محمد السلاموني - مقاربة جديدة الدولة والجماهير والمعنى "الله والإنسان الالتهامى"

التماثل بين " الدولة والثقافة" ، الذى شهدته مصر فى الستينيات، كان يعنى أن الدولة هى العاكفة على صناعة المعنى للمجتمع، أما القطيعة الراهنة بين الدولة والثقافة، فتعنى تراجع الهيمنة الأيديولوجية للدولة ، والاكتفاء بالهيمنة العسكرية والأمنية...
هذا التحول يعنى " إنتهاء عصر ميتافيزيقا الدولة القومية" التى حلت محل الله فى المشروع الحداثى...
ذلك أن الإنسان الحديث كان يستمد معنى وجوده من الدولة الممثلة لمشروع التحديث بمشتملاته العديدة .
سائس الخيول :
لكننا نلاحظ أن التخلى الراهن للدولة عن صناعة المعنى، والاكتفاء بمحاولة توفير الظروف الملائمة للطعام والشراب، حول المجتمع إلى "حظيرة لتربية الدواجن والحيوانات- هى معسكر اعتقال" ، مما انتفت معه " السياسة" بالمفهوم الحديث، فى عودة قسرية إلى المفهوم التراثى القديم، الخاص ب" ساس، يسوس، فهو سائس..." .
الجماهير والاستهلاكوية :
تحدث ميشال دو سارتو من قبل عن أن الشعوب فى العصور الاستعمارية السابقة كانت تحرف المنتجات الاستعمارية عن مساراتها الايديولوجية، لتعيد شحنها بالايديولوجيات المحلية الخاصة بها، وهو ما يطلق عليه اصطلاح "الاستهلاك كإنتاج" ...
لكن التحولات المفصلية التى يشهدها العالم منذ سنوات، أفضت بالشعوب "المستعمرة- بنصب الراء- اقتصاديا" إلى الخضوع المطبق للايديولوجيات الوافدة- بعد تفكك البنيات الاجتماعية والتاريخية الخاصة بها؛ "لاسيما سلطة الصورة المنتجة للسرديات المؤدلجة، وبراكين الاحاسيس المفرطة
، الصانعة لحس مشترك عابر وقشرى".
الاستهلاكوية والسلطة :
يتحدث البعض عن أن ازدياد الحس الاستهلاكى لدى الشعوب عامة، يعد فى ذاته معارضة للسلطة؛ باعتباره انفلاتا مما قررته وفرضته السلطة، ويذهبون إلى أن هذا المنحى الجديد، يعد من أهم ما أتت به "ما بعد الحداثة"....
لكنهم يتغافلون عن أن هذا المنحى الجديد أعاد تأسيس الوجود الإنساني على الاستهلاك فى حد ذاته، منفصلا عن الاستعمال؛ مما جعل من شعار "أنا استهلك إذن انا موجود" مبدءا عاما وسائدا لدى الجميع...
الإله البديل :
يبدو واضحا أن الإنسان الآن تحول إلى كائن التهامى؛ إذ صار ملتهما لكل شىء، على مرجعية امتلاكه لكل شىء" فهو الآن
يمتلك صورا - كوبى- من كل ما يريد"...
تكمن المشكلة هنا، فى أنه صار مصابا بالتوحد، ويقيم علاقات صورية مع الآخرين "الجلوس المتواصل خلف الكيبورد"، ويحيا فى حاضر مطلق، فى فضاء مفتوح عن آخره...
لاشك أن إنسانا كهذا يشعر الآن بأنه " إله" ، يحيا فى عالم هو صور متوالدة من بعضها البعض، ويسعى لدعوة الآخرين للإيمان به "أنا سيلفى"...
نعم، إنه الوجود الصورى....
الله والوجود الصورى :
الانسان الالتهامى، الصورى، المنتشر والمتعدد والمالىء للأفق الكونى المفتوح عن آخره ، صار الآن هو "الإله" العابد لذاته، أى الملتهم للإله الديني المقدس، وهو ما يعنى أن الكونية العائدة ، والمتفشية عالميا الآن ، هى كونية انسانية
مختبئة وراء الكونية الإلهية المقدسة...
/ ما أذهب إليه هنا، يبدو أنه تأويل آخر لموت الذات والواقع والتاريخ؛ بماهى المبادىء الكبرى التى تأسست عليها الحداثة،
ذلك أن الإنسان الآن يمارس تألهه الصورى بعد أن التهم تاريخه وواقعه وذاته...
بيد أنها عدمية كونية تلك التى نحياها الآن.
،

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى