أ. د. لطفي منصور - أَدَبُ الأَوائِلِ وَالْأَواخِرِ..

هذا الْجِنْسُ الأدبي العربي (genre) لا مَثيلَ لَه في الآدابِ الْعالَمِيَّةِ. وَهُوَ عِلْمٌ تُعْرَفُ بِهِ أَوائِلُ الوَقائِعِ وَالأَحْداثِ وَالابْتِكاراتِ وَأواخِرُها، وَهُوَ عِلْمٌ مُنْبَثِقٌ عَنْ عِلْمِ التّاريخِ والأَدَبِ والْمُحاضَراتِ والْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ الْكَلامِ، وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِجَوْهَرِ الإيمانِ بِأنَّ اللَّهَ هُوَ الأَوَّلُ، وَهُوَ الآخِرُ، وهوَ الظّاهِرُ وَهُوَ الباطِنُ.
فَإنْ سَأَلَ سائِلٌ: مَنْ قَبْلَ اللَّهِ وَمَنْ بَعْدَهُ؟ تكونُ الإجابَةُ: صِيغَةُ سُؤالِكَ خَطَأٌ. فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الأَوَّلُ وهوَ الآخِرُ، فَلا قَبْلَ لَهُ، ولا آخِرَ لَهُ. فَلا يُوجَدُ أَوَّلٌ لِلْأّوَّلِ، الأوَّلُ هُوَ واحِدٌ وهو اللَّهُ؛ كما لا يُوجَدُ آِخِرٌ لِلْآخِرِ، لِأَنَّ الآخِرَ واحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ تَعالَى.
هذا النَّوْعُ مِنَ التَّأليفِ قَديمٌ في المكتبَةِ الْعَرَبِيَّةِ، تَرجِعُ جُذورُهُ إلَى الْقَرْنِ الثّالِثِ الهِجْرِي. فَقَدْ أُفْرِدَتْ لَهُ كُتُبٌ خاصَّةٌ، وَأُدْخِلَ المَوضوعُ في الموسَّعاتِ الْعَرَبِيَّةِ كالعقدِ الفريدِ، وموسوعةِ نثرِ الدُّرِّ لِلْآبي، ومحاضراتِ الأدباءِ لِلرّاغِبِ الأصبهاني وغيرِها مِنَ المُوَسَّعات العربيَّةِ.
لقد ضاعَتْ مُعْظَمُ الكُتُبِ التي أُلِّفَتْ في موضوعِ الأوائِلِ والأواخِرِ، ولم يَبْقَ منها إلّا القليلُ. وَقَدْ ذَكَرِ حاجي خَليفَة (ت ١٠٦٨هج) مَوْسُوعَتِهِ "كَشْفُ الظُّنون" كَثيرًا مِن مَصادِرِ هذا العِلْمِ، غَيْرَ أَنَّ ما وَصَلَنا منها أَقَلُّ مِنَ القليلِ كما ذَكَرْتُ.
وَقَدْ مَكَّنَني اللَّهُ أنْ أثْرِيَ مَكْتَبَتي بِمُعْظَمِ ما وَصَلَنا مِنْ كُتُبِ ذَلِكُمُ الْمَوْضُوعِ، أثناءَ رِحْلاتي إلَى مَعْرِضِ الْكِتابِ في القاهِرَةِ في شهرِ يَنايِر من سنواتِ الْعِقْدِ الأَوَّلِ من هذا الْقَرْنِ. وَحَصَلْتُ عَلَى المصادِرِ التّالِيَةِ:
- كتابُ الأوائِلِ لِأحمد بنِ عَمْرِو بنِ أَبي عاصِمٍ الشَّيْباني (٢٨٧هج). وَهوَ أقْدَمُ كِتابٍ نَعْرِفُهُ في هذا الْمَوضوع.
- الْأَوائِلُ لِأبي هِلالٍ الْعَسْكَرِيِّ (ت٣٩٥ هج) وَهوَ أَغْزَرُها مادَّةً.
- الْأَوائِلُ لِابْنِ زَيْدٍ الْجَراعِي الْحَنْبَلِي (ت٨٨٣ هج).
- الْوَسائِلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَوائِلِ لِلْإمام جَلالِ الدِّينِ السُّيوطي (ت٩١١ هج).
- النُّجُومُ الزَّواهِرُ في مَعْرِفَةِ الْأَواخِرِ: لِشِهابِ الدِّينِ أحْمَدَ بنِ خَليلٍ الْمَعْروفِ بِابْنِ الْبَوَّدِي (ت ٨٩٦ هج).
- مُحاضَراتُ الْأَوائِلِ وَمُسامَراتُ الأَواخِرِ لِعَلاءِ الدِّين عَلِي دَدَه السَّكْتَواري (ت ١٠٠٧ هج). جَمَعَ بينَ الأَوائِلِ والأواخِرِ.
وَسَبَبُ انْتِشارِ هذا الْعِلْمِ أنَّ النّاسَ يَتَساءَلْونَ في كُلِّ زَمانٍ وَمكانٍ : مَنْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ كَذا، مَنْ أوَّلُ مَنْ أَمْسَكَ بِالْقَلَمِ، مَنْ أوَّلُ مَنْ أسْلَمَ مِنَ البالِغينَ، مَنْ هُوَ آخِرُ مُلوكِ الدَّوْلَةِ الأَيّوبِيَّةِ، مَنْ هو آخِرُ أُمَراءِ غَرْناطَةَ. وهكذا.
وَسَوْفَ أُعْطِيِ أَمْثِلَةً مُهِمَّةً مِنْ هذا الأَدَبِِ الذي يُعْتَبَرُ وَثائِقَ تاريخيَّةً، ودينِيَّةً وثَقافِيَّةً تَشْمَلُ مواضيعَ كَثيرَةًٍ مِنَ الحضارَةِ الْبَشَرِيَّةِ.
أمثِلَةٌ عَلَى الأوائِلِ:
- أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْقَلانِسَ الطِّوالَ هِشامُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، لِأَنَّهُ كانَ لَطيفًا، وكانَ لِبْسُهُ إيّاها بِالرُّصافَةِ (مُتَنَزَّهٍ عندَ الْبَحْرِ الْمَيِّتِ) فَسُمِّيَتِ الرُّصافِيَّةِ. وفي سَنَةِ ثّلاثٍ وَخَمْسينَ وَمِائَةٍ أَلْزَمَ الْمَنْصُورُ رَعِيَّتَهُ بِلِبْسِ الْقَلانِسِ الطِّوالِ، وكانوا يَعْمَلونَها بِالْعَصَبِ وَالْوَرَقِ وَيُلَبِّسونَها السَّوادَ (شِعارَ الْعَبّاسِيِّين)، فَقالَ أبُو دُلامَةَ الشّاعِرُ: مِنَ الطَّويلِ
وَكُنّا نُرَجِّي مِنْ إمامٍ زِيادَةً
فَزادَ الإمامُ الْمُصْطَفَى في الْقَلانِسِ
تَراها عَلَى هامِ الرِّجالِ كَأَنَّها
دِنانُ يَهُودٍ جُلِّلَتْ بِالْبَرانِسِ
(الُهامُ: جَمْعُ هامَةٍ وَهِيَ الرَّأْسُ، الدِّنانُ: جَمْعُ دَنٍّ وعاءٌ كَبيرٌ مِنَ الْفَخّارِ تُعَتَّقُ بِهِ الْخَمْرُ، البَرانسُ: جَمْعُ الْبُرْنُسِ وَهُوَ قَلَنْسُوَةٌ طَويلَةٌ سَوداءُ كانَ النُّسّاكُ يَلْبَسونَها صَدْرَ الإسلامِ).
- أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْبَياضَ حُزْنًا عَلَى الْمَيْتِ أُمَراءُ بَني أُمَيَّةَ في الأنْدَلُسِ. وذلِكَ لِيُخالِفُوا خُلَفاءَ بَني الْعَبَّاسِ الَّذِينَ كانَ السَّوادُ شِعارَهُم. فَقالَ الشّاعِرُ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ الْحُصَرِيُّ: مِنَ الوافِرِ
إذا كانَ الْبَياضُ لِباسَ حُزْنٍ
بِأَنْدَلُسٍ فّذاكَ مِنَ الصَّوابِ
أَلَمْ تَرَنِي لَبِسْتُ بَياضَ شَيْبِي
لِأَنِّي قَدْ حَزِنْتُ عَلَى الشَّبابِ
- مِثالٌ مِنَ الأواخِر مِنَ التَّاريخ وفيهِ عِبْرَةٌ:
آخِرُ خُلَفاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبّاسِيَّةِ بِبَغْدادَ الُمُسْتَعْصِمُ بِاللَّهُ، وهو السّابِعُ والثَّلاثُونَ. قتَلَهُ هولاكُو خانْ مَلكُ الْمَغُولِ. وذلِكَ بِسَبَبِ وَزيرِهِ ابْنِ العَلْقَمِي الْخائِنِ. فَقَدْ فَرَّقَ عَساكِرَ بَغْدادَ، وَقَطَعَ أرْزاقَهُم، وكانَ يَتَخابَرُ مَعَ هولاكُو وَيُزَيِّنُ لَهُ احتِلالَ بَغْدادَ.
خَرَجَ هولاكُو سَنَةَ إحْدَى وَخمْسينَ وَسِتِّ مِائَةٍ إلَى بَغْدادَ، وَقَتَلَ الْخَليفَةَ وَأَوْلادَهُ، وَنَهَبَ بَغْدادَ وَقَتَلَ كَثيرًا مِنْ أَهْلِها، ثُمَّ أَحْضَرَ الْوَزيرَ وعاتَبَهُ وَقالَ لَهُ: يا خائِنُ خُنْتَ أُسْتاذَكَ، لا يُرْجَى لَنا مِنٍكَ صَلاحٌ، وَقَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ. فَانْفَضَّتِ الْخِلافَةُ مِنْ بَغْدادَ، وَبَقِيَتِ الدُّنْيا بِلا خَليفَةٍ إلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسينَ وَسِتِّ مِائَةٍ.
ثُمَّ اسْتَخْلَفَ الْمَلِكُ الظّاهِرُ بِمِصْرَ الْمُسْتَنْصِرَ بِاللَّهِ مِنَ الْعَبّاسِيِّين، بَعْدَ إحْضارِهِ إلَى مِصْرَ، وحضَرَ القُضاةُ والفقَهاءُ والْحُكّامُ والأُمَراءُ، وقامَ الخليفَةُ بِإثْباتِ نَسَبِهِ، فبايَعوهُ، وَقَلَّدوهُ الْخِلافَةَ، وَأعادوهُ إلَى بَغْدادَ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى