أدب السجون د. محمد خفيفي - قراءة نقدية في رواية ”أفول الليل“

بتدوين عنوان فرعي هو ”يوميات سنوات الرصاص” تعين أفول الليل للطاهر المحفوظي منجزها الكتابي ضمن ما عرف بأدب السجون أو أدب الاعتقال، وهو أدب يشكل اليوم رافدا من روافد الأدب المغربي الحديث، وبقدر ما راكم هذا الأدب عددا مهما من النصوص المتميزة والمثيرة، ظل النقد الأدبي خجولا في مصاحبته والاستئناس برفقة متونه، وعلى اعتبارأن هذا الأدب يغترف من شجرة نسب لا تقرنه بالانفراج السياسي الذي عرفه المغرب مؤخرا ، وشجع عددا من الكتاب على الخوض فيه، فإن تاريخيته موصولة بكتابات ارتبطت يسجون المستعمر ومضايقته للوطنيين “من ذكريات سجين مكافح” لمحمد إبراهيم الكتاني، “سبعة أبواب” لعبد الكريم غلاب). باستثناءات نادرة معظم كتابات أدب السجون تنحاز للسيرة الذاتية، يرتبط ذلك أساسا برغبة الذات في التأريخ لجراحاتها وندوباتها الموشومة في الذاكرة والجسد معا، استحضار واع للحظات مأزومة يهزها عنفوان النضال والانخراط في دينامية محكومة بصراع لا يلين.
يختلف الضحايا ويبقى الجلاد واحدا، نتعرف فيهم على المناضلين اليساريين والعسكريين الانقلابيين والنقابيين والفاعلين السياسيين، جبهة رفض اكتوت من مظاهر العنف المادي والرمزي ودونت نصوصا لفضح أساليب القهر والتنكيل والحرمان الذي تعرضت له خلال السجن، كتاب شيدوا بوهج الحرف إدانة للاعتقال: الشاوي واللعبي، حليمة زين العابدين،صلاح الوديع، توفيقي بلعيد، المرزوقي، فاطنة البيه، جواد مديدش، محمد الرايس وغيرهم….
أفول الليل يوميات من سنوات الرصاص للطاهر المحفوظي واحد من هذه الكتابات المندمجة في سياق التعبير والتعريف بحرج مرحلة سياسية كان لها من النعوت سنوات الرصاص أو الجمر، ليل طويل كئيب يستحضره المؤلف عبر يوميات صدرت طبعتها الثانية في أبريل 2006 وضمت مائة وسبعة عنوان، ووثقت لزمن اعتقال استغرق سنتين وشهرين وكانت التهمة الرئيسية فيه الانتماء للنقابة الوطنية للتلاميذ.
بأفول الليل ينسدل الستار على تجربة ومرحلة كانت لها امتداداتها وتبعاتها في تاريخ المغرب المعاصر، صورتها حاضرة، والتوجس من تكرارها قائم، الليل في بعده الرمزي يلامس ظلمة حالكة، لا تظهر فيها سوى صور الجلاد والمخافر والمحاكمات والاعتقالات.الليل اختزال لمرحلة سياسية سادها التوتر والصراع والعنف( هيئة الإنصاف والمصالحة حددتها بين 1956ونهاية 1999)، وتميزت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وبالتعذيب والاعتداء الجنسي والحرمان من الحق في الحياة والاغتراب الاضطراري.
يحوز المؤلف مقدمة من صفحتين، نص موازي وعتبة قريبة من النص بتصنيف جيرار جنيت، إخبار بقصدية المؤلف والمؤلف، نص صغير يحمل عمق وأسرار النص الكبير حدد فيها المحفوظي ثلاث إضاءات أساسية هي المداخل الكبرى للاقتراب من الكتاب.
1- الكتاب شهادة صادقة على فترة عصيبة من تاريخ المغرب، عرفت بسنوات الرصاص، حيث واجه الشعب وقواه الحية الاستبداد والظلم والقهر،ونتيجة لهذه المواجهة غير المتكافئة امتلأت السجون بمئات المعتقلين، واستقبلت المنافي العديد من المناضلين.
2- محاولة للتعريف بالمجموعة36 التي ستغدو 42 ويطلق عليها مجموعة بوغابة ومن معه أو قضية النقابة الوطنية للتلاميذ.
3- رد الاعتبار لهذه المجموعة التي طالها الجحود والنسيان، وانسحبت في صمت وتواضع وتعرضت لمضايقات وتحرشات ومنعت من جواز السفر، ومن مغادرة التراب الوطني كما حصل مع الكاتب حتى حدود 2002 .
هكذا تنحت المقدمة لنفسها مسالك تتعالق فيها مع ذاكرة وتاريخ غيبه النسيان والتاريخ الرسمي، وانبرت فيها الذات لتثبيت شهادة –عوض تقرير- علها تساهم في جبر ضرر ما انهد وتقوض بفعل العنف الذي مورس في حقها أملا في تأهيل وإعادة إدماج يعيد لها كرامتها المستباحة.
لا تلتزم يوميات المحفوظي بقواعد الجنس الأدبي الذي انخرطت فيه، فعلى غير العادة لا تقترن هذه اليوميات بتواريخ محددة، لا مجال للترتيب، تبدو الأيام عارية بدون عناوين، الأحد يسبق السبت والخميس لا تتلوه الجمعة حتما، زمن المخافر عقارب ساعته كرباج وسياط، إهانات ومذلات، ألفاظ نابية تعري حقيقة الجلاد ودواخله العفنة.
كذلك تلتحم في هذه اليوميات أجناس كتابية تتوزع بين النثر والشعر والرسائل وكلمات التأبين، تنوع يدفع بالكتابة إلى حالة عدم استقرار تماثل ما يعتري صاحبها من قلق وجودي وتمزق داخلي .
تصعب المفاضلة بين هذه الأجناس، وإن كان للقاص أحمد بوزفور رأي آخر حينما آثر الشعر وفضله على المنثور، يقول: ”يضم هذا الكتاب قطعا نثرية صغيرة ومعنونة وكذلك أشعارا ورسائل، وأعتقد أن الشعر الموجود في القطع النثرية أجمل وأعمق تأثيرا، وأزعم أن هذه الشذرات الجميلة لا ترسل الشعر فقط بل ترسل الموقف لكن بجماليةأعمق”. إن هذا التنوع التعبيري يتوحد فيما تنطوي عليه اللغة الكاشفة والفاضحة والمنددة بكل الممارسات الوحشية والقمعية، ولآليات الاستبداد والقهر التي خضع لها السجين أثناء الاستنطاق والاعتقال.
وككل السير السجنية يمكن أن نميز داخل اليوميات بين ثلاث امتدادات زمنية مترابطة ومتداخلة:
1- مرحلة ما قبل الاعتقال: وهي في بعدها الوظيفي تعبر عن تنامي الوعي السياسي والطبقي لدى السجين الذي اكتوى بواقع الفقر والمعاناة والتهميش،” كنا فقراء ومعوزين والجفاف يزيد بمأساتنا، فالفلاح بدون مطر وزرع وضرع أقرب إلى يوم القيامة منه إلى الحياة” ص220 ” كان والدي يغادر القرية صيفا يحمل منجلا ويمتطي حماره الأشهب قصد العمل يحصد شعيرا أو ذرة أو ما جادت به الأرض الكلسية الضعيفة المردودية”.
عالم القرية كبؤرة للفقر والبؤس والعطالة ظل رافدا أساسيا في توجيه التلميذ/الطالب نحو اختيارات أساسية تؤمن بالتغيير وتنحاز للفئة العريضة من الشعب المغربي. فانخرط في صلب عمل ثوري بجانب رفاق الدرب ضمن التنظيم السياسي23 مارس مكلفا بتأطير إضرابات واحتجاجات التلاميذ.

2- مرحلة الاعتقال:
تبدأ رحلة الاعتقال بالتحقيق في مفوضية الشرطة بالمعاريف، رحلة دامت ثلاثة أشهر ذاق فيها السجين كل أنواع التعذيب، وقد أفلحت اليوميات في وصف مظاهر هذا الكرم الحاتمي الذي جاد به الجلادون على ضيوفهم الأعزاء:” اليدان مغلولتان، متشابكتان مع الرجلين كديك أو خروف معد للشواء،وجسمك بين السماء والأرض، الدم يتجمد والألم قاس، لكن للرجلين القسط الأوفر من العناية، وبواسطة سوط صنع من عصب الثور تنهال الضربات على باطن الرجلين بوثيرة احترافية في العمل، ولزيادة الألم يأخذ الشرطي خرقة قذرة يملأها بما هو أقذر منها ويضعه على الفم، يصير التنفس صعبا، بل مستحيلا…لعلها الطائرة قد ارتفعت فوق السحاب ونفذ الهواء! السفر نحو الجحيم بالمجان، لكن الأكسجين غير مضمون خلال كل الرحلة” ص15 .
إن هذه الإقامة المظلمة والظالمة جعلت الجميع يتوق ليوم الانعتاق من هذا القهر الجسدي والنفسي والالتحاق بالسجن ”نحن للسجن، نحلم به صباح مساء، بل كل وقت وحين.. نتمنى أن نمضي إليه أسرع من البرق بكل فرح وسرور، السجن مكان جميل”ص 15. ليس للسجين من ملاذ يحتمي به أمام هذه القسوة إلا هذا الأمل في غد مشرق يتحرر فيه الشعب من إسار الرجعية والظلم ”يعذبك الشرطي، يعذبك الحلاق والحمام، وتأكل الدود والأوساخ مع الحمص والعدس نفكر بالملايين من الناس تعيش ظروفا أصعب وأقسى، تزداد شموخا وتضحك من غباء الرجعية وبلادة السجان.. المعادن الصلبة لا تنصهر بسهولة”. أما في السجن فإن اليوميات تلتقط التفاصيل الدقيقة للمعاناة، وتؤرخ لأسماء الرفاق وتدون ارتباطهم بالتنظيم،توثيق يؤشر على أسماء لنساء ورجال طبعوا المرحلة ببهاء وشموخ وعنفوان لا يقهر.

3- ما بعد الاعتقال:
تستمر المحنة حتى ما بعد الاعتقال، فقد أدى السجناء ضريبة النضال غاليا، تعرضوا لاستفزازات ومضايفات مست حقوقهم المدنية، فرغم براءة المحفوظي فهو لم يحصل على بطاقته الوطنية إلا بعد جهد جهيد، ولم يسمح له بالسفر إلى خارج الوطن إلا بعد ربع قرن من البراءة.لقد ظل الجرح موشوما في الذاكرة والجسد، ولكن ها هو بأنفة المناضلين وشجاعة المقاومين يدعو جلاده في اليومية ما قبل الأخيرة قائلا: ”أيها الرفيق الجلاد تعال لنتصالح”. مصالحة مشروطة بمكاشفة تختزل وعيا يميز بين واقعين منفصمين، تواجه فيه الأنا غريمها وتستهزئ بجبنه وخنوعه، ”أنا دافعت عن مملكة الحلم وأنت ناصرت مملكة الظلم، تمسكت بحرية العباد وأصررت على شرعنة الاستبداد، تمنيت أن يكون الفجر عيد فرح وغناء، وأردت أن يكون بداية قرح وفناء، فكيف يستقيم منطق المصالحة والإنصاف مع وجود هذا الاختلاف؟، والآن ودون ضغط وأنا بكامل قواي العقلية أعترف لك أنني انتصرت عليك بأسلحتي البدائية،لذا فإنني أعلن الصفح عنك!“ص327 .
على امتداد هذه المراحل الثلاث ظلت اليوميات مقتضبة في السرد، لا يجنح التخييل بعيدا عن واقع الاعتقال وآلياته، اختزال وكبح للشخصيات التي تتحرك في دوائر الاعتقال وأسبابه وتبعاته. بموازاة مع ذلك تشتعل بين النصوص ومضات سخرية لاذعة تحتمي بها الذات كسلاح لمواجهة عنف وجبروت الجلاد، فالسخرية ملاذ نفسي به يقوي السجين عزيمته ويشحذ وعيه للانتصار على من هم في مواجهته.
السخرية في اليوميات محاولة لتجريد العالم من العاطفة كما يقول جون كوهين اعتمادا على ملاحقة التردي ونحت التناقض، هي طريقة” في التهكم المرير، والتنذر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه الإنسان،وربما كانت أعظم صور البلاغة عنفا وإخافة وفتكا”.
سخرية المحفوظي عنيفة بعنف المواقف التي تنتقدها، وهازئة بعمق المفارقات التي تعاينها، يهمنا أن نقف عند نموذجين تمثيليين فقط لإبراز هذه الخاصية التي وظفت بغايات تحددها السياقات العامة التي درجت فيها:
* “تلا علي صك الاتهام(المقصود هنا قاضي التحقيق): المس بسلامة الدولة والتآمر لقلب النظام الملكي وتعويضه بنظام جمهوري اشتراكي وتأسيس منظمة سرية والإخلال بالأمن العام..وكل ما من شأنه…فانخرطت ضاحكا!.
– لماذا تضحك؟
– أضحك من هذه التهم التي توجب الإعدام
– في السجن سيكون لك الوقت الكافي للضحك !
نعم ياسيد تقلوشت، لقد ضحكنا في السجن، وتحققت نبوءتك وضحكنا كثيرا، وأنت هل مازلت بئيسا عبوسا؟.”
• كنا في سراح مؤقت إلا الأساتذة الخمسة، فهمنا أن المحكمة ستكون شكلية، وبين الهرج والمرج، كان نائب وكيل الملك يقوم بدوره وكأنه في محاكمة حقيقية، أطنب في الحديث مذكرا بأننا في دولة إسلامية عريقة وأن هؤلاء مارقون شيوعيون ملاحدة، وكدليل على صحة أقواله، أخرج من بين المحجوزات كتابا لماوتسي تونغ ولوح به في وجه الحاضرين من قضاة ومحامين ومتهمين:
• هل هذا الشخص مسلم؟
• فانبرى له أحد المحامين قائلا:
• ألم يقل الرسول:”اطلبوا العلم ولو في الصين؟
وهؤلاء طلبوا العلم من ماو تسي تونغ الصيني فانفجرت القاعة رقم6 ضحكا ولم يجد الوكيل بدا من الانخراط في الضحك.”ص 166
بهذه المداخل وغيرها تشكل أفول الليل إضافة نوعية لأدب الاعتقال السياسي بالمغرب، بصدق شهادتها وحميمية محكيها، وقدرتها على اختراق المنغلق وتجاوز سديمية الدهاليز والأقبية والجدران الباردة.

د. محمد خفيفي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى