محمد السلاموني - الحب.. "القلب" والتاريخ

هل هناك ثمة علاقة بين المشاعر العاطفية والسياق التاريخى؟.
الذين يعتقدون بأن الإنسان وُلِد كاملا وبأنه هو هو دائما فى كل زمان ومكان، لا سيما من الناحية الشعورية والإنفعالية، يذهبون إلى أن الخصوصية التى يتميز بها السياق التاريخى، وإن كانت تؤثر فى "الوعى" وفى مدى تطوُّره، إلا أن الدور الذى تلعبه تلك الخصوصية فى تشكيل المشاعر لا يتجاوز "السلوك" أى الشكل الخارجى للتعبير عن المشاعر فقط .
أى أن "القلب"- ما دمنا نتحدث عن "الحب"- يحيا حياته الخاصة، بداخل اكتماله المطلق والمغلق على النزوعات الجسدانية، المنفصلة عن "العقل" بالضرورة، وأن هذا الإنفصال
بين "القلب والعقل" هو التناقض المحايث لوجودنا بين "إرادة الجسد وإرادة المعرفة".
بكلمة واحدة، هناك تناقض بين "الطبيعة الإنسانية الثابتة" و"الأوضاع التاريخية المتغيِّرة".
أما الذين يعتقدون بـ "وحدة الإنسان"، وسعيه الدائب للإتساق والتناغم الداخلى، فيذهبون إلى أن "القلب والعقل" مترابطان بقوة، وجدليان تماما- أى بينهما اعتمادات متبادلة أو أن كلا منهما يؤثَّر بقدر ما يتأثَّر بالآخر. وبذا فكل منهما بداخل الآخر، ولا يعمل منفردا...
وهو ما يعنى أن المشاعر تتطور بتطوُّر الوعى.
وبذا، فهؤلاء يرفضون وجود طبيعة إنسانية ثابتة، ويتشَيَّعون تماما للتاريخى المتغيِّر.
كما ترى، الموضوع كبير وشامل ويضمر انفتاحا هائلا على آفاق فلسفية وسيكولوجية وإجتماعية واعدة بمقاربات ثَرَيَّة...
من ناحيتى، أتعامل مع النماذج المعرفية الكلية المعتمدة مؤسسيا بحذر شديد، وعادة ما لا أسعى للتطابق معها، بالإقامة فى "المختلف"- أيا كان نوعه- ساعيا لإستثماره بقدر استطاعتى، ومن هنا احتفائى بالجزئى والإستثنائى والعابر والهامشى... إلخ، وبتعبير آخر، احتفائى بالسؤال، دوما السؤال...
الأساطير والحكايات الشعبية والأعمال الأدبية التراثية والمعاصرة أيضا؛ الشعرية والنثرية القديمة والحديثة، العربية واليونانية وغيرها، كثيرا ما تناولت العلاقات العاطفية، بل ومختلف أنواع المشاعر الإنسانية. حين نقرأها لا نجد اختلافا فى المشاعر ذاتها- فالحب هو الحب وكذلك الكراهية والشعور بالواجب والحقد والإخلاص والخيانة والغَيْرَة... إلخ، هذا على الرغم من اختلاف السياقات التاريخية المؤطرة لتلك العلاقات...
ومع ذلك فهذا غير صحيح...
لماذا؟.
سأكتفى بالحديث عن "اللغة والعين".
ـــ اللغة:
المشاعر الإنسانية التى تفيض بها الأشكال التعبيرية اللغوية "الأدب وغيره"، ليست هى المشاعر الإنسانية التى نشعر بها خارج اللغة؛ أى فى الواقع العيش، ما نقرأه هو "إيهام" بتلك المشاعر، إيهام فقط ، ذلك لأن اللغة نظام، والنظام اللغوى ليس هو النظام الطبيعى الخاص بالمشاعر والأشياء... فكما أن الأماكن التى يتحدث عنها الأدب مجرد أماكن لغوية "توزيعات لغوية"، فكذلك سائر الموضوعات التى تتناولها اللغة، أى أن "المشاعر الإنسانية الورادة فى الأدب" لا تزيد عن توزيعات لغوية، أى تجريدات؛ معانى، دلالات... عملية الإيهام هى التى تدفعنا لإستحضار الواقع الذى نعرفه، الواقع الذى تسعى اللغة لمقاربته والإمساك به دون أن تتمكَّن من ذلك أبدا .
أعنى أننا حين نقرأ التراث القديم المتمحور حول المشاعر الإنسانية، فإنما "نُسقِط" تجربتنا الحياتية عليه، فيبدو لنا ما نقرأه متطابقا بدرجة أو باخرى مع ما نعرفه...
ــ العين:
ــ كلنا ننظر، نرى، بعينين مصنوعتين من قبل، لذا فنحن نرى من منظور ثقافى، أى من خلال "نظام للرؤية"، تشَكَّل إبصارنا وفقا له، من هنا فنحن لا نرى ما هو أمامنا، هو نفسه، بقدر ما نرى ما يمكن لنا أن نراه، أى ما يتيحه لنا نظامنا الثقافى البَصَرى...
الخلاصة:
المشاعر الطبيعية الثابتة، لا تزيد عن "إمكانية"، عن "استعداد"، مقدِرَة... إلخ، تتميز بكونها مادة خام، ليِّنة ومَرِنة، قابلة للتشكيل وإعادة التشكيل...
من هنا، يمكن الزعم بأن هناك خلط كبير بين "الإمكانية الطبيعية- أى المادة الخام- للشعور بالحب" تلك الملازمة للإنسان على مدار التاريخ، وبين "تحولات الشعور بالحب" تلك المرتبطة بالسياقات التاريخية المتغَيِّرة...
// نعم، المشاعر العاطفية لم تكن أبدا مساوية لنفسها طوال مراحل التاريخ المختلفة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى