خالد جهاد - الجاني البريء

كلمة..نظرة..نبرة صوت.. طريقة في التعامل..بيئة مشحونة بالعنف..
قد تخلق داخل أي طفل سجناً أبدياً لا يستطيع الخروج منه، قضبانه صنعها شعوره الدائم بالذنب، فالطفل يولد دون أي اختيار منه لأي شيء، فهو لا يختار أبويه، لا يختار جنسيته، عرقه، دينه، ملامحه، لونه، وضعه الإجتماعي والإقتصادي، لغته، لهجته، ثقافته، وبرغم ذلك لا يستطيع أحد مهما حاول أن يقوم بتجميل الواقع انكار أن معظم الأشخاص يتم تقييمهم والتمييز ضدهم منذ الطفولة وفقاً لهذه المعايير الظالمة، مما يجعل الطفل بين حالةٍ من الإنطواء والإكتئاب وحالةٍ أخرى من العنف كردة فعل على تعامل المجتمع معه، والذي يقوم بالضغط المستمر عليه لأسباب ٍ لا يستطيع أن يدركها ولا يد له فيها ولن يقدر على تغييرها، فينمو مع شعورٍ دائم بالنقص والدونية والذنب والذي يتحول إلى نوع ٍ من الإعاقة النفسية والإختلال العاطفي والعاهة التي تحتاج إلى الكثير من الدعم من ذوي الإختصاص وعائلة هذا الشخص (وهذا ما لا يكون متوفراً في الكثير من الأحيان، بل قد تكون العائلة هي مصدر الألم له)، إضافةً إلى بذل جهدٍ كبير من الشخص الذي وقع ضحية لهذا العنف النفسي والتمييز، والذي يبوء بالفشل في العديد من الحالات، أو قد يمر بحالةٍ من التحسن الطفيف الذي قد يعقبه انتكاسة نفسية كبيرة..

ولا يمكننا التحدث عن العنف المرتبط بالشعور بالذنب من دون أن نتطرق إلى الحديث عن المنزل الذي نشأ فيه الطفل وهو أساس أغلب المشاكل، فمهما بلغ حجم التحديات التي يواجهها الطفل أو الإنسان سيكون وقعها أقل وطأة إن نشأ في كنف والدين يبذلان مجهودهما لإسعاد أطفالهم واحتوائهم والإستماع إليهم واحترام أفكارهم ومشاعرهم ومخاوفهم، ويقومون بإشعار الطفل بالأمان وبأنهم الداعم الأول لهم والذي يقدم لهم الحب اللامشروط إلى جانب الإرشاد والتوجيه والتعامل بحكمة وحزم عندما يتطلب الأمر ذلك.. لكن بشكلٍ متوازن..

لكن تبدأ المشكلة عندما ينشأ الطفل في بيئةٍ من العنف الأسري والمشاكل المستمرة بين الوالدين، وتوجيه اللوم المتبادل بينهما على جميع مشاكل الحياة الزوجية وتربية الأطفال والأوضاع المعيشية الصعبة التي تسبب ضغطاً لهما بحيث ينهمكان في الصراع والتفكير في متطلبات الحياة والطعام وأقساط المدارس دون تفكير ٍ في الأثر العميق الذي يظل بداخل الطفل..

وكثيراً ما يعتقد الزوجان أن استمرارهما ولو شكلياً في الزواج قد يكون أفضل للطفل من شعوره بأن والديه منفصلان، سواءاً كانا متواجدين معاً لكن المشاكل مستمرة، أو حتى إن كانا يعيشان في نفس المنزل لكن ينام كل منهما بعيداً عن الآخر، فيعيشان حالةً من الصمت والفتور مما قد ينعكس على أحدهما أو كليهما أيضاً بالشعور بالتعاسة التي يتحملانها، فيستمران في زواجهما لأجل الأطفال وهذا ما يستطيع الطفل ملاحظته وتمييزه والشعور به، والإحساس بالفرق بين ذلك العطاء الدافىء المملوء بالحب، وبين العطاء المنكسر الذي يستمر فقط كنوعٍ من تأدية الواجب، مما يجعل الكثير من الأطفال يشعر بالذنب لأنه وفقاً لتفكيره البريء هو السبب الرئيسي في تعاسة عائلته واثقال كاهلهم بأعباءٍ مادية تفوق قدرتهم، أو اعتقاده بأنه عقبة أمام سعادة أحد والديه أو كليهما، خصوصاً عندما يرى ظلم أحدهما للآخر أو خيانته له وتحمل الطرف الآخر عبىء الحياة معه لأجله، مما قد يدفعه إلى كره نفسه والشعور بالمسؤولية عن كل ما يحدث بشكلٍ مبالغ فيه، والذي ينبع من عدم مقدرته على تحليل ومواكبة المشكلة من مختلف الزوايا نظراً لصغر سنه، وكره الطفل لنفسه هو كارثةٌ حقيقية قد تدفعه للهروب من المنزل أو إيذاء نفسه أو الآخرين أو حتى قد تقوده إلى الإنتحار، وقد تم رصد حالات انتحار لأطفال دون الثانية عشرة من العمر بسبب شعورهم بأنهم سبب تعاسة عائلتهم ومشاكلهم الدائمة..

ويزيد الوضع سوءاً عند انفصال الزوجين واحتدام الصراع بينهما حول مشاكل الإنفاق على الطفل أو المساهمة في تحمل مسؤولية تربيته، أو رغبة أحد الأبوين في إبعاد الطفل عن الشريك السابق سواءاً كان أباً أم أماً، وتزايد هذا النوع من المشاكل ينعكس على المجتمع ككل في زيادة معدلات الجريمة والعنف والإنتحار، وتتفاوت النسب حول العالم لكن منشأها لا يختلف كثيرا ً وان كانت الظروف مختلفة من مجتمعٍ لآخر ومن ثقافةٍ لأخرى..

ولذلك علينا أن نعي أن الآباء والأمهات التعساء لا يمكنهم اسعاد أبنائهم حتى ان حاولوا ذلك، وعلى الجميع تحمل المسؤولية سواءاً كان أباً أم أماً،أو كان مجرد شخص ٍ عادي وأن يكون هناك زيادة في الوعي في التعامل مع الأطفال وتربيتهم والتفكير بذلك قبل الإقدام على خطوةٍ بالغة الأهمية كالإنجاب، وهذه المسؤولية تدفعنا إلى تعديل أفكارنا التي قد تكون سلبية وتوارثناها من بيئتنا المحيطة بنا، لنبدأ التفكير في مصلحة الطفل التي تنعكس على مصلحة المجتمع وتجعل الحياة أفضل على الأقل من الناحية النفسية والإجتماعية والعاطفية، ولا ينبغي لنا أن نتعامل بإستخفاف مع كلماتنا وتصرفاتنا أو أن نفكر بأنانية، فالطفل كائنٌ كامل، يفكر ويشعر ويتألم ويحلم ويتمنى، ويعي كل ماحوله، ولا ينسى ما جعلناه يشعر به، فالطفل السعيد هو المجتمع السعيد، لذا دعوه يبدع بدلاً من أن يتعذب..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى