محمد السلاموني - "الأثر- الآخر والواقع" أو "موت الإستعارة"

إنتهيت فى مقال سابق إلى أن [ضياع "العالم - الواقع"، ذلك الذى لم يتبق لنا منه سوى "الآخر"، حول "الأخر" نفسه "بالإستناد إلى غيابه" إلى "استعارة"، حلت محل "إستعارة الأنا - الديكارتية". أى أن "الآخر" لم يعد مبثوثا فى أو محايثا أو مباطنا للأنا نفسها ، (كما كان من قبل فى ثنائية "الأنا والآخر" التى اكتشفها هيجل)، بل صار مجرد "دال على ما هو غائب- أى على غياب العالم"، هكذا، ليصير "إرجاء المعنى" علامة على ذلك الغياب. ].
مشكلة "الإستعارة" هنا، تبدو إشكالية، فللوهلة الأولى، تشير إلى ما يبدو إخفاقا حاق بالمشروع الفلسفى الإختلافى؛ إذ سقط فى نفس الحفرة التى سبق أن أشار إليها "نيتشه"، حين قال بأن [الحقائق التى انتهى إليها الفلاسفة إن هى إلاَّ جمهرة عجاجة بالإستعارات]، وكان يعنى بهذا أن البحث عن التشابهات والتكرارات هو مناط عمل الفكر الماهوى، الميتافيزيقى، السابق عليه. ومن يومها بدأ المشروع الإختلافى، فى البحث عن "المختلف"، ومنه استمد اسمه.
لعبة الإستعارات الفلسفية:
الفلسفة لعب بالإستعارات اللغوية، ذلك أن ما من فيلسوف إلاَّ ويصب فلسفته فى قالب إستعارى ما، بما فى ذلك "نيتشه" نفسه؛ وإلاَّ فكيف نصنِّف مقولاته المركزية: "السوبرمان، إرادة القوة، الجسد، عود على بدء، موت الله... إلخ" .
سأعود هنا إلى الإعتراض النيتشوى على "التعريف الأرسطى للإستعارة الفلسفية"؛ أى إلى التطابق- الذى ذهب إليه أرسطو- بين الحقيقة اللغوية للمفهوم، والحقيقة الخارجية... وهو التعريف الذى تأسس عليه "الدياليكتيك الهيجلى" نفسه، باعتباره- سلسلة من الإستعارات العقلية المتوالدة من بعضها البعض، على مرجعية أن "ما هو عقلانى هو واقعى وما هو واقعى هو عقلانى"...
المفهوم والإستعارة:
لدى "نيتشه": [أنساق المفاهيم ليست هي الأصل؛ وإنما الاستعارة بدلالتها الإنسانية، حيث الميل الإنسانى إلى توحيد المختلف تحت ضغط الحاجة إلى التواصل، فيجرى تبعا لهذا تكوين المفهوم الذى هو بقيّة من الاستعارة الأصلية بما هي إثارة عصبية يقول نيتشه: ”ماهى الكلمة؟ إنها التعبير الصوتي عن إثارة عصبية.].
[نستخلص من الإثارة العصبية أن هناك عِلَّة أولى خارجة عنا هو بالضبط ما يؤدى إليه استعمال خاطئ وغير مبرَّر لجوهر العقل؛ نظن أننا نمتلك معرفة ما بالأشياء حين نتحدَّث عن الأشجار والألوان والثلج والأزهار، غير أنَّنا لا نمتلك سوى استعارات من تلك الأشياء، استعارات لا توافق الجوهر الأصلى بتاتا. كما يتم إدراك الصوت باعتباره صورة رملية فإن الشىء المجهول فى الشىء فى ذاته يتم إدراكه أولا على أنه استعارة عصبية ثم كصورة، أى كتعبير عنه فى نهاية المطاف”. إذن، فالإنسان يميل إلى الإنتقاء والإختزال والحذف، ويرفع الإستعارة الأصلية إلى رتبة المفهوم ناسيا في الوقت نفسه التجربة الأصلية التي دانت له بظهورها.].
أما عن الأصل الإستعارى للحقيقة الخارجية، فيقول "نيتشه": [ما الحقيقة؟ إنّها جيش متحرك من الاستعارات، من المجاز المرسل، أو التشبيهات بالإنسان، أو قل، بإيجاز مجموعة من العلاقات الإنسانية، التى تم التسامى بها على طريقة شعرية وبلاغية، والتى بعد طول استعمال تبدو لشعب ما راسخة وإلزامية، إن الحقائق هى أوهام نُسِيَت أنها كذلك، واستعارات ضاعت قوَّتها الحِسِّية، وقِطَعا نقدية ضاعت نقوشها] .
إستعارة "الأنا والآخر":
ما أريد أن أخلص إليه مما سبق، هو أن "الآخر" استعارة، تحوَّلت إلى "مفهوم"، وقد عمدت الفلسفة الميتافيزيقية طوال تاريخها إلى المطابقة بينهما. وما فعله "نيتشه" هو أنه كشف عن هذا المنحى المؤسِّس للميتافيزيقا برمتها؛ بماهو المطابقة بين "ما نراه بالعين وما نعية ونتمثَّله بالذهن" .
إذا كان "هيجل" قد اعتمد تلك المطابقة فى فلسفته ومنطقه، فها هو نيتشه قد "قَلَبَها" تماما.
المسافة الفاصلة بين "ماهو فى الذِّهن وما هو فى العالم الخارجى"، هى التى حوَّلت الفلسفة من العالم الخارجى إلى عالم اللغة، أى من "مشكلة الشئ الديكارتية إلى مشكلة المعنى".
مشكلة "الآخر والمعنى":
أشرت إلى أن "الآخر" هو ما تبقى من العالم- عوضا عن "الأنا الديكارتية"- إنه شارة غياب العالم، لذا فحضوره فى الفلسفة يبدو كـ "أثر"... وهو ما أفضى بـ "دريدا" إلى "إرجاء المعنى".
يشير علماء اللغة إلى أن انتشار المعنى الخاص بالعلامة اللغوية- الذى تجاوز التعدُّد بكثير- أدى إلى تدمير العلامة اللغوية. وإذ عُدنا إلى قول نيتشه: "الآخر هو الذى يفهم وليس أنا"، سنجد أنفسنا أمام "التأويل- أى وجهة النظر الخاصة"، أى أمام معانٍ لا حصر لها "للعلامة اللغوية" موَزَّعة على الآخرين...
عدم "تعيين المعنى" قرين عدم "تعيين الآخر"...
من هنا فنحن أمام سلاسل من الغياب المتفاقم للـ [أنا والآخر والعالم كـ "واقع وتاريخ"... ].
الصورة الآن:
"أثر- الواقع"- الذى نحيا فيه الآن- هو الذى حل محل الواقع؛ بعد اغتياله...
غير أن "الصورة"- تلك التى نحيا فى إطارها الآن- صارت هى التى تصيغ عالمنا الراهن على مستويات عديدة:
"الواقع الجديد"- الذى نحياه الآن- لم يعد هو ما كنا نتواضع عليه ثقافيا من قبل. فبعد أن تحول إلى "جملة من الآثار" الناجمة عن الصور، لم يعد يمت بصِلة إلى العقل والمحاكاة، وانحسر وجوده فى "الأحاسيس المفرطة- أو العواطف" التى تتفَجَّر بدواخلنا جَرَّاء الحوادث والكوارث المتلاحقة التى تبثها وسائل الإعلام المختلفة.
الفكرة هنا تتمحور حول أن الإنسان الآن - أيا ما كانت مرجعيَّته- تحول إلى "ماكينة لضَخ المشاعر المتضاربة"...
غير أن "الصور السيلفى" تشى بتحول الإنسان إلى صور سريعة الزوال، تتمحور هى الأخرى حول لحظات عابرة "ابتهاج، حزن..."، سرعان تتلاشى لتحل محلها صور أخرى.
الإرتكاز على "الأحاسيس والصور" يشير بوضوح إلى تحول الإنسان إلى لحظات متناثرة، إلى مِزَق... وهو ما يعنى فقدانه لوحدته وتماسكه، إذ لم يتبق منه سوى نقاط موزَّعة على خطوط غير مرئى .
وهو ما يعنى "موت الإستعارة" .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى