ماجد حميد الغراوي - قراءة في ديوان "أبجدية أنهار" للشاعرة هيام جابر عبدو

١ / نجد في قراءة نصوص الديوان الجديد ( أَبجَدِيَّةُ أَنْهَار ) للشاعرة هيام جابر عبدو ؛ الذي صدر بعد ديوانها الاول ( وكل مافيك هيام ) براعة في انتقاء مفردات لغةٍ رشيقة واضحة ؛ مفعمة بالشاعرية الخصبة والخيال الواسع ورؤية شمولية لتجليات وأرهاصات الحياة . الخطاب في هذا الديوان مليء بالصور المتنوعة فنرى مناجاة الحبيب الممزوجة بعطر الورود وقطرات الندى ، وصورة الوطن الشامخ بدماء شهدائه وصور الفقد وماتتركه دائماً من لوعة وحنين ، كما ان النصوص وقصائد النثر بشكلها الحداثوي تجعلنا نستذكر ولوبشكل مختصر وسريع فترة بزوغ قصيدة النثر في أدبنا العربي عند بداية ستينيات القرن الماضي حين بدأت بالتوهج على يد روادها الأوائل أمثال: ( جبرا ابراهيم جبرا ، أدونيس ، توفيق صايغ ، يوسف الخال ، محمد الماغوط ، عباس بيضون ) وآخرين غيرهم ، فلاحت صفحة جديدة لعهد جديد في الشعر العربي رافضة كل الأشكال القديمة والثابتة في نظام الأوزان والقوافي والتفعيلات المعمول بها مبشرة بثورة أدبية وتجديد استثنائي لاقت مالاقت من الأعتراضات والرفض من بعض الأدباء والنقاد والمثقفين لعدم تمسكها بالأطار القديم الذي أعتادت عليه الأمة والدراسات الأدبية والنقدية ، وكان أصرار المجددين من الشعراء على أثبات وجودهم في قصيدة النثر بما يلائم حريتهم وعصرهم بعيدا" عن الجمود والتقليد وبما يوافق طبيعتهم التي شهدت تحولات كثيرة في مختلف مجالات الحياة والثقافة مع نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين التي زادت من الرغبة والأصرارعلى التجديد ورفض التقليد وصرامته التي فرضتها قيود مراحل زمنية طويلة جعلتها لاتواكب سليقة الشاعر وتطوره ، وظهر جلياً تأثر وأنفتاح هؤلاء االشعراء على الحركة الشعرية والثقافية في الغرب وخاصة التجربة الحديثة لشعر بودلير التي أثبتت نجاحها وتأثيرها بشكل كبير ، وأنفتاحهم على الموروث الصوفي الذي ترك أثره على بعضٍ من شعراء هذه المرحلة بغزارة رموزه وايحاءاته وأشاراته وعمق معانيه لتميز طابعه بالغموض والأنكفاء على الذات بأستعمال الفاظ
موجزة مقفلة تعتمد الرمز والأشارة .

٢ / نجد أَنَّ الشاعرةَ في هذا الديوان غالبًا ما اعتمدت الصورَ المشهديةَ الشعرية في سِياقٍ سردِي يمزجُ باحترافيةٍ بينَ المواقفِ والتجربةِ، معتمدةً على سجيتِها وَإِمكانيَّتها في الكتابةِ بلغةٍ واضحةٍ واِنسيابيَّةٍ في بِناءِ النصِّ؛ مما يجعلهُ وحدةً بنيويةً متكاملةً ترقى إِلى قصيدةِ النَّثر :

يَا عَسَلِيَّ اللُّغَةِ
وَسَيِّدَ الكَلِمَات
نَبْضِي يُسَافِرُ إِلَيكَ
كُلَّمَا أَبْصَرتُ المُفرَدَاتِ المُزَخرَفَةَ بِطَيفِي
وَبِعِشقِي
لِأَغدُوَ أَسْعَدَ الكَائِنَات
أَخْتَالُ كَزَهْرَةٍ
فِي رَوضٍ غَنَّاءْ
أو عُصْفَورَةٍ
تَفْردُ أَجْنِحَتَهَا
طَلِيقَةً
تَعْبَثُ مَعَ الهَوَاءْ
وَرُبَّمَا كَنَوْرَسٍ
يُغَازِلُ المَاءْ
يَا عَسَلِيَّ الحُبِّ ...
وَالعَطَاءْ
لَا تَلُمْ لَهْفَةً تُسْرِعُ إِلَيكَ
وَكُلُّهَا عُيُونٌ تَرْنُو إِلَيكَ وَتَشْتَاقُ
فِي بَهِيمِ اللَّيلِ
أَنْتَ كَوكَبِي البَرَّاقْ
وَفِي سُكُونِ الغَسَقِ
أَنْتَ الأَمَلُ بِالإِشْرَاقْ
يَا عَسَلِيَّ الرُّوحِ...
بِكَ أَصْبَحَ يَومِي
حُلْوَ المَذَاقْ

ونجِدُ كذلك رغبةً تواقةً في التعبيرِ عنْ ذاتها الشاعرةِ برؤَى حسِّيةٍ وواقعيَّةٍ لِسَبْرِ حالاتِ وَتجلِيَاتِ: الفقْدِ، الفِراقِ، البُعدِ، كما أسلفنا وأَفكارٍ أُخرَى تدورُ في فضاءاتِ ذاكرتها المُبدعَة؛ فَتُبرِزُ الذاتيةَ في نصوصهَا بِشَكلٍ ملحوظٍ دون أَن تمحيَ موضوعيتها، فيكونُ الجامعُ لصوَرِ مظاهرِ الحياةِ المختلفةِ -ذاتيةً كانت أَو موضوعيةً أَوْ كليهما- هو الأَدبُ، وبالتالي، نرى في الموضوعيةِ ضرورةً لاكتمالِ العملِ الفنيِّ ووصولِ الشاعرةِ من خلالهِ إِلى الشكلِ المميِزِ لخصوصيتها؛ فهيَ عندما ترثي أَخاها الشَّهِيدَ إِنما ترى بحسِّها الوطني والإِنسانِيِّ صورَ كلِّ الشهدَاءِ الذينَ بذلوا مُهجهم رخيصةً من

أَجلِ أَوطانهم:
عَفْوَ كَرِيمٍ...
يَمنَحُ وَيَزِيدْ
وَفِي محَطَّتِهِ الأَخِيرَة...
كَانَ المَشْهَدُ فَرِيدْ.......
ارْتَقَى مَلَاكًا ...
لَوَّحَتِ الشَّمسُ...
وَقَالَتْ:
مُنَزَّهَةٌ أَنَا ...
عَنْ كُلِّ المَرَاكِبِ وَالمَوَاكِبِ...
ِالَّا عَنْ هَذَا الصِّنْدِيدْ ...
خَبَّأتُهُ فِي الأَعَالِي..
انْتَظِرُوهُ ...
كُلَّ صُبْحٍ
وَبِكُلِّ عِيدْ.

نرى الشاعرةَ في هذا النص تتوغلُ بعمقِ تفكيرِها وإِحساسها في رؤيةٍ خاصةٍ للشهادةِ، صاغتها بإِيجازٍ ووضوحٍ، مُستفيدةً من (الشَّمسِ) كرمز لهُ دلالتهُ على القوةِ والخلودِ والنقاءِ في آنٍ واحدٍ، وارتقاءِ الشهيدِ في عِلِّيينَ معَ النَّبِيِّينَ وَالصِدِّيقِينَ وحسُنَ أُولئكَ رَفيقا، وبقاءِ صُورتهِ في النفوسِ والضمائرِ مُقترنةً بإِشرَاقاتِ الصَّباحاتِ وَالأَعياد.

٣ / في نَصٍّ آخرَ نَرى:
هنَاكَ عَلَى جُنْحِ غَيمَةٍ..
أَرْسَلَتْ حُلمَهَا
وَانْتَظَرَتْ..
انْتَظَرَتْ حَبِيبًا لَنْ يَأْتِيَ ...
هِيْ تَعرِفُ أَنَّ هَذَا الغَيْمَ عَقِيمٌ
تَعْرِفُ أَنَّ عَيْنَ الشَّمْسِ حَمِئَة...
وَأَنَّ السَّمَاءَ لَنْ تَضْحَكَ لِدَرجَةِ الدَّمْع..
لَكِنَّ الحُلُمَ مُبَاح...

صورةً لانتظارِ حبِيبٍ لن يأتيَ وسط مشاعرِ حُزنٍ لها مَدلولاتٌ واضحَةٌ في النصِّ: (هَذَا الغَيمُ عَقِيم) و(السَّمَاء لَنْ تَضْحَكَ) و(لِدَرجَةِ الدَّمْع)، ولكنَّ صدقَ العاطفةِ وطبِيعَةَ النَّفسِ البشريةِ التَّواقةِ دائما إِلى الأَملِ حتى ولو كانَ الأَملُ حُلما في غاباتِ الانتظارِ، هو ما نراهُ في أَغلبِ النُّصوص.

ماجد حميد الغراوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى