د. أحمد الحطاب - غزوُ روسيا لأوكرانيا وضَّح كلَّ شيءٍ : أين ذهبت الإنسانية؟

طبيعة البشر تتأرجح بين الخير و الشرّ. و الخير لا يجب إدراكُه فقط من الناجية المادِّية. الخيرُ، أولاً و قبل كل شيءٍ، مصدرُه العقل. فهو إذن فِكرٌ أو له خلفيةٌ فكريةٌ متمركِزةٌ في وِجدان و ضميرِ البشر. و حينما نقول : "فاعِلَ خير"، فهذا معناه أنه ما تمَّ التَّفكيرُ فيه معنوياً، نحوَّلَ إلى شيءٍ ملموسٍ أو إلى عملٍ ملموسٍ من الناحية المادية. فما هو إذن الخيرُ؟

و ما دام الخيرُ مرتبِطاً بالعقل و الفكر أو بخلفيةٍ فكريةٍ، لا يمكن تعريفُه يكيفيةٍ مطلقة و نهائية. لأن ما يراه شخصٌ ما خيراً قد يراه شخصٌ آخر شرّاً. و لهذا قُلتُ أعلاه إن طبيعةَ الإنسان تتأرجحُ بين الخير و الشَّر. فما هو مُدرَكٌ اليوم كخيرٍ، قد يُدركُ غدا كشرٍّ و هكذا. و لهذا، فما يراه عامة الناس خيراً مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالزمان و المكان و الثقافة السائدة فيهما.

انطلاقاً من هذه الاعتبارات، يمكن القولُ بأن الخيرَ هو كل الأفكار و السلوكات و الأعمال التي تُفرِحُ الناسَ و تُسعِدُهم أو، بعبارةٍ أخرى، كل الأفكار و السلوكات و الأعمال التي تُفرِح و تُسعِد الأفرادَ و الجماعات. و عندما يتعلَّق الأمرُ بالجماعات، فالخيرُ هو كل ما يصُبُّ في الصالح العام. فالخيرُ إذن، كفكرٍ و كسلوكٍ و كعملٍ لا حصرَ له من حيث الشكل و المضمون. و لا أدلَّ على ذلك أننا نقول لبعضنا البعض : صباحُ الخير و مساء الخير و نُصيح على خيرٍ و هل أنتَِ بخيرٍ…"، أي أن تنامَ و تستيقظَ و تُمسِيَ و أمامك كل ما يُفرِحُ و يُسعِدُ.

بعد هذه التَّوضيحات، السؤال الذي يفرض نفسَه هو : ماهو الشَّرُّ؟ بكل بساطةٍ، الشَّرُّ هو كل ما يعاكس الخيرَ أو كل ما يسيرُ في الاتِّجاه المُضادٌّ للخير. لكن ما يجب التَّركيزُ عليه هو أن الخيرَ و الشرَّ مصدرُهما واحدٌ. إنه العقل البشري أو إنهما الفكرُ و الضمير البشريان. و العقل و الفكر و الضمير لا يمكن فصلُهم عن الإنسانية. الإنسانية التي هي كل ما يتميَّزُ به الإنسانُ عن باقي المخلوقات، على الأقل، تلك التي هي قريبة منه بيولوجياً. فلماذا طبيعة الإنسان تتأرجحُ بين الخير و الشرِّ؟ لأن هذا التَّارجُحَ رهينٌ بمستوى و حجمِ الاهتمام الذي يوليه الكائن البشري للصَّالح العام. و هنا بيتُ القصيد. و عندما يمتزج هذا التَّارجحُ بالأنانية الفردية و الجماعية و بالسياسة و الديمقراطية و حقوق الإنسان و الإيديولوجيات…، و عندما تصبح السياسةُ و الديمقراطيةُ و حقوقُ الإنسان و الإيديولوجياتُ… مجرَّدَ قوقعات فارغة من المحتوى و مجرَّدَ حِبرٍ على ورق، فحدِّث و لا حرج. و لا غرابةَ أن يتصدَّعَ الصالحُ العام بل أن يتصدَّعَ الخيرُ بمعنى أن الشَّرَّ يصبحُ طاغياً على المجتمعات، بل و يُسيِّرُ شؤونها. و عندما تُصبح المجتمعاتُ تحت ضغطِ الشَّرِّ، فلنقل وداعا للقِيم الإنسانية التي بُنِيَ عليها ميثاقُ الأمم المتَّحدة و التَّصريحُ العالمي لحقوق الإنسان و الدساتير الوطنية و الديانات السماوية…

و بكل أسفٍ، هذا هو حالُ دُولِ العالم اليوم. لم يعد فيها مكانٌ للقيم الإنسانية و لا للأخلاق و لا للديمقراطية و لا لحقوق الإنسان… كلُّها أشياءٌ لذَرِّ الرماد على العيون بل لتخذير العقول و لبسطِ نفوذ القوي على الضعيف و إجباره على الاستسلام لأمر الواقع. الإنسانية و الأخلاق و الديمقراطية و حقوق الإنسان… فهي موضوعةٌ و معمولةٌ للمُغفَّلين و لجعلِ الضعيف يبني عليها آمالاً إلى ما لا نهاية مترقِّباً مجيئَ العدالة و الإنصاف.

و الأمثلة كثيرة في هذا الصدد أذكرُ منها على الخصوص النزعة الاستعمارية لدول الغرب و تغيُّرات المناخ. المثل الأول تمثَّل في إخضاعِ الدول الضعيفة في أفريقيا و أمريكا الجنوبية و دُولٍ أخرى آسيوية للاستعمار الغربي لنهب ثرواتها و استغلالها اقتصاديا استغلالاً فاحشاً. و حتى عندما استقلَّت هذه الدُّولُ، فإنها، إلى حدِّ الآن، لم تستفد و لن تستفيدَ من ما تنصُّ عليه المواثيق الدّولية و على رأسها ميثاق الأمم المتَّحدة و التّصريح العالمي لحقوق الإنسان من عدالة و مساواة و تضامن و تآزر… أما تغيُّر المناخ، فهو أكبر دليلٍ على أنانية الدول و ضربها عرضَ الحائط مضامين المواثيق المشار إليها أعلاه و على رأسها الدول المتقدمة اقتصاديا و صناعيا.

و الغزو الذي تتعرَّض له حاليا أوكرانيا من طرف روسيا هو بمثابة إشارةٍ قوية، من بين العديد من الإشارات، تبيِّن بوضوح أن العالمَ يفقد إنسانيتَه عندما تفرض الدول القوية هيمنتَها على الدول الأخرى. بل إنها إشارةٌ تبيِّن أن مصيرَ و سيادةَ العديد من الدول ليست بيد هذه الدول أو، على الأقل، ليست مضمونة على الإطلاق. و ما يزيد في الطين بلَّةً هو أن روسيا عضوٌ في مجلس الأمن و بالتالي، من واجبها الحِفاظُ على السِّلم على المستوى العالمي. فعوضَ أن تحافظَ على هذا السِّلم، فإنها بعترته متحدِّيةً الأعضاءَ الآخرين لمجلس الأمن بل العالمَ كلَّه.

انطلاقاً من هذا الوضع الكارثي، لا شيءَ يضمن تعرُّضَ الدول الفقيرة، الضعيفة و المتأخرة اقتصاديا لموجةٍ جديدةٍ من الاستعمار. و خصوصا أن مجلسَ الأمن و الأممَ المتحدةَ يكيلان بمِكيالين و بالتالي، لا وزنَ لهما أمام الدول القوية اقتصاديا، عسكريا و جيواستراتيجيا. بل إنهما وسيلتان و قوقعتان فارغتان تستعملُهما الدول القوية عند الحاجة لبلوغ مآربها.

فأين هي الديمقراطية و أين هي حقوقُ الإنسان اللتان تتشدَّق بهما، صباحَ مساء، الأمم المتحدة و مجلس الأمن؟

فلنتذكَّر أن السياسةَ العالميةَ مبنيةٌ حصريا ليس على سيادة حقوق الإنسان و حق الدول في الوجود لكن على المصالح المتبادلة. مصالحٌ، غالبا ما تخضع هي الأخرى، لعامل القوة الاقتصادية و بالتالي، تكون لصالح القوي على حساب الضعيف.

هذه هي حقيقة العالم الذي نعيش فيه اليوم. عالمٌ غير عادل، مادِّي حتى النخاع، انتهازي، قاسي، متوحِّش و لاإنساني. عالمٌ، أن اختلفت فيه الدول القوية من حيث المبادئ و السلوك و الأهداف، فإنها تتشابه في استعمال القوة لتحقيق مصالحها الاقتصادية و التَّوسُّعية.

و الطامة الكبرى تحدثُ عندما يكون النظامُ السياسي للدول القوية نظاماً دكتاتوريا تتمركز فيه السُّلطُ في يد واحدة. و هذا هو ما ينطبق على الرئيس الروسي الذي لا تهمه الديمقراطية و حقوق الإنسان و المواثيق الدولية… ما يهمُّه هو بسطُ نفوذه و هيمنتُه على الدول السائرة في فلكه و المجاورة له عن طيب خاطرٍ أو كُرهاً علماً أن الدكتاتوريين، غالبا ما يكونون مرضى بالنرجيسية التي تجعل منهم أشخاصاً خطيرين على أنفسهم و على شعوبهم. فلنتذكَّر ما حدث في ألمانيا مع هيتلر Hitler و في إيطاليا مع موسوليني Mussolini و حاليا ما تكبَّده و يتكيَّده الشعبُ الفِنِزويلي من مصائب مع هوكو تشافيز Hugo Chavez و خليفتُه غير الشرعي نيكولاس مادورو Nicolas Maduro…

فلا تحدِّثوني عن مجلسِ الأمن و لا عن الأمم المتَّحدة و ميثاقِها الطوباوي utopique و لا عن التَّصريح العالمي لحقوق الإنسان، الخيالي، المُخادع و المُضلِّل… حدِّثوني عن الواقع المُعاش، الملموس و المفروض سياسياً، اقتصاديا، علميا و تكنولوجيا على الدول الضعيفة. عالمٌ تُرى و تُلمسُ تداعياتُه و مصائبُه في فلسطين، في اليمن، في العراق، في ليبيا، في روهنكgة ميانمار Rohingya Myanmar و في كل الدول المقهورة. عالمٌ تُرى مصائبُه في التَّخلُّف التَّنموي، في تفاقم تغيُّر المناخ، في تدهورِ الطبيعة و البيئة، في تدنِّي الأخلاقيات décadence de l'éthique، في التَّسابق نحو التَّسلُّح بجميع أشكاله بما فيها النَّووي. عالمٌ، في حاجةٍ ماسَّةٍ للتَّغييرِ قلبا و قالبا و إلى الرجوع إلى الصواب كما أشارَ إلى ذلك و من أجل ذلك العديدُ من الفلاسفة و المفكرين و المثقفين و رجالُ الدين و الفنانون و المنظمات الدولية…، الذين، إلى حدِّ الآن، لم تجد إشاراتُهم و نداءاتُهم، لدى مَن يتحكَّمون في العالمِ، الآذانَ الصَّاغيةَ، المتبصِّرةَ، الرصينةَ و الحكيمةَ. فمنهم مَن نادى ب"حِوار الحضارات" أو ب"حِوارِ الديانات". و منهم مَن أوصى ب"تسخيرِالتَّعليم" لإرساء مبادئ "التَّفاهم الدولي" أو"التَّربية على السِّلم"... كل هذا لم ينفع مع طُغيان و جبروت الدول القوية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى