أمين الزاوي - لماذا يخاف الكاتب العربي من القارئ؟

قال المقري التلمساني (1578 – 1631) في موسوعته الشهيرة “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” متحدثا عن عامة أهل الأندلس، عارضا موقفهم من المبدع الذي يشكل خروجا عن فهوم “القطيع” وهو ما يعكس الموقف من الكتابة التي تخرق السائد وتكسر الكسل العقلي: «… فإنه كلما قيل ‘فلان يقرأ الفلسفة’… أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيَّدت عليه أنفاسه، فإن زلَّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان”.
هذه الحال التي تحدث عنها المقري التلمساني منذ أزيد من أربعة قرون والتي تصف العلاقة ما بين مبدع يتكئ على العقل والسؤال وغوغاء تم تشكيلها على صورة “ذوي الأمر والنهي” المعتصمين بالإيمان المطلق والرأي الأوحد، لا تزال سارية على زمننا الراهن الثقافي والإبداعي، ولا تزال العلاقة متوترة ما بين المبدع المعاصر العقلاني الذي يفكر “خارج” القطيع بعيدا عن الدوغما الدينية أو السياسية من جهة والغوغاء “الغاضبة” و”المعرّضة” لغسيل المخ من جهة ثانية.
إن “الخوف” ثقافة عربية ومغاربية بامتياز، إرث متأصل في التاريخ السياسي والثقافي والإبداعي للمنطقة منذ غابر العصور، وقد ظلت تنمو وتتوالد في أشكال مختلفة تحت سلطة مؤسسات القمع المتعددة والمتواصلة والمعروفة بإبداعاتها الكثيرة في فنون التقتيل والسجن والرعب والتعذيب، لقد تفننت الأنظمة الثيوقراطية والدكتاتورية العربية في تشريد المثقف وفي تعذيب المواطن، فكم من شاعر أو مفكر أو مصلح متنور تم سحل عينيه أو تقطيع أطرافه أو رمي جثته في النار أو قطع رأسه أو دفنه حيا أو… وقد وردت في كتب بعض الأولين واللاحقين آلاف المرويات التي تقشعر لها الأبدان عمّا عاناه الإنسان المثقف التنويري في جغرافيا العرب السياسية والديني.
لم يكن لثقافة الخوف أن تتكرس لولا أنها وجدت الدعائم التي تحفظ كيانها وتثمر بذرتها المرّة، وعلى رأس هذه الدعامات البرامجُ التعليمية في المدرسة وفي الجامعة التي تبرر وتمرر أيديولوجيا الرضوخ و”التعمية” الفكرية وسيكولوجيا “الطاعة” الجماعية من جيل إلى آخر، كما أن مؤسسة المسجد التي تحولت إلى ملحق للمخافر وللمؤسسات الأيديولوجية الموكلة إليها مهمة تعميم فكرة “تأليه” الخليفة أو الرئيس أو القائد الأكبر أو الزعيم الذي يصبح في مخيال العامة “ظل الله على الأرض” تقوم بمهمة زرع الخوف في أوساط المؤمنين، بل إن الله نفسه الذي من المفروض أن “يُحبّ” أصبح تحت سقف هذه المساجد مصدر “خوف” وذعر.
رافق الخوفُ الإبداعَ العربي في علاقة جدلية خطيرة وثابتة، فكل نص أكان شعريا أو سرديا أو فلسفيا إلا ويجمل في داخله “صدى” الخوف، في لغته وفي بنائه وفي سرديته الفكرية والشعورية.
إن كل مبدع عربي ومغاربي خارج عن “قطيع” الخاصة والعامة يعيش الرعب المستمر، فكلما أبدع قصيدة أو قصة أو رواية أو فيلما أو منحوتة أو لوحة، إلا وكان هناك من يتربص به، من يراقبه، من ينصب له المشنقة أو يفتح له باب سجن أو يحضر له سوط جلاد غير رحيم، هذا الترقب اليومي المليء بالمرعب والذي يعيشه ويتعايش معه المبدع التنويري العربي والمغاربي مصدره الرقيب السياسي وتوأمه الرقيب الديني، إنهما “العين” التي لا تنام أبدا.
تتحدد علاقة الأنظمة الثيوقراطية والدكتاتورية العربية بالإبداع والمبدعين على قاعدة الشفوي والغموض المؤسساتي، حيث يختلط مفهوم الدولة بمفهوم النظام السياسي القائم، وللحفاظ على هذا الوضع يصر النظام على عدم سن قوانين للرقابة، مهما كانت طبيعة قسوة المنع فيها، لكي تبقي الواقع الثقافي والإبداعي والفكري تحت التهديد المستمر وتحت الطارئ الأزلي، وأمام هذا الوضع الشفوي الغامض والمقصود كل إبداع مختلف غير مسموح
مختلف غير مسموح به وكل تفكير نقدي ممنوع دون معرفة حدود “الممنوع” وبداية “المسموح به”، وتشتغل هذه الأنظمة بهذه الطريقة البدائية المعاصرة لمغالطة الرأي العام الدولي الذي يراقبها والمدافع عن حقوق الإنسان ومن بينها حرية التعبير، ودرءا لكل محاولة العزل الدولية فإن هذه الأنظمة الثيوقراطية والدكتاتورية العربية والمغاربية تفضل العيش في “المنطقة الرمادية” على المستوى السياسي والفكري والإبداعي.
ولكي تمنح هذه الأنظمة الدكتاتورية والثيوقراطية لنفسها شرعية تكميم المبدعين التنويريين الذين يحملون مشروعا فكريا وسياسيا معارضا لمشروعها، تقوم بين الحين والآخر بتجييش الغوغاء ضد “الكتب” الإبداعية أو ضد المبدعين النقديين، حيث تدفع “بميليشياتها’ الدينية من المشرفين على “المؤسسات” الدينية كالمساجد وكليات الشريعة والمعاهد الإسلامية بشن هجوم على المبدعين والاستعانة بالفتاوى الخاصة بالتكفير والمرتد والخروج عن “المعلوم من الدين”.
وأمام هيجان “الغوغاء” في الشوارع وفي ساحات المؤسسات الجامعية (ما حدث لرواية ‘وليمة لأعشاب البحر’ لحيدر حيدر أو رواية ‘الخبز الحافي’ لمحمد شكري، ما عانى منه ناصر حامد أبوزيد من تهديد ومطالبة بتطليق زوجته منه…) تستغل الأنظمة الدكتاتورية “ذات القلب” الثيوقراطي مثل هذه الحوادث لتكريس المنع وتنويع الرقابة ورفع الأسوار عالية أكثر أمام أيّ صوت يدعو إلى الحرية الإبداعية.
أمام السيل الجارف من الغوغاء التي تطالب برأس المبدع وبحرق الكتب، يسكن الخوف المبدع ويتمدد في نصه القادم، وسيصبح “الخوف” جزءا من “العملية الإبداعية”، حيال هذا الوضع يبدأ الكاتب “يزن” الكلمات وزنا دقيقا خوفا من التأويلات ومن القراءات الثيوقراطية الغوغائية، وشيئا فشيئا سيجف نسغ النص وسيصبح هيكلا بلا روح ولا معنى، أو في حالات أخرى سيضطر المبدع إلى الهجرة لحماية حياته وحياة نصوصه.
لا يتوقف خوف المبدع الحر في العالم العربي والمغاربي عند هيجان الغوغاء وسجون الأنظمة ومقاصلها ولا عند التكفير المسلط عليه من قبل فقهاء الظلام، بل أيضا عند تلك الطبقة التي تعمل على تبرير اغتيال المثقفين والمفكرين والمبدعين، وقد يكون من بين هؤلاء التبريريين مجموعة من المثقفين أنفسهم، الذين تحركهم الغيرة أو الحسد أو بحثا عن منصب، فما صدر من فتاوى تبرر محاولة اغتيال نجيب محفوظ، وأخرى تبرر اغتيال المفكر فرج فودة في القاهرة، وأخرى تبرر اغتيال حسين مروة ومهدي عامل في بيروت، وأخرى تبرر محاكمة صادق جلال العظم في سوريا بعد أن أصدر كتابه “نقد العقل الديني”، وأخرى تبرر اغتيال الروائي الطاهر جاووت والفنان الشاب حسني في الجزائر، وأخرى تبرر إعدام المفكر السوداني محمود طه… – هذه الفتاوى التي صدرت عن “نجوم” دينية كاذبة ومن بعض المثقفين الطامعين والمتورطين مع أنظمة سياسية قمعية وفاسدة – هو ما يجعل ثقافة الخوف مستمرة ومتجددة من جيل مبدع إلى آخر.
إن تبرير اغتيال المثقفين من قبل العامة والخاصة أيضا سببه إضافة إلى “الشيطنة” التي قد تصبغها بعض الأنظمة السياسية والدينية على هذا الكاتب أو ذاك، على هذا المفكر أو ذاك، على هذا الفنان أو ذاك، – سببه – الخلط الواقع في الساحة الثقافية ما بين “الشريعة” و”الأدب”، ما بين “الإبداع” الذي يشتغل على “الخيال” و”الأسطرة” والشريعة التي تشتغل في حقل “الدين”، لقد اختلط الأمر على العامة بإيعاز من الخاصة التقليدية التي لا تريد أن يقاسمها أحد في صناعة الرأي العام المستلَب.
لقد أصبح رجل الدين يحاكم الأديب من منطلق ديني أخلاقي إصلاحي دون فهم ودراية بما تعنيه كلمة “الإبداع” التي شجرتها الحرية أولا وأخيرا.
إن الخوف الذي يعاني منه المبدع الحر النقدي في العالم العربي والمغاربي هو نتاج الواقع الذي أضحى فيه كل شيء يقاس بمقياس الدين السياسي، لقد “تديّن” المجتمع سياسيا كثيرا ولم يبق للمبدعين من هامش للحياة كما يتصورونها، وكما يعرفها المبدعون في العالم الآخر حيث “الدين” جزء من الحياة واختيار شخصي وليس هو “الكل في الكل” كما هو قائم عندنا في العالم العربي والمغاربي.
إن ما عاشه طه حسين من تهديد وتكفير وطرد ومحاكمة بعد إصداره كتاب “في الشعر الجاهلي” كان ذلك قبل قرن من الزمن 1926، لا يزال ساريا حتى اليوم بين جموع المفكرين العقلانيين في هذا العالم، وإن تراجع طه حسين لم يكن عن قناعة فكرية كما ادعى البعض (من بينهم محمد عمارة)، إنما كان بدافع الخوف على حياته من العامة والخاصة من الأزهريين المتطرفين وبالأساس من تيار الإخوان المسلمين.
إن نتائج الخوف المنتشرة بشكل عضوي في الحياة اليومية للمواطنين العرب والمغاربيين وفي الثقافة والإبداع والفكر لا تمس مصير حياة الكاتب وحده، الكاتب المهدد، المراقب، الملاحق والمُكَفَّر، بل تتعداه إلى مصير بنية النص نفسها، فكل نص إبداعي يولد في ظل ثقافة الخوف معرض للتشوه لأنه يُكتب في غياب حاسة “النقد” وفي غياب “سقف للحرية” تتطلبها الكتابة.
ولأن الخوف حاضر كالنفس في حياة المبدع وفي حياة النصوص، فالقراءة في العالم العربي والمغاربي هي الأخرى معرضة للتشويه، فالقارئ الباحث عن الحرية وعن العقل والنقد، لا يثق في النصوص العربية التي يعرف مسبقا بأنها صادرة عن فضاءين سياسي وديني معاديين لحرية الإبداع ولحرية المبدع، نصوص صادرة عن كاتب معرّض للمصادرة والرقابة والتجريم، لذا تعرف قراءة النصوص المحلية انحسارا رهيبا، في المقابل يلجأ القارئ العربي والمغاربي إلى قراءة النصوص الأجنبية المترجمة، والتي على الرغم من أنها تصدر هي الأخرى في مثل هذا الظرف القامع، إلا أنها تحوز على حيز أكبر من الحرية باعتبار أن “الرقيب” يعاملها على أنها “غريبة” وليست لها علاقة بالمحيط المحلي.
وحتى مع تطور التكنولوجيا وتكاثر وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها ولو بشكل استهلاكي في العالم العربي، إلا أن الرقيب لا ينام فهو يلاحق الكاتب على الشاشة، فقد كونت الأنظمة الثيوقراطية والدكتاتورية جيشا من الشرطة المتخصصة في ملاحقة النصوص المنشور على الصفحات الإلكترونية وعلى مواقع المبدعين، بهذا المعنى لم تتمكن التكنولوجيا من تحرير المبدع في العالم العربي والمغاربي، لذا فالخوف يلاحق المبدع حتى وهو أمام شاشة هاتفه الذكي كما كانت تلاحقه في المطابع الورقية، ففي الحالة التقليدية أو التكنولوجية هو متيقن بأن هناك عينا تراقبه، ومسدسا خلف رأسه وسجنا بابه ينتظره وجلادا لا ينتظر إلا ظهره وأطرافه.


أمين الزاوي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى