أ. د. عادل الأسطة - كولاج: بقايا كلام على.. أحداث مصر

وأنا أفكر في كتابة المقال، أخذت أكرر سطراً شعرياً لمحمود درويش هو: "بقايا كلام على مقعدين". كنت أظن أن هذا السطر الشعري هو عنوان إحدى قصائده التي وردت في ديوانه "هي أغنية.. هي أغنية" (1986). بحثت في طبعة دار العودة – بيروت، المجلد الثاني، الطبعة الأولى 1994، فلم أعثر على السطر عنواناً لإحدى القصائد. هل كان هناك قصيدة هذا هو عنوانها؟ ألم أكتب مرة: سأموت وفي نفسي شيء من أشعار هذا الشاعر لم أكتب عنه؟ ألم أكتب إن أشعاره لي مثل "حتى" لعلماء النحو: سيموتون وفي أنفسهم شيء منها؟ من "حتى".
لماذا خطر هذا السطر ببالي؟ في الأسابيع الثلاثة المنصرمة نشرت ثلاثة دفاتر عن أحداث مصر وتونس وما كتبه الشعراء والروائيون، من قبل، حول هذين البلدين، متنبئين أو شاعرين بالخيبة!.
سأجدني أتذكّر كلاماً آخر وروايات أخرى لم أكتب عنها، ما دفعني لأن أدوّن يومياً ما أتذكر. كأن ما تذكرته مما لم أكتب عنه هو بقايا. وحين فكرت في العنوان خطر سطر درويش المذكور ببالي. هل هناك قصيدة له بهذا العنوان؟ هل السطر له؟ قلت: ربما. وسأواصل، الجمعة 18/2، البحث عن السطر، سأختبر ذاكرتي، وأواصل دراساتي عن ظاهرة الحذف والتغيير في أشعار الشاعر. (مساءً سأقرأ في طبعة دار الأسوار – عكا بعض قصائد "هي أغنية.. هي أغنية" وسأتوقف أمام قصيدة "أربعة عناوين شخصية"، وتحديداً أمام المقطع الذي عنوانه: غرفة في فندق، وفيه يرد السطر الشعري: "سننسى بقايا كلام على مقعدين، سننسى سجائرنا ثم يأتي سوانا ليكمل/ سهرتنا والدخان". (هكذا نسيت في الدفاتر الثلاثة السابقة ما يرد في هذا الدفتر).
محمود درويش الذي أتيت على بعض قصائده وبعض أسطره الشعرية كان من الشعراء الذين كتبوا عن مصر، ومع ذلك لم أتعرّض لبعض ما كتب. (ربما تجدر الكتابة عن علاقته بهذا البعد منذ شبابه حتى رحيله مكرماً، لا مطروداً ولا مخلوعاً مثل الرؤساء). رثى درويش جمال عبد الناصر: الرجل ذو الظل الأخضر، وأحب مصر التي أكرمت وفادته، ثم هجا النظام فيها، بعد أن وقّع السادات اتفاقات (كامب ديفيد)، ورأى في السادات العبد الأمير، ورأى في ناس مصر الناس الجياع، ولم ير فيهم المصريين الحقيقيين: لم أر المصري في مصر. (وأنا أتابع ما يقوله المصريون الآن عن ثورة الشباب، أتذكّر سطر درويش، فبعض هؤلاء يقول إنه اليوم يفخر بأنه مصري، خلافاً لما قبل 25/1/2011، حيث كان يخجل من مصريته).
هل اختلف الأمر فيما يخصّ مظفر النواب؟ لقد أتيت على أشعاره أيضاً. سأتذكر الأستاذة الجامعية شيرين أبو النجا. كانت إحدى الفضائيات، قبل رحيل مبارك، أجرت معها مقابلة، أبدت فيها رأيها ــ هي مدرسة الأدب الإنكليزي في جامعة مصرية معروفة ــ في نظام مبارك. كانت شجاعة ولم تخش على وظيفتها إن تمكن النظام من الاستمرار، وأخذ يحاسب الذين ظهروا وعلت أصواتهم. هل فاجأتني؟ لا أظن ذلك، فلشيرين أبو النجا كتاب عنوانه "مفهوم الوطن في فكر الكاتبة العربية" (2003) صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية كانت تصدّر كل فصل من فصوله بأسطر شعرية لمظفر النواب، حتى أنها لتبدو، مثلي، نوابية التوجه، ما يعني أن أشعار مظفر كانت تجد لها صدى أيضاً في مصر.
كم من قصيدة للنواب أتى فيها على ذكر مصر؟ ربما يحتاج الأمر إلى دراسة إحصائية، ولذلك دلالاته، فهي لم تكن غائبةً عن ذهنه. وكما استعار درويش رحلة المتنبي إلى مصر ليعبّر عن علاقته بهذا البلد العربي، وليعلن موقفاً من نظام السادات/ كافور العصر، فقد كان النواب، أيضاً، أتى على المتنبي وكافور، ليعبّر عن امتعاضه من السادات، وألمه من واقع الأمة العربية المجزّأة، والنواب داعٍ من دعاة الوحدة العربية، فقد هجا القطريات والدويلات وأمعن في هجائه، ووتريات ليلية دليل على ذلك. في إحدى قصائده يقول النواب:
لأمر يهاجر هذا الذي اسمه المتنبي
وتعشقه بالعذاب النساء،
فما قدر أنه في الجزيرة يوماً
وفي مصر يوماً، وفي الشام يوماً
فأرض مجزأة، والتجزؤ فيها جزاء
لكن النواب خص مصر بكتابات أخرى أكثر، وأتى على كافور المعاصر/ أنور السادات، الذي لم يختلف في تجبّره، من وجهة نظر النواب، ودرويش أيضاً، عن فرعون. ربما يتذكر قراء قصيدة "عروس السفائن" المقطع التالي:
"فرعون.. فرعون.. فرعون/ يرتفع الصبح.. فرعون/ يرتفع المجد.. فرعون/ ترتفع الخيل بالرسن الذهبية أصرخ قف/ يتوقف ربما الزمان/ وقلبي توقف في الحزن كالحجر الاردواز/ وطيبة شامخة نهدها باهتزاز/ رفعت عيوني إلى نسر طيبة/ فوق الجبين الذي مسحته الخليقة بالخمر والاعتزاز/ أفرعون.. يا من تخلد أهرامك الموتى أسرع/ هنالك من يبتني هرماً للمخازي/ تقزز وجه الإله.../ وألهب ظهر الجياد سياطاً وقرحها، صحت: قف/ قف أيها السادن الأبدي/ فمن يملكون السدانة سرقوا شعب مصر/ زوروا شعب مصر/ وقعوا باسم مصر ومصر براء/ شربوا نخبها وهي جائعة/ ليس في قدميها هذا،/ ولكن متى كان فرعون يصغي/ دعوت أبا المسك/ لكن متى كان كافور يصغي/ استجرت المماليك.. لكنهم أرسلوا مصر..." ولم يفقد النواب الأمل فكتب: "ولكن لمصر مواعيدها..."
هل كان النواب استثناء؟ سأتذكر رواية نوال السعداوي "زينة" (2009). وأنا أقرأ الرواية (وقد أتيت عليها في أحد دفاتر الأيام) كنت أقول: لعل نوال تبالغ فيما تكتب، بخاصة حين كتبت عن كتاب الصحافة الرسمية الموالية للنظام والمدافعة عنه. هل كنت على صواب؟ ما إن غادر بن علي تونس مولياً وجهه صوب المنفى، حتى انقلب الكتاب عليه (أتذكر سطر درويش في قصيدته التي يغنيها مارسيل خليفة: "تصبحون على وطن" حيث عبارة انقلاب الكتاب)، وكان اللافت أن الصحيفة التي كانت تمجده وتتغنى به بطلاً، هي التي نعتته بالدكتاتور والفاسد. هل اختلف الأمر في مصر؟ بعض الصحف الخاصة بأحمد عز، انقلبت، أيضاً، عليه، وعلينا أن نتابع من الآن فصاعداً الصحف الرسمية وما ستكتبه عن مبارك. (ربما نتذكر ما جرى في مصر في سبعينيات ق20، حيث انقلب الكتاب على عبد الناصر، ومنهم توفيق الحكيم صاحب "عودة الوعي").
ثانية، سأتذكر ما كتبه مظفر النواب عن انقلابات الكتاب على الأنبياء. مرة كتب نزار قباني قصيدة عن جمال عبد الناصر نعته فيها بأنه آخر الأنبياء. هل خلت مصر من شعراء نعتوا عبد الناصر، في حياته، بما نعته به نزار قباني بعد موته – أي ناصر؟ ربما يجب العودة إلى أشعار أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور. أحد هذين كتب بعد موت عبد الناصر متسائلاً: كيف أعرف أن الذي بايعته المدينة/ غير الذي وعدته السماء؟، وفي هذا الانقلاب كتب مظفر النواب:
"أنا لست بالناصري/ ولكنهم ألقوا القبض ميتاً عليه/ وعريّ من كنف غزلته قرى مصر من دمعتيها/ إذن سقط الآن عن بعض من دفنوه الطلاء/"
حقاً، هل بالغت نوال السعداوي في روايتها "زينة" فيما قالته عن بعض الصحافيين والكتاب؟ وماذا سيكتب هؤلاء الآن في حسني مبارك؟
عودة إلى محمود درويش. في كتابه "أثر الفراشة" (2008) يقرأ المرء قصائد عديدة عن مصر، واحدة منها عن "أم كلثوم" وأخرى تذكره بقصيدة عبد الوهاب المغناة: من غير ليه؟ كان درويش مصري الهوى منذ شبابه. وحين غادر حيفا إلى العالم العربي أقام في مصر التي أكرمت وفادته. لقد اندفع إليها، لأن فيها بقايا عبد الناصر وصوته: "كم اندفعت إلى الصهيل"، ثم خاب أمله فيها أيام السادات: "فلم أجد فرساً وفرساناً،/ وأسلمني الرحيل إلى الرحيل" ومع ذلك ظل يعود إلى مصر، ليشرب من ماء نيلها، حتى أنه تزوج، ذات يوم، امرأة مصرية.
في "أثر الفراشة" غير قصيدة لدرويش عن مصر، وكما ذكرت، فقد خصّ أم كلثوم بواحدة. ترى ألا يتمنى حسني مبارك، حين يعرف هذا، ألا يتمنى لو أنه كان غير ما كان؟ السياسيون يحترم أكثرهم وهم على سدة الحكم، حتى إذا ما ولوا صبّت عليهم اللعنات، خلافاً للفنانين والمغنين الوطنيين الكبار. في "إدمان الوحيد" يكتب درويش عن أم كلثوم "هي سماء تزورنا في غير أوقات الصلاة، فنصلي على طريقتها الخاصة في التجلي". من سيكتب عن مبارك، بعد رحيله، كلاماً مثل هذا؟!.


أ. د. عادل الأسطة
2011-02-20

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى