عبدالرحيم التدلاوي - استراتيجية التناص في المجموعة القصصية القصيرة جدا "بساط الريح" لمحمد لغويبي.

عن القرويين للنشر والتوزيع ، صدرت مجموعة قصصية قصيرة للقاص والروائي محمد لغويبي وسمها بـ: "بساط الريح"، في طبعتها الأولى سنة 2020
جاء في كلمة الناشر على ظهر الغلاف قوله: «بساط الريح» تحليق على علو منخفض. بحث في بلاغة الأشكال عن الأشكال والإشكال. في عالم متحرك منحاز على الدوام، محليا وكونيا.. بحث في البنى والإيجاز والتكثيف والمفارقة. شظايا تعكس الجمال والقبح والسخرية أيضا في النقد ونقده.. في الحكي وأسراره… في اللعب وقواعده. في الجوهر والعارض.. في الثابت والمتحول. هي قصص قصيرة جدا تطول مع الزمن وتغوص في الجذور مع المكان، مع شخوصها وهي تدب على الأرض أو تطير في السماء على أجنحة الحكاية.
التناص كدال في المجموعة:
يمكن القول إن هناك اشتغالا واعيا على التناص في المجموعة القصصية ، وإدراكا بما يحققه من امتدادات دلالية حيث إن معظم القصص قد استدعت نصا غائبا . وأقامت معه حوارا ووظفته بما يخدم غرضها ويغني دلالتها، بل نجده حاضرا حتى على مستوى العنونة، ويبلغ هذا التوظيف ذروته في القصة الأولى التي تحمل عنوان: "صندوق الدنيا" ص 3 حيث نجد انه استدعى نصوصا كثيرة قادمة من حقول معرفية مختلفة؛ من المأثور، ومن خطبة معروفة، ومن حدث تاريخي فاصل، ومن جغرافية ذات حضارة قديمة، ولشخصية صارت مضرب المثل في الصبر. حتى أنه يكاد يختنق بها، ويغص بفعل غنى دلالاتها. فهل يجوز لنص قصير جدا، أن يحمل كل هذه الرموز؟ ألا يقود ذلك إلى تشتيت المعنى، وتغييب الدلالة؟ هل صدره رحب إلى درجة جمع هذا الشتات في جوف واحد؟ لقد صارت القصة بمثابة بوزل متعدد القطع وما على القارئ سوى تفكيكها والنظر إلى أبعادها، وما تنطوي عليه من دلالات، ثم القيام بفرزها بحثا عن نقطة تلاق تسعفه في التقاط الدلالة التي يراها تناسب تأويله.
وبالعودة إلى عنوان القصة، فهل هي بمثابة صندوق يحمل في طياته شتى الأنواع، والأصناف، في تركيبته الخاصة والموحدة؟
على مستوى العناوين ومن حيث جانب التناص نقدم بعض الأمثلة لا كلها لكون بعضها يستدعي حدثا تاريخيا طازجا كعاصفة الصحراء.
هكذا، نجد: أهل الكهف/ مزايا الجنرال/ النبي/ فروسية/ شل من رأى/ علي بابا/ بساط الريح/سيرة مدينة/ سفر الخروج/ جزيرة الكنز/ شهرزاد...
هي عناوين ترتبط إما بشخصية مشهورة أدبيا، أو بعنوان رواية بقليل من التحوير، أو عمل شعري، أو بكتاب مقدس... وهو ما يشي بغنى المجموعة بنفسها وبحوارها الذي تقيمه مع النصوص المستدعاة.
لم يكن التناص مجانيا بل كان لخدمة القصص ومنحها عمقا، وجعل القارئ يستدعي عدته المعرفية للتعامل معها. لقد كان القاص في عمله يقف موقفا غير حيادي تجاه قضايا مجتمعه، ينتقد الظواهر السلبية، ويظهر عورات اليمين المتلفع برداء الدين من منطلق يساريته، كما في قصة "واك واك" ص 22. وقصة "الجماعة" ص23.
صحيح إن القصص جاءت في أسطر قليلة معتمدة على التكثيف والحذف والإضمار، لكنها مثقلة بدلالاتها التي ترتبط بالأحداث المعاصرة وتخاطب وعي الإنسان في كل زمان ومكان، لأنها ترصد ما يقتل حب الحياة فينا بفعل الحروب المدمرة والاستغلال الفاحش، والإبادة المتعمدة للأخلاق السامية، وإشاعة التفاهة التي تقود إلى الهاوية
.. ففي نص "علي بابا" ص 26 نجد الخيبة تعانق فعل الرجل الذي لم يقده مسعاه إلى الكنز؛ والكنز كان من الممكن أن يكون مخرج الرجل الذي وجد بيته مغلقا من كل الجوانب، لذا، استعان بتعويذة لكن نتيجتها كانت خائبة. كان من المفروض أن يجد في مغارة علي بابا بعد أن فتحها كنزا، لكن مغارته لم تفض سوى إلى السلب. هي الخيبة التي نجدها بشكل آخر في قصة "حياة" ص 25. فقد تم لفظ الرجل من دون اكتراث، لكونه ليس يونس ولن يكونه أبدا، إنه رجل يريد عبور الضفة الجنوبية إلى الشمالية في عملية هروب من قهر قاده إلى خيبة فأعاده، ويا للسخرية ! جثة هامدة.
النصان معا يستدعيان نصين مختلفين ويقيمان معهما حوارا يفضي إلى دلالة جديدة هي غير الدلالة التي يحملانها في أصلهما الأول. فلا الكهف غص بكنوزه، ولا البحر ساعد على النجاة ، بإعادة صوغ حياة جديدة كما تحقق لسيدنا يونس. ولعل الخيبة ناجمة عن اختيارات لا ديمقراطية ولا شعبية جعلت حلم الهجرة يراود الكثيرين.
تعيد القصة كتابة قول الواقع لا نسخه أو تكراره باعتماد القص الوجيز ذي السرعة الخاطفة في الالتقاط، بتجويع اللفظ وجعل دلالاته فسيحة تعتمد على كفاءة القارئ في التأويل من دون أن يكون تأويلا خارج _نصي يقود باتجاه العبث والشطط في القراءة. إن القص الوجيز كاختيار فني وجمالي ودلالي يبغي إقامة حوار مع القارئ يقوده إلى تأمل أعطاب الواقع، وفهم أسبابها بغاية تجاوزها لبناء مجتمع العدل والحرية والمساواة حيث تحترم فيه كرامة الفرد وإنسانيته.
ويستدعي القاص ثانية قصة يونس عليه السلام في قصته "سفر الخروج" ص 35. محاورا إياها وقصة سيدنا آدم للتعبير عن رغبات المرأة المشار إليها في الختم: مصرة على الخروج من الجنة. مما يوحي برغبتها في تحقيق تواصل مع الرجل خارج دائرة المقدس والمحرم.
وتصادفنا نملة سليمان عليه السلام في قصة "أسرار" ص36، للتعبير عن الخيانة والتواطؤ الذين يقودان إلى الهزيمة من دون علم النبي. هناك مؤامرة تدار من خلف ظهره تبغي إلحاق الهزيمة به.
وتظل الخيبة عنوان جل القصص بمختلف تجلياتها وأسبابها؛ فهناك خيبة الاجتماعية في علاقة الرجل بالمرأة، وهناك الخيبة السياسية التي تقود إلى الحلم بالهجرة فرارا من بلد لا يحترم فيه الإنسان، وهناك الخيبة الاقتصادية المتجلية في فقر شريحة عريضة من الناس، وهناك الخيبة الثقافية حيث يصير المثقف ذيليا يهدم الجودة ليبني أو يساهم في بناء التفاهة..
ومن حيث البناء، فجل القصص تخضع للبينة التالية: فعل ورد فعل ونتيجة، أو قد يأتي ما قبل النتيجة مهيئا لها، ومن الأمثلة الدالة على ذلك، قصة "فروسية" ص 17، فشخصية النص عزمت على فعل الرحيل، قابلتها الشخصيات الأخرى برد فعل يتجلى في الترحيب، ثم يتم التكريم كتقوية فعل الرحيل، لتكون النتيجة التوشيح حتى لا يفكر في العدول عن فكرته.
وكذلك الشان بالنسبة لقصة "حارس المرمى" ص 18. وقس على ذلك معظم القصص. وأحيانا يأتي بعضها موجزا ومكثفا مقتصرا على الفعل ورد الفعل، كما في قصة "انطولوجيا" ص 50.
ونختم القراءة كما بدأناها بما جاء في هيبريس عن المجموعة حيث ورد القول التالي:
ويروم “بساط الريح” الحفر في أسئلة القصة القصيرة جدا، منفتحا على أشكال مختلفة ومتنوعة، ويتطرق لقضايا تتوزع بين المحلي والوطني والإنساني من خلال رؤية فنية تربط الإبداع بالفكر وتمزج الأسئلة بالهواجس ذات العمق المجتمعي والإنساني، وتجربة تحاول أن تنحت صورة مغايرة للقصة القصيرة جدا، مرتهنة إلى التجريب والتجديد.
اعتمدت الإيجاز والتكثيف والمفارقة، وقراءة في ما يختزنه الواقع من مظاهر الجمال والقبح بأسلوب يتكئ على السخرية ذات البعد الناقد.

1653763415370.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى