على دكّةِ الليل
كنتُ أخيطُ ملابسَ نومِ
شجون النهار
وأصنع قبّعةً من مساءٍ
تيقّظ فورا وفضَّ جروحي.
تتحفنا الشاعرة العراقية (أفياء أمين الاسدي) دوما بكل جديد، بقصائد تنزف حزنا ونضوجا، بأسطر ترسم صورا محيرة ومدهشة، تجمع الليل والنهار، والثلج والنار، والشمس والقمر فلا تقوم غير قيامة شعر باذخ الجمال ملامحا.
لست أخفي القاريء الكريم سرا، أمانينا هي في أن تخوض شاعرتنا مجال القصة القصيرة الى جانب الشعر، فالصور التي ترسمها تصنع منها حكاية مرموقة داخل قصيدة عذبة، تجيد خلالها رسم صور ادبية يصعب رسمها لانها تتطلب خيالا خصبا، ولغة عالية، وروحا تحلق بين ثنايا الفردوس، وبلاغة وفصاحة نادرة بحق.
مطلع قصيدة الشاعرة يقول :
(على دكّةِ الليل، كنتُ أخيطُ ملابسَ نومِ شجونِ النهار، وأصنعُ قبّعةً من مساء..)
رغم أنّ القصيدة بصوت المتكلم، إلّا انّها لا يمكن أنْ تكون قصيدة ذات بعد واحد ، بل نجد صورا مجسمة تتجسد لك طولا وعرضا، وارتفاعا وزمنا، تتجسد انسانا بروحٍ وعينين ناظرتين ولسانٍ ناطق وقدرة على تلمس كل ما حوله..
فالليل دكّة تخيط عليها ملابس شجون النهار في كنية ووصف لطيف للأرق، وتصنع قبّعةً من مساء يقظ، يزيد الجراح آلاما وحرقة.
تتقاذف بعدها الصورُ الشعرية دون توقف بقولها:
زرعتُ الورودَ على ساعديّ
فكنت أطرّز كفي بكفّي
وأبذر نجما على مقلتيّ
وأستر قلبي بورقة سدرٍ
وحين يمرّ عزيزٌ علَيَّ
ويسأل عمّا بدا واستجدَّ
أ أنتِ بخيرٍ؟
أ أنتَ بخير؟ بقيتُ بخيرِ
أنا لستُ غيري.
لو كان الإباء والصبر رجلين، لتجسدا ها هنا، إذ متى يزرع المرءُ الوردَ على ساعديه، أ ليس لكي يخفي الجراح بالجمال، ويخيطها بالزهر والعطر، وتبذر النجوم على مقلتيها، فلا شي سوى غمامات دمع، وعين تحسبها جذلى تلتمع فرحا، وتعري القلب الاحزان والآهات، فتعود إلى حيث الستر الاول، ورقةُ السدر المباركة ، فيبدو القلب متلفعا بطيب الجنان، أخضر يانعا جذلا بهيجا !!
وترسم حال النفس بشكل مدهش فتقول :
وما كان جهراً لقد صار سرّي
وما كان جمرا، لقد صار أمري
وما كان دربا، لقد كان عمري..
بهذا النسق الجميل جمعتِ الشاعرةُ وصف الحال والعمر وقسوة الدرب، فكان وصفا دون نقصان يقلل من شأن الوصف، ودون زيادة تكون عبئا على القصيدة كلها.
ويستمر هذا النسق من وصف الحال، لتُتم الوصف بالقول :
أنضّد ذاكرتي كلَّ يوم
لأنزع عني وعنها الخطايا
فيفلتُ منّا حديثٌ توجّه نحو المرايا
وسوّى قيافتَهُ والندوبَ
ولفَّ الذنوبَ
وعاد لرأسي ثقيلا وعدتُ
وكلّ رضوض الحياة
بصدري رتقتُ
وكل ندوبي عليها رسمتُ
وخبأت برعم نصلٍ جديدٍ
وزهرا غرزتُ.
الصراع بين الالم وكبت الالم باق، وربما تجده مخلدا مع هذه الابيات.
لاحظ أيّها القارئ اللبيب ذلك الايجاز في وصف اعظم ما ينتاب المرء من اوجاع في حياته بأسلوب موجز، رشيق العبارة، يسري مثل ثلج ذائب على سفح جبل نحو واد اخضرّ من سقيا الجمال جمالا، فالشاعرة تلقي بخطايا الدهر من ذاكرتها، فتفلتُ من الذاكرة شواظ من نار نحو المرآة، الجرح يرتق ويبرؤ، لكنه يظل جرحا ليس لانه يعيش فينا، بل لأننا نحن من نعيش فيه، فكل منا جرح بملامح انسان.. كما وصفنا أحد الشعراء كلنا، بلا استثناء
ونقف عند هذه الصور الشعرية الباذخة طويلا وشاعرتنا تنشد:
وخِطتُ حرير الليالي بـ(تول) النهار
وظهري درزتُ
وكنت أدور بلحظةِ شكّي
وصوتا هجستُ
فصرت كنبع يموت وثم
انبجستُ!!
بين ممكن الشاعرة والمحال غفوة دهشة، تمحو فيها (أفياء) حدود خارطتها وتصبح اللانهائية موطنها الابدي.
تولد لحظة توهجها في اللا مكان، تؤطر وجودها هواجس غامضات، تخيط حرير الليالي الممزق بقماش ابيض من نهار، تدور بلحظة شكها، كنبع يموت ثم تنبجس منه عيون ماء وهي لم تضربه بعصا موسى، بل حين اتكأت على سارية القصيدة، والشعر شراع لا يشيخ، لا يبلى، لا يعرف الغرق ولو تصاعدت من فوقه بحور وبحور، واعصار من حولهن كالمجنون يدور!!
وتختتم قصيدتها بمعيّة عنوانها المميز فتقول:
لعلّ تعود الورودُ بخدّ النوايا
لعلّ تنام عليه الحكايا
لعلّ تجيء الليالي ولم
يبدُ وجهي عليها سلالةَ شوك
لعلّي أهندم في قابل العمر
بعض البلايا !!
الشاعرة لا تمتاز بتنوع الصور البادخة فحسب، بل القوافي، والالوان، وعطور السطور، والتنقل من جمال الى جمال.
(لعلّ) للترجي، للتمني، فهي تتمنى أن تعود النوايا صادقات باسمات نقيات، لكنها تعبر عنها بالورد على الخدود، ولعلّ الليالي تجيء، وليس على سحنةِ الوجه من هموم واحزان تزاحمت وتناسلت كأنها سلالة شوك، ولعلها تلبس البلايا القادمات هنداما جميلا لما بقي من قادمات السنين.
فالنوافذ تظل مشرعة للنسيم، والشمس تبتسم ملء أفواه الزهور ، والصباح يسترخي على وسادة من حلم جميل ، والأمل مقبل لا يعيقه حقل الغام، وليست أشواكا ، جعلت منها الشاعرة بستان ورد، وكوكبة أمال، وخزائن أشواق ، توصد منافذ الايام، بوجه كواكب مثقلة بالسواد والجراح.
القصيدة:
سلالةُ شوك
أفياء أمين الأسدي
على دكّة الليلِ
كنتُ أخيطُ ملابسَ نومِ شجونِ النهارِ
وأصنعُ قبّعةً مِنْ مساءٍ
تيقّظَ توّاً وفضَّ جروحي
وحتى أُستّرَ تلك الجروحَ ،
زرعتُ الورودَ على ساعديَّ
فكنتُ أطرّزُ كفّي بكفّي ،
وأبذرُ نجماً على مقلتيَّ
وأسترُ قلبي بورْقةِ سِدرٍ
فأبدو كخندقِ حربٍ على شكلِ مَرجْ
وحين يمرّ عزيزٌ علَيَّ
ويسأل عمّا خفا واستجدَّ، أ أنتِ بخيرٍ؟
أ أنتَ بخيرٍ؟ بقيتُ بخيرِ..
-أنا لستُ غيري-
يلوّحُ مثل الحصى حين تغرقُ في قاع نهرِ
ألوّحُ مثل الحقيقةِ في قعر بئرِ
وما كان جهراً ؛ لقد صار سرّي
وما كان جمرا ؛ لقد صار أمري
وما كان دربا ؛ لقد كان عمري!
أُنضّدُ ذاكرتي كلّ يومٍ
وأنزع عنّي وعنها الخطايا
فيفلتُ منّا حديثٌ توجّه نحو المرايا
وسوّى قيافتَهُ والندوبَ
ولفَّ الذنوبَ
وعاد لرأسي ثقيلاً وعدتُ
وكلُّ رضوضِ الحياةِ
بصدري رتقتُ
وكلُّ ندوبي عليها رسمتُ
وخبّأتُ برعمَ نصلٍ جديدٍ
وزهراً غرزتُ
وخِطتُ حريرَ الليالي بـ(تولِ )النهارِ
وظهري درزتُ
وكنتُ أدور بلحظةِ شكّي وصوتا هجستُ
فصرتُ كنبعٍ يموتُ وثم انْبَجستُ
لعلّ تعودُ الورود بخدّ النوايا
لعلّ تنام عليه الحكايا
لعلّ تجيء الليالي ولم
يبدُ وجهي عليها سلالةَ شوكْ
لعلّي ..
لعلّي أُهندمُ في قابل العمرِ بعضَ البلايا.
كنتُ أخيطُ ملابسَ نومِ
شجون النهار
وأصنع قبّعةً من مساءٍ
تيقّظ فورا وفضَّ جروحي.
تتحفنا الشاعرة العراقية (أفياء أمين الاسدي) دوما بكل جديد، بقصائد تنزف حزنا ونضوجا، بأسطر ترسم صورا محيرة ومدهشة، تجمع الليل والنهار، والثلج والنار، والشمس والقمر فلا تقوم غير قيامة شعر باذخ الجمال ملامحا.
لست أخفي القاريء الكريم سرا، أمانينا هي في أن تخوض شاعرتنا مجال القصة القصيرة الى جانب الشعر، فالصور التي ترسمها تصنع منها حكاية مرموقة داخل قصيدة عذبة، تجيد خلالها رسم صور ادبية يصعب رسمها لانها تتطلب خيالا خصبا، ولغة عالية، وروحا تحلق بين ثنايا الفردوس، وبلاغة وفصاحة نادرة بحق.
مطلع قصيدة الشاعرة يقول :
(على دكّةِ الليل، كنتُ أخيطُ ملابسَ نومِ شجونِ النهار، وأصنعُ قبّعةً من مساء..)
رغم أنّ القصيدة بصوت المتكلم، إلّا انّها لا يمكن أنْ تكون قصيدة ذات بعد واحد ، بل نجد صورا مجسمة تتجسد لك طولا وعرضا، وارتفاعا وزمنا، تتجسد انسانا بروحٍ وعينين ناظرتين ولسانٍ ناطق وقدرة على تلمس كل ما حوله..
فالليل دكّة تخيط عليها ملابس شجون النهار في كنية ووصف لطيف للأرق، وتصنع قبّعةً من مساء يقظ، يزيد الجراح آلاما وحرقة.
تتقاذف بعدها الصورُ الشعرية دون توقف بقولها:
زرعتُ الورودَ على ساعديّ
فكنت أطرّز كفي بكفّي
وأبذر نجما على مقلتيّ
وأستر قلبي بورقة سدرٍ
وحين يمرّ عزيزٌ علَيَّ
ويسأل عمّا بدا واستجدَّ
أ أنتِ بخيرٍ؟
أ أنتَ بخير؟ بقيتُ بخيرِ
أنا لستُ غيري.
لو كان الإباء والصبر رجلين، لتجسدا ها هنا، إذ متى يزرع المرءُ الوردَ على ساعديه، أ ليس لكي يخفي الجراح بالجمال، ويخيطها بالزهر والعطر، وتبذر النجوم على مقلتيها، فلا شي سوى غمامات دمع، وعين تحسبها جذلى تلتمع فرحا، وتعري القلب الاحزان والآهات، فتعود إلى حيث الستر الاول، ورقةُ السدر المباركة ، فيبدو القلب متلفعا بطيب الجنان، أخضر يانعا جذلا بهيجا !!
وترسم حال النفس بشكل مدهش فتقول :
وما كان جهراً لقد صار سرّي
وما كان جمرا، لقد صار أمري
وما كان دربا، لقد كان عمري..
بهذا النسق الجميل جمعتِ الشاعرةُ وصف الحال والعمر وقسوة الدرب، فكان وصفا دون نقصان يقلل من شأن الوصف، ودون زيادة تكون عبئا على القصيدة كلها.
ويستمر هذا النسق من وصف الحال، لتُتم الوصف بالقول :
أنضّد ذاكرتي كلَّ يوم
لأنزع عني وعنها الخطايا
فيفلتُ منّا حديثٌ توجّه نحو المرايا
وسوّى قيافتَهُ والندوبَ
ولفَّ الذنوبَ
وعاد لرأسي ثقيلا وعدتُ
وكلّ رضوض الحياة
بصدري رتقتُ
وكل ندوبي عليها رسمتُ
وخبأت برعم نصلٍ جديدٍ
وزهرا غرزتُ.
الصراع بين الالم وكبت الالم باق، وربما تجده مخلدا مع هذه الابيات.
لاحظ أيّها القارئ اللبيب ذلك الايجاز في وصف اعظم ما ينتاب المرء من اوجاع في حياته بأسلوب موجز، رشيق العبارة، يسري مثل ثلج ذائب على سفح جبل نحو واد اخضرّ من سقيا الجمال جمالا، فالشاعرة تلقي بخطايا الدهر من ذاكرتها، فتفلتُ من الذاكرة شواظ من نار نحو المرآة، الجرح يرتق ويبرؤ، لكنه يظل جرحا ليس لانه يعيش فينا، بل لأننا نحن من نعيش فيه، فكل منا جرح بملامح انسان.. كما وصفنا أحد الشعراء كلنا، بلا استثناء
ونقف عند هذه الصور الشعرية الباذخة طويلا وشاعرتنا تنشد:
وخِطتُ حرير الليالي بـ(تول) النهار
وظهري درزتُ
وكنت أدور بلحظةِ شكّي
وصوتا هجستُ
فصرت كنبع يموت وثم
انبجستُ!!
بين ممكن الشاعرة والمحال غفوة دهشة، تمحو فيها (أفياء) حدود خارطتها وتصبح اللانهائية موطنها الابدي.
تولد لحظة توهجها في اللا مكان، تؤطر وجودها هواجس غامضات، تخيط حرير الليالي الممزق بقماش ابيض من نهار، تدور بلحظة شكها، كنبع يموت ثم تنبجس منه عيون ماء وهي لم تضربه بعصا موسى، بل حين اتكأت على سارية القصيدة، والشعر شراع لا يشيخ، لا يبلى، لا يعرف الغرق ولو تصاعدت من فوقه بحور وبحور، واعصار من حولهن كالمجنون يدور!!
وتختتم قصيدتها بمعيّة عنوانها المميز فتقول:
لعلّ تعود الورودُ بخدّ النوايا
لعلّ تنام عليه الحكايا
لعلّ تجيء الليالي ولم
يبدُ وجهي عليها سلالةَ شوك
لعلّي أهندم في قابل العمر
بعض البلايا !!
الشاعرة لا تمتاز بتنوع الصور البادخة فحسب، بل القوافي، والالوان، وعطور السطور، والتنقل من جمال الى جمال.
(لعلّ) للترجي، للتمني، فهي تتمنى أن تعود النوايا صادقات باسمات نقيات، لكنها تعبر عنها بالورد على الخدود، ولعلّ الليالي تجيء، وليس على سحنةِ الوجه من هموم واحزان تزاحمت وتناسلت كأنها سلالة شوك، ولعلها تلبس البلايا القادمات هنداما جميلا لما بقي من قادمات السنين.
فالنوافذ تظل مشرعة للنسيم، والشمس تبتسم ملء أفواه الزهور ، والصباح يسترخي على وسادة من حلم جميل ، والأمل مقبل لا يعيقه حقل الغام، وليست أشواكا ، جعلت منها الشاعرة بستان ورد، وكوكبة أمال، وخزائن أشواق ، توصد منافذ الايام، بوجه كواكب مثقلة بالسواد والجراح.
القصيدة:
سلالةُ شوك
أفياء أمين الأسدي
على دكّة الليلِ
كنتُ أخيطُ ملابسَ نومِ شجونِ النهارِ
وأصنعُ قبّعةً مِنْ مساءٍ
تيقّظَ توّاً وفضَّ جروحي
وحتى أُستّرَ تلك الجروحَ ،
زرعتُ الورودَ على ساعديَّ
فكنتُ أطرّزُ كفّي بكفّي ،
وأبذرُ نجماً على مقلتيَّ
وأسترُ قلبي بورْقةِ سِدرٍ
فأبدو كخندقِ حربٍ على شكلِ مَرجْ
وحين يمرّ عزيزٌ علَيَّ
ويسأل عمّا خفا واستجدَّ، أ أنتِ بخيرٍ؟
أ أنتَ بخيرٍ؟ بقيتُ بخيرِ..
-أنا لستُ غيري-
يلوّحُ مثل الحصى حين تغرقُ في قاع نهرِ
ألوّحُ مثل الحقيقةِ في قعر بئرِ
وما كان جهراً ؛ لقد صار سرّي
وما كان جمرا ؛ لقد صار أمري
وما كان دربا ؛ لقد كان عمري!
أُنضّدُ ذاكرتي كلّ يومٍ
وأنزع عنّي وعنها الخطايا
فيفلتُ منّا حديثٌ توجّه نحو المرايا
وسوّى قيافتَهُ والندوبَ
ولفَّ الذنوبَ
وعاد لرأسي ثقيلاً وعدتُ
وكلُّ رضوضِ الحياةِ
بصدري رتقتُ
وكلُّ ندوبي عليها رسمتُ
وخبّأتُ برعمَ نصلٍ جديدٍ
وزهراً غرزتُ
وخِطتُ حريرَ الليالي بـ(تولِ )النهارِ
وظهري درزتُ
وكنتُ أدور بلحظةِ شكّي وصوتا هجستُ
فصرتُ كنبعٍ يموتُ وثم انْبَجستُ
لعلّ تعودُ الورود بخدّ النوايا
لعلّ تنام عليه الحكايا
لعلّ تجيء الليالي ولم
يبدُ وجهي عليها سلالةَ شوكْ
لعلّي ..
لعلّي أُهندمُ في قابل العمرِ بعضَ البلايا.