أن مجيئها خلسة فقط ليلا يجعل الأخيرة عن أذهاننا تتوارى. خاصة وكلنا يعلم ، أن الإنسان عند النوم يعيد التفكير في أحواله، وإذا تعمق، طار نومه وتألم من واقع صار لا يسر...فكانت القصيد بالتالي خير تفعيل لما عَبَّر عنه رولان بارت «ديمومة صغيرة ممتلئة تماما" تمكننا من إدخالها في عباءة الأدب الوجيز، لأن الشاعر وليد السبيعي فيها قد سعى إلى تمثيل واقع جارح ومؤلم، محاولا جعل فعل التمثيل الأدبي، أحد آليات الهيمنة والاخضاع والضبط...لواقع أصبح منفلتا وزئبقيا إلا من حبر قلم.
انتهى
بقلم ذة. نادية الزقان
نص القصيد للشاعر وليد السبيعي
ما لم يقله المتنبي في الحمى
تقبلني فتحرق شفاهي
وأدفعها...فتنزع لي لثامي
تعانقني وأهرب دون جدوى
تقيدني تحطم لي عظامي
وتملأني سعالا من جراح
أشد علي من وقع السهام
وتعصر لي دموعي بدون حزن
على الخدين...بحرا من آلامي...
وتخنقني ...وتمنعني من الصراخ
وتعجزني على نزر الكلام
وتلفحني – جهنم – باللهيب
وتحجزني على سقيا الغمام
أ طارقة الليالي دون إذني
وعابثة بصدري بالسقام
أ عاصرة برأسي – كل حين-
وساقيتي بمر في الظلام
أ ساهرة معي...والناس ناموا
وكاتمة لصوتي والكلام
أ سالبة الكرى من جفن عيني
وقاتلة لحلمي بالمنام
أ زائرة بليل لا تعودي
أيا حمى دعيني في سلام