أ. د. عادل الأسطة - ديفيد غروسمان والزمن الأصفر الذي لا ينتهي

يهدي غسان كنفاني روايته "ما تبقى لكم "1966 "إلى "خالد" ...العائد الأول الذي ما يزال يسير."
وحامد الشخصية الرئيسة في الرواية يغادر غزة ويقطع صحراء النقب ويلتقي بجند إسرائيلي يقتله ولا ندري ماذا ألم به ولعله مثل خالد "العائد الأول الذي ما يزال يسير " .
في إحدى فقرات الرواية ذات الأصوات السردية العديدة- تعدد الساردين- تروي مريم أخت حامد وهي تتذكر رحيله " ودقت دقتين وصمتت لحظة ،ثم بدأت خطواته المفردة تقرع من جديد في رأسي وفوق الجدار: لقد منحتني هذا النعش ،علقته أمامي ،كي ادفنك فيه ،ولكن خطواتك هي التي ستظل إلى الأبد تقرع حوله ، ولن يدفن فيه إلا أنا ،وحتى بعد أن ادفن في أعماقه ستظل خطواتك تقرع فيه وحوله وفوقه إلى الأبد ،هذا النعش الصغير المعلق سيحتوينا جميعا. وستعلكنا خطواتك ونحن فيه. وستظل أنت فقط خارجه تكمل رحلتك التي لا تنتهي؟ يا إلهي! ليس بوسع أحد غيرك يعرف. "
ويبدو أن رحلة حامد ما زالت مستمرة وأنه ما زال في النقب يسير مثل خالد العائد الأول الذي ما يزال يسير.
خالد وحامد وماجد وعز الدين وخليل الوزير وأبو علي إياد وأبو علي و...و..هؤلاء كلهم استمرار لبعضهم البعض وسيواصل غيرهم الطريق إلى أمد لا يعرفه إلا الله. لكأن غسان كنفاني أراد أن يقول إن درب الفلسطينيين طويل وطويل جدا ،وأنهم سيظلون يسيرون إلى أن يحصلوا على حقوقهم. لكأن غسان كنفاني أراد أن يقول هذا ،بل إنه قاله على لسان مريم أخت حامد التي فقدت أباها في حرب 1948 ثم فقدت أمها ومن ثم اخاها.
طريق التضحية قد يطول وسيطول معه طريق آخر هو طريق التعاون والسقوط في الوحل والواسطة والرشوة. كما لو أن أبطال كنفاني المقاومين وجه وبطل رواية إميل حبيبي في " المتشائل " وجه ثان. إنهما صورتان من صور الفلسطيني المتعددة.
وكما تناسل خالد في حامد وفي آخرين فقد تناسل سعيد أبو النحس المتشائل أيضا في كثيرين وفي روايات عديدة من روايات كتاب فلسطين المحتلة عام 1948 وعام 1967.
كما لو أننا في أدبنا نكتب الشيء غير مرة ونصوغه غيرصياغة وأحيانا يصوغ أدباء الطرف الآخر بعض حكايانا وبعض قصصنا.
مؤخرا تذكرت كتاب الأديب الإسرائيلي (ديفيد غروسمان )" الزمن الأصفر " الذي ترجم يوم صدوره، ترجمتين أنجز واحدة المرحوم محمد حمزة غنايم وانجز الثانية المرحوم سلمان ناطور.
في فصل "الوسطاء " يكتب (غروسمان ) عن تعاون مشترك بين ضباط الإدارة المدنية وبعض الفلسطينيين المتعاونين القصد من ورائه جني الأموال وإدخالها في الحساب الخاص للطرفين وسيثرى هؤلاء وهؤلاء وسيغدو عمل الإسرائيلي اليهودي في مكاتب الإدارة المدنية في مناطق الاحتلال الثاني عمل سعد ،وسيبارك معارفه له لأنهم يعرفون أنه في طريقه إلى الثراء.
أثرى الموظفون اليهود وبنوا قصورا ولم تجد أموال المتعاونين، فما هي إلا أعوام حتى كنس هؤلاء من مدن الضفة ومخيماتها وقراها ولفظوا أيضا من القرى العربية في فلسطين 1948 ونظر إليهم على أنهم متعاونون.
تذكرت كتاب (غروسمان ) منذ بضعة أيام وعدت إليه. كنت في الصباح أصغي إلى إذاعة أجيال/ رام الله وكانت تبث تقريرا عن العمال الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية في فلسطين 1948 وحصولهم على تصاريح عمل.
لا يحصل أغلب هؤلاء العمال على تصاريح إلا بعد أن يتوسط لهم وسطاء يحصلون منهم على عمولة شهرية- أي على مبلغ محدد من أجورهم ،وقد يتراوح المبلغ ما بين 1800 شيكل إلى 2200 شيكل .كما لو أننا لا رحنا ولا جينا. كما لو أننا ما زلنا في السنوات 1967 حتى 1987. وفي تلك السنوات لم يكن الحصول على تصريح عمل هو سبب دفع المواطن ،فقد كان العمل متاحا بلا تصاريح، سواء من خلال مكتب العمل- الليشكة- أو من خلال السفر المباشر إلى فلسطين والعمل فيها.كان دفع مبالغ من المال يتم للحصول على تصريح سفر إلى العالم العربي أو الحصول على تصريح زيارة ممن هم في العالم العربي ليتمكنوا من زيارة أقاربهم ومشاركتهم أفراحهم.
قد تكون أول مشاهداتي لهؤلاء الوسطاء تمت في 1972. في شهر اب من ذلك العام بدأت أسافر من الضفة سنويا للدراسة في الجامعة الأردنية وكانت أزمة السفر في أشهر الصيف في ذروتها ،ولأن هناك محظوظين فقد كان الناس يدفعون لبعض أصحاب السيارات منهم مبالغ مضاعفة حتى يسافروا في السيارات الأولى ولا يعودوا مساء إلى بيوتهم ثانية. وعلى الجسر كنا نعاني الأمرين.كنا نعاني من الجنود اليهود ومن بعض الشرطة العرب ،وقد نكون شتمنا أنفسنا على أننا عرب لا نعرف النظام وأن هذا سبب من أسباب هزيمتنا ولم نكن نضع اللوم على الإسرائيليين الذين شجعوا على الفوضى وكافأوا المتعاونين معهم.
مؤخرا كنت أقرأ في كتاب (هيلل كوهين ) "العرب الصالحون " عن العرب الفلسطينيين الباقين في بلادهم والعائدين تسللا إليها ولاحظت مدى تشجيع الإسرائيليين للمتعاونين ومكافاتهم. وقبل صدور كتاب (كوهين ) وقبل كتابة إميل حبيبي روايته المتشائل كان المحامي توفيق معمر كتب قصصا عديدة عن تعامل الحكومات الإسرائيلية مع المتعاونين ،ما يعني أننا جزء من الخراب لا الخراب كله.
لقد ذكرني تقرير إذاعة أجيال بهذا كله ؛بخالد وحامد وأبي علي إياد وذكرني بسعيد أبي النحس المتشائل وبكتاب ديفيد غروسمان "الزمن الأصفر " وبكتاب هيلل كوهين "العرب الصالحون " وذكرني بابي حيدر.
في العام 1987 أردت إصدار وثيقة سفر إسرائيلية للسفر إلى ألمانيا. عرض علي أبو حيدر أن أدفع له 20 دينارا اردنيا ليحضر لي الموافقة ولما رفضت انتبه إلى اسمي وحفظه وذهب إلى الضابط اليهودي الذي ما إن سلمته الطلب حتى أخبرني أنه مرفوض فأنا خطر على أمن الدولة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى