كتاب كامل أ. د. عادل الأسطة - حزيران الذي لا ينتهي... الجزء -2- (26-49)

26
( تشوش الذاكرة ) :
( عائد إلى يافا ، عائد إلى حيفا ) :

حين سمح الاحتلال لأهل الضفة بزيارة المناطق المحتلة في العام 1948، أقبل الناس على الأمر زرافات ووحدانا .
لم أعد أذكر بالتفصيل كيف تم الأمر . كل ما أعرفه هو أنني واخوي الأكبر مني سنا وجدنا أنفسنا ، ذات صباح في ( باص ) الهلال الذي يسوقه المرحوم أبو الشكر ( سيقتل في ظروف غامضة في الأردن ، قرب اربد،بعد أيلول 1970 مباشرة،وسابكي يوم عرفنا الخبر ، وسيعد له شباب المخيم جنازة كبيرة).
سار أبو الشكر بنا إلى حيفا أولا ( لم تكن صدرت رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " ) ، وربما كنا العائدين الأوائل ، لا للإقامة هناك ، وإنما للزيارة ، لمدة يوم . وهناك ،في حيفا رأينا وادي النسناس ، وأخذ أهل حيفا يتكلمون عن ماضيهم في المدينة . وسنجد أنفسنا نستقل القطار الكهربائي ، من وسط المدينة ، لنصعد إلى الكرمل ، ولننظر من هناك إلى البحر الأبيض المتوسط . كان منظر البحر ساحرا . منظر لا ينساه المرء بسهولة ( لاحقا حين أقرأ ديوان محمود درويش " محاولة رقم 7 " سأكرر:
ولكن غصنا واحدا من الكرمل الملتهب /
يعادل كل خصور النساء ، وكل العواصم ) .
وسنزور أيضا يافا ونرى ميناءها ، وكان ثمة من يشرح لنا ، ويسرد ذكرياته عن المدينة . سنرى الميناء الذي لم يعد ميناء ، وسنرى البلدة القديمة وبقايا مدينة . ( لا اذكر تفاصيل هذه الزيارة ، وربما تعود الذكريات عن المدينة إلى زيارات لاحقة ) . هل تغدينا في يافا؟
( ستكتب فدوى طوقان ، حين تزور يافا وتراها خربة ، قصيدتها التي منها
" على أطلال يافا يا احبائي /
وقفت ، وقلت للعينين : قفا نبك، /
تنادي من بناها للدار ،وتنعى من بناها الدار /
وأن /
القلب منسحقا "
وكان الشاعر راشد حسين في 1963كتب قصيدته " الحب والغيتو " وصور فيها ما آلت إليه المدينة من خراب ، بعد النكبة)
عصرا سنزور اللد ، وسيبدأ أهلها يروون ذكرياتهم ، ويبدو أن أهل اللد ، من سكان المخيم ، لم يكونوا من اثريائها ، ولذلك فإن ما رأيناه في المدينة ، وبالتحديد بيوت أهلها من سكان المخيم لم يعط انطباعا جيدا عن المدينة . ما رأيته قال لي إن المدينة مدينة فقيرة عادية . ولم تسحرني اللد ، ولم ازرها ثانية ، ربما لأنها ليست مدينة أساسية من المدن التي كان العمال يذهبون إليها . ربما.. ( بعد قراءة رواية إلياس خوري " أولاد الغيتو ، اسمي آدم " 2016 صار لي رغبة لزيارة المدينة ، ولزيارة مسجد دهمش والكنيسة والمشفى)
سننهي اليوم في نتانيا . سنزور الشاطيء ونقترب من البحر ، وننزل إلى الشاطيء الذي سحرنا جماله . كم كانت ناتانيا جميلة في المساء.كم ، وكم اندهشنا ونحن نرى أوراق الخبيزة كبيرة ( هل تم الأمر في الثلاثين من حزيران ؟ )( كم يسحر منظر شمس الغروب وهي تسقط في البحر وسيكتب محمود درويش بعد العام2000 قصيدته " برتقالية " )
فيما بعد ، بعد أن قرأت رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " 1969ساظل أتذكر تلك الزيارة ، وساظل أتساءل : هل كان بيننا ، في الباص ، من تشابهت حكايته مع حكاية سعيد.س بطل الرواية ؟وساجيب نفسي : لو كان هناك من تشابهت حكايته ، مع حكاية سعيد . س لكنا في المخيم عرفنا ، وسعيد.س كان من رام الله لامن نابلس ، غير إننا في مخيم عسكر كنا نشاهد امراة وحيدة أقامت لها وكالة الغوث غرفة صغيرة جدا من الزينكو،واسمها حليمة . كانت هذه كسيحة،وتقيم وحدها ، ولا أهل لها ، وكان بعض ابناء المخيم يعذبونها ( حين اقرا لاحقا الحكاية الاوتوبيوغرافية لسميح القاسم " إلى الجحيم أيها الليلك " 1977 ، واقرأ عن حسن الكسيح ، أتذكر حليمة وغرفتها ووحدنها ) وكلما تذكرت ( دوف ) بطل قصة كنفاني " عائد إلى حيفا " تذكرت حليمة : هل تركها أهلها في ظل الحرب ، وتخلوا عنها في فوضى الرحيل والهروب .
زرنا يومها فلسطين ، وسحرنا القطار الكهربائي ، وكنا مثل صفية ، زوجة سعيد . س في رواية كنفاني : انبهرنا بما رأينا ، ولم نكن بعد قرأنا مقطع سالم جبران ، ولا طللية البروة لمحمود درويش2007 . كان سالم جبران كتب مبكرا :
كما تحب الأم طفلها المشوها
أحبها حبيبتي بلادي .
خربشات
30 / 6 / 2016

***

27
"- من أي عام جاء هذا الحزن ؟

من سنة فلسطينية لا تنتهي ،
وتشابهت كل الشهور ، تشابه الموتى "
" محمود درويش من قصيدة "طوبى لشيء غامض " ( محاولة رقم 7 / 1974 )
لست مصابا ، بعد ، بالزهايمر ، لا ولا أنا جاهل بأشهر السنة وعدد أيام حزيران فيها ، وحزيران هو 30 يوما ، فكيف غدا حزيران 1967 أطول مما هو عليه في بقية الأعوام ؟
اسألوا شاعر البروة الذي كتب عن سنة فلسطينية لا تنتهي ، وعن تشابه الشهور ، وما من شهر جاء بعد حزيران 1967 إلا كان امتدادا لحزيران 1967 ، وما من سنة تلت الهزيمة ، وظلت الضفة محتلة و اللاجئون لاجئين بعيدين عن مدنهم وقراهم هناك ، إلا وكانت امتدادا لسنة 1967 .
وفي الحادي والثلاثين من حزيران ستحدث أشياء كثيرة . ستزورنا عمتي رئيسة قادمة من غزة ، فنتعرف على أقارب أبي ، وستزورنا ابنتا عم أمي ؛ليلى ونجاح واخوهما محمد ، فنتعرف على أقارب أمي ، وكما كتبت ، من قبل ، فقد أرادت العائلات أن توطد صلة القرابة أكثر وأكثر ، كما لو أنها تريد تعويض فترة الفراق التي امتدت من 1948 - 1967 ، وهكذا سيتعرف الأقارب على بعضهم بعضا ، وستقام الولائم والاحتفالات ، ولسوف يتقرب هؤلاء إلى بعضهم بعضا من خلال التزاوج ، فيطلبون هذه لذاك وتلك لهذا ، ولسوف تنجم مشاكل جديدة ، فالتقارب مع أهل الداخل أو أهل غزة سيؤدي إلى جفاء مع بعض الأقارب هنا ، ممن كانوا يطمحون بتلك لهذا ، ولسوف يكون للسمك فعله السحري وقوة قادرة وكبيرة على الإغراء ، تماما مثل الرغبة في الإبقاء على علاقة مع المدن التاريخية للشعب الفلسطيني ؛يافا وحيفا واللد ، ولكن ما سيتكشف مع مرور الأيام هو أننا أصبحنا ثلاثة شعوب ، بخاصة بعد 1987 ، ففلسطينيو الداخل كانوا أكثر انفتاحا من أهل الضفة ، وأهل غزة كانوا أقرب إلى الشعب المصري منهم إلى أهل الضفة أو الفلسطينيين الباقين .
ذات مرة ساسال صديقا لي عن أقاربه في اللد ، وساساله إن كان عمل هناك وتقرب إلى أقاربه ، وسيعترف لي ، حين أسأله إن كان يرغب في العودة : بالنفي ، فلأهل اللد عادات مختلفة عن عادات أهله في الضفة . لم يرق له الانفتاح هو المحافظ المتدين ، وسأقف شخصيا حجر عثرة في زواج أخت لي من بعض أقاربي في يافا ( كم هي محزنة قصيدة راشد حسين " الحب والغيتو " 1963 . يافا مدخنة حشيش ، وكل من عمل في فلسطين في 70 ق 20 كان يتحدث عن شارع 60 وعن محاولات الصهيونية إغراق الفلسطينيين هناك بالحشيش والأفيون ) .
في العام 2011 سأقرأ سيرة سميح القاسم " إنها مجرد منفضة " ، وسأقرأ
فيها تقريرا كتبه في العام 1966عن أحوال المدينة التي لا تسر ، تقريرا كان كتبه لصحافة الحزب الشيوعي الذي كان قريبا منه ، فلم يكن انتمى اليه بعد ، وسيقدم طلب الانتماء للحزب وهو في السجن إثر هزيمة حزيران ، وسيكتب قصيدته " طلب انتماء للحزب " وسيهديها إلى ( ماير فلنر ورفاق آخرين ) .
حزيران 1967 ، كما ذهبت ، من قبل ، هو أقسى الشهور ، وهو أطولها .
سنفرح بعمتي وأبنائها ، وسنفرح بأقارب أمي وسيزوروننا ونزورهم ، ولكن هذا الفرح لا يكتمل ، فقد غدونا عالمين مختلفين . هل في هذا مبالغة وادعاء ؟ لا هم ملومون ولا نحن ، والآن وأنا أسير في شوارع نابلس أيام السبت أفرح لزيارات فلسطينيي فلسطين ، وأحاول أن أدافع عنهم ما استطعت أمام هجوم قلة منا تراهم مختلفين عنا ، وكان آخر ما جرى هو ما جرى في نابلس قبل أسبوع حول اعتراض بعض الشباب على لبس فلسطينية من فلسطين ترتدي التنورة التي لم يعد لبسها شائعا في نابلس ، إلا في الجامعة ، وفي احايين قليلة ، علما بأننا ، في نابلس ، قبل 1987 كنا معتادين على الأمر .
وتشابهت كل الشهور ، ونحن الآن في ال 31 /6 / 2016

***

28
( ربع اقلب ، أم ربع شالوم ) :

بعد الحرب بفترة بدأ العمال يسافرون يوميا إلى مدن فلسطين المحتلة في العام 1948. يصحون مبكرين ، في الرابعة فجرا ، ويعودون في السادسة أو السابعة ، مساء ، منهكين . وفي نهاية الإسبوع ، يوم الجمعة يعودون بغلة وفيرة ، وما إن يبدأ نهار السبت حتى تجد المدينة ، نابلس ، عامرة ، كما لم تكن في أي يوم من أيام الأسبوع .
ينفق العمال مما كسبوا ويشترون ما لم يكونوا ، من قبل ، زمن الحكم الأردني ، يشترونه ، بخاصة اولئك الذين بدؤوا يعملون في الداخل ، ولم يترددوا للحظة .
فتحت المصانع الإسرائيلية أبوابها للرجال ، وللنساء ممن رغبن ، وأغدقت عليهم الأموال ، ولم يبخل هؤلاء على أنفسهم ، فإن الله يحب أن يرى أثر ( اسرائيل ) على الفلسطينيين ، العبيد الجدد للدولة الجديدة . ( اشير هنا إلى روايتي سحر خليفة " الصبار " 1976 و " عباد الشمس " 1979 / 1980 . إنهما أفضل ما كتب عن تلك الأيام )
كانت شوارع نابلس تكتظ بالناس ، بخاصة من العمال ، وأخذت الحركة التجارية تزدهر . أكل الناس الدجاج واللحوم ، واشتروا الفواكه ، واشتروا الملابس أيضا ، وجاء الصحفيون ، زرافات ووحدانا ، وأخذوا يسألون الناس عن أوضاعهم الجديدة وعن رضاهم عنها ، بل وأخذوا يسألون الناس إن كان الوضع أفضل مما كان عليه زمن الحكم الأردني ، وهل يفضل الناس الحكم السابق على الاحتلال أم أنهم يفضلون العهد الجديد ؟
( سبعين شالوم ولا اقلب ) قال بعض الناس ممن تحسنت أحوالهم ، ولما كنت لاحظت أن أحوالنا تحسنت قليلا ، فقد أبديت رأيي ، مرة ، لأحد الصحفيين ، دون أن يكون السؤال موجها إلي شخصيا . لقد وجدتني أصغي وأجيب - ربما لاعتبار أنني سأكون بعد أربعين عاما شخصا يسأل عن رأيه ، ربما ، فلم أكن يومها اتجاوز الخامسة عشرة من عمري ، ولم أكن أعرف خمسي من طمسي ، أو كوعي من بوعي -- أيضا حتى الآن لا أعرف الكوع من البوع ، ومرفق اليد من الساق --. والآن أضحك كثيرا من وعيي السياسي المبكر ، الوعي الذي لم أكتسبه حتى اللحظة .
( سبعين شالوم ،ولا اقلب ) ولم تكن ، يومها ، المستوطنات قد بدأت تقام ، ولم تكن المظاهرات ضد الاحتلال ، خلافا لغزة ، بدأت .
لم ترق تلك الأيام ، وأحوال نابلس ، يوم السبت ، لم ترق للشاعرة فدوى طوقان ، فكتبت قصيدة وجهتها للشاعر عبد اللطيف عقل ، تعبر فيها عن شعورها بالامتعاض والحزن في أيام السبت ، حيث العمال في الشوارع يشترون ويتلفظون بعض المفرادات العبرية ( شالوم،خواجة ، هكول بسيدر ) ، -- عنوان القصيدة " تفاءل معي " وفيها تبدو السخرية في أشعار فدوى ، وهي نادرة --
( لقد فتح الاحتلال " المبارك " / -
أبواب رزقه /
ومتعه بعد طول الهوان بحقه/
وهذا رخاء عظيم !! /
فبارك على العالمين ) ورد عليها عبد اللطيف عقل بقصيدته " الصمت والارتحال "
( تفاءل معي /
تهكمت ، يلذعني السوط )
ولم ترق قصيدة فدوى وموقفها من العمال هؤلاء للشاعر فوزي البكري ، الشاعر الصعلوك ابن القدس ، الذي وقف إلى جانب العمال ، فدافع عنهم وكتب قصيدته " شريط على الهدية ، وهاجم الشاعرة والطبقة البرجوازية التي تنتمي إليها ، وظهرت قصيدتا فدوى وعقل في ديوانه ( هي أو الموت ) 1973 وظهرت قصيدة البكري في ديوانه ( صعلوك من القدس القديمة ) 1982. كان البكري قاسيا جدا وساخرا من الشاعرة التي تمنت أن تأتي نساء فيتنام ليلدن لنا مقاتلين ، وكانت المقاومة الفيتنامية في ذروتها -
( شبعتم فلا غرو أن تسخروا /
بأهل الرصيف /
فمال الصمود /
يشل الزنود /
ويبهت في العين لون الرغيف /
شواء وحلوى )
سارى نفسي ، في حزيران ذاك ، فقد تشابهت الأشهر ، سأرى نفسي أكرر ( سبعين شالوم ، ولا اقلب ) ، ولم أكن ، مثل أكثرنا ، بعيد نظر ، ولم أر الأمور جيدا إلا بعد أن زرعت الضفة بالمستوطنات ، وإن كنت أخذت أشارك ، في فترة مبكرة ، في المظاهرات ضد الاحتلال .
2./ 7 / 2016

***

29
( أنا صامد صامد )

الأغنية التي شاعت في تلك الأيام كانت " أنا صامد صامد ، على بوكسة حامض " - والبوكسة هي الصحارة ، وعاء من الخشب - ، وقد أوردت سحر خليفة الأغنية ، في روايتها " الصبار " 1976 ، على لسان طفل ، يرددها بلهجة تعبر عن سخرية .
لم يؤيد بعض سكان الضفة الغربية ، العمل في المصانع الإسرائيلية ، ورأوا في ذلك اعترافا بالاحتلال وتكريسا له . وقف رافضو الفكرة ضد العمل في الداخل وعملوا على عرقلته واعاقته ، وهذا ما عكسته سحر خليفة في روايتها المذكورة .
أخذ الناس يتحدثون عن ضرورة الصمود ، ومن أشكاله عدم العمل في المصانع الإسرائيلية ، وأخذوا يتحدثون أيضأ عن أموال الصمود التي أخذت تأتي من العالم العربي . كانت المبالغ التي توزع قليلة جدا ، ولا تكاد تكفي لسد الرمق ، والمبلغ المعطى للفرد ، إن أخذ ، لا يكاد يذكر أمام الأجرة التي يحصل عليها العامل في الداخل ، وتختصر الحكاية ، ببساطة ، بحوار عابر جدا ، جرى بيني وبين عامل ، قبل أيام ، فقد التقينا في الحافلة وسألته إن كان ما يزال يعمل في أحد مصانع نابلس ، وكان يراوح في عمله بين العمل في المصانع الإسرائيلية وأحد مصانع نابلس ، تبعا للحالة الأمنية السائدة في الضفة الغربية ، وتبعا لسماح السلطات الاسرائيلية ، للعمال ، بدخول مناطق 1948 وعدم دخولها .
أجابني العامل ، وبيني وبينه صداقة ، على سؤالي بأن بصق على الأرض ، مع عبارة مختصرة . كان يهبط من الحافلة ، في أثناء الإجابة ، وشتم أصحاب المصنع ، وقال : هل كنت أستطيع أن أبني داري هذه ، وأشار إليها ، لو بقيت أعمل في المصنع في نابلس ؟
في تلك الأيام كانت جهات ما في البلدية مسؤولة عن توزيع أموال الصمود الأتية من العالم العربي ، وقد رات تلك الجهات أن تحسن أحوال بعض المناطق في المدينة ، وألا توزع الأموال ، هكذا ، عبثا ، ولذلك أعلنت عن نيتها في تشغيل الشباب ، من أبناء المدارس ، لمدة أسبوعين أو أكثر قليلا ، وهكذا وجدت نفسي ، وأبناء جيلي ، نذهب إلى البلدية ، لنسجل أسماءنا ، وسرعان ما باشرنا العمل .
في نابلس ، الآن ، منتزه اسمه منتزه جمال عبد الناصر ، وكان يومها أرضا جرداء مهملة ، وهكذا سأنفق ، ومعي عشرات الشباب ، أسبوعين كاملين في تنظيف تلك الأرض التي ستغدو متنزها جميلا لأبناء المدينة يدخلون إليه مجانا دون اصطحاب عائلاتهم ، كما يشترط متنزه العائلات .
وكلما مررت من هناك تذكرت تلك الأيام والجهد الذي بذلناه وتقسيمنا الى فرق تتنافس فيما بينها كما تتنافس في هذه الأيام جامعاتنا فيما بينها ، بعقلية طفولية ، وحين ينتهي المتنزه سيطلق عليه اسم الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، الذي جرت له ، في المدينة ، يوم مات ، جنازة لم تشهد المدينة ، بعدها ، ولا قبلها ، جنازة مثلها وكانت الجماهير المشاركة تكرر العبارة : ( إلى السماء ، إلى السماء / يا حبيب الملايين/سنقاتل ، سنقاتل أجمعين ) .
في تلك الأيام ، وبعد انتهاء العمل في المتنزه استلمت مبلغ خمسة دنانير أردنية ، كانت ، في حينه ، مبلغا محترما ، وهكذا صمدت إلى يومنا هذا ، ولم أغادر الضفة ، بعد ذلك ، إلا للدراسة في الأردن و في ألمانيا ، وربما كان للأغنية ( أنا صامد صامد ، على بوكسة حامض ) تأثيرها السحري في وفي الصامدين ، وربما ما زلت أنفق من تلك الدنانير الخمسة إلى يومنا هذا ، مثلي مثل معاذة العنبرية في قصة الجاحظ التي أوردها في كتابه " البخلاء " ، معاذة التي ظلت ، ستة أشهر تأكل من سقط الأضحية التي أهداها لها بعض الناس ، فاستشارت ابن عمها في شأنها وكيف تفيد منها ، ولما رآها ، بعد ستة أشهر من ذبح الأضحية ، سألها : كيف كان قديد تلك ؟ فأجابته : بأبي أنت لم يحن وقت القديد بعد !
( أنا صامد صامد ، على بوكسة حامض ) ، وكان مثلي صامدا ، الشاعر المرحوم عبد اللطيف عقل الذي كتب في.80 ق 20قصيدته " رسالة إلى صديق قديم " يرد فيها على صديقه الذي حثه على الهجرة إلى الخليج ، بحثا عن المال ، فأنهى عقل صداقته معه " تزين لي الرحيل / كأن لا يكفي من رحلوا ... أنا نبض التراب دمي فكيف أخون نبض دمي وارتحل " والقصيدة غير بعيدة عن قصيدة سميح القاسم الشهيرة الأسبق التي رد فيها على من حثه أيضا على الرحيل " إليك هناك حيث تموت ، إليك هناك في بيروت " - وسيساء فهم القصيدة وتأويلها لإغفال زمن كتابتها ، ورأى هؤلاء أنها موجهة للشاعر محمود درويش الذي رحل في 1970 /1971 ، علما بأن سميح كتبها قبل رحيل درويش - وهي أيضا لا تختلف عن وصية إميل حبيبي التي طلب فيها من أهله أن يكتبوا على شاهد قبره ، حين يموت ، " باق في حيفا " .
3 / 7 / 2016 خربشات

***

30
( يا لقمة العيش التي ...... )

لم تعد هناك خطوط نقل خارجي ، من نابلس إلى عمان فدمشق فبيروت ، وسيارة ( البلايموت 58 ) التي كانت لأبي ما عادت مجدية ، على الرغم من أنها أخذت تنقل الركاب من نابلس إلى الفارعة فطوباس أو طمون .
ولما أعلنت شركة ( ايغد ) الإسرائيلية للحافلات عن حاجتها إلى سواقين يعملون على ( باص ) اتها ، لنقل العمال من نابلس إلى فلسطين ؛ يافا وتل أبيب والخضيرة وحيفا ، وجاء أصدقاء أبي من اليهود يعرضون عليه أن يعمل في الشركة ، وأن يعرض الأمر على سائقين آخرين ، فقد وجد أبي ، ومن بعد عمي ، نفسيهما وعشرات آخرين ، يعملون سائقين في شركتي ( ايغد ) و ( دان ) .
كانوا في ساعات الفجر ، في الثالثة والنصف ، يصحون من نومهم ، ويذهبون إلى معسكر حوارة ، وكان قبل 1967 معسكرا للجيش الأردني ، وغدا بعد الهزيمة معسكرا للجيش الإسرائيلي ، وما زال ، ويحضرون ال ( باص ) ات ، ليقلوا الركاب إلى المصانع الإسرائيلية في فلسطين ، وبعد ذلك يسوقون الحافلات على الخطوط الداخلية ما بين المدن ، حتى الساعة الرابعة مساء ، حيث يجمعون العمال من جديد ويعيدونهم إلى نابلس .
أحيانا كان أبي يقل العمال في المساء إلى مصنع تغليف البرتقال في الخضيرة ، ويعود إلى نابلس ليعود ،في الثانية عشرة ليلا إلى المصنع ليعيدهم إلى بيوتهم ، وأحيانا كان يصطحبني معه ، وكنت ألاحظ مدى معاناة العمال والإرهاق الذي يبدون عليه ، ومثلهم أبي ، بينما انا أكون سعيدا بالسفر .
تسلم أبي البندقية ، في بداية حزيران ، ليقاتل اليهود ( الكلمة المستخدمة في حينه) وليعود إلى يافا محررا ، ونعود نحن معه إلى مدينته / مدينتنا ، وها هي لقمة العيش تجبره على تسلم حافلة إسرائيلية يسوقها ليعود بها صباحا إلى يافا ، أو مساء إلى الخضيرة ، ولتعيده الظروف وطبيعة العمل ، مساء ، إلى بيته في المخيم ( أفلا يدوم سوى المؤقت ،/ يا زمان البحر فينا ( م . د ) ) .
أحيانا كانت الرغبة تستبد بأبي ليرى بيته ، وكان زاره من قبل،ووجد أن هناك عائلة يهودية تقطن فيه ، وكانت العائلة استقبلته ، وشرب معها القهوة ، وتحدث بالعبرية التي كان يعرفها ولم ينسها ، وواظب أبي على المرور من شارع بيته ولطالما تحسر عليه وعلى حي النزهة الذي كان البيت يقع فيه ، ولطالما كرر على مسمعنا قصة بناء البيت الذي بناه جدي بائع الكعك من عرقه وعرق ابنائه الذين عمل أحدهم في الميناء ، وذات نهار سيمر أبي بالحي ولا يجد البيت . لقد هدمه الإسرائيليون وأقاموا على أنقاضه محطة لضخ السولار والبنزين ، ومع ذلك فقد ظل أحد أعمامي ، وهو أصغرهم سنا ، يحتفظ ب ( كوشان ) الدار على أمل العودة ذات يوم ، وربما ، من أجل الاستئثار بالبيت له ولأولاده ، فالأخوة الخمسة تناسلوا في المنفى ، وخلف ثلاثة منهم ما لا يقل عن 39 فردا ، وخلف الرابع المقيم في الشام خمسة أو أكثر . ومات عمي وربما أكلت العثة والأرضة الكوشان الذي غدا في عالم الغيب .
في بداية حزيران تسلم أبي البندقية ليقاتل ويعود إلى يافا ، وفي حزيران الذي لا ينتهي استلم عمله في ( ايغد ) ليقل العمال إلى فلسطين في الصباح ، وأحيانا في المساء ، ثم يعيدهم إلى نابلس في المساء أو في الصباح .
ولا أدري لماذا أخذنا نكرر مع أم كلثوم أغنيتها الجديدة ( أصبح عندي الآن بندقية / إلى فلسطين خذوني معكم يا أيها الثوار ) ؟( سحرتني الأغنية ومازالت ، مع أنني ، كما أسلفت ، سلمت البندقية في بداية حزيران 1967 )
غدا ثوار الأمس عمالا في المصانع والشركات الإسرائيلية ، وكان لا بد من ثوار جدد ، ومن حالمين جدد ايضا . ( ستكتب فدوى طوقان في قصيدتها ( تفاءل معي ) عن أغنية أم كلثوم هذه ، وهي تكتب عن العمال الفلسطينيين ، وستسخر من الأغنية )
(لماذا أراك صموتا حزين
ومطربة الدهر خلف " القنال "
تهدد هذا العدو الحرون
وتخرج من فمها بندقية
على سطح أغنية ثوروية
كفتنا وأهل " القنال "
شرور القتال " )
أما كيف ترك أبي العمل في شركة الحافلات ( ايغد ) فهذه قصة أخرى تستحق وحدها عنوانا خاصا .
خربشات 4 / 7 / 2016

***

31 :
( سارق الرغيف وسارق الوطن وما بينهما ) :

في 15/7/2006 ، وستحل الذكرى العاشرة بعد عشرة أيام من الآن ، توفي والدي ، رحمه الله ، وفي 15/7/2011 توفيت أمي ، وقد كتبت في رحيلهما ما أدمع العين .
كتبت في وداع أبي وكتبت في وداع أمي ( تداعيات غيابها : صفحات من سيرة حياة امي ) ومقالة أخرى حظيت باهتمام لافت ، ولو كان والدي حيا لذهبت ، الآن ، إليه أزوره وأسأله عن السبب الحقيقي الذي جعله يترك العمل في شركة ( ايغد ) ، أو السبب الذي جعل الشركة تقيله ، وسائقين آخرين ، من بينهم ، لاحقا ، عمي .
أهو اختلاف ثقافات ؟
كان أبي ، كلما اختلف مع زوج إحدى خالاتي ، أو كلما لم يرق له سلوك ما بدر منه ، يكرر : من أجله طردت من شركة ( ايغد ) ، وهو لا يحفظ الجميل . والشركة شركة وشركة على النمط الغربي ، فالغرب المتقدم ، على راي مظفر النواب ، لا يكترث لعاطفة متأخرة يذرفها الشرق البائس .
كان زوج خالتي ، والكلام على ذمة أبي ، يعمل في فلسطين 1948، وكان يذهب ، يوميا ، مع أبي الذي كان يخجل من أخذ الاجرة منه ، وذات نهار ، قامت شركة ( الباصات ) بإرسال مفتشيها لمراقبة حافلاتها والتفتيش على السائقين ، لمعرفة إن كانوا أمينين - لا أمناء فصائل طبعا فلم يكن هؤلاء برزوا وكثروا -، وكان أبي يقل معه زوج خالتي الذي يقله ابي بلا تذكرة ، وهكذا أنهت الشركة عمل أبي بحجة الاختلاس ، ولم يكن الوحيد .
في العقد الأول من ق 21 كنت ذاهبا إلى الخليل ، لمناقشة رسالة ماجستير ، وكانت الحواجز ، بين مدن الضفة ، ما زالت قائمة ، وعلى أحد الحواجز أوقفنا الجنود الإسرائيليون ليفتشونا وليسألوا عن هوياتنا ، وكان معنا ، في السيارة ، شاب خليلي يحمل غير جهاز بلفون ، ربما للبيع ، ومزح معه جندي : هل هذه مسروقة ، فأجابه الشاب : السرقة هي سرقة الأوطان ، وكان محقا ، وأظن أنني كتبت مقالة عن زيارة الخليل تلك ، عنوانها ( في الطريق إلى الخليل ) واتيت فيها على ما الحوار بينهما .
لم يخف الشاب وبدا غير مكترث ، وكانت إجابته مغايرة لكلام كان يتردد على ألسنة بعض الفلسطينيين ، ممن مدحوا الاحتلال وسلوك الإسرائيليين وتصرفاتهم ؛ في تجميل مدنهم ، وفي إعطاء العمال حقوقهم ، وفي انتظامهم ، وفي التزامهم بمواعيد انطلاق الحافلات ، وكان العمال ، من أبناء المخيمات ، وهؤلاء اسهموا إسهاما كبيرا في بناء الدولة العبرية . ولم يترددوا في مديح الإسرائيليين في أشياء عديدة منها صدقهم في المواعيد وإعطاء العمال حقوقهم وتطوير مدنهم .
الإسرائيليون يشتموننا : عرب سراقون ، وعرب لا يعرفون النظام ، وعرب فوضى ، ولا أنسى قصة ( عاموس عوز ) " الأفعى والظل " ولا أنسى قصيدة فدوى طوقان " آهات أمام شباك التصاريح " - ولي عودة إليها - ، ويتناسى الإسرائيليون أنهم سرقوا وطنا بكامله وحولوا شعبه إلى لاجئين متسولين غير مرغوب فيهم ، وحاجج سميح القاسم في قصته ( الصورة الاخيرة في الألبوم ) 1979في هذا .
هل كان أبي يقول الحقيقة أم أنه كان ، مثل أكثر السائقين ، يريد أن يطعم عشرة أفواه من أجرة لا تكفي ؟وهل كان يردد ما يردده كثيرون : لقد سرقوا وطنا كاملا ، ولم نسرق إلا اللقمة من الرغيف المسروق ؟ ( في الأدبيات الفلسطينية التي كتبت بعد نكبة 1948 توقف الأدباء أمام تحول الفلسطيني بعد فقدانه الأرض ، وهي مصدر رزقه الأساس ، إلى سارق . وتعد قصة غسان كنفاني " القميص المسروق " وقصة سميرة عزام " لأنه يحبهم " قصتين مؤثرتين في هذا الجانب ، وكان الكاتبان ضد السرقة طبعا . والذين شاهدوا مسلسل التغريبة الفلسطينية " لوليد سيف لاحظوا تسلل اللاجيء الفلسطيني إلى قريته وسرقته بقرة من مستعمرة إسرائيلية . ) ( أعتقد أيضأ أن محمود درويش في قصائده المبكرة توقف أمام سرقات الإسرائيليين بيوت الفلسطينيين وما فيها من قمح " نهبوا خوابي الزيت ، يا أمي ، وأكياس الطحين " من " عاشق من فلسطين " 1966 ، وتعد قصيدته " بطاقة هوية" - سجل أنا عربي - مثالا جيدا ومنها : سلبت كروم أجدادي وأرضا كنت أفلحها أنا وجميع أولادي ...الخ ، وكان حنا ابراهيم توقف في سيرته " شجرة المعرفة " أمام سرقة الزيتون من الفلاحين الريفيين الباقين في 1948 وما زال الإسرائيليون المستوطنون ، حتى يومنا هذا،في موسم قطف الزيتون، يسرقون بعض المحاصيل )
السارق والمسروق وما بينهما ، مثل الشاطر والمشطور وما بينهما ، والأمر يحتاج إلى مجمع لغة عربية ، حتى يخترع كلمة واحدة بدلا من العبارة - إن صحت قصة كلمه كامخ وقد نفاها المرحوم أحمد زكي - واما أنا ، بعد سنوات قليلة من الاحتلال ، فقد اشتغلت ( كونترول )في أكثر من شركة ( باص )ات ، ما بين نابلس والمخيم ، وعرفت عن سرقات السائقين ، ولهذا حكاية أخرى .
خربشات 5/7/2016

***

32 :
( يوم عملت كونترول باص ) :

ما بين الأعوام 1969 و 1972 عملت، في الإجازة المدرسية ، وأحيانا في عطلة منتصف العام ، أو في الإضرابات ، حيث لم ينتظم الدوام ، في مدرستي ، فترة من الوقت ،عملت معاون سائق - أي كونترول - أحصل الأجرة من الركاب .
ولما كنت أمينا ، فقد كان السائق عبد الله العاصي - رحمه الله - ينتظر الإجازة ، حتى إذا ما كان هناك قلة في ال( كونترولية )الذين آثروا العمل في فلسطين ، ناداني و أغراني بالأجرة : نصف ملحفة ، أي نصف دينار ، وغالبا ما كنت أعمل معه أو في شركات أخرى ، مثل الوليد أو الزعبي .
كان من السائقين الذين عملت معهم أبو خليل ( أبو المجانين ) ، - رحمه الله - ،وكان الرجل يقيم في المدينة ، ولم يرزق وزوجته بالأطفال ، وهو عصبي المزاج ، وفوق هذا بطيء في سياقته عدا انه أمين لا يسرق . ولما كان هناك ( باص )ثان لشركة الزعبي ، من نوع ( هنشل ) ، وهوباص صغير ، يحاسب أكثر من ال ( مرسيدس ) الباص الكبير ، فسأدهش ، وسأعرف السر لاحقا .
كان سائق ال ( مرسيدس ) ومعاونه يفطران على حساب الشركة ، دون إخبارها ، بل وكان المعاون يشتري للسائق أكثر من علبة دخان ، ولم يكن ينسى نفسه من دخل إضافي
كان ال ( كونترول ) فنانا في قطع التذاكر ولمها من جديد ، ولما تعطل ال( هنشل ) وتزوج ال( كونترول )الثاني ، فقد وجدتني أعمل مع سائق ال( مرسيدس ) الذي لم يعتد على ( اهبل ) مثلي لا يسرق ، وهكذا حرم من الدخان والإفطار المميز ؛ حمص بلحمة مع مشروبات ، ما جعله مرة يغضب ويلعن الشغل الذي لا يطيع فيه ال( كونترول ) معلمه ، وحجته أنه طلب مني ألا آخذ الأجرة من صديق له ، ولم ألتفت إلى طلبه ، وأدركت الأمر ، وواصلت طريقي .
اطرف ما حدث ، في تلك الأيام ، مع ( أبو خليل ) أن أحد الركاب اشتعلت في ملابسه النار ، واستنشق الركاب رائحة حريق ، فأخذوا يتساءلون عن مصدرها ، وطلبوا من ( أبو خليل ) التوقف ، وأخذ يصيح قائلا : كل الحق على ( كونترولي ) . ولما عرفنا مصدر الحريق قلت له : يا أبا خليل : إذا كان الرجل لا يشعر في النار ، وهي مشتعلة في ملابسه ، فكيف يمكن أن أعرف أنا ؟ وضحك أبو خليل .
في الحافلة مع عبدالله العاصي كنت أوقف الركاب الزائدين عن المقاعد بطريقة غاية في التنظيم ، كما لو أنهم قطع بسكويت في علبة ، وأظن أن المرحوم عبد الله العاصي كان يعد الركاب ، ولهذا تيقن من أمانتي .
مرة عملت مع سائق على قدر من الوسامة والجمال ، وأعجبت به طالبة مدرسة ثانوية على قدر من الجمال ، ولاحظ أنني انتبهت للأمر ، فسر بهذا ، لأنه غدا معشوقا وهناك شاهد .
الأمر بين السائق والطالبة لم يتعد حدود الإعجاب ، وكنت معجبا ايضا بطالبة معجبة بي ، وانتهى الأمر على هذا ، ومع ذلك فقد مر ، على قصة الحب المفترضة ، عشرون عاما وأكثر وظل السائق ، كلما التقيت به ، يتذكر شبابه وتلك الأيام والطالبة المدرسية ، وحين أنضح بما فيه الكفاية - إن نضجت - أدرك كم نحن بؤساء ، وكم من فتاة تدفع ثمنا باهظا لعلاقة عابرة يظل الذكر فيها الأقوى ، يفتخر بها ويضخمها ويفتل شواربه وهو يتكلم عنها .
وانا أعمل ( كونترول )مع أبي خليل مرض عدة أيام ، ما جعل الشركة تستدعي سائقا آخر يمت لي بقرابة ، أراد أن يفطر ويتغدى على حساب الشركة ، دون إعلامها ، و أراد أن يبيع التذكرة مرتين ، وطلب مني أن أجمع التذاكر المبيعة التي تبدو بحالة جيدة ، ولما رفضت فعل هذا ، طلب مني أن أغيب ساعة من الزمن لكي يقوم هو نفسه بالمهمة .
لماذا لم أكن لصا ، مثل ( كونترولية ) كثر ؟ هل كنت مثاليا أكثر من اللازم ؟
في الإجازات الصيفية آثرت العمل معاون سائق على العمل في فلسطين ، ولا يعني هذا أنني لم أعمل في المصانع الإسرائيلية .
عملت في المصانع الإسرائيلية ، لفترات محدودة جدا ، فمرة عملت في مصنع مخلل ، أنا وأصدقاء ، مع رجل من مخيم عسكر . ذهبنا إلى كفار سابا ، ولم يرق لي العمل ، وأكملت نهاري ، ولم أعد في اليوم التالي ، واستغربت من أصدقاء لي عملوا في مصنع مخلل آخر سنوات طويلة دون أن يملوا ، وكانوا يبيتون هناك . ومرة عملت في منجرة تعد صناديق للتلفزيونات ، وسرعان ما تخلص منا صاحبها ، فقد كان عددنا أكثر من اللازم ، والمرة الوحيدة التي عملت فيها لمدة أربعين يوما كانت في صيف العام 1973 ، حيث عملت في منجرة في منطقة قرب تل أبيب عمل فيها لسنوات طويلة عمال من مخيم عسكر .
في ذلك الصيف عملت مع رجل يهودي مسن ينشر ألواح خشب ، وكنت أساعده بأن أمسك لوح الخشب من نهايته وهو ينشر ، وعندما قررت إنهاء عملي سألني صاحب المنجرة ، وكان يهوديا غربيا ، ويبدو أنه متعلم ، عن السبب ، فأخبرته أنني أدرس في الجامعة الأردنية وسأغادر لاكمال تعليمي . أعطاني الرجل شيكا بالمبلغ الذي أستحق ، وتمنى لي النجاح .
وفيما رأيت فإن العمل في المصانع الإسرائيلية ليس بالأمر السهل والمريح ، ولكنها لقمة العيش والدراهم التي تحل المشاكل وتفك دكة القاضي .
خربشات
6/7/2016

***

33 :
( في حزيران اسلم البندقية ، وفي حزيران يسحرني صوت أم كلثوم : أصبح عندي الآن بندقية )

في حزيران ، كما كتبت من قبل ، حملت بندقية أبي ، وحمل ابن خالتي بندقية أخيه ، وسرنا ، وفي أعلى كل بندقية شارة بيضاء ، دلالة على الاستسلام ورغبة في التسليم وعدم المقاومة ، وذهبنا ،معا ، إلى مبنى البلدية الجديد ، ووضعنا البندقيتين فوق البنادق التي سلمت ، للتو ، وعدنا سالمين فرحين بالسلامة ، وبتأدية المهمة التي خاف من تأديتهاالكبار ، وأيضا بأننا أصبحنا موضع أسئلة هؤلاء : هل نظر اليهود في كشوف ما ؟هل سألاكما عن الأسماء ولمن تعود البندقية ؟ هل هناك جيش على دوار المدينة ؟
وفي حزيران الطويل وجدتني أصغي إلى صوت أم كلثوم ، أيضا من إذاعة صوت العرب واذاعات الجمهورية العربية المتحدة : ( أصبح عندي ، الآن ، بندقية ) .
كانت الكلمات تتحدث عن رغبة كاتبها في الذهاب ، إلى فلسطين ، مع الثوار ، ليقاتل ، فهو ، أي نزار ومن يتحدث باسمهم ، منذ عشرين عاما يبحث عن البندقية ، ولم يعرف أن البنادق سلمت يوم سلم الوطن .( سلموها مفروشة ) قال بعض الناس ساخرين .
ولم أكن ، وأنا أكرر كلمات الأغنية ، ألتفت إلى أنني ، قبل أشهر ، قمت بتسليم البندقية ، في فلسطين التي أقيم فيها . كيف أكرر كلمات أغنية تدعو إلى الذهاب إلى فلسطين ، وأنا فيها ؟ وكيف اتغنى ببندقية لا املكها ، بندقية قمت ، قبل فترة ، بتسليمها ؟ ربما هو عدم الوعي ، وربما هو سحر الإيقاع ،وربما هو التأييد غير المعلن ، والخفي ، لرجال المقاومة ، أي الفدائيين ، الذين نطق نزار باسمهم ، وربما ... ربما .
في تلك الأيام انضم كثيرون إلى رجال المقاومة ، ومن الشباب من تسلل إلى الاردن ، عبر النهر ، لينضم إلى الفدائيين الذين بدؤوا يتسللون ، أيضا عبر النهر ، ليقوموا بعمليات مقاومة الاحتلال ، وهذا ما انعكس في أدبيات تلك المرحلة ، الأدبيات التي لم يعد أحد يذكرها إلا مؤلفها - وربما تجاهلها - وباحث ما يكتب رسالة ماجستيرعن ذلك الأديب ، ومشرف على الطالب كان قرأ القصص في أثناء صدورها ، أو بعد صدورها بفترة ، ومنها مثلا مجموعة يحيى يخلف " المهرة "، ولكن المثال الأبرز والأسطع والذي مازال حاضرا هو رواية اميل حبيبي ( الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل )( 1974 ) ففيها يأتي حبيبي على سعيد ابن يعاد الذي تسلل ليقاوم ، فأسر في العملية القتالية ، وهو من مواليد المنفى ، وفيها يكتب اميل عن ولاء ابن سعيد المتشائل الباقي في فلسطين ، بعد أن عاد إليها في 1948تسللا ، وابن باقية التي لم تهاجر في عام النكبة ، فقد آثر ولاء أن يتمرد على الدولة الإسرائيلية ، وأن يلتحق بالمقاومة ..
في تلك الأيام أخذ أخي الكبير درويش يتحدث عن صديقه في العمل ، حسين ابو حاشية ، الذي ذهب إلى الأردن والتحق بالفدائيين . وسيقوم حسين بالتسلل ، عبر النهر ، ليقوم مع فدائيين آخرين ، من حركة فتح ، بعملية يؤسر فيها ، ويمكث في السجن سنوات طويلة ، وسيخرج بعملية تبادل أسرى ، وسيغدو ، زمن السلطة ، مسؤولا عن دائرة السير في نابلس ، وغالبا ما أراه ونتحدث معا ، وأسأله عن أحواله، و..
في حزيران سلمت بندقية أبي ، وكانت من النوع الانجليزي الذي يعود إلى فترة الحرب العالمية الاولى ، البندقية - الخشبة ، كما أخذ الناس يسمونها ساخرين ، فماذا ستفعل هذه أمام الدبابة والطائرة والسلاح الإسرائيلي المطور الذي أهدي في العام 1966 ، كما ابرزت الصور لاحقا ، إلى أحد الملوك العرب . ولم يعد إلى هذه البندقية مجدها إلا عملية عيون الحرامية في انتفاضة الأقصى 28/9/2000-2007 ، حيث تمكن فلسطيني واحد ، بالبندقية - الخشبة ، من قتل أكثر من عشرة جنود إسرائيليين .
في حزيران سلمت البندقية ، وفيه أخذت أكرر مع أم كلثوم ( أصبح عندي الآن بندقية ) ولم أفهم قصيدة فدوى طوقان ( تفاءل معي ) وسخريتها فيها من الأغنية والمعنية ، إلا في وقت لاحق . لقد كنت ، مثل كثيرين ، أكرر كلاما كبيرا ، متأثرا ، ربما ، بالإعلام العربي ، وباحمد سعيد و ..و ..
خربشات 7/7/2016

***

34 :
( ورأيت من منع الرقيق وبيعه

نادى على الأحرار :يا من يشتري )
أخذ الفلسطينيون أكثرهم ، في تلك السنوات التي تلت الهزيمة /النكسة ، أخذوا يعملون لدى الإسرائيليين زرافات ووحدانا ، ولم يعد الإسرائيليون بحاجة إلى سماسرة عمل ، كما كان الحال عليه إثر الأيام الأولى بعد انتصارهم وهزيمتنا ، فالليرات الإسرائيلية ، مقارنة مع القروش الأردنية التي يدفعها أصحاب المصانع والمحلات الوطنية ، كان لها مفعول سحري و ( اللي بوخذ امي هو عمي ) ، وصار اليهود أعمامنا ، لا أبناء أعمامنا ، وصاروا أزواج أمهاتنا ، ولم يقتصر الأمر على عرض قوة عضلاتنا عليهم ، في مدنهم وورشاتهم ومصانعهم وعماراتهم .
لقد أخذ الإسرائيليون يتسللون إلى مدننا وبيوتنا ومصانعنا ، فلقد افتتحت في نابلس محلات خياطة ، كما لم تفتتح من قبل ، وصارت بعض البيوت تعج بماكينات الخياطة ، والعاملات والعمال في هذا المجال ، وغدا أصحاب هذه الماكينات يذهبون إلى أرباب العمل الإسرائيلي مرة في الأسبوع ، أو مرة كل أسبوعين ، يأخذون معهم ، في شاحنات صغيرة ،من نوع ( فولكس فاجن ) ( كابينا ) ما انجزوا ، ويعودون بال( شيكات ) التي يصرفونها من فرع بنك ( ليئومي ) في نابلس . وتبحبحت أحوال فقراء كثر ، صورتهم سحر خليفة في روايتها ( عباد الشمس ) 1979 / 1980.
أصبحت مهنة الخياطة الأكثر ازدهارا، وأعرف خالا لي أثرى ، لفترة، من ورائها، وساءت أحواله لاحقا ، حين ساءت أحوال الخياطة، في فترة لاحقة.
الخياطون القدامى الذين اثروا ألا يتعاملوا مع الإسرائيليين ، وظلوا على سابق عهدهم ، تردت أحوالهم، بخاصة حين أخذت الملابس الإسرائيلية تغزو محلات الضفة ، وحل اللباس الجاهز محل الملابس المفصلة تفصيلا عند الخياط . وعرفنا يومها بلاطين شركة ( باجير )الإسرائيلية وبدلاتها ، وفضلناها ، كما فضل سبحانه ، بني اسرائيل على العالمين . وغدا الشخص الذي يرتدي بنطالا من بنطالات تلك الشركة يشعر بالفخر ، كما لو أنه يقول ( كل افرنجي ابرنجي ) ، وأما الخياطون العرب وملابسهم فهي ( بزونك ) . وهذه كلمة شاعت شيوعا كبيرا في تلك السنوات ، علما بأن أصلها ، كما عرفت، تركي، لا عبري.
لقد غدونا نسأل عن البضاعة الإسرائيلية في مواعيد محددة من السنة ، واختصت بها محلات دون غيرها ، وكان سعر الملابس مرتفعا ، ومع ذلك كنا نشتريها ، ولم يخف الإقبال عليها إلا بعد أن أصبح الاستيراد من تركيا والصين ممكنا ، وتحديدا بعد مجيء السلطة واتفاقات ( اوسلو ) .
وحيثما يممت وجهك ، في تلك السنوات ، كنت تجد مخيطة أو اثنتين أو ثلاثا ، عدا ما افتتح في البيوت.
فرص العمل غدت وفيرة ، والشباب يقبلون عليه ، والليرات مغرية ، وأصبح الذين يترددون على النوادي والمقاهي قليلي عدد ، باستثناء أيام السبت .
في تلك الأيام غدوت رياضيا . نعم غدوت رياضيا من قلة الرياضيين ، وما كنت يوما .
كانت وكالة غوث اللاجئين تنسق مع جمعية الشبان المسيحيين ( واي ام سي ايه ) لإقامة نواد رياضية صيفية في حقل الرعاة في بيت ساحور ، وكانت مدة الدورة عشرة أيام فقط ، يذهب شابان ثلاثة من المخيم ، ممن هم في سن السادسة عشرة أو الثامنة عشرة إلى بيت ساحور لعشرة أيام . ولما كان الشباب عمالا في المصانع الإسرائيلية ، أو خياطين في محلات الخياطة في نابلس أو المخيم ، فلم يتمكن نادي المخيم من تأمين ثلاثة شباب للذهاب إلى بيت ساحور ، وبينا أنا في الشارع ، وكنت بلا عمل ، وإذا بمدير المخيم المرحوم عدنان عبدالله يناديني ويعرض علي المشاركة في الدورة ، ولم اعص له أمرا ، وساشارك مرتين في تلك الأيام ، في صيفين متتاليين ، رغبة في الإقامة في بيت ساحور وزيارة بيت جالا وبيت لحم ، والسباحة في بركة ال ( واي ام سي ايه ) النظيفة البراقة -ولو كنت سمعت بال( سي اي ايه ) لربما ما ذهبت .
لقد غدوت رياضيا ، دون أن أكون ، ولكني أحاول .
في أثناء الدورة كنا نذهب إلى القدس لنتدرب على السباحة ، ثم كنا نصيع في شوارع المدينة التي كانت تكتظ باليهود ، ولم نكن نخشاهم ، فقد اعتدنا عليهم واعتادوا علينا ، وأما بنعمتهم فحدث ( شكديم توف . ارتيكا توف .كله بليرة يا خواجة ) . وكنا نتنقل ما بين القدس وبيت لحم بسهولة ، فلم يكن ( كولمبوس ) اكتشف طريق وادي النار ، ليقرر الاحتلال ، في أثناء الانتفاضة الأولى 1987/1993 حرماننا من دخول القدس ، ومن إلغاء طريق القدس بيت لحم،ليجعلها مقتصرة على الذين فضلهم رب العباد على العالمين .
اتذكرني في شوارع المخيم أسير وحيدا ، والشباب في مصانع المخلل الإسرائيلية أو وراء ماكينات الخياطة ، ولا بد من ثلاثة شباب ليشاركوا في الدورات الرياضية ، وكان المرحوم عدنان العبدالله يبحث عن حر ، ينادي عليه : يا ريمون زبانة - وكان المسؤول عن ال( واي ام سي ايه ) لا عن ( السي اي ايه ) : ها قد وجدناه . هل تشتري ؟ وكان ريمون يرحب بالأحرار .
كنت أذهب إلى البيت وأجهز قطعتي ملابس داخلية وقميصا وبنطالا ، ولم أكن املك اكثر من هذ - كنت في هذا مثل أنور السادات وحسني مبارك وصدام حسين ، قبل أن يصبح هؤلاء رؤساء ، بل ومثل محمد دحلان قبل أن يثرى كلانا ، هو من الثورة وأنا من الوظيفة - أعد ملابسي واهييء نفسي للسفر ، لأغدو لاعبا رياضيا . وسرعان ما أجد نفسي في بيت ساحور .
خربشات 7/7/2016

***

35 :
( اللهم ادمها نعمة واحفظها من الزوال ، اللهم أدم الاحتلال )

في العام 1964 أنشأت وكالة غوث اللاجئين ، إلى جانب المخيم الذي نشأت فيه ، وهو مخيم عسكر ، مخيما جديدا أطلق عليه اسم مخيم عسكر الجديد .
صار مخيمنا المخيم القديم ، أو مخيم عسكر القديم ، وصرنا ، مثل الزوجة القديمة ، تماما كما صار المخيم الجديد ، مثل الزوجة الجديدة ، وقد اقيمت بالقرب من المخيم الجديد بنايتان جديدتان افتتحتا مقهيين ، وصار بعض أهل المخيم القديم يحجون إليهما ليل نهار . تماما كما صار المخيم الجديد مكانا للتنزه ، لبعض أبناء المخيم القديم ، وتوطدت الصلة بين المخيمين ، فمن كان له قريب هناك أخذ يزوره ، ومن كان له ابن على وشك الزواج بحث له عن عروس من هناك . ولما درس أبناء المخيم الجديد في مدارس الوكالة التابعة للمخيم القديم ، فقد نشأت علاقات حب بين المراهقين من المخيمين ، وصار المخيم الجديد قبلة العاشقين .
كان لأمي هناك خال كنا نعرفه ، ونزوره باستمرار ، حين كان يقيم في البلدة القديمة ، في حوش آل يعيش ، وكان خالها هذا رجلا طيبا ولديه من الأبناء والبنات الكثير . ولما كان بيته في البلدة القديمة صغيرا ، حيث كان يتكون من غرفة واحدة ، فيها المطبخ ، فقد وجد نفسه يقيم في المخيم الجديد ، تاركا غرفته في الحوش ، الغرفة التي هي الآن مهجورة ، تماما كما أن البيوت الأخرى هناك ، كلها مهجورة ، ومنها بيت خالتي أم عارف .
أما كيف حصل خال أمي ، وهو من نابلس ، على غرفة ومساحة حولها في المخيم الجديد ، فلهذا قصة تعود إلى العام 1948 وما قبله .
كانت يافا وحيفا مدينتين مزدهرتين ، وكان أهل نابلس،مثل أهالي مدن أخرى كثيرة من بلاد الشام ، يعملون فيهما ، وحيفا بدأت تزدهر منذ انشيء فيها الميناء وشركة تكرير البترول( الريفانري ) ، ولذلك عدت محط أنظار الباحثين عن عمل من مدن بلاد الشام .
بحث كثير من أهل نابلس عن عمل في يافا وحيفا ، ومنهم والد أمي الحاج حامد الصدر الذي كان منجدا ، واستقر في يافا ، ولما وقعت النكبة أقله أبي ، مع عائلته ، إلى نابلس مدينته الأولى ، وكان أن أصيب ووالدي ، وهما يغادران يافا لاجئين . واستقر ، مثل أهل أبي ،في المخيم القديم ، وحصل على بطاقة مؤن ، تماما كما حصل عليها نابلسيون أخرون كانوا يعملون في يافا وحيفا وعادوا ، في غمرة النكبة ، إلى مدينتهم . لقد سجل هؤلاء أنفسهم على أنهم لاجئون ، حتى يحصلوا على مساعدات وكالة الغوث الشهرية ، وصاروا لاجئين في مدينتهم ، وإن ترفع بعض من سكن منهم في المدينة على اللاجئين ، وبعضهم أجبرته الظروف على الإقامة في المخيم .
أقام خال أمي في المخيم الجديد ، وكثرت الزيارات العائلية بين عائلتي وعائلته وتوطدت .
بعد الاحتلال أخذ خال أمي يعمل في الداخل ، أي في المناطق المحتلة في العام1948، أي في اسرائيل ، وهذه هي الكلمة هي التي شاعت على ألسنة العمال أكثرهم ، إن لم يكن كلهم ( العمل في اسرائيل ) و أصبح العمال الذين يعملون هناك ( عمال اسرائيل ) وشاعت كلمات ( سوليل بونيه )كثيرا ، وهي شركة بناء إسرائيلية ضخمة .
مرة سمعت خال أمي يمدح العمل هناك ، بل وأخذ يتمنى أن تضم اسرائيل العمال إلى ( الهستدروت ) ، ذلك أنها ستعطي العمال حقوقهم وستدافع عنهم . ويبدو أنه كان قبل العام 1948 يعمل في حيفا ، وكان يعرف عن نقابة العمال اليهودية تلك . ولما كان العمل ، في تلك الأيام التالية لحزيران يتم من خلال مكتب العمل الاسرائيلي في نابلس ، فقد كان للعمال بعض حقوق ، وشاعت يومها الكلمة العبرية (الليشكة) ، و أظنها تعني العمل عن طريق رسمي مؤمن.
لماذا تمنى اللاجيء الفلسطيني / النابلسي الأصل ، واللاجيء للضرورة ، أن تضم اسرائيل العمال الفلسطينيين إلى ( الهستدروت)؟
كان الرجل مكوجيا ، وكانت أوضاعه المادية ، مثل أوضاع أكثر العمال واللاجئين في حينه ، لا تسر ، فقد كان العمال مهضومي الحقوق ، ولهذا نشد حياة أفضل حتى لو غدا يعامل معاملة المواطنين اليهود ، وحتى لو دام الاحتلال ، شأنه في هذا شأن مئات ، بل آلاف العمال .
ما خطر ببالي ، وأنا أكتب ، هو أنه لم يرسخ في ذهني سؤال الناس وسخريتهم ، من استحالة العودة ، يوم بني المخيم الجديد ، وأن بناء هذا المخيم دليل على استحالتها . وتبعه سؤال آخر : لماذا تطوع أبي إلى فرقة المقاومة وحمل البندقية ؟ ألم يفكر في أمر بناء المخيم ودلالات هذا ؟
اللهم أدم الاحتلال واحفظه من الزوال ، كانت هذه أمنيات بعض العمال ، ولم يقلل منها إلا حرب 1973، حيث تضعضع الوضع الاقتصادي لدولة اسرائيل ، وارتفعت أسعار النفط ، وأخذ الناس يحجون إلى دول الخليج ، زرافات ووحدانا ، فلقد حل الريال والدينار الكويتي والعملة الخليجية الأخرى محل الليرة الاسرائيلية ، وبدأت موجة الرحيل عن مدن الضفة ، وبدأ الراحلون يبعثون ، من هناك،من دول الخليج ، رسائل للمقيمين يحثونهم فيها على اللحاق بهم ، وهذا ما أوحى للشاعر عبد اللطيف عقل كتابة قصيدته السابق ذكرها ( رسالة الى صديق قديم ) ، ونشط الكتاب يكتبون قصصا وقصائد يهاجمون فيها الراحلين ، ولكن هيهات فلقمة العيش لا تترك للكلام سلطانا ، ( في العام 1982 أعددت رسالة ماجستير عن القصة القصيرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة من1967 حتى 1982 واتيت على القصاصين وفكرة الصمود والهجرة وتوقفت أمام قصص أكرم هنية اللافتة في هذا الجانب ).
بدأ الناس يتسعودون ويتكويتون ويتخلجنون ، بعد أن تاسرل قسم منهم ، ولن يقتصر الأمر على الموظفين والعمال ، وسيسير على خطى هؤلاء المفكر العربي ، ابن الناصرة ، عزمي بشارة ، ومن قبله هاجر ابن البروة محمود درويش ، وابن مصمص راشد حسين ، وآخرون .
و أما بنعمة الاحتلال فحدث ، وأما بنعمة النفط فحدث ولا حرج هنا .
خربشات 8/7/2016

***

36 :
( فتح مرت من هنا ) :

بدأت أغاني الثورة تلفت انتباهنا ، وبدأنا ننمو على صوت الثورة ، وصوت الرصاص معا ، بالإضافة إلى صوت أم كلثوم ( أصبح عندي الآن بندقية ) ، وبدأنا نتابع أخبار العمليات التي تقوم بها حركة المقاومة الفلسطينية . لقد تركت تلك الأغاني أثرها فينا ، لدرجة أنها كانت عاملا من عوامل رفض ( أوسلو ) ، ولقد اسنحضرناها يوم وقع الإتفاق ، وأخذنا نحور فيها ساخرين .
في بدايات الاحتلال كنا نسمع عن حركة فتح أكثر مما كنا نعرف عن فصائل أخرى ، وربما كان لخطف الطائرات الذي باشرت به الجبهة الشعبية دور في تعريفنا بها ، وبقائدها الدكتور جورج حبش.
في المخيم صحونا غير مرة على أخبار تقول إن الاسرائيليين سيقومون هذا النهار بنسف بيت فلان . والسبب أنه ألقي القبض عليه بحجة الانتماء إلى حركة فتح وحيازة السلاح .
كان الإسرائيليون يأتون بعرباتهم ودورياتهم ويحاصرون المنزل ، ثم يقومون بتفجيره ، وما هي إلا لحظات حتى يغدو اثرا بعد عين . ولا يبقى منه إلا ركام من الحجارة،وغالبا ما لم يكن الإسرائيليون يسمحون بإعادة بنائه ، وهكذا يظل البيت المنسوف قائما عبرة لمن يريد مقاومة الاحتلال .
نسفت في مخيمي عسكر القديم والجديد بيوت عديدة ، لأشخاص كنا نعرفهم وآخرين لم نكن ، نحن الصغار ، نعرفهم ، وفيما بعد سنتعرف إليهم ، بخاصة بعد أن خرجوا من السجن الذي انفقوا فيه سنوات.
من البيوت التي نسفت بيت جاسر الشريف من مخيم عسكر القديم ، وكان جاسر يكبرني بعام ، ولم يكن أحد يتوقع أنه منتم لحركة فتح ، وبيت عبد الكريم النقيب الذي قضى سنوات في السجن ، ثم أبعد إلى عمان ربما بسبب اتفاقية تبادل أسرى ، وهناك سالتقي به مرارا في مكتبة الجامعة الأردنية ، حيث سيعمل في دار الجليل للنشر .
اما من البيوت التي نسفت في عسكر الجديد ، فبيت زهير الدبعي ( أبو إسلام ) وبيت الأستاذ عطا قوزح ، وكان للأخير اخ وجهت إليه تهمة الانتماء إلى تنظيم فلسطيني ، ولطالما مررت بالقرب من بيت قوزح الذي كان بناؤه لافتا . ظل ركام البيت سنوات ، وكلما زرت بيت خال أمي امعنت النظر في حجارته . هل كان يقول لي : هذا هو الاحتلال ؟( كان شابا أنيقا يعتني بملابسه وحذائه ، ويصفف شعره الناعم الذي يرده إلى الخلف ، ولم يكن أحد يتصور أنه يمكن أن ينتمي إلى حركة المقاومة )
أكثر الذين نسفت بيوتهم ، أو أغلقتها ، كانوا من حركة فتح ومن حركة العاصفة ( أبو جواد أبو كشك وابراهيم أبو سالم ) ، فلم يعرف المخيم انتماء أبنائه إلى تنظيمات أخرى إلا بعد العام 1974تقريبا ، حيث سافر أحد أبنائه إلى بيروت ، وهناك انتمى إلى الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين ، ولما عاد أخذ ينظم أصدقاءه إلى فصيله ، وبدأ الناس يعرفون عن الجبهة الديموقراطية ، وما جعل الأمر معروفا أن هؤلاء أخذوا يتدربون على السلاح ، أو هذا ما أشيع ، في المزرعة القريبة من المخيم ، فاكتشف أمرهم ، واعتقل أكثرهم ، وهكذا صار في المخيم تنظيمان ، يورث كل واحد منهما فصيله لاقاربه ، حتى لتجد أحيانا عائلة بأكملها تنتمي إلى فصيل واحد . وأما حركة حماس فلم تكن وجدت بعد ، وإن كان هناك أشخاص كانت لديهم ميول دينية ، أخذوا يلتفتون ، لاحقا ، إلى النادي ، بخاصة حين لاحظوا اهتمام فتح واليسار به .
( فتح مرت من هنا ) هذا ما قالته لنا سياسة نسف البيوت ، وفتحت أعيننا على التنظيمات الفلسطينية التي كنا ننتمي إليها بالفطرة ، وبواسطة أغاني الثورة ، دون أن نكون عناصر او رفاقا فيها . والآن أدرك معنى ما كان ابو عمار يقوله" كل فلسطيني هو فتحاوي بالضرورة " ، فلقد كنا فلسطينيين بجوارحنا كلها ، حتى أننا في غمرة أحداث أيلول 1970 كنا مع الثورة قلبا وقالبا ، وغالبا ما كنا نتظاهر ، مؤيدين حركة المقاومة التي كنا نتابع أخبارها أولا بأول ، وكنا نحفظ أغانيها عن ظهر قلب . ولم نكن نتظاهر ضد النظام الأردني وحسب ، بل أخذنا نتظاهر ضد الاحتلال . لقد كان أحد اصدقائي ، وهو محمد جربي ، يذهب من المخيم إلى البلدة القديمة في نابلس ليشارك في المظاهرات ، وأحيانا كنا نذهب معا ، حتى إذا ما فرض منع التجول ولم نتمكن من العودة ، نذهب إلى بيت خالتي ، أو هذا ما كنت أفكر فيه شخصيا . كان محمد مهتما بالسياسة ، وقد كان يشتري جريدة الشعب يوميا ، وكانت في بداياتها صوتا للمعارضة ، وكنت أقرأ الجريدة منه . كان محمد الوحيد من إخوته الذين ظلوا ، بعد الهزيمة ، في الضفة ، وكان ابوه موظفا في وكالة غوث اللاجئين وميسور الحال .
( دبوا النار بهالخيام ، وارموا كروتة التموين ، لا صلح ولا استسلام ، إلا بتحريرك فلسطين ) ، ومع حبنا لجمال عبد الناصر ، إلا أننا ، يوم قبل معاهدة روجرز ، وقفنا إلى جانب حركة المقاومة التي أيدناها من باب انصر المقاومة لأغير.
خربشات 8/7/2016

***

37 :
( وغزة لا تبيع البرتقال ، لأنه دمها المعلب )

زارتنا عمتي رئيسة ، بعد حزيران ، ولم نرد لها الزيارة إلا عندما تزوجت ابنة عمي رجلا من غزة .
كانت ابنة عمي ، وهي فتاة ذات شخصية ولها قرارها ، تعرفت على شاب من غزة ، وقررا الارتباط معا ، ووافق عمي ، بعد أن أخبرته عمتي وجدتي أن الشاب محترم ومن عائلة محترمة ، ولما أقيم العرس ، في بيته ، وجدنا أنفسنا في غزة لنشارك في الاحتفال .
كانت غزة ، إثر الهزيمة قد بدأت تقاوم مقاومة لافتة ، وهذا ما كتب عنه الشاعر معين بسيسو في كتابه " يوميات غزة " وفي مسرحيته " شمشون ودليلة " ، على الرغم من أنه لم يكن مقيما في المدينة . وما كتبه معين لم يكتبه ، في حينه ، أي مواطن من غزة ، ذلك أنه لم تكن فيها حركة أديبة أو صحافة ، وظل الأمر على هذا ، حتى النصف الثاني من 70 ق 20 ، حيث بدأ بعض الشباب يخربشون قصصا وقصائد تعد نواة لحركة أدبية .
أقلنا خطيب ابنة عمي في ( باص )ه الصغير الذي يتسع لثمانية تسعة ركاب ، وسرنا ،مساء ، عبر الخليل وبئر السبع ، حتى لا تحرر له مخالفة ، إن أوقفته الشرطة الإسرائيلية ، وكنا فرحين بالزيارة ، على الرغم مما كنا نسمعه عن أوضاع المدينة هناك .
كانت المقاومة مشتعلة ، وشاعت يومها مقولة أن غزة، نهارا، تحت سيطرة الاحتلال، وأنها تحت سيطرة المقاومة ليلا ، ووصلنا إلى المدينة ليلا ، كأننا لا نريد أن ندخلها محتلة. وأخذ خطيب ابنة عمي يشير إلى رجال المقاومة .
لقد كانوا يسيرون في الليل وبأيديهم سلاحهم غير مبالين ، فلم تكن قوات الاحتلال الإسرائيلي تتحرك ليلا بسهولة ، خوفا من الكمائن التي كانت تعد لها .
كانت غزة مختلفة عن مدن الضفة ، وقد أرجع الأمر الى الفارق بين طبيعة النظامين ؛ الملكي الأردني، والجمهوري الناصري ، ففي حين سلم النظام الأردني ، قبل الحرب بقليل،بعض المتطوعين ، بنادق قديمة ، كان النظام الناصري درب مجموعات من شباب غزة واعطاهم أسلحة أحدث من البنادق العتيقة.
وصلنا، ليلا، إلى بيت الشاب وبدأنا نحتفل بالعرس الذي سيقام بعد يوم أو يومين.
في غزة زرت المخيم الذي كانت تقيم فيه عمتي،وسرت على رمال البحر، فقد كان بيتها قريبا من الشاطيء ، وعرفت شارع عمر المختار، وكان بيت خطيب ابنة عمي قريبا منه ، ولاحظت حيا راقيا ، في بيوته تكثر أشجار الحمضيات ، وكانت الحديقة لافتة .
في ليلة من الليالي القليلة التي أنفقتها هناك ذهبت إلى النوم مبكرا ، ثم سمعت جلبة وضجة ، فهبطت من الغرفة التي كنت فيها ، لأعرف الخبر . لقد جاء رجال المقاومة ليلا ليسألوا عن صديق لخطيب ابنة عمي ، وكان السلاح معهم ، وأقسموا بشرف الثورة أنهم لن يمسوه بأذى .
كان الرجل من رجال المقاومة ، ويبدو أنهم شكوا في أمر تعاونه مع الاحتلال ، وجاؤوا ليحققوا معه ، ولكنهم لم يلقوا القبض عليه ، فقد فر هاربا ، وغادر إلى الضفة ، واستقر في مدينة طولكرم ، ويبدو أن حذرهم منه كان في مكانه .
في تلك الأيام غدت مدينتا طولكرم وقلقيلية مدينتين منشودتين لغزاويين كثر ، تركوا مدينتهم وجاؤوا ليقيموا فيهما ، وغدا أكثر هؤلاء عمالا في فلسطين ، وقسم منهم أخذ يأتي إلى نابلس ليقيم فيها.
كانت تلك الزيارة زيارة لا تنسى ، وستظل المقاومة ، في غزة ، مشتعلة حتى قام شارون بتنفيذ خطته القائمة على هدم البيوت وتوسيع المساحات بين بيوت المخيمات ، وحين نجح في خطته ، وضعفت المقاومة بدأ الغزيون يعملون في فلسطين ، وحدث ما حدث في الضفة قبل أربع سنوات ، وانقسم المناضلون فيما بينهم : أيجوز العمل في مصانع الاحتلال أم لا يجوز ؟وشغلت هذه الفكرة ذهن القاص غريب عسقلاني ، فكتب حولها بعض قصص ، وأبرزها قصة " الجوع " التي ظهرت في مجموعته " الخروج عن الصمت " 1979 .
سأزور غزة ثانية في 70 ق 20 لأشارك في نشاط أدبي ، مع كتابها الجدد ، وكانوا من أبناء جيلي تقريبا ، وسأبيت في بيت الكاتب المرحوم محمد أيوب في خان يونس بصحبة الكاتب المرحوم محمد كمال جبر، ( سأعرف أن محمد أيوب من يافا ، وأنه من مواليدها ، وأن له أبناء عم في مخيم عسكر القديم ) وستتوطد الصلة مع كتاب آخرين منهم غريب عسقلاني ( ابراهيم الزنط ) والمرحوم زكي العيلة الذي زرته في بداية 80 ق 20 وكنت ذاهبا ، مع نادي مخيم بلاطة ، لمشاهدة مباراة بين نادي المخيم وناد غزي ، وفي مخيم جباليا اصطحبنا زكي إلى جورة أبو راشد التي استوحى منها بعض قصص مجموعته الثانية " الجبل لا يأتي " 1983 ، و كان قدم لها المرحوم الشاعر سميح القاسم باعتبارها نموذجا لأدب المقاومة .
وسيظل ما كتبه محمود درويش ، في ديوانه " محاولة رقم 7 " 1974، عن غزة لافتا " وغزة لا تبيع البرتقال ،لأنه دمها المعلب /
وفي غزة اختلف الزمان مع المكان "
ولا ينسى قاريء الأدب الفلسطيني ما ورد عن شهداء غزة ، في رواية إميل حبيبي " المتشائل "عن تحرك شواهد قبور الشهداء ، في حينه .
حين كنا صغارا لم نكن نخاف . ببساطة لم أكن ، وأنا صغير ، جبانا ، وهذا ما لم أظل عليه ، ويبدو أن المرء ، كلما كبر ازداد خوفا وجبنا .
" وغزة لا تبيع البرتقال ، لأنه دمها المعلب " ، وقبل سنوات قليلة كان لي جار اسمه أبو نزار ، وقد استقر في نابلس ، ولما سألته عن بيارات البرتقال في غزة ، أجابني حزينا : " هو بقي بيارات برتقال في غزة . في غزة بشر . بشر فقط "
لم تبع غزة برتقالها ولكنها أخذت نقصه وتجتثه لتقيم مكانه مباني جديدة لأبنائها ممن هم في سن الزواج ، ولا بد من غرفة جديدة للعريس ، كما كتب حمدي الكحلوت أحد كتاب القصة في 70 ق 20 . " والبلاد إذا سمنت وارمة " على رأي مظفر النواب ، فكيف إذا كانت غزة ؟ وكيف إذا كان هناك احتلال ولاجئون و....و...
خربشات ./7/2016

***

38 :
( يخرج الحي من الميت ، ويخرج الزمار من بيت الطبال )

أنتمي إلى عائلة عمالية بالدرجة الاولى ، من جهة أبي ، ومن جهة أمي أيضأ ، فلم يكن ، في العائلة ، ثمة نابغة حقق نجاحا في العلم يمكن أن يكون لي مثالا .
كان جدي لأبي ، في يافا ، بائع كعك ، وأما جدي لأمي ، فقد ترك نابلس ، إلى يافا ، ليعمل ، هناك ، منجدا ، وكان ، كما عرفت ، منجدا جوالا . وأما أبي وأعمامي فكانوا عمالا في الميناء أو سائقي سيارات ، باستثناء عمي الكبير فقد كان ذا صوت مميز ، في الغناء وفي قراءة القرآن ، ولقب ب( بلبل فلسطين ) لأنه غنى ، في يافا ، مع محمد عبد الوهاب ، ثم إنه ، بعد نكبة 1948 وفراق زوجته له ، اتجه نحو الكيف واقترب من الجنون . وأما أخوالي فكان أحدهم ضابطا في الشرطة ، زمن الأردن ، وكان الثاني سائقا ، وامتاز بأنه صاحب نكتة يرويها بذكاء وبأسلوب آسر ، وأما الثالث فكان صاحب سبع صنائع والبخت ضائع ، وهو ميال إلى المرح .
ولما كان أبي ، ومثله اعمامي ، يخلفون كل عام أو عامين ، فقد أسفرت المسابقات القائمة على التنافس عن أسرة كثيرة العدد ، ولما كانوا لاجئين يقيمون أولا في الخيام ، وثانيا في غرف من الباطون تفصل بينها مسافات ، فلم أجد لي غرفة أدرس فيها ، مثل بقية أسر اللاجئين ، وهكذا غدوت أدرس في الشوارع ، مثلي مثل أبناء المخيم أكثرهم ، وظل أحدهم مضرب مثل حتى اليوم ، فقد حصل على المرتبة الاولى في المملكة - أيام كانت الضفة الغربية جزءا من الأردن ، وكانت دراسته تتم في الشوارع ، وتحت عمود كهرباء ، وغدا واحدا من أشهر الأطباء في الولايات المتحدة ، وكان يفترض أن ألتقي به في العقد الأخير ، ولكن موت عدنان عبدالله ، مدير المخيم السابق الذي التقى به ، ووعدني أن يعرفني به حال دون اللقاء ، وهكذا لم أتعرف إليه .
كان أبناء المخيم المتميزين يدرسون في الشوارع أو في ساحة مدرستي الذكور والإناث ، عصرا ، وأحيانا ، حين يمنعون من الدراسة في ساحات المدرستين ، كانوا يدرسون في المزرعة ، بخاصة بعد أن غدت مهجورة ، بعد هزيمة الجيش الأردني . واختط كل طالب طريقا له فيها ، تحت الشجر ، كما لو أن الطريق سجل باسمه في كوشان ، وهكذا غدوت أدرس في ساحات المدرسة أو في المزرعة ، وكنا نتنافس ، فيما بيننا ، في الحفظ ، وكنا نحفظ المواد عن ظهر قلب ، وأحيانا كان الطالب منا يترك الدفتر جانبا ويسمع المادة عن ظهر قلب امام زملائه ، فإن أخطأ صوبوه .
في العام 1972 سأتقدم للتوجيهي وسادرس كما لم أكن أدرس من قبل ، وإن كنت أدرس ولا أعد من المهملين ، وقد لاحظ بعض أصدقائي جديتي واهتمامي اللافت ، فأخذوا يسخرون مني مرددين ( الاسطة سيكون من العشرة الأوائل ) ، ولم أخيب رجاءهم ، فقد قلبت سخريتهم إلى كابوس لهم .
ما زلت أذكر يوم نتيجة التوجيهي . ذهبت إلى مدرسة الجاحظ ، مدرستي ، لأسأل عن النتيجة ، وعرفت أنني ناجح ، فقد كان السكرتير يقرأ أسماء الناجحين ، وانتظرت حتى فرغ أبو هاني الجمل من تلاوة الأسماء ، واقتربت منه ومن مدير المدرسة أبو شوقي وسألتهما : هل هناك من كان من العشرة الأوائل من بين طلاب المدرسة ؟ ولم ينف أبو هاني بل أكد الأمر ، وقد سألني إن كنت أرشح طالبا ، وطلب مني أن أسمي اسماء طلاب أتوقع أن يكونوا من العشرة الأوائل ، فذكرت اسمي ، وأكد على هذا ، وأخبرني أنه هو ، ولم يكن يعرفني ، وقلت له : إنني هو .
بارك لي المدير والسكرتير ، وانطلقت إلى المخيم أعلم اهلي بالنتيجة .
ساعات العصر كنت في نادي الشباب ، المخفر السابق ، وجاء أبي ليبارك لي ، ليسألني إن كانت النتيجة جيدة ، ولما أخبرته أنني الرابع في الضفة ، فقد سألني : يعني منيح . ولم يكن أبي ، مثل جدتي ، يهتم بالعلم ، فقد كان شعارهما ( املك صنعة بتملك قلعة ) ، وهذا ما كانوا عليه هم في يافا ، فقد بنى جدي بيته ، في حي النزهة ، من وراء فرش الكعك .
يخرج الحي من الميت ، ومن بيت الطبال خرجت زمارا ، وهذا مثل شعبي يطلب منا ألا نستغرب إذا ما تميز فرد في أسرة لم يكن أفرادها متميزين . وفي ساعات المساء ستحضر خالاتي وأقاربي وسيحضرون الطبلة ، وسيطبلون ويرقصون لمدة ثلاثة أيام ، إذ كنت أول من يحقق نجاحا مثل هذا في العائلتين .
خربشات 9/7/2016

***

39 :
( كتبت عن الحب عشرين سطرا )

في مسيرة محمود درويش الشعرية قصائد غزل قليلة ، وقد لاحظ هو ، كما لاحظت سلمى الخضراء الجيوسي أن الشعراء الفلسطينيين خاضوا في الموضوع الوطني أكثر مما خاضوا في موضوعات أخرى ، وهي ملاحظة لاحظها من قبل عبد الرحمن الكيالي وهو يكتب عن الشعر الفلسطيني حتى العام 1948.
وحين أمعن النظر في حياتي أجدني كائنا مهموما بالقضايا الوطنية ، ومشغولا بالهم السياسي منذ العام 1966، منذ أحداث السموع والمظاهرات التي اعقبتها ، ففي ذلك العام اشتعلت الضفة الغربية ضد النظام الأردني ، وحوصرت المدن ، وفي مخيم عسكر كنت أشاهد جيش البادية يقمع المواطنين ، وفي عام الهزيمة شاهدنا الجيش الإسرائيلي ودورياته ومدرعاته ، وتظاهر الطلاب ضد الاحتلال ، كما كانوا يتظاهرون ضد الحكم الأردني ، وظل المذياع يرافقنا لمتابعة آخر الأخبار .
لم يكن ، يومها ، تلفازات ولا فضائيات ، وكان ال ( راديو )هو وسيلة الاتصال بالعالم ، ومن خلاله تابعنا أخبار معركة الكرامة التي ردت لنا بعض كرامة ، بخاصة حين أخذنا نصغي إلى أخبار عن جنود إسرائيليين احترقوا في دباباتهم ولم يتمكنوا من الفرار .
أخذ الناس يعودون إلى اسطوانتهم القديمة حول جبن اليهود وشجاعة العرب . إنها اسطوانة لطالما تكررت ، وقد ظهرت في قصص خليل السواحري " مقهى الباشورة " 1969 ، إذ في أوج الهزيمة تذكر المعلم أبو بلطة ما كان يقوم به قبل العام 1948 ، حيث كان بعصاه يغلق شارع ( مئاه شعاريم).
في طفولتنا اصغينا إلى قصص كهذه،ولم نتساءل : إذا كانوا جبناء ، وكنا شجعانا فكيف انتصروا علينا ؟ولم نستحضر قول المتنبي شاعر العروبة :
الرأي قبل شجاعة الشجعان /
هو أول وهي المحل الثاني
وبقينا نستمع إلى كلام عن جبن ( هم ) وشجاعت ( نا ) ، حتى خسرنا فلسطين كلها . وجاءت معركة الكرامة لتتكرر الأسطوانة أيضا ، وبقينا نصدق كلام الكبار ، وكانت عقولنا ، نحن الصغار ، في إجازة ، فقد كنا ننام على الحكاية السعيدة وانتصارنا فيها ، دون أن نلتفت إلى هزيمتنا في الواقع المهزوم .
وسنظل نحلم بانتصار ، مثلنا مثل الشاعر علي فودة الذي كتب ( بقلبي أريحا / وكنا نحن ولو مرة / لانتصار ) ، واستشهد الشاعر في حرب 1982 ، دون أن يعيش أي انتصار .
بعد الكرامة سنتابع الحرب الأهلية في الأردن ، بين الجيش الأردني والفدائيين لحظة لحظة،ساعة ساعة ، يوما يوما ، وسنعطل الدوام المدرسي وسنتظاهر وقوفا إلى جانب الفدائيين .
لقد تحولنا أيامها إلى كائنات تنام وتصحو على الأخبار ، وتعرف آخر الأحداث وتتناقلها ، وتفرح لانتصار ما ،وتحزن لهزيمة ما ، وظل الأمر ملازما لنا حتى خرجت المقاومة من الأردن في معارك جرش في العام 1971 .
في تلك الأيام بدا النظام الأردني العدو الأول للفلسطينيين ، بخاصة حين التجأ بعض الفدائيين إلى النهر وطلبوا الأمان من الإسرائيليين . ومن وحي تلك الأيام كتبت فدوى طوقان قصيدتها : تموز والشيء الآخر " ( حاذري إخوتك السبعة ) وهي قصيدة سببت لها مشاكل مع النظام الأردني ، ومع أقاربها الذين كانوا من مؤيدي النظام والدائرين في فلكه ، بل والقريبين من القصر . وفي تلك الأيام شاعت مقولة " سبعين شالوم ولا ربع اجلب(اقلب) " .
أتذكرني في تلك الأيام لا أذهب إلى المدرسة ، بل وأتذكر المدرسة تتعطل الدراسة فيها ، ونحن نقف على سور مدرسة الذكور نتابع الأخبار ولا نفعل شيئا غير هذا ، كما لو أننا بوقفتنا تلك سنعزز صمود المقاومة .
ربما كان لتلك الأيام تأثيرها اللافت لاحقا في ميلي إلى أدب القضية وعدم الالتفات الى الأدب الذي يتمحور حول الذات . وسيتعزز الأمر لدي مع مرور الأيام ، مع أحداث تل الزعتر في لبنان في 1976 ، وفي الحرب الاهلية هناك ، وسيصل أوجه في العام 1982 ، في حرب حزيران الجديدة ، وفي حزيران 1982 الممتد .
كما لو أن ما جرى في الأردن في 1970/ 1971كان امتدادا لحرب حزيران ، وكما لو أن ما جرى في لبنان كان أيضا امتدادا لحزيران ، وكما كتبت ، من قبل ، فحزيران هو أقسى الشهور . حقا هل انتهت حرب الأيام الستة ؟
وأنا في الصف الثالث الإعدادي سألنا أستاذ الاجتماعيات ، وأظن انه كان تحريريا ، السؤال التالي : هل سقطت الرصاصة التي أطلقها الشريف الحسين بن علي أم أنها مازالت معلقة بالهواء ؟ وأخذنا نضحك من السؤال ، ولم نتوقف عن الضحك إلا عندما شرح لنا المعنى الرمزي للسؤال ، وقال لنا الإجابة.
وجهة نظر الأستاذ أن الرصاصة ستظل في الهواء مادام الهاشميون يحكمون ، ولن تسقط الا بانتهاء حكمهم . هل فهمنا يومها المغزى ؟وهل كان الأستاذ قرأ كتاب أنيس صايغ " الهاشميون "
خربشات 9/7/2016

***

40 :
( يا جسر الأحزان أنا سميتك جسر العودة /جسر المذلة )

كان علي ، بعد أن نجحت في التوجيهية ، أن أدرس في الجامعة ، وكان أمامي أن أدرس في معهد رام الله التابع لوكالة الغوث أو في جامعة بير زيت ، أو أن أسافر إلى الأردن ، لأحصل على بعثة من الحكومة الأردنية التي كانت مازالت ترعى الضفة الغربية . وعلى الرغم من أن أيلول كان طازجا - في العامين 1970 / 1971- إلا أنه لم يخطر ببالي السؤال التالي: كيف سأدرس في بلد قتل الفدائيين وأخرجهم منه ؟
نحن طيبون بالوراثة ، وأنا ابن أبي وابن شعبي وابن تاريخي أيضا . ففي العام 1966 تظاهر أهل الضفة ضد النظام الأردني ، وفي العام التالي تظاهروا يؤيدونه ، ومن اتهموه بالخيانة غدا بطلا قوميا ، وها أنا أقرر السفر إلى الأردن ، لأدرس على حساب النظام الأردني . وحين أكتب في العام 1993 نص " ليل الضفة الطويل " سأكتب عن أبي عمار ساخرا ، فلم يترك الرجل ، في تلك الفترة مناسبة يتحدث فيها ، إلا مدح الأردن والملك حسين ، ناسيا أو متناسيا التجارب المريرة بينهما .. أنا طيب مثل أبي ، ولم أتقبل تنويعات أنصار أبي عمار ودفاعهم . أنا طيب مثل أبي ، أو هكذا كنت وما عدت طيبا ، ولا أريد أن أكون ، وإن صمت أحيانا على ظلم ، فعلى مضض .
سأحزم أمري وأقرر السفر إلى الأردن للحصول على بعثة ، وللدراسة خارج فلسطين .
اصطحبني أخي الكبير درويش - رحمه الله ، فقد توفي شابا في الثالثة والعشرين من عمره - إلى الأردن ، وكان يعرف عمان ، لأنه كان يعمل سائق شاحنة نقل بضائع من الضفة إلى عمان ...
ربما كان ذلك في نهاية تموز وبداية آب اللهاب ، وكانت حركة التنقل على الجسر ، جسر دامية ، مذلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، وهذه المذلة هي التي أوحت لفدوى طوقان بكتابة قصبدتها من صور الاحتلال الإسرائيلي : آهات أمام شباك العبور ) ونشرتها في ديوانها " الليل والفرسان " وأتت على مناسبتها في الجزء الثاني من سيرتها " الرحلة الأصعب " وتمنت فيها لو تستطيع القيام بما قامت به هند بنت عتبة التي أكلت كبد حمزة ، تمنت فدوى لو تستطيع أكل كبد جندي يهودي .
ولما نشرت فدوى القصيدة هاجمتها الصحف العبرية وكتبت عن شاعرة فلسطينية تريد أكل كبد جندي يهودي ، وأخذت فدوى تبحث عن وسيلة لتدافع عن نفسها ، وقد أتت على هذا كله في سيرتها ، ومما ورد في القصيدة : "
ويدوي صوت جندي هجين
لطمة تهوي على وجه الزحام :
( عرب ، فوضى ، كلاب
ارجعوا ، لا تقربوا الحاجز ، عودوا يا كلاب )
ويد تصفق شباك التصاريح
..... ألف هند تحت جلدي
جوع حقدي ... "
ولم أكن يومها أعرف شيئا عن القصيدة التي كتبتها فدوى في عمان ونشرتها ، ابتداء ، في الصحف العربية ، ولم أكن قرأت لفدوى إلا قصيدة كانت مقررة في المناهج المدرسية ، لم أعد أذكرها .
على الجسر كنا نتدرب على الانتظار ، وربما نتدرب على الانتظار الذي سنمر به يوم القيامة ، وهو ما تخيله شاعر المعرة الضرير في " رسالة الغفران ".
لم أكن ، يومها ، أتساءل ما أخذت أتساءل به بعد عقود وأنا أفكر في أمر هذه الدولة التي هزمتنا وانتصرت علينا ، لعوامل عديدة وكثيرة منها ما كان قادتها يرددونه عن سبب هزيمتنا : الفوضى وعدم النظام ، وهذا ما ورد، أيضا ، على لسان الجندي في قصيدة فدوى .
اسرائيل التي تتهم العرب بالفوضى والفساد والرشوة وتدعي تطبيق القوانين بحذافيرها ، في العمل وفي دوائر السير ، وفي تحرير المخالفات ، والتي فصلت أبي ، لاحقا ، من عمله في شركة ( ايغد ) بحجة الاختلاس ، حسب روايتها ، هي اسرائيل التي تشجع الرشوة والفساد ولا تعرف النظام ، وكان هذا أول درس تعلمته مما شاهدته على الجسر .
كنت وأخي صحونا مبكرين ، وسافرنا بالسيارة ووصلنا إلى ما قبل الجسر بكيلومترين ، وكان علينا أن ننتظر فتح المدخل حتى نعبر ، وبعد فترة جاءت سيارات عمومي وتجاوزتنا ، بركابها ، وكانت أول سيارات تدخل ، دون مراعاة الدور ، وحجة ذلك أن سائقي هذه السيارات يقلون الثلج إلى القائمين على الجسر من صباط وجنود وعمال . وكان لهؤلاء السائقين ، كما اشيع ، أقارب من بدو عرب فلسطين ممن كانوا يخدمون في الجيش الإسرائيلي ، وقد توسط أقارب السائقين لهم لمنحهم امتيازات استغلت في استغلال الركاب ، وقد أثرى هؤلاء السواقون ، وصاروا مقصد الكثيرين ممن كانوا يدفعون أجرة مضاعفة لتيسير أمورهم .
لم يقتصر الأمر على السائقين فقد ترعرع بعض الفلسطينيين ، ممن خدموا الاحتلال ، وأثروا من وراء استصدار تصاريح السفر ، وإنجاز معاملات لم شمل بعض الأسر . بل إن الأمر لم يقتصر على العملاء والمتعاونين وأقارب السائقين من عرب الداخل ، ممن كانوا يخدمون في الجيش ، وإنما أفاد منه ضباط الإدارة المدنية الذين أثروا ، وهذا ما كتب عنه ، لاحقا ، الكاتب الاسرائيلي ( دافيد غروسمان ) في كتابه " الزمن الأصفر " 1988.
على الجسر بدأت رحلة العذاب ، ذهابا وإيابا وما بينهما ، ففي فترات كثيرة لم تكن اسرائيل تسمح لنا بالعودة من الأردن كلما أردنا ، فقد منعتنا في فترات من عدم العودة قبل مرور ستة أشهر من مغادرتنا ، وهكذا كنا في الأعياد نظل في عمان في غرفنا البائسة نأكل معلبات ولحمة مجففة ببندورة ، أو بيض ، وشاع مصطلح ب 3 - أي بولبيف وبندورة وبيض .
بسبب حزيران أصبحنا جيل ال ب 3 ، ولم نكن نسمع يومها ، لجهلنا الصحي ، عن فيتامين ب 3. ( وأما على الطرف الأردني فلم تتحسن أحوال المرور إلا قبل سنوات ، خلافا لتلك السنوات الأولى ، فقد كانت حركة العبور لا تطاق إطلاقا إلا حين كان الجسر يعلق كليا بسبب الأعياد اليهودية ، حيث يمنع السفر)
على الجسر أخذت الدرس الأول في تعلم الانتظار ، وعلى الجسر سأتدرب أيضأ على تحمل الأذى والمذلة ، وكله بسبب حزيران ، وكله ..... كله بليرة يا خواجة
خربشات 10/7/2016

***

41 :
( ثلثا الولد لأخواله والثلث الباقي لخال أمه ، وأخواله الأتراك )

خال أمي كان ، على الجسر ، مثل أيقونة ، وكان ملكيا أكثر من الملك ، ولا أدري لماذا !
سأعرف لاحقا أن خالي الضابط في الجيش الأردني ، يوم كان ضابطا ، كان أيضا ملكيا ، وقد حاول الفدائيون التحقيق معه ، حين أراد تطبيق القانون ، فقد كان في المحكمة العسكرية التي كانت تحاكم بعض الفدائيين ، وكان هذا عشية ايلول 1970.
نعم خال أمي ملكي أكثر من الملك ، ولما كان شرطيا ومكان عمله الجسر ، وكان الإسرائيليون هم من يسيطرون عليه ، فيمكن القول ( وقول هذا صعب ) ، بقدر من التلطف : إنه كان نظاميا أكثر ممن وضعوا النظام ، ولعل هناك أسبابا اجهلها .
كان لأمي خال واحد من جدها وجدتها ، ولما ماتت جدتها لأمها ، فقد تزوج جدها من إمرأة تركية ، واظنها من أتراك قبرص ، وكانت بيضاء بيضاء ، وكما يقول النابلسيون ، مثل قرص الجبنة . وقد أنجبت لزوجها ثلاثة ذكور وأنثى ، عرفت بعضهم عن قرب ، تماما كما عرفتها هي عن قرب ، وأحيانا كنت أزورها مع أمي ، وكانت تتكلم عربية ثقيلة جدا . ولم يمنع هذا من فهم ما تقول ، و لم يحل دون تكرار زيارتها - بخاصة أنها كانت تقيم وحدها في غرفة في حوش ال يعيش ، ولم تكن تتحرك بسهولة ، وغالبا ما تشعر بالوحدة - وأهل نابلس يصلون ارحامهم ، وهذه فيهم فضيلة .
كان الأول شرطيا ، والثاني سائقا والثالث نجارا ، وقد عملت في منجرته لأسابيع قليلة ، وما علق في ذهني من حكايات عنه العبارة التي كررت في يوم عرسه ( طاط طاط عرس نصرات ) ، وكان رجلا مرحا ومحبوبا ودائم الابتسام ، وفي انتفاضة الاقصى استشهد أحد أبنائه . وأما الثاني ، أي السائق ، فلم أعرفه ، وربما رأيته مرة مرتين ، ولكني كنت أسمع مديح الأخرين له لبره بوالدته ، وقد يكون الأمر التبس علي ، وأما الثالث ، وأظنه أكبرهم ، فقد كان شرطيا ، و غدا زمن الاحتلال ( أيقونة ) الجسر ، فما من أحد سافر ، عبر جسر دامية ، إلا عرفه أو سمع عنه . وأحيانا يشار إليه ليقال لي : " أنت مثل خال أمك . أنت شرطي " ، حتى أن المرحوم الشاعر محمود درويش حين سئل من طلاب مدرسة استضافته ، عن كتاباتي حول أشعاره ، أجاب بأننى محقق وشرطي ، وعلمت لاحقا ، من صديق لكلينا ، أنه كان يطلق علي اسم ( شارلوك هولمز ) .
ومع أنني لم أترب في بيت خال أمي ، ولم أزره في بيته إلا مرات قليلة جدا ، ونادرة ، وتحديدا حين تزوره أخته ، أي خالة امي - وكانت هذه لي ، في أثناء دراستي في الجامعة الأردنية ، مثل أم ثانية - إلا أنه احيانا يشار إلي على أنني أشبهه .
خال أمي هذا كان شرطيا على الجسر ينظم المسافرين الذين لا يحبون النظام ، فقسم منا ، هناك ، يتصرف كما لو أننا في مسلسل غوار ، وفي ( حارة كل من ايده اله) .هؤلاء لا يحبون النظام ، و شعارهم : اللهم نفسي . ولم يكن هذا ليروق له ، فقد كان دائم الصراخ على المتجاوزين الذين لم يرق لهم ان يكون ملكيا أكثر من الملك .
لم يكن يقبل واسطة على الإطلاق ، ولم يبتسم لأي مسافر كان ، حتى لا يكون هناك ، وراء الابتسامة ، طلب ما. واعتقد أنه كان يعامل أقاربه كلهم كما يعامل بقية المسافرين . لقد كان ، حقا ، نظاميا لا شبيه له ، ما جعل كثيرين يتندرون عليه ويسخرون منه . وربما لم يرق سلوكه ، في حرصه على النظام ، إلا لمن كانوا يظلمون ولا يملكون الواسطة .
يقولون العرق دساس ، ويبدو أن في شيئا من خال أمي ، أو في منه الثلث الباقي من الثلثين اللذين أشبه فيهما اخوالي الباقين .
كان أحد اخوالي ملكيا ، ولست كذلك ، وكان الثاني صاحب ( سبع صنايع والبخت ضايع ) وأنا لست كذلك ، وأما خالي الثالث ، وهو الأوسط ، فكان صاحب نكتة من الدرجة الأولى ، وهذه أيضا ليست من صفاتي . فكيف يكون ثلثا الولد لأخواله ؟
خالي الأوسط كان يروي قصصا عن الشيوخ والخوارنة تجعل من يصغي إليه لا يتماسك من الضحك ، وكنت أتساءل : من أين يأتي بهذه القصص ؟ وحين أصبحت أكتب القصة قلت : لو كان خالي هذا قاصا - وكان سائقا - لما قل شأنا عن إميل حبيبي . روحه روح مرحة ميالة للدعابة والنكتة ، ولم يحل عدد أفراد أسرته الذي قارب ال 16فردا ، من ذكور وإناث ، دون حبه النكتة .
بعد سنوات طويلة من قراءاتي استطعت الحصول على قصص ( بوكاشيو ) " الديكاميرون " وأخذت أقرأ فيها ، وكلما قرأت قصة عن رجال الدين المسيحيين في القرن 12 تذكرت خالي وتساءلت : هل كان قرأ هذه القصص ؟ أم أنه سمعها من شخص قرأها ؟
حين أشدد على طلاب الدراسات العليا ، وحين أكون صارما في مناقشة الخطط ، في قبولها أو رفضها ، وحين اسأل القسم في أمور التعيين أو ..أو ... أغدو مثل خال أمي ، لا مثل خالي . يقولون ( العرق دساس ) وأنا لا أومن بهذا . وإن كان صحيحا فيجب أن أسافر إلى تركيا ، فأخوال أمي ، حسب انتماء الولد لأمه ، أتراك ولكن ما ظل يحيرني هو : ما سر صرامة خال أمي وحزمه ؟ هل أراد أن يثبت للإسرائيليين أنه اكثر حرصا على النظام منهم ؟ أم أنه أراد أن يقول لهم : أنا تركي ، لأخوالي ، ولست مثل هؤلاء ؟ من يدري !
هل فكرت ، يوما ، وأنا على الجسر أن أطلب من خال أمي مساعدة؟
خربشات 10/7/2016

***

42 :
( بيوت جحا )

في المانيا اكتشفت أنني لم أحي ، من قبل ، في الأردن ، حياة طالب جامعي.
في صيف 1972دخلت إلى الأردن بعد معاناة السفر عبر الجسور . قبل 1967كنت أذهب إلى عمان مع أبي الذي عمل سائقا على خط نابلس - عمان، وساق (باص)ــات شركة الدبس، وأصحابها من نابلس من عائلة الدبس، و(باص)ــات شركة العودة لأبي مرزوق اللداوي الذي كان مقيما في البلدة القديمة في نابلس ، وشريكه واظنه من عائلة الرنتيسي ، وهو مسيحي - ( ولنلاحظ التسمية ودلالاتها ) - وعلى خط نابلس - العراق - الكويت ، على ( باص )ات شركة الفلاح ( وصاحبها ريفي/فلاح ، وقد تقرأ قراءتين بتشديد حرف اللام وعدم تشديده ) ، وأظنها كانت لمواطن من حوارة اسمه رفعت الحواري . وكان أبي يصطحبني معه بين فترة وفترة ومرة اصطحبني معه إلى الكويت ، وفي الرمادي العراقية اضطر للعودة إلى نابلس ، حيث أقل ركاب حافلة ثانية للشركة أصابها عطب ما ، ومع أن الرحلة إلى الكويت لم تكتمل ، إلا أن أبي عاد واصطحبني معه ، ثانية . وهناك في الكويت ، أقمت في بيت خالتي لأيام .
في تلك الأيام كانت الضفة الغربية جزءا من الأردن وكان السفر سهلا ، ليس فقط بين مدن المملكة ،وإنما أيضأ بين البلدان العربية أكثرها ، وكان بإمكان المرء أن يسافر متى شاء ، ويعود متى شاء .
بعد حرب حزيران لم يعد الأمر ممكنا وتعقدت الأمور وأصبح السفر مرهقا ومتعبا ومزعجا و ... و ...
لو لم تحدث الحرب ودرست في الجامعة الأردنية لربما ما أقمت في عمان وما استأجرت بيوتا هناك ، ولربما فضلت السفر ، صباحا ، إلى الجامعة ، والعودة مساء ( وهذا ما كان يفعله بعض الطلاب قبل 1967 وما كان يفعله طلاب مدينة الزرقاء في أثناء دراستي ما بين 1972- 1976) ، ولربما ما اضطررت أن أنفق أيام الأعياد وبعض الإجازات وحيدا أو في بيت خالي في الزرقاء ، وكما ذكرت ، من قبل،فلم تكن السلطات الإسرائيلية ، في فترات معينة،تسمح لنا بالعودة متى أردنا ، وقد تشترط علينا العودة بعد 6 أشهر أو 9 أشهر .
لم أقم في بيت خالي واضطررت إلى البحث عن بيت أقيم فيه .
في تلك الأيام حولت الجامعة الأردنية عمارة سكن الطلاب إلى سكن للطالبات ، وقيل حول هذا كلام كثير ، منه أن إدارة الجامعة أرادت أن تريح نفسها من إشكالات وجود الشحم قرب النار ، ومنها أنها ، بناء على أوامر النظام ، أرادت ألا يجتمع الطلاب في بناية واحدة ، تلافيا لنشاط سياسي ، ومنها أنها أرادت أن تشغل الطلاب بالبحث عن سكن ، حتى لا يظل لديهم وقت للتفكير في العمل السياسي.
وكانت بيوت جحا .
أتذكر ، الآن ، البيوت التي اقمت فيها ،وما أكثرها . وربما لا تسعفني الذاكرة في ترتيبها حسب الإقامة فيها .
فكرت في الإقامة في عمارة للدكتور هاني عبد الرحمن المدرس في كلية التربية ،وهي قريبة من الجامعة ، وترددت . ثم وجدتني أسكن في الجبيهة ، في غرف يقتل المقيمين فيها البرد . أقمت مع شاب اسمه تميم ومع آخر عرفته في نابلس ، وهو من قرية سالم ، ولم أمكث معهما سوى أسابيع قليلة ، إذ شعرت بغربة في ذلك السكن ، ولما وجدت غرفتين في مخيم الحسين ، أخبرني عنهما المرحوم محمود عطالله الذي أقام مع أخيه ، حملت اغراضي ، وهي تخت معدني وفرشة وطاولة ، ويممت وجهي صوب المخيم . وقلت : من المخيم أتيت وإلى المخيم أعود ، وهو مخيم كانت أسرتي ، يوم كان عمري عامين ، أقامت فيه ، وفيه ولدت أختي التي تصغرني ، وهكذا عدت إلى مرابع الطفولة ، دون أن أخطط لهذا ، وأنفقت العام الجامعي الأول في بيت من غرفتي زينكو ، لا تختلفان كثيرا عن بيت المخيم الذي غادرته ، مخيم عسكر القديم . استخدمت غرفة ، وظلت الثانية بلا ساكن.
مع انتهاء العام الدراسي ، في منتصف حزيران قررت إنفاق العطلة في الضفة ، وعدم الانتظام في الفصل الصيفي ، وهكذا سلمت الغرفتين لصاحبتهما ، وتركت اثاثي الفاخر جدا بعهدة زميل لي اتفقت معه حول هذا .
بداية كل عام من أعوام الدراسة كان علي أن أبحث عن سكن جديد ، وهكذا كنت أسأل زملائي عن غرف للإيجار ، وحين لا أتلقى إجابة ابدأ رحلة البحث المضنية .
كان أصحاب البيوت يقولون لنا مازحين : عروس يوجد ، أما غرفة فلا ، وكان الأمر يزداد صعوبة إذا ما عرفوا أننا طلاب جامعة ، فهؤلاء غير مرغوب فيهم ، خوفا على بنات الجيران .
مرة اتفقت مع صاحب دكان على استئجار دكانه بعد أن يحولها إلى غرفة ، و لكن ذلك لم يتم ، فالدكان لا مرحاض فيها ، وماذا سأفعل في ليالي الشتاء القارس في صويلح ؟ لقد أخذ أصحاب الغرف يؤجرون ، للطلاب ، غرفا بائسة جدا ، مقابل بعض دنانير . وأقمت في جبل النزهة وفي وادي الحدادة وفي جبل الحسين - كتبت عما جرى معي في بيت جبل الحسين قصة عنوانها ( البصاص ) - ولاحقا في الأشرفية ، ولم أشعر يوما أنني أقيم في سكن يليق بطالب جامعي ، ولم اكتشف الأمر إلا وأنا في ألمانيا .أما لماذا وأنا في ألمانيا ؟ فالإجابة ليست لغزا .
حين ذهبت أدرس في الجامعة الأردنية كنت أقيم في المخيم ، ولم تكن بيوت المخيم قصورا أو ( فللا ) . إنها بيوت بسيطة أكثرها أيضأ من ال( زينكو ) - أي الصفيح . وربما لهذا كنت أتقبل أية غرفة تعرض على للإقامة فيها ، حتى لو كانت دكان حلاقة ، أراد صاحبها أن يستغلها ، لتأجيرها للطلاب ، بعد أن لم يجد حلاقا يستاجرها .
وإنا أقرأ بعض نوادر جحا قرأت النادرة التالية :
كان جحا يسير مع أبيه في جنازة ، وأخذ يسأل أباه عن المكان الذي هما ذاهبان إليه ، وبدأ الأب يصف القبر الذي سيدفن فيه الميت ، ولاحظ جحا أن القبر تتطابق صفاته وصفات بيت والده ، وهنا قال جحا : إننا ذاهبان ، إذن ، إلى بيتنا يا أبي .
هل ابالغ إذا قلت : إن البيوت التي أقمت فيها طالبا في الجامعة الأردنية هي بيت جحا؟
وكان ذلك بفضل حزيران . هل انتهت الحرب حقا ، بعد ، ستة أيام من بدئها في الخامس من حزيران؟
خربشات 11/7/2016

***

43 :
( لماذا درست الأدب العربي ؟)

يوم حصلت على نتيجة التوجيهي لم يفرح لي أهلي وحسب ، بل فرح لي أيضا كثيرون من أهالي المخيم ، إلا زملائي الذين تقدموا معي للتوجيهي فقد حزنوا وامتعضوا واغتاظوا أيضا ، فقد غدت النكتة حقيقة والسخرية ما عادت كذلك ، وقد انقلبت إلى نقيضها .
في مخيم عسكر عائلات من يافا ظلت لفترة طويلة تعتز بمدينتها الأصلية ، وظلت هذه العائلات تحافظ على عاداتها وتقاليدها وتتواصل فيما بينها ، بخاصة النسوة ، وكان لأمي علاقات مع هؤلاء النسوة اليافاويات ، وكانت عائلات المختار وأبو عبدة والأصفر والاحول من العائلات اللاتي تبادلت أمي معها الزيارات .
في عصر اليوم الذي حصلت فيه على النتيجة أرسل لي مدير المخيم المرحوم عدنان عبد الله لأقابل أخاه عثمان ، وكان هذا يدرس في مصر ، ليسألني عما أنوي دراسته ، وليقدم لي النصائح ويعرض علي المساعدة ، بخاصة انه لا يوجد في أسرتي من يمكن أن يبصرني فأهلي عمال ، وابنا عمي تجربتهما في الدراسة محدودة ، وفعل الشيء نفسه الأستاذ سامي أبو طالب / الصيرفي الذي كان أيضا متميزا ودرس في الجامعة الأميركية في بيروت ، وعاد ليدرس في جامعة بير زيت .
وكان علي أن أسافر إلى الأردن .
في عمان أخذت أتابع الجرائد والإعلانات الصادرة عن وزارة التربية والتعليم بخصوص الأوائل الذين يدرسون ، في العادة ، في حينه ،على حساب الحكومة الأردنية ، وساذهب إلى جبل اللويبدة ، لأحضر اجتماعا ، مع السيد عزت جرادات الموظف في وزارة التربية والتعليم ، والمسؤول ، في الوقت نفسه ، عن البعثات ، وكان شابا وسيما مسرورا بوظيفته ، ويمارسها بفرح كبير جدا ، بخاصة أنه غدا مرجعية لكثيرين ، مرجعية جعلته يشعر بأهميته .
في مركز اللغات سيجتمع أوائل المملكة من الضفتين ليحصلوا على البعثات التي تمكنهم من الدراسة على حساب الدولة وهناك أيضا سيتحدث معهم ليستعدوا لمقابلة المرحوم الملك حسين الذي بدوره سيعطيهم الهدايا ، وهذا ما لم يتم في ذلك العام ، خلافا للعام الذي سبقه ، ولم أحزن لهذا ، بل إنني في العام 1983 ، حين كنت الأول على دفعة الماجستير ، و وجهت لي وللاوائل دعوة لزيارة القصر للتسليم على الملك ونيل الجائزة منه ، آثرت العودة إلى الضفة على الجائزة التي أرسلت إلي وهي ساعة مذهبة .
أخذ السيد عزت جرادات يوضح لنا شروط البعثة وإمكانيات الدراسة ، ثم أخبرنا انه بإمكاننا الدراسة في الجامعة الأردنية أو في الجامعة الأميركية في بيروت أو في جامعة القاهرة ، وان هناك تسع بعثات إلى فرنسا ، لدراسة الأدب الفرنسي ، ووقعت عيني على فرنسا ، ولكن هذه البعثات التسع سرعان ما تبخرت وسارت في طريقها إلى أصحابها ، ولم تعد تذكر ، أما كيف ؟ فلا أدري !!.
لما قابلت السيد عزت جرادات اقترح علي التالي : دراسة الأدب الإنجليزي في الجامعة الأميركية في بيروت ، وهذا يحتاج إلى امتحان لغة انجليزية متقدم ، ودراسة الادبين ؛ العربي والانجليزي في الجامعة الأردنية ، ودراسة علم المكتبات في القاهرة ، وكان تخصصا حديثا جدا ،ونصحني بهذا ، ولم انتصح ، وهكذا وجدتني في الجامعة الأردنية أدرس الأدب العربي ، لا الأدب الانجليزي الذي ظل أبي ينصحني بدراسته ،ولا أعرف لماذا . أهو حنين إلى زمن الانتداب ؟ ولم يكن أبي يحن إلى الانجليز ، فقد كان حنينه الدائم إلى بيته في يافا .( أعتقد أنها عقدة الخواجا التي تتفشى بين بعضنا).
كنت قبل أن أختار دراسة الأدب العربي التقيت بطلاب كانوا من الأوائل ودرسوا الأدب الانجليزي وشعروا بالندم ، ومنهم من رسب في السنة الأولى ، وظلت علاماته منخفضة ، فدراسة الأدب الانجليزي ، في حينه ، لم تكن سهلة ، بخاصة من معلمين أجانب ، مع طلاب مدرستي ( الفرندز )و ( الفرير ) . كما التقيت بطلاب رأوا في دراسة الأدب الانجليزي ضربا من التغريب وتعلم عادات اجتماعية غريبة لا تتناسب وبيئتنا العربية ، وأن علينا أن نتعلم ، من ادبنا ،قيمنا واخلاقنا العربية الأصيلة . ( كانت المفارقة الصارخة أن الذي نصحني بهذا كان شابا ريفيا ، وأقام في غرفة كان لأصحابها فتاة مراهقة ، اقام علاقة معها ، وكانا يلتقيان في المرحاض الذي كان مشتركا ، وذات يوم شك أهلها في امر العلاقة فارتعب خوفا........خيال .خيال شرقي على راي اميل حبيبي ) . كأن صديقي هذا نسي ما كان تعلمه في لامية الشنفرى عن الحفاظ على زوجة الجار في غيابه كأنه لم يدرسها أو كأنها مجرد كلام لا قيمة له أمام غريزة الجسد .
وفي الجامعة الأردنية وجدتني أدرس الأدب العربي ، ومع ذلك فلم يتم الامر بسهولة ، وكدت لا أتمكن من تحقيق شروط التخصص ، بسبب تدني علامة مادة تذوق النص الادبي ومادة المكتبة ، وأما سبب التدني ،فيعود إلى أنني درست مساق التذوق مع الاستاذين المرحومين ؛ هاشم ياغي ومحمود ابراهيم ، لا مع الأستاذ المصري المرحوم عبد الحميد سند الجندي . كانت علامتي 73 ، وكانت أقل علامة في شعبة د. الجندي 87 ، وسادت يومها النكتة التالية : هناك طالبان راسبان في شعبة د.الجندي . وحين تساءل الطلبة عن حقيقة الامر تبين لهم أن الطالبين حصلا على العلامتين 87و89 . فقد كان الدكتور كريما في إعطاء العلامات ، خلافا للمرحومين ياغي وابراهيم فقد كانا متاثرين ببخلاء الجاحظ .
خربشات 12/7/2016

***

44 :
( ديوان الوطن المحتل )

لمحمود درويش قصيدة مبكرة عنوانها " رسالة من المنفى " يقول فيها :
" سمعت والدي يقول :
أجوع حتى أشتري لهم كتاب ".
لم تكن الكتب تحضر إلى بيتنا ، ولا أعرف أحدا من بيئتي كان شغوفا بالكتاب ، والكتب التي عرفتها هي الكتب المدرسية المقررة فقط . وفي المدرسة الثانوية بدات أتعرف إلى الكتاب غير المقرر . تعلم أبي ، في يافا ، حتى الصف الخامس ، ولم تدخل أمي إلى المدرسة ، وأخرج أبي أخوي الأكبر مني سنا ليتعلما مهنة وليساعداه في الأنفاق على العائلة وحالفني الحظ أنني كنت الابن الثالث .
في الصفوف الثانوية الاخيرة ، في مدرسة الجاحظ ، كانت هناك حصة مدرسية مخصصة للمكتبة ، ففي المدرسة مكتبة تتسع لعدد طلاب صف بأكمله ، وكان لا بد من الانتقال من غرفة الصف إلى غرفة المكتبة ، من أجل التدرب على المطالعة الخارجية ، ومع أن الحصة كانت ، غالبا ، آخر حصة في اليوم الدراسي ، إلا أن المسؤول عن المكتبة ، غالبا ما كان يطلق سراحنا ، لنغادر إلى البيت ، وفي بعض الاحايين كان يعرض فيلما ما ، أو كان يجبرنا على البقاء ، لاستعارة الكتب ومطالعتها .
في تلك الأيام قرأت المنفلوطي ، وبخاصة "ماجدولين ،،أو تحت ظلال الزيزفون " وكتبه الأخرى ، مثل العبرات والنظرات ، وبعض قصص محمد عبد الحليم عبد الله مثل رواية " لقيطة ليلة غرام " ، ولم أكن سمعت بشعراء الأرض المحتلة . والشاعر الوحيد الذي عرفته عن قرب هو الشاعر عبد اللطيف عقل الذي كان يعلم في المدرسة ، والذي اجبرنا على شراء ديوانه الثاني " أغاني القمة والقاع " 1971، وما كنا نستسيغ قصيدة التفعيلة على الإطلاق ، بل إننا ما كنا نعدها شعرا . وكثيرا ما كنا نسخر من الشاعر ومن زميل لنا أخبر الشاعر أنه يكتب الشعر ، وهو الشاعر حلمي الزواتي الذي اهتم به عقل .
ظلت صلتي بالكتاب ، خارج الكتب المقررة شبه معدومة ، وربما يعود السبب إلى السنوات العجاف التي تلت حزيران ، أي من 1967 - 1972 ، بل إنني لم انتسب إلى مكتبة بلدية نابلس الا بعد عامي الجامعي الأول في 1973 ، وما زلت أحفظ الرقم المرقوم على هويتي وهو 3107 ، وآمل ألا تكون الذاكرة خانتني . إذ بعد عودتي من الجامعة الأردنية ، لقضاء عطلة الصيف في نابلس ، أخذت أتردد على المكتبة ، بل وبدأت أبحث عن دواوين شعراء الأرض المحتلة الذين درست في الجامعة بعض قصائدهم.
في الجامعة الأردنية ، وفي مساق " المدخل إلى تذوق النص الأدبي " درسنا المرحوم هاشم ياغي رواية نجيب محفوظ " اللص والكلاب" ومسرحية توفيق الحكيم " بجماليون " وقصيدة بدر شاكر السياب " أنشودة المطر " وقصيدة محمود درويش " جندي يحلم بالزنابق البيضاء" ، وكان هذا أول عهدي بهؤلاء الأدباء . ولما راقت لي قصيدة محمود درويش وجدتني مرة في مكتبة المحتسب في شارع السلط وأبصرت على أحد الرفوف " ديوان الوطن المحتل " الذي أعده ، في حينه ، وكتب له مقدمة الشاعر الفلسطيني المرحوم يوسف الخطيب ، ووجدت يدي تمتد إلى جيبي وتدفع دينارا ثمن الديوان الذي سيظل يلازمني طيلة أربع سنوات ، وحين أقرر العودة إلى الضفة ساهديه إلى زميلي وصديقي علي العقدة الذي كنت وإياه نتابع منشورات دار الآداب ونتناقش في كتابات الطيب صالح واسماعيل فهد اسماعيل .
في ذلك العام سأبدأ بتشكيل مكتبتي الخاصة ، وقد جمعت خلال العام الأول ما لا يقل عن 60كتابا .
كانت الحكومة الأردنية تمنحنا ، بداية كل عام ، مبلغ خمسة عشر دينارا لشراء الكتب ، وكنت انفقها في اقتناء الكتب المقررة وما يروق لي من كتب غير مقررة ، وأحيانا ،
إذا ما أردت شراء كتاب ،كنت أتناول ( ساندويش ) فلافل من مطعم فؤاد ، في وسط البلد ، بقرشين ، وأوفر ثلاثة عشر قرشا من ثمن وجبة مطعم الجامعة ، لأشتري الكتاب ، وكان المرحوم محمود عطا الله يفعل الشيء نفسه ، إذ غالبا ما كنا ، معا ، نتردد على مكتبات وسط العاصمة . كأنني كنت أعد نفسي ليومي هذا . ولقد تشكلت لدي ، خلال سنوات الدراسة الجامعية الأربعة مكتبة لا بأس بها . ولم اكتف بشراء الكتب من عمان .
في العام 1975 زرت دمشق لاتعرف على خالتي فاطمة ( أم محمد ) وأسرتها ، وأيضا لأتعرف على عمي محمود ( أبو محمد ) وأسرته ، فاغتنمت الفرصة لشراء أعمال الطيب صالح ، ومنها روايته " موسم الهجرة إلى الشمال " ، ولما لاحظت الكتب الماركسية تباع على عربات ، وسط دمشق ، فقد وجدتني اشتري " أصل العائلة " وكتبا ماركسية أخرى .
ثمة ديوان شعر أردت شراءه ولكني خفت ، وهو ديوان شعري لشاعر عرف باسم فتى الثورة . كان هذا الديوان يهجو المرحوم الملك حسين ، بسبب أحداث أيلول وخروج المقاومة ، من الأردن . ومع خوفي فقد وجدتني أشتري الديوان وأخذت أقرأ فيه في بيت خالتي ، ولما سمع ابنها الطيار محمد بعض المقاطع نصحني بعدم أخذه إلى الأردن ، لأنني قد أسجن بسببه . وحدث صراع في داخلي . أأخذ الديوان أم أتركه ؟ وكانت أحاسيسي ومشاعري الفلسطينية قوية جدا ، دون أن أكون منتميا إلى فصيل.
سأشتري كتابا عن بدر شاكر السياب والمذاهب الشعرية المعاصرة ، وما زلت أحتفظ به ، وهو للدكتور محمد التونجي ، وسأكتي بعض مقاطع من قصيدة فتى الثورة على صفحات الكتاب ، ومنها المقطع " عفوا فلست بسيدي ، حتى تكون رسالتي عنوانها يا سيدي ، لو كنت سيد شعبنا ، أو كان فيك دماؤنا لم تعتد...الخ ، وفي فلسطين ، في الضفة الغربية ، سأشتري ديوان توفيق زياد " عمان في ايلول " . لقد كانت قصائد ودواوين مثل هذه تفعل فعلها فينا ، وكانت تؤجج الحس الوطني الفلسطيني بشكل لافت ، وما كنا نتوقع ان يأتي يوم نتصالح فيه مع كثيرين ممن أساؤوا للشعب الفلسطيني وحاصروا ثورته ، حتى أوصلوها إلى ما وصلت إليه ، بل وغدت تنظر إلى هؤلاء نظرة متصالحة مهادنة ، وتضع أيديها في أيديهم ، بل وتمارس ما مارسوه بحقها ، مع بعض أبناء شعبها .
من ديوان الوطن المحتل قرأت أشعار المقاومة التي كتبت قبل 1968. قرأت أشعار محمود درويش وراشد حسين وسميح القاسم وآخرين ، ولطالما كررت :
" وطني يعلمني حديد سلاسلي
عنف النسور ورقة المتفائل
فإذا احترقت على صليب عبادتي
أصبحت قديسا بزي مقاتل "
ولا أنسى شغفي الشديد بمتابعة مجلات المعرفة والموقف الأدبي السوريتين والثقافة العربية الليبية وأفكار الاردنية ،وفي فترة لاحقة مجلة الدوحة التي خصصت زاوية عنوانها " قرأت وسمعت وشاهدت " ينشر فيها القراء شيئا لافتا مقابل مكافأة . وقد أرسلت للمجلة ما سمعته عن المرحوم الملك فيصل والنفط ، فنشرته المجلة وما زالت المكافأة منذ 1975 / 76 في الطريق ، وربما دخلت في جيب المحاسب.
في تلك السنوات كنت ، بالفعل ، أتنازل عن وجبة الطعام الرئيسة كي أشتري الكتاب .
خربشات 12/7/2016

***

45 :
( القدس عروس عروبتنا : أهلا أهلا ) :

في سبعينيات القرن العشرين استمعت إلى أشعار مظفر النواب لأول مرة .
كان الشهر شهر رمضان ، وكنت أقيم في وادي الحدادة ، في غرفة من غرفتين ، أنا والصديق الزميل فارس ، وهو طالب لغة عربية ، جاء من قرية النبي إلياس ، قرب قلقيلية ، وكان شابا مرحا يحب الدعابة ، ويميل ، أحيانا ، إلى ( الهيلمة ) .
كان ذلك الرمضان بداية تحول في حياتي ، فأنا الذي كان يصوم الشهر كاملا ، منذ الطفولة ، ما عدت أصوم ( لعله حزيران السبب ، فلو كنت في نابلس لصمت مع العائلة . لعله ! فحزيران شتتنا من جديد) . وفي رمضان ذاك أصغيت إلى قريب فارس يقرأ مظفر النواب عن ظهر قلب .
كنت عائدا إلى غرفتي ، وهي غرفة من بيوت جحا لها بابان يفضيان إلى ساحة واسعة أفضل ما فيها ، وأردت أن أعد طعام الإفطار ، وهو ال ( بولبيف ) والبندورة والبيض ، وإذا بضيف كريم . تعرفت إليه وتعاورنا الحديث حول الدراسة والتخصص وأشياء من هذا القبيل .
عرفت أن الضيف أنهى دراسته ، في كلية العلوم في الجامعة الأردنية ، وأنه يدرس في إحدى محافظات الجنوب .
وأخذ الضيف يقرأ على مسامعي مقاطع طويلة من " وتريات ليلية " ، ولا أدري من أين حصل على القصيدة . لم تكن أشعار مظفر النواب ، في ذلك الوقت ، مطبوعة ، فقد كانت تتناقل عبر أشرطة ال ( كاسيت ) ، ولم يكن يتناقلها إلا قلة قليلة من السياسيين أو من بقايا الفدائيين والناقمين على النظام الأردني والأنظمة العربية ، وكان هؤلاء حذرين في قراءتها وفي تبادل أشرطة قصائد الشاعر ، وأغلب الظن أن الضيف كان تحريريا ، ولا أدري كيف وثق بي خلال مدة قصيرة ، فلم نكد نتعارف ، اللهم إلا إذا كان فارس قال له إنني لاجيء فلسطيني لا يحب النظام العربي ويرى فيه مسؤولا أيضا عن نكبة الشعب الفلسطيني .
منذ ذلك اللقاء سحرت بمظفر النواب وأخذت أتابع قصائده ، ولما زرت سورية سألت عن أشعاره ولم أجد له سوى ديوان " للريل وحمد" ، وهو ديوان باللهجة العراقية ، لم أفهم الكثير من أشعاره ، فلم أقتنه ، بعد أن تصفحته .
وفي العام 1975 تعرفت إلى شاب من الجبهة الشعبية ، ممن شاركوا في معارك أيلول ، من خلال إحدى الفتيات اللاتي كنت اعرفهن . وأخذ هذا الشاب يقرأ قصائد مظفر النواب عن ظهر قلب . كان الشاب يريد أن يخطب الفتاة ، واعترض أهلها ، لأنه من الجبهة الشعبية ، ولما كان مناضلا وأهل الفتاة برجوازيين ، ولما كان في أيلول يقاتل وكان والد الفتاة يبحث عن رزقه غير مهتم بالسياسة والحرب الأهلية و ...و ... ، فإن الشاب قال لي عبارة ما تزال ترن في أذني : عندما كنا نقاتل دفاعا عن الثورة كان والد الفتاة يبحث عن العقار ليصبح على ما أصبح عليه .
مرة ، في العام 1976 ، وأنا أهييء نفسي للعودة إلى الضفة الغربية ، قرأت في الرأي أو الدستور الأردنيتين ، مقالا عن مظفر النواب . كم فرحت يومها . كما لو أن هدية سقطت من السماء . وعندما عدت إلى نابلس أخذت أصغي إلى إذاعة ليبيا لأستمع إلى قصائد الشاعر بصوته ، ولما نشر الشاعر عبد اللطيف عقل مقالة طويلة في مجلة البيادر عنوانها " مظفر النواب ، هذا المتسلل البذيء تسلل إلى القدس " قرأتها بشغف .
ستطبع منشورات صلاح الدين في القدس ديوان " وتريات ليلية " للشاعر ، وسأقرؤه عشرات المرات ، ومثله ديوان " اربع قصائد " ، وحين ينشر المرحوم حسين البرغوثي ، في جريدة الطليعة الشيوعية ، حلقات ، جمعها لاحقا في كتاب " سقوط الجدار السابع " ، ستتفتح عيناي على الشاعر الذي أنجزت عنه في العامين 1978/ 1979 مقالين نشرتهما في جريدة الفجر .
كان المقالان ضربا من النقد التعاطفي الذي لم يكن يصدر عن وعي نقدي ، أو عن ناقد ملم بمصطلحات النقد . ناقد تأثري ، إن جاز التعبير ، أدواته النقدية فقيرة . ولكني سأعود إلى قصائد مظفر ، بعد عشرين عاما ، لأكتب عنها كتابة جديدة مختلفة كليا عن الكتابة السابقة ، مستفيدا من مقولات نظرية التلقي الألمانية ، عن استقبال النصوص الأدبية ، وعن قراءة الناقد لنص واحد في زمنين مختلفين ، وكيف تؤدي إلى قراءتين مختلفتين ، بل وسأكتب عن تلقي أدباء الأرض المحتلة أشعار مظفر النواب ، وعن تأثير أشعاره في شعر الأرض المحتلة .
كان مظفر النواب واحدا من أهم الأصوات الشعرية التي استجبت لها ، وأخذت ادرسه في الجامعة ، وأنجزت عنه دراسات عديدة ، لا لشاعريته التي هي موضع خلاف بين النقاد ، وإنما لجراته في نقد الأنظمة العربية من ناحية ، ولأنه شاعر لا يبيع نفسه ، حافظ على مواقفه واحترم كلمته . والجانب الأخير هو الذي ترك أثرأ كبيرا في ، وجعلني حذرا دائما ، و مختارا العزلة و البعد عن الجهات الرسمية ، حتى لا أقع فريسة الإغراء ، فتناقض كتاباتي مواقفي ، وحتى لا يقال إنني ناقد مع التيار يبيع نفسه للجهة التي تدفع .
لقد علمني مظفر النواب الحذر ، لا الشتائم .
القدس عروس عروبتنا : أهلا .. أهلا .
خربشات 13/7/2016

***

46 :
( وقوفا بها صحبي علي مطيهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجمل ) :
قبل العام 1972 كنت أعرف عمان حيا حيا ، وجبلا جبلا ، لا لأنني ديك فصيح من البيضة يصيح ، ولا لأن أبي كان فرحا بي وأنا طفل ، فكان يتجول بي في العام الذي أقمنا فيه في مخيم الحسين - يوم عمل هناك - ليعرفني على المدينة ، وإنما عرفتها من نشرات الأخبار في أثناء الحرب الأهلية بين الفدائيين والجيش الأردني .
في العام 1970 كنا نتابع أخبار الحرب ساعة ساعة ونشرة نشرة ، من خلال صوت العاصفة التي كنا منحازين لها كليا ، وكانت هي تبث تفاصيل ما يجري ، وهكذا سمعنا بجبال عمان ومخيماتها ؛جبل عمان وجبل الحسين وجبل التاج وجبل الأشرفية وجبل الجوفة ، ومخيم الوحدات ومخيم الحسين ومخيم البقعة ومخيم شنلر أيضا ، بل وعرفنا أحياء جبل الحسين حيا حيا ودوارا دوارا ؛ دوار الداخلية ، وإن لم تخني الذاكرة دوار مكسيم / فراس .
كنا نعرف عدد الدبابات التي دمرت وعدد الشهداء والجرحى ، ومقدار التقدم والتراجع و ...و ....
قبل أن أسكن في مخيم الحسين ، زرت جبل الحسين ، فقد اصطحبني خالي إلى بيت خالة أمي ، ليسلم عليها ، وليعرفني إليها . وهي امرأة فاضلة أمها تركية تقيم في نابلس ، وهي بيضاء بيضاء وطويلة القامة وذات وجه بشوش مرح وترحب بالزائرين وتحب أقاربها ، وكان زوجها يافاويا حنطي البشرة جادا في عمله ، مكبا عليه . ولم أعرف يومها أن البيت الذي تقيم فيه هو بيت الحكيم جورج حبش الذي غادر الأردن إلى لبنان بعد أحداث جرش في العام 1971. وكان البيت يقع مباشرة على دوار جرت بالقرب منه المعارك .
في أثناء الانتقال من مخيم الحسين إلى الجامعة الأردنية ، كان هناك امكانياتان ؛ الأولى أن استقل سيارة من المخيم إلى وسط البلد ، حيث ( باص )ات الجامعة ، والثانية أن أسير مشيا على الأقدام من نهاية المخيم إلى دوار الداخلية ، والثانية أوفر مالا ، ولكن أجواء المطر والبرد ، والأرض الموحلة لم تكن لتساعدنا في أيام البرد والشتاء ، وإن ساعدتنا في أيام الربيع والصيف .
في أيام الربيع المشمسة كنت ومحمود عطالله وشابا يدرس التاريخ من عائلة ابو زر ، وهو لداوي ، وشبابا من مخيم بلاطة سكنوا في حي النزهة الملاصق للمخيم ، كنا نقطع الأرض الخلاء الفاصلة بين مخيم الحسين وجبل الحسين ، وكنا نشاهد بقايا الاستحكامات التي اقامها الفدائيون في تلك المنطقة ، وقد ظلت هذه الاستحكامات لفترة طويلة ، ولم تزل إلا بعد أن بدأت المباني تزحف إليها ، وحين زرت عمان في العام 2000 والعام 2001 ، لأشارك في مؤتمرات علمية ، زرت تلك المنطقة ، ولم تبق فيها أطلال أقف عليها .
في العام 2001 نزلت في فندق ( طوليدو )في العبدلي ، بالقرب من جبل الحسين ، واستبد بي الشوق لزيارة مرابع الشباب ، وأخذت أتجول في تلك المناطق ، وبدا لي أنني لم أعرف منها شيئا .
كل صباح كنا نقطع فيه الطريق من المخيم إلى دوار الداخلية كنا نشاهد الاستحكامات ، فاذرف الدمع على أطلال المقاومة ، وربما لهذا ، وأنا في دمشق ، اشتريت ديوان فتى الثورة ، ودونت بعض مقاطع منه على كتاب . لقد كانت المقاومة الفلسطينية املنا وخلاصنا ، ولم نتوقع يوما أنها ستخيب أملنا ، وأنها ستغدو مثل الأنظمة التي حاربتها .
ستعيدني الاستحكامات ، لاحقا ، إلى أشعار الشاعر المرحوم توفيق زياد ، وإلى ديوانه " عمان في أيلول " ، وكان زياد انحاز لشعبه وللمقاومة ووقف ضد الملك حسين . وفي نهاية 90 ق 20 فكرت أن أكتب دراسة مطولة عن صورة المرحوم الملك حسين في الأدب الفلسطيني ، ثم توقفت ، لأنه كان علي أن أحصل على الأشعار التي كتبت في المنفى ، ولم تكن بحوزتي ، ومنها ديوان سعيد المزين " فتى الثورة " الذي تركته في دمشق ، وكنت انقطعت عن زيارة الأردن مدة 18عاما ، و قررت ألا أزورها .
لم أنجز الدراسة لأسباب عديدة ، ولما اتصلت بي ابنتاي ، بعد سنوات من الانقطاع وجدتني أشارك في مؤتمر في جامعة اليرموك ، واسافر إلى عمان ، وهناك عرفت من الدكتور تركي المغيض -وهو أستاذ كان يدرس في جامعة اليرموك وكان زارني في ( بامبرغ ) في المانيا - أنه كتب عن صورة الملك حسين في الشعر . ولما سألته عن الدواوين التي درسها وهل درس الأشعار كلها ، التي مدحت الملك والتي أبرزت له صورة سلبية ، عرفت ان دراسته تركز على الأشعار التي ابرزت الصورة الإيجابية للملك ، وأنه اغفل الأشعار التي تظهر الصورة المناقضة ، فأيقنت أن لا قيمة لدراسته ، لا لموقف من الملك ، وإنما لسبب أكاديمي صرف ، فقد غدوت ، مع مرور الأيام ، من فصيلة الكائنات ذات الدم البارد . غدوت دارسا أكاديميا صرفا ، وهذا ،بالطبع ، لن يروق للفلسطينيين ولن يروق للملك أيضا .
في 70 ق 20 سأقرأ أشعار توفيق زياد في أيلول " عمان في أيلول " ، ولاحقا سأقرأ أشعار أحمد دحبور ايضا ، وكلما اقترحت الموضوع على طالب ، ليكتب فيه رسالة ماجستير تردد وعزف ، فالموضوع شائك ، وقد يسبب لمن يريد الخوض فيه مشاكل هو في غنى عنها .
" يا حادي العيس سلم لي على عمان
وقبل الجرح ، واحضن أهلها الشجعان
وقبل المدفع الرشاش ، في يدها
وخندق المجد ، والساحات ، والجدران
واهتف بها : رأسك المرفوع معجزة
عاش الحليب الذي أرضعت يا عمان
فواصلي الدرب ، يا مصلوبة أنفت
أن تنحني ، لحظة ، للسيف والسلطان
وواصلي الدرب ... يا عماننا ، فغدا
ندق بيرقنا الدامي على "بسمان" " .
وما كان أحد يتوقع أننا سنذهب إلى بسمان زاحفين ، مشيدين بالحكم الرشيد ، وأن ما جرى كان غلطة طباعية .
يا لحزيران إلى أين قادنا
هل هو الشاعر أحمد دحبور الذي كتب :
ألا لا ( برأتهم ) من دمي عمان !
يا لحزيران إلام قادنا !
خربشات 13/7/2016 مساء.

***

47 :
( القصر الذي تحول إلى مكتب عمل " ليشكة ")

لم ندق قصر بسمان ، بل ذهب أكثرنا إليه زاحفا .
ولقد أردنا ، أو هكذا قيل ، أن نرمي اليهود في البحر ، فرمونا في الصحارى ، ومتنا في الخزانات ، وألقت قياداتنا بنا في مكبات النفايات ، وسلبتنا بعض ما لدينا ، وعادت إلى خزاناتها وقصورها ،كما لو لم يحدث شيء على الإطلاق . ومن بقي منا على قيد الحياة ، بعد النكبة والهزيمة ، تكفلت به الحروب الأهلية التي لا تنتهي .لا تنتهي .لا تنتهي . يا إلهي مثل خطوات حامد في رواية غسان كنفاني " ما تبقى لكم " 1966.كما لو أن غسان كان ذا نبوءة ، فما زال حامد يعبر صحراء النقب ، وينتقل من صحراء إلى صحراء ، حتى وصل به الأمر إلى صحراء القطب المتجمد الشمالي ، كما كتبت الروائية سامية عيسى في روايتها " خلسة في كوبنهاجن " 2013 .
حقا طلع صيتنا واشيع أننا سنرمي اليهود في البحر ، واننا خاطبنا السمك ليتجوع ، وفعلها الإسرائيليون ورمونا في الصحارى ، فقد كانت الذئاب تنتظر ، وكانت مكبات النفايات أيضا تنتظر ، وكانت شرطة الحدود العربية تستفسر عن سر رحلات أبي الخيزران إلى البصرة ، فما أرخص اللحم العربي.
في حزيران 1973عدت إلى نابلس لأنفق الإجازة السنوية ، وقد غدوت طالبا جامعيا . هل حننت إلى خبز أمي وقهوة أمي ، فآثرت عدم الدراسة في الفصل الصيفي ؟ ام أن الأمر كان يعود إلى أن الحكومة الأردنية لم تكن تدفع لنا رواتب البعثة في أشهر الأجازة الثلاثة ، بل وكانت لا تدفع لنا من شهر حزيران إلا نصف المبلغ ؟حكومة بخيلة أو أنها كانت حكومة فقيرة ، لأنها تقف على أطول خط مجابهة مع العدو الإسرائيلي ، وبالتالي كانت توفر المال لشراء السلاح؟لست أدري .
في نابلس أخذت اتسكع في الشوارع وأذهب إلى مكتبة بلدية نابلس أتصفح الجرائد التي كانت تصدر في الضفة الغربية ، فلم تكن الصحافة العربية تصل إلى فلسطين ، ولم تكن أيضا صحافة الحزب الشيوعي الاسرائيلي ( راكاح )توزع في الضفة ،ووهي جريدة الاتحاد ومجلة الجديد ، بل إن كل من كانت هذه الصحافة في حوزته ، كان يعاقب ، إذا ما ألقي القبض عليه وهي معه . كانت إسرائيل تسمح لصحفها ومجلاتها الصادرة عن الأحزاب الصهيونية بالتوزيع ، بل وكانت تنشر لكتاب من الضفة ينشرون فيها ، وتدفع لهم مكافآت .
فكرت أن أعود وأعمل معاونا ، أي ( كونترول ) باص أو أن أبيع الاسكيمو والتمرية ، وغالبا ما كنت أبيع التمرية في الصباح المبكر ، وفي العاشرة صباحا أذهب إلى مصنع الاسكيمو لأخذ علبة بيع الاسكيمو واتجول في شوارع المخيم .
في الثالثة فجرا كنت أذهب إلى المدينة مع أول ( باص ) ، مع المرحوم ( أبو الشكر) ، لأحجز لدى بائع التمرية دورا ، و آخذ حصتي على صينية ، وأعود إلى المخيم أنادي " سخنة يا تمرية "، وغالبا ما كنت اريح عشرة قروش من وراء بيع التمرية ومثلها من وراء بيع الاسكيمو ، وهكذا أذهب إلى السينما ، وأشتري ملابس المدرسة ، وأوفر على أبي .
في صيف ذلك العام 1973 حدث ما لم نكن نتوقعه ، فقد انزلقت الحافلة التي يعمل عليها أخي درويش في وادي الباذان العميق وتوفي ، وكان عمره 23عاما ، وقد حزنت عليه ، وكان حزني مضاعفا ، فقد كان ، خلال عامي الدراسي الأول في الجامعة الأردنية ، يزورني ، باستمرار ، في مخيم الحسين ، وأحيانا كان يبيت عندي ، بل إنه كان يحضر لي بعض الطعام الذي تعده أمي وترسله معه . كان درويش ينقل الحجارة والبرتقال والخضروات من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية ، وكان ذا شخصية محبوبة ، بل وكانت له علاقات مع فتيات يهوديات يعملن على الجسر ، وقد احببنه لوسامته اللافتة .
بموت أخي فقد أبي مصدر رزق يعينه على الإنفاق على العائلة ، وهكذا وجدتني أبحث ، في الإجازة ، عن عمل في فلسطين المحتلة 1948. وقد اشتغلت في منجرة لمدة أربعين يوما ، ولكنني لم أعمل عن طريق مكتب العمل ( الليشكة ) ، وقد حاولت ولم أفلح .
دخلت القصر الملكي أكثر من مرة ، من أجل الحصول على تصريح عمل رسمي في فلسطين ، ثم يئست . أما كيف ؟ فذلك أن القصر الذي بني ليقيم فيه المرحوم الملك عبدالله ، تحول بعد نكبة 1948 إلى مقر لبلدية نابلس ، وبعد هزيمة 1967 إلى مكتب إصدار تصاريح للعمال الذين يريدون العمل في الداخل ، أي إلى مكتب ( ليشكة ) .
منذ طفولتي وأنا أسمع الناس يتحدثون عن قصر الملك عبد الله هذا ، فقد أتم بناؤه ، وأراد الملك أن يقيم فيه ، حين يزور نابلس ، ولكن قتل الملك في القدس ، على يد عشو ، حال دون ذلك ، وفي لحظات النقمة على النظام الأردني ، كان الناس يكررون الأغنية ( بنى القصر ، وما خشوا ، تسلم إيدك يا عشو ) . ومن قتل في القصر هو جندي إسرائيلي كان بحرسه ليلا ، فقد هاجمه رجال المقاومة و أردوه قتيلا ، وغالبا ، بعد أن أحضر التمرية ، ما كنت ، وأنا انتظر ال( باص ) أشعر بالخوف . إذ ماذا لو جن الجندي وهييء له أنني أراقبه . أو أنني أريد قتله .
هل حدثت هزيمة حزيران في العام 1967 أم أنها حدثت في العام 1948 وظلت تتجدد مثل طائر الفينيق ، مثل تموز ، مثل طائر العنقاء . يا لنا من بؤساء ، فلقد خربت دولة إسرائيل حياة الشعب الفلسطيني وسممت علاقاته مع العرب أيضا
خربشات 14/7/2016 صباحا .

***

48 :
( عام الحسم الذي تأخر )
مر عامان ونحن ننتظر ما كان يعد به الرئيس أنور السادات : عام الحسم . ولما تأخر الحسم عن موعده كثيرا فقد غدا الرئيس موضع سخرية ، وبدأ حزيران يكبر أكثر وأكثر ، ويطول أكثر وأكثر ، مثل ليل العاشقين الذي كتب عنه المتنبي :
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال ، وليل العاشقين طويل
وبفقدان أخي أخذ الحزن يكبر ، ولم يحسمها السادات لننشغل بأمر جديد يطغى على الحزن الخاص.
أخذ أخي الثاني عدنان يعمل سائقا على شاحنة كبيرة ، ومرة ذهبت معه إلى ميناء اسدود ، ليحضر حمولة لتاجر نابلسي لاحظ أنني وأخي حزينان ، ولما كان الحديث ذا شجون ، فقد قصصنا عليه قصة أخي الكبير . واسانا الرجل وقال لنا إن الحزن مثل قطعة صابون جديدة ، يصغر مع الأيام ويذوب . ولعله كان يتحدث عن تجربة ، فمع مرور الأيام يخف الحزن ، وربما يخف أيضا لأن مصائب أخرى تتوالى فتحل محل المصيبة السابقة .
ومع ذلك فقد زرع موت أخي الحزن في نفسي وولد لدي الخوف الذي بدا يكبر مع الزمن ، وسيطر علي لفترة من الوقت ، فكلما تأخر اخي عن موعده دب الرعب في قلبي وتذكرت أخي الراحل ، بل وغالبا ما كنت أذهب إلى سوق الخضار في عمان ، في مخيم الوحدات ، لاسأل عنه إن تأخر ، وكان ، عادة ، يأتي إلى عمان يوما بعد يوم .
غالبا ما يسألني الناس السؤال التالي : لماذا لا ليس لديك سيارة ، وأنت أحوالك ميسورة؟ويفاجأون حين أخبرهم بأنني ، حتى اللحظة ، لا أملك رخصة سياقة ، ويزدادون استغرابا ، إذ أغلب أهلي من الذكور يسوقون أو لأعمالهم صلة بالسيارات .
كان أخي الراحل يعلمني السياقة صباحا ، حين كان يسوق ال( باص ) الذي يسوقه أبي ما بين نابلس ومخيم عسكر ، وكان للمرحوم عمر خالد ، وهو من نابلس . ولما حدث حادث انزلاق السيارة وفقدنا أخي تكونت لدي عقدة من السياقة ، وهكذا لم أفكر في تعلمها على الإطلاق . واكتشفت ، فيما ، بعد ، حين غدوت كاتبا ، وتحديدا في السنوات الأخيرة ، أن عدم الحصول على رخصة هو نعمة من النعم للكاتب ، إذ أن ركوب الحافلات العمومية يمده بكم كبير من المعلومات التي قد يوظفها في كتابته ، عدا أنه ، أي الكاتب ، يظل على صله بهموم الناس ومشاكلهم وقريبا من تفكيرهم ، ويظل ملما بما يجري في مدينته .
في نهاية أيلول سأغادر الضفة إلى عمان ثانية ، وهذه المرة لن اسكن في مخيم الحسين ، فقد أجرت صاحبة الغرفتين غرفتيها ، وكان علي أن أبحث عن سكن جديد . ولما أنفقت وقتا طويلا في البحث عن سكن ، دون جدوى ،فقد استقر بي الرأي أن أسكن مع الزميل فارس أسعد في وادي الحدادة ، أنا وهو والزميل علي الشافعي ، من شويكة ،قرب طولكرم ، وطالب اسمه وجيه كان يدرس علم النفس والتربية ، وهو من كفر راعي أو يعبد ، قرب جنين . والغرفتان اللتان أقمنا فيهما مثل بيت جحا حقا . كل غرفة لها بابان ، باب من الخارج وباب من الداخل يطل على الساحة وكان صاحبهما يقيم في شقة أسفل الغرفتين ، والمزعج فيهما هو الدرج الذي يؤدي إليهما . وذات ليلة ، ونحن نحتفل معا ، وكنا طلبنا من صاحب الدار أذنا بالاحتفال الذي طال ، خرج صاحبهما بمسدسه يهددنا وطلب منا الرحيل فورا ، ولكن فارس كان ذا لسان يسحب السم من الأفعى ويرقصها ، وهكذا اعتذر للرجل الذي سرعان ما نسي ما حدث وطالبنا بألا نكرر ما حدث ( ........ ) .
في تشرين من العام الدراسي 1973 /1974 حدثت حرب تشرين ، ولم نكن لنصدق الأمر ، فها هو عام الحسم يأتي ، وها هو الرئيس انور السادات يبر بوعده ويخوض الحرب ، وها نحن نصبح محللين سياسيين كبارا .
ما من أحد فينا لم يكن يصغي وحسب ، بل إننا كنا نبدي آراءنا ونحن لا نعرف خمسنا من طمسنا . وذات ليلة من ليالي الحرب ، وأنا أسير مع صديق لي في شوارع عمان نتناقش في شأن الحرب خرجت مني عبارة فيها ضرب من الكفر ، ولم أكن انتبهت إلى شرطي كان يسير وراءنا ، وقد اصغى إلى العبارة .
كما لو أن الشرطي أراد أن يشارك في حرب رمضان ، وها هو يجد ضالته في وفي عبارتي ، وقد قرر اقتيادي إلى مخفر الشرطة ، ليعاقبني ، فبدلا من أن أصلي لله ، في هذا الوقت ، لينصر الله العرب ، ها أنا أكفر ، وكفري هذا قد يقود إلى الهزيمة ، وحاولت أن أشرح للشرطي الأمر وأوضحه ، وأبين له لغو الكلام ، وبعد أخذ ورد تركني وامري ، ولم أكن أعرف أن عبارتي كانت المسؤولة لاحقا عن ثغرة الدفرسوار التي غيرت مجرى الحرب وأعطت إسرائيل ورقة قوية للمفاوضات التي وافق الرئيس السادات بموجبها على وقف الحرب ، وعدم مواصلتها لتحرير فلسطين . وهكذا توقفت معركة الدبابات التي قيل إن مصيرها سيقرر مصير دولة اسرائيل ، فإذا ما انتصر المصريون فيها غدت الطريق إلى تل أبيب سالكة .
يا لي من شاب متهور لا يقدر الظروف ، ولا يحسن الكلام ، ولا يجلب إلى قومه إلا المصائب والهزائم . أنا النحس ولم أكن أدري ، ففي حزيران 1967كنت المسؤول عن سقوط قلقيلية ، وكنت من الطابور الخامس ، وقد سترها الله فلم يلطمني الشرطي كفا ، كما فعل أبو محمود صبرة في حزيران.
وأخيرا جاء عام الحسم الذي لم يحسم ، حتى اللحظة ، أي شيء .
خربشات 14/7/2016 مساء

***

49 :
( أصيح بالخليج : يا خليج .يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى ،
فيرجع الصدى ، كأنه النشيج )
مع حرب تشرين التي اندلعت كنتيجة لحرب حزيران ، تغيرت الأحوال إلى حد بعيد . لم يعد العمل في فلسطين 1948 هو مصدر الرزق الوحيد لأهل الضفة الغربية . لقد ارتفعت أسعار النفط ، بسبب الحرب ، وانفتح سوق الخليج أمام الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة ، وبدأت الهجرات المؤقتة .
قبل الحرب كنت تسير في شوارع نابلس فتراها ، باستثناء يوم السبت ، شبه فارغة ، ذلك أن أكثر الرجال يذهبون مبكرا إلى أماكن عملهم في الداخل ، ولا يبقى إلا الطلاب وأصحاب المحلات التجارية والنساء .
كانت المدينة تنشط وتزدهر في ساعات محددة ، وأما بقية النهار فتهدأ فيها الحركة ، ويزداد الأمر في فصل الشتاء ، خلافا لفصل الصيف ، حيث العطلة الصيفية لطلاب المدارس .
من بداية أيلول حتى نهاية أيار تكون المدينة شبه فارغة ، ولا أقول مهجورة : هدوء في الشوارع وفي محلات البيع والشراء كلها تقريبا ، ويظل التجار ينتظرون الأعياد أو الإجازة الصيفية .
مع بداية العام 1974 تقريبا أخذ قسم من العمال يبحثون عن عمل في دول الخليج ، فباعوا الثلاجات والغسالات والتلفازات الإسرائيلية التي اشتروها ويمموا وجوههم شطر الدول الخليجية ، كما لو أنها ( الدوراردو ) التي ورد ذكرها في رواية ( فولتير ) " كنديد " وذكرها إميل حبيبي في روايته " المتشائل " .
في تلك الأيام بحث خريجو المعاهد ،ولم تكن سوى جامعة واحدة هي جامعة بير زيت ، عن فرص عمل في ليبيا والكويت والسعودية والإمارات ، وما من خريج إلا فكر في السفر ، بخاصة أن فرص الوظيفة في التربية والتعليم كانت شحيحة جدا ، لدرجة أن ضابط التربية الإسرائيلي أخذ يخترع فرص عمل مضحكة ، كأن يوظف الخريج نصف وظيفة ، وهناك، ممن أراد البقاء في أرضه ، من وافق على العمل بوظيفة نصف معلم ، ولكنه ، في النهاية ، وجد نفسه يغادر إلى الخليج ، ومن هؤلاء ابن عمي المرحوم زكي .
لقد قلبت الحرب الأمور رأسا على قدم ،فقبل اندلاعها ، وفي ذروة الإقبال على العمل في الداخل الفلسطيني ، أخذ بعض الفلسطينيين المقيمين في الأردن يطلبون من أهلهم أن يصدروا لهم تصريحا لزيارتهم ، وحين ينجح هؤلاء في إصدار التصريح ، ويأتي الراغبون ، يغدون عمالا في المصانع الإسرائيلية أو في ورش البناء أو في المناجر الكبيرة .
قبل أن تفتح أسواق الخليج ، أمام العمال والموظفين ، أصبح التعليم مدعاة للسخرية ، فأي عامل في الداخل يربح أضعاف ما يقبضه الموظف في نهاية الشهر ، وتدنت مكانة المعلم ، بل وأخذ الناس يتندرون على هذه المهنة ، وما عادوا يرددون بيت شوقي " قم للمعلم وفه التبجيلا " إلا في دروس الإنشاء التي يعطيها معلم بحكم العادة ليس أكثر . وربما أخذ الناس بما قاله ابراهيم طوقان في رده على شوقي " ويكاد يفلقني الأمير بقوله
كاد المعلم أن يكون رسولا "
وكرره الناس
" كاد المعلم أن يموت قتيلا " .
وشاعت حكاية غزاوي يسوق حماره ويخاطبه ، حين يعاكس : بعدين يا أستاذ .
كان صديقي محمود أذكى مني ، واشطر في الرياضيات والعلوم ، ولكنه كان مهملا ، فيم أخذت أنا بقول محمود درويش قبل أن يقوله : " والوحي حظ المهارة إذ تجتهد" . وقد ترك المدرسة وأخذ يعمل في شركة ( سوليل بونيه ) الإسرائيلية للبناء ، وتحسنت أحواله ، ولما انتهت الحرب يمم وجهه شطر السعودية ، وهناك ، كما يقول أهلنا ، قال له الكريم : خذ .
وغدا صاحبي ثريا جدا ، يلعب بالنقود ، كما يقولون ، لعبا . وكان أحيانا يسخر مني ومن تعليمي البائس ، فماذا ستفعل لي بضعة دنانير أو ليرات إسرائيلية في الشهر ، وكان هو ، أحيانا ، ينفق في اليوم الواحد ، قدر راتبي الشهري .
سافر أهل الضفة إلى الخليج وتحسنت أحوالهم ، وقليلون هم من صمدوا . وكنت ذكرت هذا وأتيت على قصيدة عقل وقصة أكرم هنية .
كتب هنية في 1981قصة قصيرة عنوانها " مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما " وظف فيها الخيال واللامعقول لمحاربة فكرة الهجرة . الأجنة ترفض الخروج من أرحام الأمهات إلا إذا عاد الآباء ،وهكذا اجتمع مؤتمر فعاليات القرية ليقول للمهاجرين : عودوا .
وفي تلك الأيام ،في الصيف ، كنت ترى الدشاديش البيض منتشرة في نابلس وفي المخيم ، علامة على الثراء وسعة اليد .
اما أنا فكنت أسافر إلى الجامعة وأعود إلى الضفة .
في بداية أيلول ، بعد الثامنة صباحا ، حيث يذهب الطلاب إلى مدارسهم ، كنت أعاني من الفراغ . لقد غادر أيضا أصدقائي المعلمون الذين زاروا الضفة خلال إجازاتهم .
كما لو أن المدينة مدينة النحاس يصفر فيها الريح ، ولم تكن تزدهر ، وتنشط فيها الحركة ، إلا في ساعات محددة ، ولأنني اشتريت ديوان " أنشودة المطر " للسياب ، فقد كنت أكرر : " يا خليج ، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى " وكنت اقرأ بشغف كبير قصيدة " غريب على الخليج " مع أنني لم أكن مغتربا خارج البلاد.كأنني اغتربت من خلال اغتراب أصدقائي الذين كان علي أن انتظرهم عاما ، ليعودوا فنجتمع من جديد في المقهى على ورق الشدة .
خربشات 15/7/2016

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى