تتميز كتابات المبدع المغربي الطاهر لكنيزي بتعدد مجالاتها وأنشطتها بين القصة والشعر والترجمة والرواية.لذا، نراه يخوض غمار الكتابة محملا بزاد لغوي ثري، وخيال جامح، وفهم عميق للواقع بشتى تجلياته؛ الأدبي والمادي، يرصد به انكساراته، بلغة غير تقريرية؛ لغة تنزاح عن معانيها الحقيقية لتلبس معاني جديدة بفعل المجاز.
ويسعى الشاعر من خلال هذا الأسلوب إلى تحقيق الدهشة والمتعة لدى القارئ، فهو يعلم أن قيمة العمل ترتبط بما تحققه من تأثير فيه.
ولأنه عالم بخبايا الكتابة الشعرية والسردية وسراديبها على حد سواء. نجد ديوانه الجديد "بقايا شجون بليلة" مسكونا بالانزياح و المجاز، بمعجم شعري عميق وفسيح، ذي رمزية تهدف تحقيق المتعتين الفنية والجمالية.
قد تبدو المجموعة غارقة في حزنها، منطوية على جراحها، تجترها بكثير من القسوة المعبرة عن جلد الذات؛ استعادة تشي بذات جريحة بل مريضة تعاني من مشاكل نفسية جمة أعاقتها عن قراءة واقعها بشكل عميق ونافذ. لكن القراءة المعمقة تفيد أن الشاعر لا يقٍرأ جراحه منفصلة عن واقعها، بل يقوم بمساءلتهما معا: الذات والواقع، في علاقتهما الموشومة بالتوتر، لا بغاية استرجاع تلك الجراح وتعميقها بل بغاية فهمها ومساءلة المسؤول عنها ليتم تجاوزها بكل قوة:
أغمغم سخطا
على زمن ليس لي ص130.
معتبرا نفسه شبيه البرق سريع الانكسار:
أشع كغمزة برق
تكسر ضلعه
بين ارتطام الغمام. ص132.
لقد أدرك السر العميق وراء حزنه بقوله:
فأدرك أن الحياة مخاتلة
لا تدين سوى للئام. ص 133
وبالنتيجة، سيتوارى مبتعدا عن هذا العالم الموبوء لا انهزاما بل للتفكر فيه وإعادة بنائه وفق إيقاع الحب الذي يصلح أحوال الناس، معتمدا في محطات لغة التحريض عليه لتحطيمه وإعادة صوغه:
سأخبو
كومضة حلم جذيم
رأى الكون منكدرا
فاختفى غارقا
في سديم المنام. ص 133 و134.
ولعل الحب هو القيمة الموجهة للعمل والقوة التي تقود باتجاه اليناعة النفسية حيث تستعيد النفس توازنها متجاوزة كل أسباب إعاقتها، فالتجاوز من دون فهم للأسباب يظل معطوبا:
سأعصر أعناب قلبي
لكي يشرب العابرون
سلافة نبضي
كما حجر
يتوسد ضلع الطريق.. ص 19.
كما نجد لغة التحدي والتحريض واضحة في ص 21 و22، وغيرهما، مما يشي بعدم إلقاء الشاعر لسلاح الكلمة، فهي الآلية التي سيقاوم بها قبح العالم.
ورغم كمية الحزن والأسى البادية في النص الموالي، والباعثة على الرغبة في الانسحاب من هذا العالم الموبوء، إلا أنها مرحلة عابرة تكتنف الذات في لحظات ضعف سرعان ما يتغلب عليها مستعيدا لغة الأمل المنثور في جل النصوص:
سأجلس باب السماء
وفي قفتي رجع أهزوجة
تستنيح لحالي
تخض ببالي
شجون القبيلة
ترتق صبر اصطباري
يفيض الفراغ المهول
يترع روحي
يفجرني ملل ضاغط
حين أبحث عن بقعة
دون جدوى
لكي أرسم رمسي
على هذه الأرض
إذ ليس فيها كما قيل
ما يستحق البقاء..
لكم في مناكبها سرت
طولا وعرضا
فلم الق في صرة الدهر
غير رنين السراب..
مشيت على عوسج الشك
كالبغل يدرس شوكا
وفي غمرة اليأس
ادر كان الحياة عمودية
نحو باب السماء. " 123.
كما يصرخ محتجا على من يصنع أفراحا وهمية تكرس الحزن أكثر مما تبث البهجة. فالشاعر يرفض الأفراح الوهمية، ولا يبغي أن يجعل قارئه ينهل من السراب:
أفتت، كالشيخ خبزه،
وقرا تكلس كالصخر
في أذن كون أصم أنا مثله
لم تستوقدين الزغاريد
في أيك صبحي
وتستأنفين السبات؟ ص10.
يخلق الشاعر في هذا المقطع تماثلا بينه وبين الكون، فالجامع بينهما الصمم، لكن سؤالا استنكاريا ترتفع حدته حين يتوجه الشاعر بعتاب لصاحبته يلومها على استيقاد الزغاريد المعبرة عن الفرح فيه، وتلوذ بالنوم المعبر عن الإحباط أو إطفاء تلك الجذوة. فالشاعر شعر بمرارة نتيجة انبعاث أمل كاذب في نفسيته، ومن هنا استنكاره واحتجاجه.
الأسلوب الاستفهامي في بعده الاستنكاري أتى للتعبير عن التوتر النفسي لدى الشاعر ومن ثم نقله إلى ذات المتلقي ليشعر به وبما يحتويه من مرارة.
وليس بزقي
سوى عطش مستبد
ومسغبة فطمت
منذ جرح تأبى عن البوح؟
ما زال يبدي تمنع أنثى. ص13.
فمعجم النص يطفح ألما ويعبر عن حزن الشاعر وخيباته في علاقته بالتي يحبها.
لذا، نجده يطلب تواصلا واتصالا ولو بامتطاء جيدا العتاب بدل الابتعاد والجفاء، يقول:
تعالي إلي
ولو فوق أوتار أوجاعنا
بجياد العتاب
فبعض الملامة
ملح اللقاء
وما العيب لو طرقت
باب خلوتنا
لمة الشعراء؟ ص14.
لكن حضور لمّة الشعراء تجعل الذهن ينصرف من الأنثى كحبيبة إلى القصيدة كهدف.
فينتقل الحديث عن المرأة إلى الحديث عن الكتابة الشعرية، وما يقوي هذا الطرح من دون نفي للأنثى، النص المفتتح الذي يعبر فيه الشاعر عن معاناة الكتابة، إذ يقول:
كلما هدهدتني الحياه
وأنامت جراحي الصروف
صقعت في قريضي المياه
وتلاشت معاني الحروف
وتحثر نسغ القصيد
وتداعى المجاز الكفيف
فمججت كؤوس النشيد
وهجرت يراعي الجفيف... ص5.
وحين يقول:
فهيا انقري
بأنامل أنس وثيق
على وتر الحس
لحنا وميقا
يراقصه الجرس
كي أثخن المحو صحوا
وارقص كالبدوي
فمن قال إن الهوى حضري؟ ص15.
هنا، نجده يخلق تداخلا بين الطرفين: المرأة والقصيدة، حيث وظف كلمات ترتبط بهما معا: وتر، لحن، رقص جرس، ثم يختم قوله بسؤال استنكاري يرفض فيه احتكار الحضر للحب والقريض، ويوسع من إطاره ليشمل الوبر، بمعنى أينما وجد الإنسان يوجد الحب وكتابة الشعر، فالمشاعر ليست احتكارا مدينيا، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك لأنها بفعلها ذاك تلغي الإنسان بالتضييق.
لعل الشاعر قد اختار الحزن العميق ورصده بدل رصد السعادة الباهتة، لكنه في الوقت ذاته سعى إلى تجاوزه بخلق ظروف التجاوز.
لا يخلو أي نص من نصوص العمل من نبرة الحزن، والألم والوجع، فمعجم الذات المجروحة وفير، لكن، بين طياته يحضر معجم التحدي والاخضرار والأمل. فالشاعر لا يريدنا أن نسقط في الكآبة؛ لأن الكتابة لا تسعى إلى ذلك، بل ترغب في زرع بذور الأمل في النفوس لتستمر الحياة، ويتم الإقبال عليها بنفوس رضية لكن بعد إزاحة أشواك الجرح والألم، يقول:
ألا تذكرين اخضرار الأناشيد
ذات طفولتنا
والعروبة ملء حناجرنا؟
فاعزفي لبداية فصل جديد
فقد بردت شطحاتي على الركح
لما ترهل خيط الخطاب
جئيني إلى عرصات القريض البليلة
أسقك من دن وجدي
تباريح كأس دهاق
فما زال في خدر داليتي
عذق قافية
نذرته المقاضب ذات قطاف
لعرس يراع
تتيم قبل البلوغ. ص17.
ففي هذا المقتطف نجد معجم التحدي والأمل: اخضرار الأناشيد، اعزفي، فصل جديد، عرصات، عذق قافية، عرس، التتيم..مع توظيف أساليب متنوع منها السؤال، والأمر، والجمل الخبرية المؤكدة. مع تلوين الأسلوب بالتجانس اللفظي، والانزياح المعبر، والصور الشعرية البليغة التي تخدم الهدف، وتصب في الدلالة المقصودة، ولعل انتهاء المقتطف بالدالية ما يعبر عن النشوة والفرح، ويغلب جانبيهما على نغمة الحزن التي توجد بكل أركان الإضمامة الشعرية كغبار خانق. إنها تكنسها كنسا، وتبعدها إبعادا، وتحل محلها نور الشمس وأغنيات القمر البهيج.
وتجدر الإشارة إلى أن الشكل الطباعي للنصوص يؤكد انتصار البياض بما هو دال على الحياة، على السواد المعبر عن الحزن.
وقد اعتمد الشاعر على التعابير البلاغية من استعارة وتشبيه وجناس ليمنح القارئ اللذة الفنية المطلوبة، ويخصب أفقه الأدبي. فنراه
دائم البحث والتجديد عن ألوان وصف وتصوير ينمي نسغ قصائده الشعري ، ويطور أدوات الخلق والتشكيل داخل نسيجه الإبداعي بابتكار صور تطبعها الغزارة والتنوع، كما أشار إلى ذلك النقاد عبد النبي بزاز. مضيفا:
أن معجمه ينهل من موروث لغوي تُمَيّزه جزالة اللفظ ، ومتانة العبارة التي أضفت على القصائد زخما جماليا وبيانيا ودلاليا موسوما بالتعدد والغنى والتنوع …
ولا يعزب عن بالنا اهتمام الشاعر بالجانب الإيقاعي، حيث اهتم بالتكرار، كتكرار الحروف والكلمات:
تتعتع أجراس قافيتي
دفقة التوق
تقذف بي في غياهيب كابية.. ص57.
فأعوي، وأعوي كما صورة..ص 61.
إضافة إلى التجانس اللفظي والمعنوي:
لم المفتاح
والتفاح يغزل طيبه ليل.. ص 55.
وفي قوله:
بين المسالك والمهالك والرحيل..ص 64.
كما اعتمد على التوازي من مثل قوله:
والحرف نياط دامع
والجرح فتق شاسع.
مقابلة سيميترية أو تواز دقيق حد التماثل حيث ثلاث كلمات في كل سطر مسبوقة بواو مما يحقق إشباعا إيقاعيا وتناغميا، لا يختل بالرغم من اختلاف عدد أحرف الكلمتين الوسطيين: نياط وفتق.
إضمامة "بقايا شجون بليلة" للطاهر لكنيزي إضمامة ثرية بمعجمها وأنزياحتها، عميقة بدلالاتها، عامرة بإيقاعاتها المتنوعة. هي إضمامة جديرة بالقراءة وبتعميق البحث فيها.
**
1_ الطاهر لكنيزي، بقايا شجون بليلة، الناشر: حلقة الفكر المغربي، الطبعة الأولى 2021.
2_ عبد النبي بزاز، الغزارة البلاغية والتنوع الإيقاعي والدلالي في ديوان ” بقايا شجون بليلة ”الموقع الإلكتروني: معارج الفكر.
ويسعى الشاعر من خلال هذا الأسلوب إلى تحقيق الدهشة والمتعة لدى القارئ، فهو يعلم أن قيمة العمل ترتبط بما تحققه من تأثير فيه.
ولأنه عالم بخبايا الكتابة الشعرية والسردية وسراديبها على حد سواء. نجد ديوانه الجديد "بقايا شجون بليلة" مسكونا بالانزياح و المجاز، بمعجم شعري عميق وفسيح، ذي رمزية تهدف تحقيق المتعتين الفنية والجمالية.
قد تبدو المجموعة غارقة في حزنها، منطوية على جراحها، تجترها بكثير من القسوة المعبرة عن جلد الذات؛ استعادة تشي بذات جريحة بل مريضة تعاني من مشاكل نفسية جمة أعاقتها عن قراءة واقعها بشكل عميق ونافذ. لكن القراءة المعمقة تفيد أن الشاعر لا يقٍرأ جراحه منفصلة عن واقعها، بل يقوم بمساءلتهما معا: الذات والواقع، في علاقتهما الموشومة بالتوتر، لا بغاية استرجاع تلك الجراح وتعميقها بل بغاية فهمها ومساءلة المسؤول عنها ليتم تجاوزها بكل قوة:
أغمغم سخطا
على زمن ليس لي ص130.
معتبرا نفسه شبيه البرق سريع الانكسار:
أشع كغمزة برق
تكسر ضلعه
بين ارتطام الغمام. ص132.
لقد أدرك السر العميق وراء حزنه بقوله:
فأدرك أن الحياة مخاتلة
لا تدين سوى للئام. ص 133
وبالنتيجة، سيتوارى مبتعدا عن هذا العالم الموبوء لا انهزاما بل للتفكر فيه وإعادة بنائه وفق إيقاع الحب الذي يصلح أحوال الناس، معتمدا في محطات لغة التحريض عليه لتحطيمه وإعادة صوغه:
سأخبو
كومضة حلم جذيم
رأى الكون منكدرا
فاختفى غارقا
في سديم المنام. ص 133 و134.
ولعل الحب هو القيمة الموجهة للعمل والقوة التي تقود باتجاه اليناعة النفسية حيث تستعيد النفس توازنها متجاوزة كل أسباب إعاقتها، فالتجاوز من دون فهم للأسباب يظل معطوبا:
سأعصر أعناب قلبي
لكي يشرب العابرون
سلافة نبضي
كما حجر
يتوسد ضلع الطريق.. ص 19.
كما نجد لغة التحدي والتحريض واضحة في ص 21 و22، وغيرهما، مما يشي بعدم إلقاء الشاعر لسلاح الكلمة، فهي الآلية التي سيقاوم بها قبح العالم.
ورغم كمية الحزن والأسى البادية في النص الموالي، والباعثة على الرغبة في الانسحاب من هذا العالم الموبوء، إلا أنها مرحلة عابرة تكتنف الذات في لحظات ضعف سرعان ما يتغلب عليها مستعيدا لغة الأمل المنثور في جل النصوص:
سأجلس باب السماء
وفي قفتي رجع أهزوجة
تستنيح لحالي
تخض ببالي
شجون القبيلة
ترتق صبر اصطباري
يفيض الفراغ المهول
يترع روحي
يفجرني ملل ضاغط
حين أبحث عن بقعة
دون جدوى
لكي أرسم رمسي
على هذه الأرض
إذ ليس فيها كما قيل
ما يستحق البقاء..
لكم في مناكبها سرت
طولا وعرضا
فلم الق في صرة الدهر
غير رنين السراب..
مشيت على عوسج الشك
كالبغل يدرس شوكا
وفي غمرة اليأس
ادر كان الحياة عمودية
نحو باب السماء. " 123.
كما يصرخ محتجا على من يصنع أفراحا وهمية تكرس الحزن أكثر مما تبث البهجة. فالشاعر يرفض الأفراح الوهمية، ولا يبغي أن يجعل قارئه ينهل من السراب:
أفتت، كالشيخ خبزه،
وقرا تكلس كالصخر
في أذن كون أصم أنا مثله
لم تستوقدين الزغاريد
في أيك صبحي
وتستأنفين السبات؟ ص10.
يخلق الشاعر في هذا المقطع تماثلا بينه وبين الكون، فالجامع بينهما الصمم، لكن سؤالا استنكاريا ترتفع حدته حين يتوجه الشاعر بعتاب لصاحبته يلومها على استيقاد الزغاريد المعبرة عن الفرح فيه، وتلوذ بالنوم المعبر عن الإحباط أو إطفاء تلك الجذوة. فالشاعر شعر بمرارة نتيجة انبعاث أمل كاذب في نفسيته، ومن هنا استنكاره واحتجاجه.
الأسلوب الاستفهامي في بعده الاستنكاري أتى للتعبير عن التوتر النفسي لدى الشاعر ومن ثم نقله إلى ذات المتلقي ليشعر به وبما يحتويه من مرارة.
وليس بزقي
سوى عطش مستبد
ومسغبة فطمت
منذ جرح تأبى عن البوح؟
ما زال يبدي تمنع أنثى. ص13.
فمعجم النص يطفح ألما ويعبر عن حزن الشاعر وخيباته في علاقته بالتي يحبها.
لذا، نجده يطلب تواصلا واتصالا ولو بامتطاء جيدا العتاب بدل الابتعاد والجفاء، يقول:
تعالي إلي
ولو فوق أوتار أوجاعنا
بجياد العتاب
فبعض الملامة
ملح اللقاء
وما العيب لو طرقت
باب خلوتنا
لمة الشعراء؟ ص14.
لكن حضور لمّة الشعراء تجعل الذهن ينصرف من الأنثى كحبيبة إلى القصيدة كهدف.
فينتقل الحديث عن المرأة إلى الحديث عن الكتابة الشعرية، وما يقوي هذا الطرح من دون نفي للأنثى، النص المفتتح الذي يعبر فيه الشاعر عن معاناة الكتابة، إذ يقول:
كلما هدهدتني الحياه
وأنامت جراحي الصروف
صقعت في قريضي المياه
وتلاشت معاني الحروف
وتحثر نسغ القصيد
وتداعى المجاز الكفيف
فمججت كؤوس النشيد
وهجرت يراعي الجفيف... ص5.
وحين يقول:
فهيا انقري
بأنامل أنس وثيق
على وتر الحس
لحنا وميقا
يراقصه الجرس
كي أثخن المحو صحوا
وارقص كالبدوي
فمن قال إن الهوى حضري؟ ص15.
هنا، نجده يخلق تداخلا بين الطرفين: المرأة والقصيدة، حيث وظف كلمات ترتبط بهما معا: وتر، لحن، رقص جرس، ثم يختم قوله بسؤال استنكاري يرفض فيه احتكار الحضر للحب والقريض، ويوسع من إطاره ليشمل الوبر، بمعنى أينما وجد الإنسان يوجد الحب وكتابة الشعر، فالمشاعر ليست احتكارا مدينيا، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك لأنها بفعلها ذاك تلغي الإنسان بالتضييق.
لعل الشاعر قد اختار الحزن العميق ورصده بدل رصد السعادة الباهتة، لكنه في الوقت ذاته سعى إلى تجاوزه بخلق ظروف التجاوز.
لا يخلو أي نص من نصوص العمل من نبرة الحزن، والألم والوجع، فمعجم الذات المجروحة وفير، لكن، بين طياته يحضر معجم التحدي والاخضرار والأمل. فالشاعر لا يريدنا أن نسقط في الكآبة؛ لأن الكتابة لا تسعى إلى ذلك، بل ترغب في زرع بذور الأمل في النفوس لتستمر الحياة، ويتم الإقبال عليها بنفوس رضية لكن بعد إزاحة أشواك الجرح والألم، يقول:
ألا تذكرين اخضرار الأناشيد
ذات طفولتنا
والعروبة ملء حناجرنا؟
فاعزفي لبداية فصل جديد
فقد بردت شطحاتي على الركح
لما ترهل خيط الخطاب
جئيني إلى عرصات القريض البليلة
أسقك من دن وجدي
تباريح كأس دهاق
فما زال في خدر داليتي
عذق قافية
نذرته المقاضب ذات قطاف
لعرس يراع
تتيم قبل البلوغ. ص17.
ففي هذا المقتطف نجد معجم التحدي والأمل: اخضرار الأناشيد، اعزفي، فصل جديد، عرصات، عذق قافية، عرس، التتيم..مع توظيف أساليب متنوع منها السؤال، والأمر، والجمل الخبرية المؤكدة. مع تلوين الأسلوب بالتجانس اللفظي، والانزياح المعبر، والصور الشعرية البليغة التي تخدم الهدف، وتصب في الدلالة المقصودة، ولعل انتهاء المقتطف بالدالية ما يعبر عن النشوة والفرح، ويغلب جانبيهما على نغمة الحزن التي توجد بكل أركان الإضمامة الشعرية كغبار خانق. إنها تكنسها كنسا، وتبعدها إبعادا، وتحل محلها نور الشمس وأغنيات القمر البهيج.
وتجدر الإشارة إلى أن الشكل الطباعي للنصوص يؤكد انتصار البياض بما هو دال على الحياة، على السواد المعبر عن الحزن.
وقد اعتمد الشاعر على التعابير البلاغية من استعارة وتشبيه وجناس ليمنح القارئ اللذة الفنية المطلوبة، ويخصب أفقه الأدبي. فنراه
دائم البحث والتجديد عن ألوان وصف وتصوير ينمي نسغ قصائده الشعري ، ويطور أدوات الخلق والتشكيل داخل نسيجه الإبداعي بابتكار صور تطبعها الغزارة والتنوع، كما أشار إلى ذلك النقاد عبد النبي بزاز. مضيفا:
أن معجمه ينهل من موروث لغوي تُمَيّزه جزالة اللفظ ، ومتانة العبارة التي أضفت على القصائد زخما جماليا وبيانيا ودلاليا موسوما بالتعدد والغنى والتنوع …
ولا يعزب عن بالنا اهتمام الشاعر بالجانب الإيقاعي، حيث اهتم بالتكرار، كتكرار الحروف والكلمات:
تتعتع أجراس قافيتي
دفقة التوق
تقذف بي في غياهيب كابية.. ص57.
فأعوي، وأعوي كما صورة..ص 61.
إضافة إلى التجانس اللفظي والمعنوي:
لم المفتاح
والتفاح يغزل طيبه ليل.. ص 55.
وفي قوله:
بين المسالك والمهالك والرحيل..ص 64.
كما اعتمد على التوازي من مثل قوله:
والحرف نياط دامع
والجرح فتق شاسع.
مقابلة سيميترية أو تواز دقيق حد التماثل حيث ثلاث كلمات في كل سطر مسبوقة بواو مما يحقق إشباعا إيقاعيا وتناغميا، لا يختل بالرغم من اختلاف عدد أحرف الكلمتين الوسطيين: نياط وفتق.
إضمامة "بقايا شجون بليلة" للطاهر لكنيزي إضمامة ثرية بمعجمها وأنزياحتها، عميقة بدلالاتها، عامرة بإيقاعاتها المتنوعة. هي إضمامة جديرة بالقراءة وبتعميق البحث فيها.
**
1_ الطاهر لكنيزي، بقايا شجون بليلة، الناشر: حلقة الفكر المغربي، الطبعة الأولى 2021.
2_ عبد النبي بزاز، الغزارة البلاغية والتنوع الإيقاعي والدلالي في ديوان ” بقايا شجون بليلة ”الموقع الإلكتروني: معارج الفكر.