( 11 )
استغرقتُ في الإنصات لجارتَيَّ وهما مندمجتان في حوارهما ، وبعد دقائق غمزني في كتفي أحد الواقفين ، وشدني من يدي ، ثم أنزلني من المترو وكأنه يسحبني سحبا ، حتى وقفنا أمام مكتب مهيب يحرسه جنود مسلحون ، دخل ساحبي وحده فاستأذن من صاحب المكتب ثم عاد فسحبني ، فوجدت نفسي أمام ضابط مهيب تتكاثر على كتفيه النجوم والكواكب والأقمار الصفراء ، ولأنني لا عهد لي بهذه الأشياء فلا أعرف ما عسى أن تكون تلك الرتب ، أشار الرجل باحترام لي وطلب أن أجلس ، ثم طلب بطاقتي فقدمتها إليه فتأملها وأعادها لي ، قلت له : خيرا يا باشا ماذا تريدون مني ؟ ابتسم الرجل وقال : لا تقلق إنه مجرد تعارف ، أليس اسمك كذا وبلدك كذا ووظيفتك كذا وكذا ؟ قلت : بلى . قال : إن عندنا شكوى ضدك بأنك المتسبب في أحداث 18 ، 19 يناير 1977 وكنت ممن تظاهروا في جامعة أسيوط ، ضد السيد/ ممدوح سالم رئيس الوزراء ، ولدينا تسجيل لك بالصوت والصورة وأنت تهتف : [ هِزّ الوِسْط يا حزب الوِسط....كيلو اللحمة بقي بالقسط ] فما قولك ؟
قلت : نعم يا أفندم هذا صحيح ، كان كيلو اللحم وقتها ب 70 قرشا وقفز قفزة واحدة إلى 90 قرشا .. وكنا في الجامعة نعبر عن رأي الشارع ، صحيح أننا بدأنا بمجموعتنا الصغيرة 200 طالب ثم تكاثر حولنا الطلاب حتى بلغنا نحو ثمانية آلاف فخرجنا من تجمعنا أمام كلية العلوم إلى خارج مباني الجامعة ، وتكأكأت علينا عساكر البوليس بالعصي ونحن بالطوب حتى منتصف الليل ..وليلتها كنا .... قاطعني الضابط بتكشيرة حادة وقال : عارف أنا عارف كل التفاصيل لكننا قررنا استدعاءك اليوم لنسألك : لماذا فعلتم ذلك ؟ من الذي كان يحرضكم ؟ وكم قبضتم ؟ قلت : هل تسمح لي يا سيدي بالاعتراف ؟ قال : هذا ما أريده . قلت : أفتأذن لي سعادتكم بكوب شاي وسيجارة . فأشار إلى الجندي وقال: هات له شاي يا برعي .
قلت : يا أفندم .. أنا -ومعي نحو خمسة عشر من زملائي - كنا عملاء مندسين ، غرستنا منظمة الشباب التي كنا ننتمي إليها لنفسد مظاهرات إخواننا الشيوعيين بالجامعة ، فحين يخطب صلاح يوسف كان يتجمع أمامه نحو ألفي طالب ، وهو يحدثهم بشراسة وبلاغة وإقناع عن البروليتاريا ، والتفسخ الاجتماعي الناجم عن نمو رأس المال وخطره على السلام الاجتماعي ...الخ
وكانت التعليمات الصادرة لنا أن ننقسم مجموعتين : تقف مجموعة إلى يمين المظاهرة فتهتف في حماس [ كبريت النيل أحسن كبريت ] وتقف المجموعة الثانية إلى يسار المظاهرة فتهتف [ كبريت الهِلْب أحسن منه ] وشيئا فشيئا يضحك المتحلقون حول صلاح يوسف ، فينضم بعضهم إلى كبريت النيل ، وينضم آخرون إلى كبريت الهلب .. ولا يبقى ممن حول الزعيم إلا أولئك المجرمون الذين كانوا يمتعون أنفسهم بالتدافع لقراءة المجلات الورقية الكبيرة التي ترفعها بعض الزميلات الفضليات أمام صدورهن !
فأنا يا أفندم لم أرتكب إثما وطنيا ديموقراطيا ، بل كنت ممن يدافعون عن الوطن بالطريقة التي اخترعها لنا سادتنا وقادتنا في منظمة الشباب ، برغم أن خمسة الجنيهات التي كانوا يغمزوننا بها قبل كل مظاهرة لم تكن تكفي مصاريف الشهر وكنا نضطر لإقناع إخوتنا الشيوعيين بأننا معهم فكانوا يدفعون لنا من حين لآخر بما يكفي للدخان والسينما والجرايد ومصاريف القهاوي والأندية التي نسهر عليها حتى الفجر ..
الفجر؟
هل هذا أذان الفجر؟
قم يا أستااااااذ !!
تنبهت من حلمي الذي كنت مندمجا فيه على يد الشاب الواقف بجانبي يقول : اتفضل تحرك نحو الباب ... اللي جاية محطتك : كوبري القبة !!
حمدت الله ، ونزلت ، وبحثت عن توكتوك ليوصلني إلى بيتي ...
استغرقتُ في الإنصات لجارتَيَّ وهما مندمجتان في حوارهما ، وبعد دقائق غمزني في كتفي أحد الواقفين ، وشدني من يدي ، ثم أنزلني من المترو وكأنه يسحبني سحبا ، حتى وقفنا أمام مكتب مهيب يحرسه جنود مسلحون ، دخل ساحبي وحده فاستأذن من صاحب المكتب ثم عاد فسحبني ، فوجدت نفسي أمام ضابط مهيب تتكاثر على كتفيه النجوم والكواكب والأقمار الصفراء ، ولأنني لا عهد لي بهذه الأشياء فلا أعرف ما عسى أن تكون تلك الرتب ، أشار الرجل باحترام لي وطلب أن أجلس ، ثم طلب بطاقتي فقدمتها إليه فتأملها وأعادها لي ، قلت له : خيرا يا باشا ماذا تريدون مني ؟ ابتسم الرجل وقال : لا تقلق إنه مجرد تعارف ، أليس اسمك كذا وبلدك كذا ووظيفتك كذا وكذا ؟ قلت : بلى . قال : إن عندنا شكوى ضدك بأنك المتسبب في أحداث 18 ، 19 يناير 1977 وكنت ممن تظاهروا في جامعة أسيوط ، ضد السيد/ ممدوح سالم رئيس الوزراء ، ولدينا تسجيل لك بالصوت والصورة وأنت تهتف : [ هِزّ الوِسْط يا حزب الوِسط....كيلو اللحمة بقي بالقسط ] فما قولك ؟
قلت : نعم يا أفندم هذا صحيح ، كان كيلو اللحم وقتها ب 70 قرشا وقفز قفزة واحدة إلى 90 قرشا .. وكنا في الجامعة نعبر عن رأي الشارع ، صحيح أننا بدأنا بمجموعتنا الصغيرة 200 طالب ثم تكاثر حولنا الطلاب حتى بلغنا نحو ثمانية آلاف فخرجنا من تجمعنا أمام كلية العلوم إلى خارج مباني الجامعة ، وتكأكأت علينا عساكر البوليس بالعصي ونحن بالطوب حتى منتصف الليل ..وليلتها كنا .... قاطعني الضابط بتكشيرة حادة وقال : عارف أنا عارف كل التفاصيل لكننا قررنا استدعاءك اليوم لنسألك : لماذا فعلتم ذلك ؟ من الذي كان يحرضكم ؟ وكم قبضتم ؟ قلت : هل تسمح لي يا سيدي بالاعتراف ؟ قال : هذا ما أريده . قلت : أفتأذن لي سعادتكم بكوب شاي وسيجارة . فأشار إلى الجندي وقال: هات له شاي يا برعي .
قلت : يا أفندم .. أنا -ومعي نحو خمسة عشر من زملائي - كنا عملاء مندسين ، غرستنا منظمة الشباب التي كنا ننتمي إليها لنفسد مظاهرات إخواننا الشيوعيين بالجامعة ، فحين يخطب صلاح يوسف كان يتجمع أمامه نحو ألفي طالب ، وهو يحدثهم بشراسة وبلاغة وإقناع عن البروليتاريا ، والتفسخ الاجتماعي الناجم عن نمو رأس المال وخطره على السلام الاجتماعي ...الخ
وكانت التعليمات الصادرة لنا أن ننقسم مجموعتين : تقف مجموعة إلى يمين المظاهرة فتهتف في حماس [ كبريت النيل أحسن كبريت ] وتقف المجموعة الثانية إلى يسار المظاهرة فتهتف [ كبريت الهِلْب أحسن منه ] وشيئا فشيئا يضحك المتحلقون حول صلاح يوسف ، فينضم بعضهم إلى كبريت النيل ، وينضم آخرون إلى كبريت الهلب .. ولا يبقى ممن حول الزعيم إلا أولئك المجرمون الذين كانوا يمتعون أنفسهم بالتدافع لقراءة المجلات الورقية الكبيرة التي ترفعها بعض الزميلات الفضليات أمام صدورهن !
فأنا يا أفندم لم أرتكب إثما وطنيا ديموقراطيا ، بل كنت ممن يدافعون عن الوطن بالطريقة التي اخترعها لنا سادتنا وقادتنا في منظمة الشباب ، برغم أن خمسة الجنيهات التي كانوا يغمزوننا بها قبل كل مظاهرة لم تكن تكفي مصاريف الشهر وكنا نضطر لإقناع إخوتنا الشيوعيين بأننا معهم فكانوا يدفعون لنا من حين لآخر بما يكفي للدخان والسينما والجرايد ومصاريف القهاوي والأندية التي نسهر عليها حتى الفجر ..
الفجر؟
هل هذا أذان الفجر؟
قم يا أستااااااذ !!
تنبهت من حلمي الذي كنت مندمجا فيه على يد الشاب الواقف بجانبي يقول : اتفضل تحرك نحو الباب ... اللي جاية محطتك : كوبري القبة !!
حمدت الله ، ونزلت ، وبحثت عن توكتوك ليوصلني إلى بيتي ...