خيري حسن - العشاء الأخير مع (أمل دنقل)

"أقول لكم:
أيها الناس كونوا أناسا"!
(القاهرة ـ 1983)

في صباح يوم السبت 21 مايو/ آيار ـ من ذلك العام ـ خرجت علينا صحف هذا النهار: "بيروت تستعد للسلام مع إسرائيل" و" توفيق الحكيم يطلب من النيابة التحقيق في اتهامات الشيخ الشعراوي له بسبب مقال (حديث مع الله) الذي نُشر بالأهرام " و"أسرة شاه إيران رضا بهلوي تُفكر في نقل جثمانه من جامع الرفاعي بالقاهرة إلى لوس انجلوس" و "بنك القاهرة يُعلن عن بيع قطع أراضي في المقطم ـ الهضبة العليا ـ سعر المتر 75 جنيه بالتقسيط المريح كاملة المرافق" و "سعر الجنيه يرتفع والدولار ينخفض بعدما أصبح سعر الدولار ما بين 110 قرشاً و112 قرشاً. والحكومة ـ على لسان الدكتور مصطفى السعيد وزير الاقتصاد ـ تتوقع (مزيدا من الاستقرار للجنيه أمام الدولار!) ودرجة الحرارة 31 بالقاهرة" و "نادي السينما يعرض الليلة فيلم (اضغط على الرصاصة) بطولة جين هاكمان. تقديم درية شرف الدين" و "سينما بيجال تعرض فيلم (الغيرة القاتلة) بطولة نور الشريف ونورا". و "كازينو الليل بالهرم يقدم سهرة مع شريفة فاضل ومحمد قنديل" و "إحسان عبد القدوس يؤكد: "كنت أعيش في حماية عبد الناصر" و" قسم شرطة مصر الجديدة يتلقى بلاغا عن تسلل شاب إلى غرفة خلع الملابس في محل عمر أفندي ـ فرع روكسي ـ بعدما ظل متوارياً خلف الفساتين من الصباح حتى الظهر يراقب حركات النساء أثناء تغييرهن ملابسهن" و" وزير الداخلية حسن أبو باشا يصدر قراراً بإصدار بطاقة (وادى النيل) لاستخدامها في التنقل والإقامة ما بين القاهرة والخرطوم" و "نيابة أيتاي البارود ـ محافظة البحيرة ـ تحقق في وفاة مزارع عمره 70 سنة سقط من على الفراش أثناء نومه"!
***
" قصدتهم في موعد العشاء
تطلعوا لي برهة.
ولم يرد واحد منهم تحية المساء"!
( معهد الأورام ـ 1983 )
كانت هذه بعض أخبار القاهرة في الصحف الصادرة هذا الصباح قبل أن يتسرب للبعض خبر آخر مؤلم وحزين. سكان القاهرة والعواصم العربية، والمدن والبنادر والقرى والنجوع والكفور والحيطان والشوارع والمزارع والمصانع بكل ما فيها ـ ومن فيها ـ بدأوا يسترقون السمع من كافة المصادر. هل حقاً مات الشاعر؟! "منذ أن مات نجيب سرور ويحيي الطاهر عبدالله وصلاح عبد الصبور. ومنذ أن مات المتنبي وأبو العلاء. ومنذ أن مات الحلاج وهيمنجواي وجاليلو وتشى جيفارا وأنا أتساءل ـ التساؤل للكاتب الراحل يوسف إدريس ـ لماذا يموت الشاعر"؟ هل حقا مات الشاعر؟ نعم.. الآن.. عند الساعة الثامنة من نهار ذلك اليوم الحزين، وفى هذا الدقائق الحزينة.. مات أمل دنقل!
" هل يصل الصوت؟
أم يصل الموت"؟
قبل وصول الموت، وصل الصوت ـ صوت أمل دنقل ـ قائلاً: "
فاشهدْ لنا يا قلمْ
أننا لم نَنَمْ
أننا لم نقف بين" لا" و" نعمْ"
***
" أيتها العرافة المقدَّسة..
جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ"
(معهد الأورام ـ 1983 )
في الدور السابع ـ بالغرفة (
😎
يتمدد الشاعر أمل دنقل ( ولد في 23 يونيه 1941 وعرف كشاعر في بداية الستينيات، وأشتهر بلقب "أمير شعراء الرفض" أصدر مجموعة من الدواوين: (مقتل القمر/ البكاء بين يدي زرقاء اليمامة/ تعليق على ما حدث/ العهد الآتي/ أقوال جديدة عن حرب البسوس/ أوراق الغرفة ( 8)/ قصائد متفرقة) هو الآن يشاهد التليفزيون الذي يذيع حلقة من برنامج ثقافي شهير اسمه (أمسية ثقافية) يقدمه صديقه الشاعر فاروق شوشة. " دعا شوشة ضيفه الشاب سماح عبدالله ـ السماح ـ إلى تقديم قصيدته. تحدث الشاب قبل إلقاء القصيدة قائلاَ: "أتمنى لو أن الشاعر أمل دنقل يستمع إلينا الآن لأنها مهداه إليه "ـ ( قرأ السماح قصيدته) ـ "التفتت عبلة الرويني إلى أمل في سعادة وفرح بعدما "استطاعت قصيدة من شاب صغير أن تكسر كل ملامح الكآبة، وتعيد إلى زوجها الهدوء والسكينة والفرح" ثم خاطبت في بهجة الشاعر الصغير - الذي لا تعرفه ولا يعرفه أمل - أمام الشاشة قائلة - "أنت جميل"!
بعد دقائق غادرت عبلة الغرفة لمتابعة بعض الأمور العالقة مع الفريق الطبي المعالج، وإدارة المستشفى. أمل دنقل مستغرق في كتاب يقلب صفحاته. وبين لحظة وأخرى يُعاود النظر للغرفة التي استقر فيها أخيراً في حالة صراع مرير ما بين الموت والحياة! " على الجدران صور ملونة، ولوحات كاريكاتيرية، وقصائد شعر. أمام عينيه مباشرة صورة صديقه الأديب يحيي الطاهر عبدالله (مات في حادث مأساوي في صحراء الوادي الجديد قبل شهور!) معلقة على الحائط!. على الجدار بطاقة من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات تحمل تمنيات الانتفاضة له بالشفاء العاجل".
" نحن جيل الألم
لم نَرَ القدس إلا تصاوير
لم نتكلًّمْ سوى لغةِ العرب الفاتحينَ
لم نتسلَّمْ سوى رايةِ العرب النازحينَ،
ولم نتعلَّمْ سوى أن هذا الرصاصَ
مفاتيحُ بابِ فلسطين"
***
( الغرفة - بعد 10 دقائق )
ـ أهلا .. أهلا! يقولها أمل لطفل صغير اقتحم غرفته عمره 4 سنوات تقريباً مُصاب بسرطان الدم. اسمى كريم وبابا شاعر.
ـ ما هو اسمه؟
ـ محمد سيف ( شاعر عامية مصري)! يجلس الطفل بالقرب منه، ويسأله في براءة طفولية مدهشة:" أنت اسمك إيه؟
ـ أمل دنقل!
- عندك سرطان زيي برضه؟
- هز رأسه مبتسماً ومجيباً: "أيوه يا سي كريم"!
بعد دقائق غادر الطفل الحجرة لحظة انتهاء حلقة (أمسية ثقافية) وبدء ظهور المطرب محمد قنديل على الشاشة ليُغني. أمل يعاود النظر إلى حوائط الحجرة أمامه حتى وقع بصره على "رسم كاريكاتيري لجورج البهجوري حاملاً بعض باقات الزهور أرسلها له خصيصاَ من باريس" الآن محمد قنديل بدأ الغناء: "يا ناعسة/ يا ناعسة/ يا أم العيون الهامسة/ يا أم الرموش/ تقتل/ ولا ينفع معاها مسايسه" بعد لحظات عاد الطفل مرة جديدة وجلس بالقرب منه.
ـ "أهلا يا رفيق"
دخلت الممرضة ومعها وجبة العشاء. أشار لها فوضعتها على تربيزة قريبة من السرير!
- تأكل معي يا كريم؟
- لا.. ماليش نفس!
- وأنا كذلك!!
أمل يعاود التركيز مع الأغنية لحظة دخول صديق له (كان يزوره يومياً أكثر من عشرين زائراً) هو الكاتب الصحفي السعودي خالد الهميل)
ـ أهلاَ.. أهلاَ. رد خالد: "جئت من المطار إليك مباشرة ومعي صحيفة الجزيرة التي نشرت لك حواراً مبهراً على صفحتين منذ أيام". بعد دقائق غادر الطفل كريم الغرفة، فيما دخل مسرعاً عبد الرحمن الأبنودي: "إزيك يا أمل"؟ لم يرد لأنه كان منشغلاً عنهما بكلمات الأغنية التي مازال محمد قنديل يغنيها: "يا ناعسة.. يا ناعسة.. لا.. لا.. لا / خلصت مني القوالة/ والسهم اللي رماني/ جتلني لا محالة" أمل يردد مع قنديل بصوت مسموع: "والسهم اللي رماني/ جتلني لا محالة"! بعدما انتهت الأغنية طلبها من الأبنودي ـ وهى من تأليفه ـ على شريط كاسيت ليسمعها مرة أخري. هز الأبنودي رأسه: "حاضر يا أمل"!
***
" أيُّها الواقفون على حافَّة المذبحة
أشْهرِواُ الأسلحة!
سقط الموتُ، وانفَرطَ القلبُ كالمسبحة"
( الغرفة ـ بعد 30 دقيقة)
بعد دقائق حضرت الصحفية اعتماد عبد العزيز. لإجراء حديث معه متفق عليه منذ فترة. قالت: "أريد أن أعرف ما هي الجوائز التي حصلت عليها؟ رد: "في عام 1962 نلت جائزة المجلس الأعلى للآداب والفنون للشعراء الشبان. (كان عمره وقتها 22 سنة) ورُشحت عام 1972 لنيل جائزة الدولة التشجيعية، وتدخلت عوامل كثيرة لحجب الجائزة عني!! عموما أنا لا أُومن كثيراً بمسألة الجوائز. وأنا لم أكن أبحث عن التكريم، لأنني لم أكن أعتبر نفسي شاعراً بمعنى الكلمة، وإنما كنت أكتب ما أشعر به. والاعتراف الوحيد بك - كشاعر- ليس اعتراف الجوائز والتكريم، ولكن اعتراف الجماهير أولاً. ثم أردف قائلاً في حسم: "لم أقف موقفاً في حياتي ندمت عليه. كل مواقفي كانت بناء على قناعات داخلية. وأنا على عكس ما يتخيل جميع الناس؛ لست منتمياَ لجماعة أو تيار. فالأصل في مواقفي أنني مقتنع بها شخصياَ أولاَ. فلا يوجد لي موقف ندمت عليه، ولا توجد كلمة كتبتها أحسست بعدها أنني كنت خائناَ لنفسي أو لضميري "بعد دقائق عادت عبلة الرويني. أشارت له بيدها. ابتسم لها في هدوء ثم أكمل حديثه قائلاً: "كل حياتي من بدايتها إلى نهايتها ـ صدقيني ـ متساوية. يمكنك أن تقولي أن موقفي من مظاهرات الطلبة سنة 1972ـ لو هذا ما تقصدينه ـ أعلنته وكتبته في (الكحكة الحجرية) والتي كان نتيجتها أنني مُنعت عشر سنوات من التعامل مع الإذاعة والتليفزيون وجميع أجهزة الإعلام. وأغلقت القصيدة مجلة اسمها (سنابل) ـ التي نشرتها ـ وكانت تصدرها محافظة كفر الشيخ، ويشرف عليها الشاعر محمد عفيفي مطر. وعزلتني هذه القصيدة من الاتحاد الاشتراكي رغم أني لم أكن عضواَ فيه"! بعد دقائق عاد الطفل كريم واشتبك في الحديث قائلاً: "إيه الكحكة الحجرية دي يا عمو أمل؟! ابتسم الجميع في هدوء وصمت لحظة مغادرة اعتماد عبد العزيز الغرفة عائدة من حيث جاءت!
***
" تأكلني دوائر الغبار
أدور في طاحونة الصمت،
أذوب في مكاني المختار"
(الغرفة بعد ـ 40 دقيقة)
كانت عبلة الرويني قد تأخرت لذهابها إلى غرفة الحسابات بالمعهد للتأكيد على غرفة مستقلة بمرافق. الموظفة في تجهم قالت: "(700 جنيه)! ماذا تفعل عبلة الآن وليس معها سوى (٣٠٠ جنيه) بعد فترة صمت قالت الموظفة بنفس الجهامة والقتامة: "إذن غرفة بدون مرافق"! مستحيل! هكذا صرخت عبلة في وجهها "كيف تمر الأيام وكلانا بعيد عن الآخر"؟ أصرت عبلة على الغرفة بمرافق. ومر أكثر من شهرين ـ بعد ذلك ـ أنفقا فيها ( 350٠ جنيه ) وهذا كل ما كان يمتلكه. رئيس اتحاد الكتاب وقتها - ثروت أباظة ـ قرر ـ بعد مطالبات من الكتاب والشعراء ـ مشاركة الاتحاد في العلاج بمبلغ (100 جنيه) على أن يتقدم أمل بطلب و(التماس)!
" معُلَّقُ أنا على مشانق الصباحْ
وجبهتي ـ بالموت ـ محنَّيهْ!
لأنني لم أحنها.. حَيٍّةْ"!
.. " وبالطبع لم يتقدم أحد بطلب أو (التماس).. بل "ولم يعلق أمل على ما حدث"!
***
"آه.. ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر.. كي ننقب ثغرة
ليمر النور للأجيال.. مرة"!
( القاهرة ـ قبل أيام )
حساب أمل في خزنة المعهد لم يعد فيه سوى مائة جنيه.. من أجل ذلك كتب الدكتور يوسف إدريس مقالاً بالأهرام عنوانه: "بالله يا أمل لا تمت فكلنا فداؤك" بعده صدر قرار من مجلس الوزراء بعلاج (المواطن أمل دنقل) على نفقة الدولة - بالدرجة الثانية - دون مرافق بنفقات قدرها( 1000 جنيه) - رفعت القيمة إلى( 3 آلاف) بعد ذلك - أمل رفض القرار كما رفض من قبله الالتماس! "وظل مستاءً طويلاً من مكاتبة مجلس الوزراء إليه التي جاء فيها صيغة: (المواطن أمل دنقل نزيل معهد الأورام)! حاول بعض الأصدقاء طرح فكرة سفره للعلاج بالخارج لكنه "كان مقتنعاً بالعلاج في مصر" وتدخلت بعض العواصم العربية ـ الرياض على وجه التحديد ـ بالإعلان عن تحمل نفقات علاجه، وعاد للقاهرة صديقه الكاتب الصحفي خالد الهميل ومعه شيك للعلاج بعد نشره للأزمة في صحيفة الجزيرة السعودية، وكشف فيها عن تقاعس القاهرة في تحمل نفقات علاج واحد من أعظم شعراء مصر والعرب في العصر الحديث. هذه المساعدات التي جاءت بحب وامتنان وتقدير له من الأصدقاء في ( السعودية والكويت) جعلته يومها "يبكى العجز..والمرض.. والعذاب"!
***
"يا أيتها العراَّفة المقدَّسة
ماذا تفيد الكلمات البائسة"
(الغرفة ـ 50 دقيقة)
غادر الأبنودي الغرفة للبحث عن شريط كاسيت يحمل أغنية (يا ناعسة) كما طلب أمل قبل قليل، فيما عاد الطفل كريم ليجلس بجواره بعض الوقت كما يفعل في الصباح والمساء. بعد دقائق بكى الطفل أمامه من وخزات الحقنة كل يوم. بكاء الطفل أكثر من مرة "كان سبباً في انفجاره يوماً بالبكاء قائلاً:" ما الذي جناه طفل في الرابعة ليسكنه هذا العذاب" بعد دقائق غادر الطفل ـ كعادته ـ ودخل الشاعر عصام الغازي.
- "مساء الخير يا أملنا"؟ ابتسم نصف ابتسامة ورد بهدوء: أهلا.. أهلا". جلس الغازي بجواره. الصمت أكثر من الكلام. الحزن أوسع من السماء. الضحك غاب والفرح غاب وحضر البكاء. بعد دقائق قال أمل له: "لو سألتني عن الموت، فأنا لا أخشاه، لكن أكثر ما يعذبني في موتي هو بكاء أمي وعذاب عبلة". ثم بعد فترة صمت، قال: "لماذا أُصاب بالسرطان في عام زواجي؟"(اكتشف إصابته به عام 1979 بعد 9 أشهر من زواجه وأجرى جراحة في مستشفى العجوزة لإزالة الورم الصغير الذي ظهر وجراحة ثانية بعدها ثم تسرب المرض اللعين إلى جسده الضعيف). الغازي مازال صامتاً. وأمل والحزن يغلف صوته عاد يسأله: "لماذا يهاجمني الموت في زمان الفرح والهدوء"؟ قال ذلك ثم صمت قليلاً فيما هرب الغازي مسرعاً من جواره وهو يبكي حيث لم يحتمل البقاء في هذا الجو الخانق، العاصف، المؤلم، المريع. بعدها دخل الطفل كريم إليه ـ الآن يرى الغازي يخرج مندفعاً، باكياً ـ سأله بدهشة: "لماذا يبكي صديقك هكذا يا عمو أمل"؟
- نظر له ولم يرد! فيما ظل صوت محمد قنديل في الغرفة يغني:" خلصت مني القوالة/ والسهم اللي رماني/ جتلني لا محالة"! (كان أمل يعتقد أن الأبنودي بهذه الكلمات ينعيه! رغم أنها كانت مكتوبة لحبيبة كان اسمها (ناعسة)!
***
"كلَّ صباح..
أفتح الصنبورَ في إرهاقْ
مغتسلاَ في مائهِ الرقراق
فيسقط الماءُ على يدي.. دَمَا"!
(الغرفة ـ بعد 60 دقيقة)
الآن جاء الأبنودي بشريط الكاسيت..
- " ضعه في الجهاز يا عبد الرحمن وشغله"! هكذا قال له أمل! بعد دقائق حضر جابر عصفور. استند أمل على ذراع عبلة وهو يرحب به: "أهلاَ يا دكتور.. أريدك أن تصحبني عندما أموت وأدفن في قريتي ( قرية القلعة/ محافظة قنا / في صعيد مصر ـ وتصحب معك الأبنودي وعبلة طبعاً (ما هذه الصلابة التي يتحدث بها رجل - ليس كأي رجل - وشاعر - ليس كأي شاعر - عن تفاصيل جنازته بهذا الهدوء والثبات واليقين؟!)ثم يكمل قائلاً: "أرجو منك أن يكون الموقف عقلاني وهادئ"! لم يتحمل جابر عصفور الحديث، وعاد للخلف قليلاً، فيما خفتت أضواء الغرفة، وهدأت الحركة خارجها!
في منتصف الليل جاء لزيارته ناصر الخطيب مدير مكتب صحيفة الرياض بالقاهرة. كان أمل قد دخل في غيبوبة الموت. "أيقظه الخطيب هامساً في أذنه:" أمل.. قاوم!
فتح عينيه.. وبصعوبة في النطق أجاب: "لا أملك سوى المقاومة"! ثم دخل في غيبوبة الموت.. الآن مات أمل دنقل!
" من قال" لا".. فلم يمت!
وظل روحا عبقرية الألم!
***
( الغرفة ـ قبل الظهيرة )
عاد الطفل كريم للغرفة للجلوس معه مثل كل صباح. لم يجده! الغرفة ليس بها سوى تصاوير معلقة على الجدران، وسرير بدون أغطية، ومنضدة بلا أدوية. ووجبة العشاء الأخيرة كما هي.. لم تمس! وهواء يدخل ويخرج من وراء ستائر الأحزان. جلس كريم دقائق بمفرده وحيداً ينتظر صديقه أمل الذي ربما سيعود بعد قليل. دخلت إليه ممرضة ممتلئة الجسد. سألها: "أين عمو أمل"؟ بكت وهى تشيح بوجهها المحتقن عنه ثم خرجت مسرعة. نظر الطفل إلى جهاز الكاسيت الذي مازال بجوار السرير. ضغط عليه مرة واثنين وثلاث حتى جاء صوت محمد قنديل:" خلصت مني القوالة/ والسهم اللي رماني/ جتلني لا محالة"! حمل كريم الكاسيت وخرج من الغرفة. الآن يمشي ببطء في ممر طويل متجها إلى حجرته القريبة( محمد قنديل مازال يغنى):
"مشيتي مشيت وراكي
يا جنتي وهلاكي
جريح.. عاشق جراحي
وأنا المكسور جناحي
وحزين ومش حزين"!
كريم يهز رأسه مع موسيقى الأغنية دون أن يفهم المعنى الذي فهمه صديقه أمل قبل أن يرحل ويودع الحياة في هذا الصباح البائس، الكئيب، فيما عادت الممرضة مرة أخرى، وأغلقت باب الغرفة، الذي تركه كريم مفتوحاً، بعدما كتبت - بقلم رصاص كان في معطفها - اسم أمل دنقل بجوار رقم الغرفة(
😎
ثم بخط أكبر منه خطت: الوصايا العشر (لا تصالح)!.

خيري حسن.


• الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال الكاتب.
• الشعر المصاحب للكتابة للشاعر أمل دنقل
• البورتريه بريشة الفنان فتحي أحمد
• صورة البطاقة الشخصية للشاعر أمل دنقل من أرشيف الكاتب والناقد / إبراهيم حمزة.
• رابط أغنية (يا ناعسة) محمد قنديل/ عبد الرحمن الابنودي/ حلمى أمين. ( آخر أغنية طلب الاستماع لها الراحل أمل دنقل)
https://youtu.be/PKHMjJ3hmxI

المصادر:
الأعمال الكاملة للشاعر أمل دنقل (طبعة الهيئة العامة للكتاب / 1998)
• كتاب (الجنوبي).. عبلة الرويني طبعة / الهيئة العامة لقصور الثقافة 2012
• كتاب ( أمل دنقل.. أمير شعراء الرفض)..نسيم مجلي.. طبعة مكتبة الأسرة - 2000.
المجلات:
أدب ونقد/ إبداع/ الدوحة.
الصحف: الأهرام/ أخبار اليوم/ الجمهورية/ الأهالي.




1653078207490.png 1653078428102.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى