عبدالغني سلامة - عن زوال إسرائيل – النبوءة (1 من 4)

لا توجد دولة مؤبدة، ولا حضارة مخلدة، وهذه أبسط بديهيات التاريخ.. دولٌ كبرى، وحضارات عظيمة، وأنظمة مدججة بالسلاح والأمن.. كلها ظهرت وعاشت لفترة ثم توارت خلف خطوط النسيان.. لم تستثنِ هذه الحقيقة أحداً، مرت على الجميع بلا رحمة: زعامات، إمبراطوريات، أيديولوجيات، ديانات، حكومات، أحزاب.. لم يبقَ منهم سوى أطلال خربة وأرشيف منسي.
من الطبيعي والحتمي أن إسرائيل ستزول في يوم من الأيام، فهي ليست استثناء في حركة التاريخ، بل إنها تمتاز بخصائص وسمات وتعاني من أزمات مستعصية تجعل زوالها أمرا مؤكدا، وقطعيا، وحقيقة لا يتسرب إليها الشك.. بل وتجعل انهيارها دراماتيكيا بأسرع مما يتصور الكثيرون.
لكن كلامي عن تلك النهاية المتوقعة لا علاقة له بأي نبوءة، وليس مبنيا على أي تصور غيبي، أو ما يسمى إعجازا رقميا، وغير ذلك مما أعتبره خرافات وأوهاما.. وهو أيضا ليس تفكيرا بالتمني، ولا هو تحليل رغائبي، بل هو (بقدر ما أحاول) مبني على فهم مادي لحركة التاريخ، وفهم سيسيولوجيا المجتمعات، وربطها بفهم طبيعة المجتمع والدولة الإسرائيلية، وفهم طبيعة الحركة الصهيونية وأزماتها، وعلاقتها بالمراكز الإمبريالية، وبالمشروع الاستعماري ككل، ومكانتها من النظام الدولي، والمعادلات السياسية للمنطقة والإقليم بشكل عام.. وبالاستعانة بأمثلة حية من التاريخ، بما في ذلك تاريخ الجماعات اليهودية.
ومع أن بعض قادة إسرائيل تحدثوا وبشيء من الخوف عن تلك النهاية المحتمة، إلا أن حديثهم يمكن فهمه في إطار التحذير مما هو قادم، والتنبيه للسياسات الخاطئة والمتهورة التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة (تصريح موفاز)، أو لتخويف المجتمع الداخلي (وهذا دأب الإعلام الإسرائيلي)، أو لأغراض شخصية لها علاقة بالبقاء في السلطة (تصريح نتنياهو)، وفي كل الأحوال لا تؤخذ أقوالهم على محمل الجد (فيما يتعلق باستشراف المستقبل)، وإنما تأتي في سياق الاستدلال من ناحية، ولقراءة العقل الإسرائيلي من ناحية ثانية.
فمثلا، أعرب نتنياهو عن مخاوفه من زوال إسرائيل خلال السنوات القادمة؛ باعتبار أن مملكة «الحشمونائيم» عاشت نحو 80 سنة، وأنه يعمل لضمان اجتياز إسرائيل هذه المدة والوصول بها إلى مئة عام. وهو هنا إنما يروج لانتخابه، بدعاية غيبية وبوصفه منقذ إسرائيل! وأنه الوحيد المؤهل لهذه المهمة، رابطا مصير الدولة بمصيره الشخصي (لا يختلف كثيرا عن منطق بعض الأنظمة العربية).
كما أبدى باراك مخاوفه من زوال إسرائيل مع حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدا في ذلك بـ»التاريخ اليهودي الذي يفصح بأنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة».
وربما تأثر باراك، ومن يروجون لهذه الفكرة، بما تسمى «لعنة العقد الثامن»، حيث يقول البعض إن هذه اللعنة أصابت أميركا، حيث نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن من عمرها، وأن إيطاليا تحولت إلى الفاشية في عقدها الثامن، وكذلك ألمانيا تحولت إلى النازية في عقدها الثامن، وأن الاتحاد السوفييتي تفكك في عقده الثامن.
وهذه كلها معلومات غير دقيقة، وغير تاريخية، ومبنية على توليفة تعشق الأرقام.
وبناء على هذه النبوءة/اللعنة ستنتهي إسرائيل العام 2028، وهذه السنوات الست المتبقية تعطي هامش خطأ «مقبولاً» لمروجي نبوءة زوال إسرائيل العام 2022، أي لا بأس من لي ذراع الحقيقة، علما أن صاحب النبوءة قال صراحة إن إسرائيل ستنتهي في حزيران 2022. وبالتالي من يعتاشون على الأمل «الوهم» سيجددون هذا الأمل ست سنوات إضافية، بمعنى آخر مزيدا من التخدير والتضليل والعيش في الأوهام.
وهناك تصريح منسوب إلى كيسنجر نشرته «نيويورك بوست» في تشرين الأول 2012، قال فيه: «بعد عشر سنوات لن تكون هناك إسرائيل»، وها قد انتهت السنوات العشر، وما زالت إسرائيل جاثمة فوق صدور العالم.
عموما ما تسمى لعنة العقد الثامن، من وجهة نظر يهودية، قائمة على فكرة أن المملكة الأولى، المسماة المملكة الموحدة (سليمان وداود) والتي حسب الرواية التوراتية جمعت كل أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، دام عمرها 76 عاماً، وانهارت بموت سليمان وانقسامها إلى مملكتي يهوذا والسامرة.. وأن المملكة الثانية (مملكة الحشمونائيم) عاشت 77 سنة.
لن أضيع وقت القارئ بالحديث عما تسمى «المملكة الموحدة» التي انتهت في عقدها الثامن.. لأن هذه المملكة لم توجد أصلاً، وهي وحسب إجماع المؤرخين الرصينين عبارة عن شبح وأوهام، ومجرد أخيولة شعبية، روجت لها الصهيونية بالاستناد إلى رواية توراتية أسطورية متهافتة.
أما ما هو جدير بالنقاش فهو ما تسمى (مملكة الحشمونائيم)، وهي دويلة يهودية كانت موجودة في فلسطين، وانتهت بسيطرة الرومان على البلاد، وقد دام عمرها نحو ثمانية عقود.
ولكن، ليس للرقم أي دلالة إعجازية، وإذا أردنا التوصل للحقيقة، فيتوجب فهم وتحليل أسباب وعوامل تفكك تلك الدويلة، ولكن بمنهج علمي تاريخي.
حيث يخبرنا التاريخ أن جميع الممالك والدول والإمبراطوريات والنظم السياسية انتهت بسبب عوامل داخلية، أي نتيجة الضعف، والتفكك، والصراع الداخلي، وفساد السلطة الحاكمة، وترهل وتكلس مؤسسات الدولة، وأحيانا بسبب الحروب الأهلية، والصراع على السلطة، أو على هوية الدولة والمجتمع.. وحتى الدول التي انهارت بسبب غزو خارجي حصل ذلك بعد أن كانت قد وصلت مرحلة الضعف والتفكك والتصدعات، فيأتي الغازي ليكمل عليها.
ولكن لو كانت الدولة متنية ومنيعة، يصعب هدمها، أو احتلالها.. لذا اعتاد الغزاة على استهداف القلاع الداخلية، لتنهار من الداخل، فتسهل مهمتهم.
وما حصل أن دويلة الحشمونائيم، لم تكن دولة مستقلة بالمعنى الحقيقي، بل كانت محمية تابعة للمستعمر، إضافة إلى تفاقم الصراع الداخلي بين تيارات الأسينيين والفريسيين والصدوقيين وصراعهم على السلطة، وتسابقهم على التحالف مع المستعمر (اليوناني والروماني)، وصراعهم على هوية المجتمع بين الفريسيين (العلمانيين) والصدوقيين (المتدينين)، وعلى تعريف اليهودية واحتكار التوراة، وتنازع الصلاحيات مع السنهدرين (المؤسسة الدينية).. إضافة لعلاقة الكهنة الهشة بالأرض والمكان، بدليل تفضيلهم الدين على البلاد، فغادروها طوعا.. وهذا ما سنوضحه في المقال القادم.
والمفارقة أن المشهد الإسرائيلي الحالي لا يختلف كثيرا عن المشهد السابق، فهناك صراع على هوية الدولة والمجتمع بين العلمانيين والحريديم، وبين المتدينين أنفسهم، وبين المجتمع والجيش والمستوطنين، بالإضافة إلى عوامل تفكك أخرى سنشير إليها لاحقا.


عبدالغني سلامة
2022-06-20




الايام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى