أمل الكردفاني - وظيفة كلب شاغرة

قبل سنوات؛ تلقت صديقة رسالة من شاب يقول بأنه يريد أن يكون كلبها. أخبرتني بذلك بجزع، فهي لم يسبق لها أن تلقت طلباً شاذا مثل هذا. تبعاً لفضولي الذي لا يقاوم بحثت عن الأمر فوجدت أن هناك رجالاً (بمختلف الأعمار)، مصابون بمرض -وهذا وصفي لهذه الحالة- وهو رغبتهم في أن يكونوا كلاباً لامرأة. فهم مستعدون أن تربطهم المرأة من أعناقهم وتصدر لهم أوامر، وتضربهم، وتفعل بهم ما تشاء، إنه شيء أشبه بالمازوخية. ولا أعرف إن كان هناك من لديه الرغبة في أن يكون كلباً لرجل مثل ما هو الحال لمن يريدون أن يكونوا كلاباً للمرأة.
هل تتذكرون في انتظار جودو..؟
نعم.. إنه شيء قريب من ذلك.
من يريدون أن يكونوا كلاباً ليسو قلة، فهناك أعداد كبيرة منهم. كانت تجلس معنا فتاة. فتاة سمينة وليست بها رائحة الأنوثة، اتصلت بطبيب -يبدو عسيقها- وشتمته:
- لو لم تأتني خلال عشر دقائق فلا تتصل بي مرة أخرى يا حيوان.
وقبل أن تنقضي الدقائق العشر، توقفت قربنا سيارة بيضاء يقودها رجل يقترب عمره من الستين، بصلعة لامعة، فاتجهت الفتاة نحوه وركبت سيارته ومضى بها. كان ذلك مدهشاً، أن يكون طبيب كبير في السن كلباً لفتاة تصغره بثلاثين عاماً.
لكن؛ دعونا نقلب المشهد؛ إن من يطلب العمل ككلب، هو في الواقع يفتح وظيفة شاغرة للعمل كسيد للكلب. فكم منا من يريد أن يكون سيداً لكلب؟
ليس كثيراً من يرفضون أن يكونوا أسياداً لكلاب. إنها وظيفة مغرية إذا جاز لنا أن نسميها وظيفة. الرغبة في السيطرة على الآخرين، وقمعهم، وتحويلهم إلى كلاب لخدمتهم، تنفيذ كل الأوامر؛ المنطقية منها وغير المنطقية. إن من يبيع أطواقاً لأعناق الكلاب سيغتني، وكذلك من يبيع السياط.
كانت العبودية تطبيقاً علنيا لوظيفتي السيد والكلب، ثم أضحت المؤسسات الرأسمالية تطبيقاً قانونياً، ليس أخف وطأة من العبودية كما يظن البعض، لأن العبد كان مستقراً اقتصادياً في عبوديته ومحل رعاية من السيد لأنه قوته العاملة، أما العامل والموظف فهما معرضان في أي لحظة للتشريد فهناك الملايين من العطالة. والمرتب الشهري القليل بحيث لا يجوز أن يمنح العامل استقلاليته، يدفعه للعودة إلى العمل باستمرار. رسخت الثقافة الرأسمالية قيمة العمل وجعلته مقدساً، أي أنها رسخت قيمة أن تكون كلباً. لكن الفرق بين وظيفة الكلب والعامل هو أن الكلب أصبح كلباً لأنه يريد أن يكون كذلك، بدون إجبار، أما العامل فهو مجبر، لأنه إن لم يصبح كلباً مات من الجوع، مع تخلي الدولة باستمرار عن دورها الاجتماعي. والذي ينتهي بأن تكون مجرد حكومة حارسة. حارسة لمن؟
إنها حارسة للمال.. هذا هو كل شيء.
أليس من المستغرب أن يتحول علماء الجريمة من مكافحة الجريمة عبر مكافحة الفقر، إلى نظام القلاع. نعم، نظام تُبنى فيه قلاع ضخمة للأغنياء لتمنع عنهم تطفلات المجرمين، عبر ما يسمى بمكافحة الجريمة عبر التصميم البيئي Crime Prevention Through Environmental Design (CPTED). هذا يقسم المدن إلى كلاب وأسياد في أقصى حدود الحكومة الحارسة.
لقد قالت البرلمانات الخاضعة للرأسمالية: لماذا ننفق أموالاً طائلة على تنمية أحياء الفقراء التي تكتظ بالمجرمين، بدلاً عن انفاق تلك الملايين على تحصين أحياء الكائنات النظيفة اللطيفة التي تحترم القانون. بدأ ذلك المشروع التحصيني بدراسات وتطبيقات بسيطة، وهو اليوم يتسع لتصبح هناك مئات من المناطق الخضراء، كتلك التي صنعها الجيش الأمريكي في العراق ليحمي نفسه من هجمات المقاومين للإحتلال. المدن يتم تصميمها لتكون مقاومة للجريمة، وكذلك المباني، اعتماداً على نظرية الفرصة، والتي مفادها أن المجرم يحوم باستمرار بحثاً عن فريسته، فإذا تم سداد كل فرص الحصول على وجبته ارتد خائباً كسير الفؤاد.
ستكون هذه هي صورة العالم بعد مائة عام: (مدن محصنة بأسوار عالية كالسفارات الأمريكية حول العالم، حراس، أجهزة مراقبة واستشعار، وحدات سكنية مصممة دائرياً بحيث يكون مركزها نقطة مراقبة مركزية، زهور، وحدائق تخلق رقابة طبيعية) وخارج هذه المدن الحصينة النظيفة، ركام من الأوساخ والقاذورات، وأطفال يأكلون الفضلات، ومجرمون يقتلون ويسرقون بعضهم البعض، فلا شرطة ولا أمن ولا قانون ولا حتى خدمات. إن تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي يتزايد بسرعة بفضل صندوق النقد والبنك الدولي، والضغوط الأمريكية الأوروبية، وهدم المؤسسات الاجتماعية التقليدية، وتفكيك الخصوصيات الثقافية، وانتهاج الفردانية كأسلوب حياة. وفي لحظة ما، ستترسخ وظيفتا الكلب وسيد الكلب في هذا العالم المخيف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى