عبدالرحيم التدلاوي - قراءة نقدية في المجموعة القصصية "نقطة ونهاية السطر" للقاص المغربي عزالدين الماعزي

الضربات الخاطفة تحت وفوق الحزام برصاص الكثافة الفنية، قراءة في مجموعة "نقطة.. ونهاية السطر، لعز الدين الماعزي.

1730827670646.png

عن القصة القصيرة جدا:
إن أي ظهور لجنس أدبي جديد لا يكون إلا استجابة لحاجة ماسة و ملحة بحسب مصطفى لغتيري الذي يضيف: و ليس مجرد بذخ من أي نوع من الأنواع، وهذه الحاجة قد تكون فنية جمالية أو اجتماعية، للتعبير عن مستجدات لم تعد الأجناس الأدبية التقليدية قادرة على التعبير عنها، لهذا لا ينفع أبدا أن نتخندق ضد ظهور جنس جديد، مهما كانت المبررات التي نسوقها لتبرير ذلك ،وإلا وضعنا أنفسنا في موقف حرج، وأصبحنا معادين لسنة التطور في الحياة، و تاريخ الأدب يعلمنا أن جميع الأجناس أو الصيغ التعبيرية المستحدثة وجدت مقاومة ممن يمكن نعتهم بمحافظي الأدب، لكن ذلك أبدا لم يمنع الجنس الجديد من شق طريقه نحو القراء، ثم ترسيخ قدميه، في ما بعد، في تربة الأدب. وقع ذلك لقصيدة النثر و قبلها لقصيدة التفعيلة، وحدث كذلك مع الرواية وجميع الأجناس الأدبية تقريبا إبان ظهورها .
القصة القصيرة جدا ظهرت إلى الوجود ووجدت من يعتني بها إبداعا و نقدا، لأن هناك حاجة جمالية وفنية لها، فتكثيفها القوي يعوض إلى حد ما أنواعا كتابية لم تعد رائجة كالمثل والخبر مثلا، كما أنها تمتلك جمالية خاصة تفتقر إليها الأجناس الأخرى، من قبيل القدرة على التقاط الإشراقات الذهنية والمواقف الواقعية الخاطفة و النوعية، التي تحفل بها الحياة، كما أنها قادرة على صوغ المفارقات، بحيث لا ينافسها جنس أدبي في ذلك.
ومن بين الكتاب الذين مارسوا كتابتها استجابة لغوايتها اللاتقاوم الكاتب والشاعر المغربي عز الدين الماعزي.
و"نقطة ونهاية السطر" هو مولوده الجديد الذي سنتاوله بالتحليل.
عن الدار المغربية العربية للنشر والطباعة والتوزيع، صدرت مجموعة قصصية قصيرة جدا، طبعة2024 بعنوان : "نقطة ونهاية السطر" للقاص المغربي عزالدين الماعزي في 64 صفحة، لوحة الغلاف : الخروج عن القطيع للفنان البولندي توماس كوبيرا..
يتضمن فهرس المجموعة عناوين كبرى : القصة التي.. بضمير المتكلم. على نار هادئة. الأغبياء دائما يتحولون فزاعات. كورونيات. لتكتمل المسرحية. ضحايا. قوس قزح. مذنب هالي...وتختتم بالقاص الذي لا يشبه إلا نفسه.
وبذلك تكون هذه المجموعة هي الخامسة بعد : حب على طريقة الكبار(ترجمت إلى الانجليزية) وقبلات في يد الهواء، الرجل الذي فقد ذيله، الأقزام يكبرون بسرعة.
من أجواء مجموعة "نقطة ونهاية السطر" هذه الاختيارات القصصية :
1_ النقطة التي...
حين انتبهت القصة إلى ضآلة حجمها بين الأجناس؛ أخرجت لسانها الطويل تتضوع قصصا قصيرة جدا.
2_ قرار :
لأني قلت : أحبك... أحبك... أحب.. ك. بادرت إلى الهجوم عليّ... رميي بالجنون ودسّي في سلة المهملات.
3_ خيبة أخرى :
من فوق ظهر حمار، رآه أهل الدوار، فقالوا : أتركب وحدك وتترك الشعب يمشي؟
حار في الإشكالية وأتمّ القصة بنزوله وترك الحمار يسوقهما.
4_ جاء معلمي :
لحظة، انتشيت كما اعتاد الكبار وفكرت أن أحيّيه برفع القبعة. تذكرت كتب الثورة والشعر وعرفت أن له مكانة في القلب.
5_ ضحايا :
أفردت مكان قصيّا للبطل...
في الصباح، كانت القصة تبحث عن نهايتها.
6_ نصف نهار:
قضى زمنا طويلا ينتظر أشياء كثيرة... لم يتحقق منها إلا ما كان في الحلم.
في "رقصة الفالس":
يتم اعتماد ضمير المتكلم، وهو شخصية غامضة لم يتم الكشف عن هويتها أو صلتها بالفتاة.
في حين، جاءت الفتاة شخصية مجهولة الهوية، تظهر ضاحكة ثم تنهار جثة هامدة.
أما مسرح الحكاية فكان غير محدد، لكن من الممكن استنتاج وجود مساحة مفتوحة تسمح بالرقص. والملاحظ أن تحققت الأحداث كان في لحظة عابرة.
وملخص القصة أتى كالتالي:
يرى السارد الفتاة تضحك، يقترب منها ويطلب منها الرقص. تنظر إليه الفتاة ليتوازن. يبتسم الراوي، ثم تقع الفتاة جثة هامدة.
تتميز هاته القصيصة بلغة مكثفة ومباشرة، خالية من الزخارف والتشبيهات. وجملها كانت قصيرة وفعالة تخلق شعوراً بالترقب والغموض. وتم توظيف االحوار بشكل مقتصد لإضفاء المزيد من الإثارة.
وقد يترك للقارئ مهمة ملء الفراغات واستنتاج ما حدث.
ما تتميز به القصيصة هو أنها بنيت تدريجياً من خلال سلسلة الأحداث المتسارعة.
واعتمدت الصمت بشكل فعال لخلق شعور بالترقب والقلق. في حين، أتت النهاية مفاجئة صدمت القارئ وتركته في حالة من الحيرة.
ومن حيث الدلالة، فيمكن القول إن "رقصة الفالس" تحمل رمز للحياة والموت. وهذه المقابلة بين الطرفين، أوحت به ثنائية الفرح والحزن، ثنائية السمو والسقوط. وهي قصيصة انبنت على الإيقاع السريع الذي يحاكي سرعة الأحداث وتوترها.
إنها قصة قصيرة جداً ناجحة تتميز ببساطتها وغموضها اللذيذ والمحفز، وتوترها الدرامي، ورمزيتها العالية،وجمالياتها. وتثير افي ذهن القارئ تساؤلات حول معنى الحياة والموت، وتصدم بالنهاية المفاجئة، وتحفزه على إعادة قراءتها لمحاولة فهمها بشكل أفضل.
وفي قصيصة "حين انتبهت القصة إلى ضآلة حجمها بين الأجناس؛ أخرجت لسانها الطويل تتضوع قصصا قصيرة جدا."
نجدها تقدم صورة مجازية جميلة عن القصة القصيرة جداً، من خلال تشبيهها بكائن حي.
فكلمة "انتبهت" توحي بوعي القصة القصيرة بذاتها وبمكانتها بين الأجناس الأدبية الأخرى رغم ضآلة حجمها. وكلمة "تتضوع" تحمل معنى الجمال.
وهي تمتلك مقابل ذلك لسانا طويلا يشي بقدرتها على إيصال رسائل عميقة ومعقدة من خلال لغة مكثفة. وبسخرية فيها سلاطة تخبر بقوتها، وقدرتها على المواجهة.
ولا تخلو القصيصة من جمال، فنراها قد استخدمت التشبيه "أخرجت لسانها الطويل" لإضفاء الحيوية على القصة. مع رسم صورة ذهنية واضحة للقصة القصيرة جداً وهي تخرج لسانها وتنشر قصصها.
وقد اعتمدت الدقة في اختيار الكلمات التي تعبّر عن المعنى المقصود.
عن السخرية في المجموعة:
تطال السخرية جميع المجالات ولا تستثني ولا واحدا، فهي قد مارست لعبتها الفاضحة في مجال التدريس، وفي مجال الكتابة الإبداعية والنقدية، وفي المجال السياسي والحزبي والانتخابي، وكانت تعتمد العين اللاقطة والذكية، تصنع منها قصصا تتميز بكثافتها، ودقة تصويبها، وتمنح القارئ المتعة وتخلق لديه الدهشة، فعز الدين الماعزي قاص متمرس، في حوزتها مجموعات كثيرة وقد عرفت مجموعته الأولى "حب على طريقة الكبار" شهرة كبيرة على المستوى المغربي والعربي، واتخذت موضوعا لأطاريح جامعية، كما تناولها النقاد بالتحليل والتمحيص، واعتبرت نموذج الأدب الوجيز، وكانت برهانا قويا يطيح بحجج المعارضين. ومجموعته قيد القراءة تأتي لتقوي عضد القصة القصيرة جدا، وتبعد عنها تهمة الإسهال والضعف.
يؤكد الماعزي من خلال مجموع أعماله أن هذا الجنس الأدبي قد فرض وجوده، وأصبح ظاهرة فنية وجمالية لا يمكن نفيها، أو المرور عليها مر الكرام. كما أكد أن هذا الفن صعب المراس، ولا يمكن أن يتقنه سوى مبدع تمرس على كتابة القصة القصيرة. وقد برهن من خال قصصه القصيرة جدا أنه من بين هؤلاء المتمرسين.
وها إن قصته "تضحية" تأتي بحمولتها المعرفية والفنية لتخبرنا بأن الماعزي قصاص ماهر، وكاتب يبرع في كتابة القصة القصيرة جدا.
لننظر إلى شخصيات النص، سنجد ذئبا، ومجموعة غائمة المعالم، لا نراها بل نسمع صوتها من خلال طلبها الذي وجهته له. ويتجلى الطلب في أن يتخذ الذئب سمت سيدنا إسماعيل، وفي هذه اللقطة نمسك بتلك البراعة التي سلف الحديث عنها أعلاه، إذ يتم تحويل واع للقصة الدينية المعروفة، فإذا ان سيدنا إسماعيل الإنسان هو من طلب منه التضحية، وكان الكبش هو الفداء، وهو الجزاء على الخضوع وقبول الأمر الإلهي، فإن الذئب الكائن الحيواني هو الذي طلب منه التضحية، وأن يرتفع إلى مقام الإنسان، لكن خضوعه للطلب السفلي لا العلوي جعله يرعد فرقا، إذ لم يستطع مفارقة خاصيته المتمثلة في القتل لا التضحية، إنه رفض ان يكون إسماعيل الإنسان، بيد ان التحول طاله فصار دجاجة عارية من ريشها، أي من قوتها المتضمنة في التضحية؛ إذ لا يقبل على التضحية إلا من كان مؤمنا، ومحبا للآخرين بعيدا عن محبة الذات والتقوقع في أنانيتها. ولم يحصل، بفعل رفضه هذا، على الإثابة، بل حصل على تحول سلبي جرده من قوته ورمى به في قاع السخرية إذ صار دجاجة منتوفه الريش، وهي صورة محملة بأبعاد دلالية جمة، أهما الانمساخ.
تسير النصوص برشاقتها الواضحة ذامة السمنة غير الصحية التي تعيق الحركة، فنراها تقفز بكل عنفوان وخفة بين الحقول راسمة مجالها الحيوي برشقة طلقات تصوبها على العناصر المختلة في واقعنا تبغي من ذلك تصويب سير الحياة.
ففي مجال الشعوذة نجد الماعزي يصرب سخريته على معتقدي الأضرحة بقفلة حادة كسكين، كما في قصة "ماء الفيض"، حيث تنهي حركتها بضربة صاعقة تجعل القارئ يصرخ من الضحك، وهي عملية تطهير، تقول القفلة:
فيما كانت أمه أول من لطخت وجهها ببركة {بوله}.
فالماء الذي حمله العنوان لم يشر إلى أنه ملوث وإن حمل معناه ضمنيا، من خلال استدعاء الفيض، لكن معناه سيتجلى من خلال تلك القفلة الساخرة والتي جمعت بين المقدس والمدنس. ولتصير البركة منحطة، تمس الأم كرمز يعبر عن الحب والطمأنينة، والأمان، ويزري بمقامها العالي.
تمد القصة القصيرة جدا لسانها الطويل لتسخر من كل معوج لتقيمه، وكل قبيح لتبعده، وكل تسلط لتعيد بناء كرامة الإنسان، ولذا تعد جريئة ومخيفة، مما قد يجر عليها قطعه؛ وبخاصة حين تتناول الكبار.
لنتحدث عن سرعة الحركة التي اعتمدها القاص في نصوصه قبل العودة إلى السخرية من الكبار، ولنقدم قصة "أفعال الصيف"" مثالا عن ذلك، فالقصة مبنية بثلاثة جمل قصيرة وبسيطة، تؤطرها ثلاث محطات زمنية، تجمع الفصول التالية: الخريف والشتاء والربيع، فصول متتابعة، تستثني الصيف، وتجمع بين شخصيتين، أنثى وذكر، بينهما علاقة ود تبرزها كلمة التطريز ذات البعد الجمالي والتي تحمل في طياتها نبع فيض من سعادة، والتطريز يرتب بحقل الحكي، وهو فعل يؤثثان به حياتهما لتجاوز البعد، فبه يتحقق الوصال، رغم بعد المسافة وسطوتها، فبالحكي نتغلب على الزمن وقهره. وقد كان لحكيهما القدرة على تجاوز فصلين باردين، إلى حين بلوغ فصل الانبعاث والعطاء، ففيه تم اللقاء وتحقق قطف الفاكهة، أهي المحرمة؟ لعل الشجرة في النص توحي بشجرة الجنة المنهي الاقتراب منها، وبالتالي الابتعاد عن فاكهتها، كما توحي بفيلم "أبي فوق الشجرة" المليء بالقبل. وعملية الجمع بين العنصرين يقودنا إلى أن المحرم قد انتهك، وأن الفعل المحرم قد وقع. فسرعة الأحداث تنافي حركة الفصول، وتضادها، لكن الحكي ان فاعلا مهما من أجل تحقيق المبتغى بتسرع الزمن.
ولنعد إلى السخرية من الكبار حتى وإن لم يتم ذكرهم، فأفعالهم تشير إليهم، كما في قصة "الزلط"، فهي الأخرى تتميز بسرعتها بفعل استثمار الجمل القصيرة والحادة كسيف، ولا تبرز تلك السخرية إلا في قفلتها التي وظفت أحسن توظيف الأغنية المشهورة "وين الملايين" لكن الملايين المتحدث عنها هنا ليست هي تلك الملايين الحاضرة في الأغنية. نعم، هما متماثلتان من حيث التركيب، لكنهما مختلفتان من حيث الدلالة، تقول القصة:
من يسرق الشعب، يسرق الملايين..
أذيعت الأغنية:
_ وين الملايين وين.. ؟ !
ولم يكن التكرار في الختمة اعتباطا بل كان تساؤلا مشروعا، وجوابا لمن يبحث عن مكان الثروة. لا يقوم الصغار بسرقة الشعب بل كبار الناس ومسؤولوهم.
اصدار جديد
يمتص القاص رحيق المجتمع، ويقدمه لنا في صور عارية بشكل ضمني يستدعي كفاءة القارئ للقبض عليها، وهو بذلك يحترم عقله، ويورطه في كتابة قصصه عبر ملء الفجوات وبياضات النص، وعبر تأويل لا ينحرف عن المقاصد الثاوية بين السطور.
وها قصة "تهديد" تأتي مثل ومضة سريعة الخطف لتؤكد على أن القصة القصيرة جدا حين تمد لسانها الساخر لا تجد امامها إلا المسدس ليخرسها. إن المسدس أداة قمع تقابل الحرف أداة النقد والتعرية، تقول القصة:
كلما رآني السيد {الرئيس}، تحسس مسدسه.
فتحسس المسدس جملة انتقلت من حقل معرفي على النص بحمولتها الدلالية، وتعبر عن القمع، وإسكات المعارض. ولعل وضع لكمة الرئيس المسبوقة بالسيد الخارجة عن القوسين، توحي بالاعتقال، وتضييق الخناق عليه. وبالتالي، فإنه لا يستحق صفة السيد لأن المعاني المضمرة تخبرنا أنه إنسان استبدادي، لا يحب سماع الصوت المخالف، لأنه يعيق مشاريعه، ويحرمه من المال العام، والاستفادة منه؛ أي سرقته كما جاء في القصة السابقة.
"
في قصة "نسج العفاريت"، يمنحنا العنوان فرصة قراءتها بتصحيفه، حيث يمكن تغيير كلمة "نسج" ب"نسخ" فيستقيم المعنى، ولا يمكن إغفال نبرة السخرية الحاضرة في النص، تتوارى خلف الكلمات، لكنها تعلن عن نفسها واضحة في مجموع القصة، فالرجل ما قام بكتابة إبداعية حقة، ولا كد من أجل بناء الرواية، جل ما قام به هو نسخ ما سمعه، وإعادة الكتابة قد تكون ممتعة، مثيرة لشهية القراءة والتفاعل، لكن جملة "خمنت تفاصيلها" كانت بمثابة كابح لهذا البعد، إذ إن عملية تخمين التفاصيل كمين بجعل العمل سطحيا لا رواء فيه، ولا متعة ولا دهشة، فاعتماده الكلي والحرفي على ما سمعه قد قتل الحكاية والكتابة في آن، إنه قد سار وفق خطة الكاتب العمومي الذي لديه خطاطات موحدة، لا يقوم سوى بتغيير الاسم، وفي ذلك عجز وقصور وتكرار ممل.
تمتد السخرية إلى الكثير من النصوص الموزعة على طول الكتاب، ومن بين النصوص الساخرة والمؤلمة، نص "مصيدة"، لأنه يطرح السؤال التالي: من تم اصطياده؟
فالنص يتحدث عن جماعة من الشخصيات، نخمن أعمارها أنه صغيرة ومشاغبة، تتسلى بنصب المصائد، إلا أن مصيدة النص حملت إلى الأطفال أخ أحدهم، وهو سارد القصة. وهاته النتيجة تتصادى والجملة المسكوكة، "جاي يصيد صاد راسو" ومع "من حفر حفرة وقع فيها". والممكن أن هناك احتمالين، الأول، أن الأخ مشارك في هذه اللعبة، والثاني، أنه لم يكن مشاركا مما أوقعه في الكمين المنصوب إليه. في الأول، هو مجرم وضحية، وفي الثاني، هو مجرد ضحية لأخيه. وهذا الفعل يعيدنا إلى قصة "هابيل وقابيل"، والتي تمنحنا فرصة القول: إن هناك صراعا بين الأخوين، تم تمويهه بتوظيف ضمير المتكلم الجمع، حتى يتبرأ الأخ من دم أخيه.
القصة مشحونة بالأفكار، ومليئة بأجواء نصوص سابقة، أتت إلى النص محملة بتاريخها الثقيل، ونزلت بثقلها إلى ساحة النص سواء أدرك المبدع ذلك أو لم يدركه، فقد يكون حضورها بفعل تراكم ثقافته، وقد يكون بفعل واع ومقصود.
ونجد قصة "في قاعة الامتحان" طافحا بالسخرية المرة، فقد حدد المكان، وصار الترقب سيد القراءة، وانتصب السؤال: ماذا وقع؟ والقارئ الممارس لعملية التعليم سيخمن سيناروهات كثيرة، من مثل حضور العنف، ومن مثل الغش وقمعه، لكن القصة قدمت صورة أخرى غير ما هو متوقع، إذ رسمت حركة للرؤوس، مقابل جمود الأقلام. فالمفارقة الصاعقة كانت بين حركة وسكون، وهي صورة معكوسة للصورة التي ينبغي ان تكون في قاعة الامتحانات، حيث الروس ساكنة ومنكبة على أوراقها، والقلم هو العنصر الفاعل والمتحرك، يدبج الأجوبة لأنه هيأ نفسه لها، وبالتالي، فالسخرية كانت من هاته الرؤوس الدائرة بحثا عن أجوبة جاهزة من أي جهة، إنها فارغة تحركها رغبة الغش.
أبحّرت بنا المجموعة في رحلة قصيرة عبر عوالم عميقة، مثيرة تساؤلات عدة تطال المبنى والمعنى وتحفز الفكر وتطلق العنان للخيال، بلغة كثيفة وتشكيل شعري، وسخرية مرة، والتقاط ذكي للمفارقات، وما تحمله في طياتها من تناقضات الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى