خالد جهاد - علامات استفهام خلف الكواليس

حرف واحد هو الفرق اللغوي بين كلمتي الإعلام والإعلان لكن المعنى عميق والفرق بينهما شاسع حيث يتنافران، يتناحران، يتلاقيان ويتآلفان حسب الحالة وحسب التوقيت وحسب الهدف الذي يجمع كليهما، وسجلت الإعلانات تحديداً منذ العقدين الأخيرين في القرن العشرين وصولاً إلى الوقت الحاضر حضوراً وتأثيراً عالمياً يمكننا وصفه بالأخطبوطي، لدرجة أنها باتت بشكلٍ غير مباشر تتحكم في مختلف جوانب الحياة في أغلب البلاد والمجتمعات وتديره لصالحها، ولصالح تحويل الإنسان من روح إلى مادة، ومن منتج إلى مجرد مستهلك ومن صوت إلى صدى، ومن أصل إلى نسخة، ومن مفكر إلى (تابع) وهي الكلمة التي سنعود للحديث عنها، خاصةً عندما تطورت تدريجياً إلى حد الإلتحام بالإعلام، فعلى الطرقات أو عبر أثير الإذاعات أو من خلال الصحف والمجلات الورقية التي تطورت إلى مواقع إلكترونية وانتهاءاً بالقنوات التليفزيونية والمنصات المدفوعة والمدونات ومواقع التواصل الإجتماعي أصبح المعلن هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة ومن يتولى دفة القيادة، فسيطرت رؤوس الأموال على الذوق العام والفنون والآداب وأخضع أغلبها لشروطها ومصالحها تدريجياً على مدار عقود، وذلك من خلال دراسات وإحصائيات تجري قبل إصدار أي منتج أو عرض أي إعلان للتأكد من نجاحه، وتحقيق إقبال كبير على السلعة المراد تسويقها أو دراسة المادة الإعلامية التي سيسوق من خلالها المنتج أو الفكرة المطلوب ترويجها، وتم ذلك مراراً وبحرفيةٍ عالية بإعلانات محسوبة بالثواني ضمن العديد من المسلسلات الأميركية الشهيرة ومن ضمنها على سبيل المثال مسلسل (فريندز)، حيث تم الإتفاق في إحدى الحلقات على ذكر اسم أحد أنواع البسكويت الشهيرة جداً لثوانٍ ضمن أحداث الحلقة وكانت النتيجة خرافية من حيث زيادة المبيعات بإعتراف الشركة مباشرةً بعد عرض الحلقة، كما تكررت كثيراً مع منتجاتٍ مختلفة وبطرقٍ مبتكرة في نفس المسلسل، ومنها مشهدٌ صامت يمر فيه أحد الأبطال أمام الكاميرا مسرعاً (لأنه في عجلة من أمره) وفي يده علبة لأحد المشروبات الغازية الشهيرة، والتي حققت في تلك الليلة مبيعاتٍ خيالية كانت مجرد تجربة ضمن نشاطها الإعلاني في كل بلاد العالم ومع أشهر الأسماء الغنائية ولاعبي كرة القدم بشكلٍ رئيسي..

وكما ذكرت من قبل ضمن مقالات ٍ أخرى ضمن سلسلة (القبح والجمال) فإن كل هذه الظواهر التي نعيشها اليوم هي وليدة تراكماتٍ وأحداث مستمرة منذ عقود، ففي فترة السبعينات من القرن الماضي وفدت أو حاول كثر من مجالات ٍ بعيدة تمام البعد عن الثقافة أو الفنون أو الإعلام ولا يملكون فيها أي خبرة أو رؤية أو حس أو ذوق الدخول إليها والتغلغل فيها من بوابة الإنتاج، بعد أن أصبحت العديد من الفئات المتواضعة تملك ثرواتٍ طائلة بين ليلة وضحاها وكان لا بد لها من واجهةٍ راقية تمثل الصورة الجديدة التي سيقدمون بها أنفسهم إلى المجتمع وكان الفن هنا هو خيارهم، وكانت هذه الظاهرة مرتبطة بمتغيراتٍ سياسية واجتماعية واقتصادية طرأت بعد دخول الصراع العربي الإسرائيلي مرحلة ً مختلفة بالإضافة إلى ما صاحب ذلك من أحداث وتحولات عالمية والتي لا ينفصل بعضها عن الآخر، ونقل ذات مرة عن لقاءٍ تم بعد رفضٍ والحاح ووساطاتٍ كثيرة للجمع بين أحد هؤلاء (الأثرياء) والفنانة الراحلة السيدة فاتن حمامة لإنتاج أحد الأفلام، وبعد بدء المناقشة بفترةٍ قصيرة وجدت أن ذلك (المنتج) يتدخل في تفاصيل لا يفهمها ويريد توجيهها في أدائها التمثيلي مما أثار غضبها ودفعها للإنسحاب ورفض كل عمل يقوم على مبدأ مشابه..

وبالطبع لا تصح المقارنة بين التجارب العربية والغربية، إلا أن التجارب الغربية أيضاً تظل متفاوتة عند المقارنة بين التجربة الأمريكية التي تظل خاصة جداً وبين التجارب الأوروبية من ناحية تغول سوق الإعلانات وأثرها المباشر على الإنتاج وخلق نموذج قادر على الإنتشار والوصول إلى مختلف دول العالم، فجميع البرامج الحوارية الشهيرة عالمياً لأسماءٍ بارزة مثل أوبرا وينفري وباربرا والترز ولاري كينغ والتي مهدت الطريق لأسماءٍ أخرى في الولايات المتحدة والتي عرفت بتقديم نفس البرنامج لعقود كان هناك دوماً منتج مختلف لكل حلقة، حيث يقوم كل منتج بتمويل ما يناسب أهدافه ورؤيته ويحقق مصالحه ويخدم الشريحة التي يمثلها أو يتوجه إليها من خلالهم، وتعد كل حلقة قام بإنتاجها مملوكةً له ولأرشيفه وليس للمذيع حيث لا يستطيع أن يعرض الإعلامي أي مقطع وإن كان لثوانٍ من حلقة قام بتقديمها أو حتى استخدامها كمادة ضمن عمل وثائقي دون موافقة خطية وموثقة من منتجها، وهو ما ينطبق في عالم صناعة الموسيقى الأمريكية حيث قد يتشارك العديد من المنتجين انتاج نفس الأسطوانة، ولكلٍ منهم أغنية أو بضع أغنيات لا يستطيع المغني أدائها دون إذنٍ منه ليكون له مردود مادي في كل مرة تذاع أو يؤدي فيها المغني أغنيته والتي تخوله السيطرة الكاملة على المحتوى الذي قام بتمويله بموافقة ومعرفة مسبقة من الإسم الذي يتصدر العمل سواءاً كان إعلامياً أو مغنياً أو ممثلاً..

وكانت هذه الظاهرة هي ما جعل الكثير من الأعمال الفنية أو الجادة غائبةً في بلادنا عكس الغرب، وذلك لعدم وجود من ينتجها كالأعمال التاريخية أو الثقافية التي لا تحظى باهتمام المعلنين والقنوات التلفيزيونية والتي لا تذاع إلا في أوقاتٍ ميتة في حال عرضها، ولكون المنتج هو من بات يحدد المحتوى والأسماء التي ستتصدره، إضافة ً إلى مكان العرض وطريقته بالشكل الذي يضمن له أكبر استفادة ممكنة، والتي تتمحور جميعاً حول المحتوى الترفيهي، حتى بتنا نرى برامج طبية مدفوعة كجزء من دعاية لطبيب أو منشأة صحية أعدت على غرار البرامج الفنية تنفيذاً لتطلعات الممول، والذي بات يحاول أحياناً تحويل المهن الطبية والعلمية إلى (ترفيه) والأطباء إلى (نجوم) كجزء من التحول الإجتماعي الذي عبث بكل المفاهيم وخلط الأوراق ببعضها..
فمع مطلع القرن الحالي وكإفرازٍ طبيعي للعولمة تغيرت الكثير من الأسماء والمصطلحات المتعارف عليها وتغيرت التصنيفات في عالم الإعلام والفن والثقافة وغيرت معها شكل المجتمع، لتظهر من رحمها فئاتٌ جديدة في مختلف المجالات وبمعايير مختلفة وبراقة من الخارج وقبيحة في مضمونها ورسائلها حيث تحول الكثير مما نراه إلى مجرد تفاهة مقنعة لتمرير سلسلة مستمرة من الإعلانات لا تخلو بدورها من مضمون يحمل معه العديد من علامات الإستفهام حول الفئة التي تخاطبها والفكرة التي تريد إيصالها وإن كانت محل شبهة ..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى