خالد جهاد - فلسطين الجديدة

قد يعتقد البعض من عنوان المقال أنني أتحدث فقط عن فلسطين، لكنني كنت أفكر أيضاً في سوريا ولبنان والعراق والسودان وليبيا وكل بلادنا بينما كانت الفكرة تنسج خيوطها في ذهني بينما أتابع ما يحدث في القدس من تصعيد واعتداءات، فأغلبنا وإن كان ذلك بنسب متفاوتة لديه صورةٌ معينة في ذهنه عن فلسطين وعن وطنه الأم ويتفاوت كلٌ منها بحسب ثقافة الشخص وانسانيته ووعيه وإدراكه، لكن للأسف الشديد فإن تلك الفكرة أو مجموعة الأفكار التي نحملها ليست هي الحقيقة المطلقة لأنه بات لكلٍ منا وجهة نظر عن الوطن فبعضها سلبي ناقم وبعضها الآخر شاعري حالم والواقع هو مزيج من كليهما..

ففي فلسطين بقية الدول العربية ولنتحدث بصدق وصراحة مع أنفسنا بعيداً عن الشعارات التي تربينا عليها جميعاً يوجد ثقافة لكل طائفة أو مجموعة أو فئة تراها (أي فلسطين) بالشكل الذي يناسبها، فتجتزأ الصورة وتعيش معها على أنها هي الأصح بينما هي ليست كذلك، ولن نكرر حديثنا عن التنوع الثقافي والحضاري الذي تتمتع به فلسطين أو أي بلد من بلادنا لأن كلاً منا لديه مخزون هائل في تاريخ أرضه وشعبه ولكلٍ جماله وقيمته، لكن النظرة التي امتازت كما نقول في المصطلح الشعبي بالعوار نتيجة خلل في التفكير عن النفس أو عن الآخرين منعتنا من رؤية ذلك بوضوح، كما أن الموضوع بصدق وصراحة ورغم بعض التعاطف الوقتي من حينٍ لآخر لدى الكثير من الناس والشعوب الشقيقة والصديقة والذي يتجلى في الأحداث البارزة كالتصعيد والإقتحامات في مدينة القدس المحتلة أو العمليات العسكرية الدامية التي يقوم بها الإحتلال على الفلسطينيين، إلا أن قطاعاً ليس بسيطاً منهم يشعر بالتململ من الحديث عنها، ربما ايثاراً للسلامة، أو بسبب نشأته التي جعلته مهتماً بشأنه الخاص فقط، أو لأنها لا تتماشى مع نمط حياته المتمحور حول التسلية، أو بسبب أفكارٍ تشربها في محيطه عن قضيتها والتي اعتبرها من المسلمات فلم يحاول التحقق من صحتها إلا عند تعامله المباشر مع أحد أبنائها، أو ربما قد يكون تعاطفه مرهوناً بفئة أو طائفة معينة فلا يتعاطف في فلسطين إلا مع من ينتمي لنفس ثقافته، وربما أيضاً قد يتعاطف مع أي قضية في العالم باستثناء فلسطين لأن التزامه أو تعاطفه الحقيقي الصادق معها قد يمنعه من المضي قدماً في طرقٍ براقة قد تحمل بمعايير هذا الزمن (فرصاً كبيرة لا تفوت)، ولذا سيحاول التغاضي عنها بذرائع لا تنتهي مع تأكيده على حبه لفلسطين وإيمانه بعدالة قضيتها (لكن بعيداً عن حياته)..

وقد بدا ذلك واضحاً بالعين المجردة سواءاً كان ذلك من خلال العلاقات الشخصية لكلٍ منا أو حتى لكل من يعيش الحياة الرقمية ويجوب في هذا الفضاء الإلكتروني من خلال مختلف الفئات والثقافات، والذي لا ينفصل بدوره عن (نوعية) الحياة التي نعيشها في مجتمعاتنا والتي يمكننا مقاربة طريقة تفكير أبنائها في معظم الحالات بطريقة تعاطيها مع القضية الفلسطينية (حتى من بعض أبناء فلسطين)، وهذا يرتب علينا كفلسطينيين (وهو ما يشابه الوضع لإخواننا في كل بلادنا من مختلف الخلفيات والفئات والطوائف) أن نتعامل بحكمة ووعي ومنطق مع (الأمر الواقع) مهما كانت مرارته إضافة ً إلى تفعيل النقد الذاتي واستيعاب فكرةً أننا (وحدنا) رغم فيض من المشاعر الصادقة من عدد كبير من أشقائنا في مختلف البلدان والتي تعني لنا الكثير..

فلا زال البعض (محلياً) على حساباته الشخصية على مواقع التواصل الإجتماعي يتسائل كلما جد جديد عن دور العرب ويسأل (وين الملايين) ؟، دون أن يعي أننا في زمن مختلف بمعطيات مختلفة ومجتمعات مختلفة بدءاً من فلسطين لأننا من الناحية النفسية تغيرنا جميعاً، ولا يليق بنا أن نستخدم هذا الخطاب بعد الآن والذي كان يجب أن ينتهي على الأقل منذ عشرين عاماً، وهذا النوع من التفكير تكرس صورة الفلسطيني في وضع من يستجدي عطفاً أو اهتماماً وهو شيء معيب بحق أصحابه وعلى من يقوم به أن لا يحشر اسم فلسطين فيه، فبعد كل التضحيات التي قام بها جميع أبناء الشعب وبعد هذا العدد من الشهداء الذين ضحوا بحياتهم والأطفال الذين فقدوا طفولتهم وماتوا أعزاء كرماء دون أن يسألوا شيئاً من أحد، لا ينبغي أن نقزم تضحياتهم وأن يقوم البعض بهذه السلوكيات التي لن تكون موضع اهتمام حقيقي بل ستكون (شفقة مؤقتة) سينصرف عنها الناس سريعاً، وعلينا أيضاً أن نتحلى بالوعي في نقل الخبر فالبعض بكل أسف يستخدم بعض الأحداث الوطنية لجذب الإهتمام وزيادة عدد المتابعين وقد لا يكون لديه ما يقوله أو يقدمه أو ينقله لكنه يقوم بشكل مستمر كلما انحسرت المتابعة عنه بتجديد البكاء والتباكي، والأنكى في بعض الأحيان أن البعض قد يحاول إقحام اسمه بشكل شخصي للركوب على موجة شهيد كريم ارتقى عن دنيانا ليظل في (بؤرة الضوء الوهمية) والمرتبطة بتسجيلات الإعجاب والتعليقات، لذا على الكثيرين أن يفهموا أن نقل الحدث في فلسطين هو لإيصاله لمن لا يعرفه خارجها وليس لإستثماره وتحقيق شهرة رخيصة من خلاله، وعلينا نقله بشكل محترم راقي يرفع ويعلي من شأن وقيمة القضية والنضال وليس أن يهوي بها، فالصورة التي نصدرها عن أنفسنا بعيداً عن الأحداث تؤثر سلباً أو إيجاباً على القضية ككل وبلدنا أكبر منا جميعاً..

واليوم بكل صدق لا يمكن لأحد أن يتحدث عن وطن حر عندما تكون التبعية فيه عمياء لفصائل وأحزاب كثير منها شكلي ولم يقدم لفلسطين شيئاً، ومن لا يؤمن بسيادة وقيمة ورفعة العلم الوطني الفلسطيني فوق بقية الأعلام والرايات ليس من حقه أن يتكلم عن وطن للجميع، لأن هذه الإنتماءات ساهمت في تصغير القضية وتحجيمها وتهميشها وجعلها ذريعة تستخدم ضد القضية، فهل جرب الكثيرون أن يفكر بميزان العقل عن ما قدمه الفصيل الذي اختار أن يتبعه أو ورث تبعيته منذ سنوات للوطن.. المحصلة النهائية (على الأغلب) هي صفر، وفي الحسابات الوطنية يجب أن يبقى فقط من لديه ما يقدمه للوطن بكل فئاته دون استثناء وليس فقط للفئة التي تشبهه، فمنذ عقود لم نعرف من (معظم) هذه التنظيمات سوى الصمت ومجرد وجوه باهتة لم نعد قادرين حتى على النظر إليها وهي غير قادرة على العطاء وكلٌ منها متشبث بالسلطة وقام بالكثير من الخيارات الكارثية التي أضرت بفلسطين وشعبها في كل مكان في العالم، وقامت بخلق حساسيات بيننا وبين الكثير من الشعوب وهي جوهر المشكلة، لأن خلافات الساسة أمر اعتيادي بينما خسارة الإخوة وهنا لا أعنيها حرفياً هي دمار حتمي، والمواطن المقهور هو من يدفع الثمن وكي لا يجني على نفسه على الجميع الإنتماء فقط لفلسطين ورايتها وليس أي راية أخرى وهذا ينطبق على كل بلادنا، حيث نفهم موقعنا وجذورنا وحقيقة انتمائنا..

وعلينا أن نعرف قيمة وطننا وأهميته والبحث عن شكل جديد نقدم به قضيتنا للعالم، شكل يتمتع بالذكاء والحنكة والمعرفة وينقل الصورة برقي واحترام ويجدد طريقة النظر إلى وطننا، ففلسطين ليست مجرد صور أرشيفية، أو صور جميلة مع تعليقات ثورية عاطفية نحبها ونحترمها، أو قصائد لمحمود درويش الذي نفخر به، نحن اليوم نعيش مرحلة مغايرة وعلينا أن نجدد أفكارنا ونحافظ على هويتنا وانتمائنا ونصطف خلف العلم الوطني الفلسطيني فقط، ونحترم اختلافات بعضنا لأنها الثغرة التي يتسلل منها العدو إلينا دائما ويتسلل منها أي عدو في أي بلد، كما ينبغي علينا دراسة كل ماحدث معنا منذ بداية الإحتلال وعدم السماح بزرع الفتن بيننا وبين أي شعب أو فئة أو عرق سواءاً كان عربياً أو لم يكن، لأن الإحتلال يحاول استقطاب الإخوة من الأكراد أو الأمازيغ أو الأعراق الإفريقية وايهامهم أن قضيتهم متشابهة، وهذا تزوير لأنهم جميعاً جزء أصيل لا يتجزأ من نسيج وتاريخ بلادنا منذ آلاف السنين وساهموا في حضارتها وبنائها وأعطوها الكثير عكس من اجتمعوا من كل بلاد العالم على أرضنا.. وبكل تأكيد فإن التغيير في التفكير سيقربنا من بلادنا جميعاً ومن فلسطين.. فلسطين التي نحلم بها وفيها مكان للجميع.. فلسطين الجديدة..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى