إهداء إلى محمد مدني: مثل نسالة عنيدة تصد النزيف!
في تواصل قريب مع الشاعر محمد مدني جاءني صوته، كمن يلقي قصيدة هوجاء كعاصفة: "تصور، أنهم يطالبونني بالقول، ولا يسمعون لقصيدتي التي لا تكف عن القول." أعير لسانه إذني فلا يردها لي، فأنسرب منه إلى خيال الشاعر في معركة ضد القبض عليه يخرج منها مجرحا داميا ولسان حاله ينشد: " يمنون علي بثياب وثيابي من دماءهم حمر."
لماذا يتأبى الشاعر والطفل على "التطويع"، والتنميط ووضعهما في صناديق؟ وحده الإبداع الشعري يستطيع الإجابة على السؤال. نحن الثقافة، نحن الحزب، نحن القوم نريد الشعراء كما نشاء ونرغب؛ لا كما يريدون هم، ثم ينسربون من بين اصابعنا كالماء، فلا يتركون وراءهم نظافة للأصابع اليائسة بل إدانة. تطويع القصيدة بالترجمة ونقلها من لسان إلى لسان جزء كاشف للمعاناة في القبض على روح الشاعر في عتبة البيت. في عام 2002 طلب منى ترجمة قصيدة محمد مدني "قصيدة لأطفال آر" التي كتبها سنة 1977 إلى الانجليزية لتكون جزء من انطولوجيا شعرية، لم تعاندني قصيدة مثلها حتى يومنا هذا، وبل وأعادت لي محيط السؤال ودائرته، لماذا يكون الشاعر عصيا على التطويع في كل منحى ومنعرج؟
لكل أمة شاعر تعلقه شمسا في كبد سماءها: للإنجليز شكسبير، وللفرانسة فكيتور هوغو، ولفارس الفردوسي ولتركيا ناظم حكمت ومع فلسطين مجذوبون نحن وإمامنا درويش، وللروس بوشكين كما للألمان غوته، أما العرب فلهم سوق كامل للشعراء ومربد. للبنغال طاغور وكذلك للهند. يخرج الشعراء إلى مفاوز ومغاور وادي عبقر حاديهم الشيطان فيعودون بصيد الكلم والقصيد الثمين، أو أنهم ينتظرون "ميوزات" الشعر وملهماته في محطات الإبداع، فكيف بعد المكابدة يرضون بالقفص؟
رابندرانات طاغور الشاعر الوحيد الذي اعتمدت دولتان الحانه كنشيد وطني: الهند وبنغلاديش، وهما تتنازعانه حتى اليوم، وهو يتأبى على كليهما. هو شاعر عصي بالمعنى الذي نقصده. انتزع طاغور جائزة نوبل للأدب سنة 1913 من أنياب تولستوي صاحب الحرب والسلام ومن وليام بتلر ييتس بلبل ايرلندا الغريد الذي تربص بالجائزة عشر سنين عجاف ونالها متأخرا عن شاعرنا، مع أن نوبل ليست المعيار الأسمى لأن جيمس جويس وبالدوين ويوسف إدريس لم يعمدوا في استكهولم، بل عمدوا على الصفحات البيضاء وغسلوا بالحبر المقدس.
لكل شاعر غور عميق ينهمر منه شلال ابداعه الذي يتحدى الزمن، وهو كبصمة الأصابع لا يشبه إبداع شاعر آخر. لا يتحدث طاغور عن شيطان شعر وجنيات ملهمات بل يرضع الهامه من الطبيعة وعنها يقول: " لدي إحساس عميق منذ الطفولة بجمال الطبيعة، وحس بالرفقة الأليفة مع الأشجار والغمام، ولطالما أحسست بموسيقى الفصول في الهواء، كما كانت لدى تأثر بالغ باللطف الانساني، كل هذه الروائع عطشت للكلام، فكان من الطبيعي أن أمنحها لساني."
نحن امام طفولة لدنة غضة بخضرة الطبيعة، وفرشاة رسمت بها الطبيعة خزان ابداع طاغور، فكيف، بعد كل ذلك يسلمه للصندوق؟
ويعي طاغور أن الإبداع ذلك النهر السيال الهادر في مغاور نفسه لن يجري جداولا إلا في لغة دفاقة رقراقة وعنها يقول:" على الشاعر الا يستعير وسيطه الجاهز من أحد مخازن "الاحترام". وليس فقط عليه أن يعد بذوره، بل عليه عزق أرضه، فلكل شاعر وسيطه اللغوي الخاص، ليس لأن كل اللغة من صنعه، بل استعماله الخاص لها، بلمساته السحرية الخاصة يحولها إلى مركبة مخصوصة لإبداعه."
فهذه اللغة والإبداع والعلاقة بينهما، الطبيعة والتعبير عنها اللتين يمنحهما المغني للسامع لحنا شجيا لا ينتزع كالاعتراف من حنجرته.
وعن المغنى في قومه يقول طاغور: " البعض يقول أن قصائدي لا تنبع من قلب التقاليد الوطنية؛ ويقول بعض آخر أنها غير مفهومة وأنها ليست شاملة. في الحقيقة أنا لم أجد يوما قبولا كاملا وسط قومي، وذلك كان نعمة لي، لأنه ليس هناك شيئا أكثر تثبيطا من النجاح غير المستحق."
ولا كرامة لنبي في قومه، لأن قومه إن لم ينصبوه لواء في سارية “التقاليد الوطنية" فلن يقبلوا به شاعرا مبدعا. ولكن للشاعر موسيقاه الداخلية الهادية التي لا تسمع إلا ناي الإلهام " أعز الموسيقى، وأعد نفسي موسيقيا، فلقد نظمت اغانيا تحدت القوانين الجامدة للسائد، والطيبون يشمئزون من صفاقة الشجاع لأنه غر، ولكني أمضي، وليغفر لي الرب لأني لا أعرف ما أفعل، ولربما كان ذلك السبيل الأفضل لأداء الأشياء في الفن."
ونحن الثقافة ونحن القوم نركض لفتح صندوقنا لتحنيط الشاعر يتقدمنا كاهن ومبخرة وإيمان من طلاسم وقضبان، ولكن إيمان الشاعر ليس إيمان "التقاليد الوطنية" ويقول طاغور " إيماني بالضرورة هو إيمان الشاعر. لمساته غير المرئية تتخللني عبر المسارب الدفينة كما الهام الموسيقى. حياتي الايمانية تابعت خطوط حياتي الشعرية الغامضة، وبطريقة ما خطبتا لبعض، وخطبتهما حظيت بحفل مديد، ولكنه كان مخفيا عني، وفجأة جاء اليوم الذي انكشف اتحادهما لي."
نصحب المفكر في معمل فكره والشاعر في إبداعه، فيتجليان لنا ونساءل انفسنا الدنيئة: لماذا يبدو كل منهما عصيا متمنعا على القبض والتنميط؟ فالشعر مهاد الطفولة الطلقة الأبية والفكر نضج مسيرة الانسانية وبينهما نحن، الثقافة والقوم نشد الحبال لنروض خيولا شموسة وعصية.
ترجمة مقتطفات طاغور عن كتاب:
A Taste of Tagore: Poetry, Prose and Prayrs
Compiled by: Meron Shapland. Introduction by Deepak Chopra.
في تواصل قريب مع الشاعر محمد مدني جاءني صوته، كمن يلقي قصيدة هوجاء كعاصفة: "تصور، أنهم يطالبونني بالقول، ولا يسمعون لقصيدتي التي لا تكف عن القول." أعير لسانه إذني فلا يردها لي، فأنسرب منه إلى خيال الشاعر في معركة ضد القبض عليه يخرج منها مجرحا داميا ولسان حاله ينشد: " يمنون علي بثياب وثيابي من دماءهم حمر."
لماذا يتأبى الشاعر والطفل على "التطويع"، والتنميط ووضعهما في صناديق؟ وحده الإبداع الشعري يستطيع الإجابة على السؤال. نحن الثقافة، نحن الحزب، نحن القوم نريد الشعراء كما نشاء ونرغب؛ لا كما يريدون هم، ثم ينسربون من بين اصابعنا كالماء، فلا يتركون وراءهم نظافة للأصابع اليائسة بل إدانة. تطويع القصيدة بالترجمة ونقلها من لسان إلى لسان جزء كاشف للمعاناة في القبض على روح الشاعر في عتبة البيت. في عام 2002 طلب منى ترجمة قصيدة محمد مدني "قصيدة لأطفال آر" التي كتبها سنة 1977 إلى الانجليزية لتكون جزء من انطولوجيا شعرية، لم تعاندني قصيدة مثلها حتى يومنا هذا، وبل وأعادت لي محيط السؤال ودائرته، لماذا يكون الشاعر عصيا على التطويع في كل منحى ومنعرج؟
لكل أمة شاعر تعلقه شمسا في كبد سماءها: للإنجليز شكسبير، وللفرانسة فكيتور هوغو، ولفارس الفردوسي ولتركيا ناظم حكمت ومع فلسطين مجذوبون نحن وإمامنا درويش، وللروس بوشكين كما للألمان غوته، أما العرب فلهم سوق كامل للشعراء ومربد. للبنغال طاغور وكذلك للهند. يخرج الشعراء إلى مفاوز ومغاور وادي عبقر حاديهم الشيطان فيعودون بصيد الكلم والقصيد الثمين، أو أنهم ينتظرون "ميوزات" الشعر وملهماته في محطات الإبداع، فكيف بعد المكابدة يرضون بالقفص؟
رابندرانات طاغور الشاعر الوحيد الذي اعتمدت دولتان الحانه كنشيد وطني: الهند وبنغلاديش، وهما تتنازعانه حتى اليوم، وهو يتأبى على كليهما. هو شاعر عصي بالمعنى الذي نقصده. انتزع طاغور جائزة نوبل للأدب سنة 1913 من أنياب تولستوي صاحب الحرب والسلام ومن وليام بتلر ييتس بلبل ايرلندا الغريد الذي تربص بالجائزة عشر سنين عجاف ونالها متأخرا عن شاعرنا، مع أن نوبل ليست المعيار الأسمى لأن جيمس جويس وبالدوين ويوسف إدريس لم يعمدوا في استكهولم، بل عمدوا على الصفحات البيضاء وغسلوا بالحبر المقدس.
لكل شاعر غور عميق ينهمر منه شلال ابداعه الذي يتحدى الزمن، وهو كبصمة الأصابع لا يشبه إبداع شاعر آخر. لا يتحدث طاغور عن شيطان شعر وجنيات ملهمات بل يرضع الهامه من الطبيعة وعنها يقول: " لدي إحساس عميق منذ الطفولة بجمال الطبيعة، وحس بالرفقة الأليفة مع الأشجار والغمام، ولطالما أحسست بموسيقى الفصول في الهواء، كما كانت لدى تأثر بالغ باللطف الانساني، كل هذه الروائع عطشت للكلام، فكان من الطبيعي أن أمنحها لساني."
نحن امام طفولة لدنة غضة بخضرة الطبيعة، وفرشاة رسمت بها الطبيعة خزان ابداع طاغور، فكيف، بعد كل ذلك يسلمه للصندوق؟
ويعي طاغور أن الإبداع ذلك النهر السيال الهادر في مغاور نفسه لن يجري جداولا إلا في لغة دفاقة رقراقة وعنها يقول:" على الشاعر الا يستعير وسيطه الجاهز من أحد مخازن "الاحترام". وليس فقط عليه أن يعد بذوره، بل عليه عزق أرضه، فلكل شاعر وسيطه اللغوي الخاص، ليس لأن كل اللغة من صنعه، بل استعماله الخاص لها، بلمساته السحرية الخاصة يحولها إلى مركبة مخصوصة لإبداعه."
فهذه اللغة والإبداع والعلاقة بينهما، الطبيعة والتعبير عنها اللتين يمنحهما المغني للسامع لحنا شجيا لا ينتزع كالاعتراف من حنجرته.
وعن المغنى في قومه يقول طاغور: " البعض يقول أن قصائدي لا تنبع من قلب التقاليد الوطنية؛ ويقول بعض آخر أنها غير مفهومة وأنها ليست شاملة. في الحقيقة أنا لم أجد يوما قبولا كاملا وسط قومي، وذلك كان نعمة لي، لأنه ليس هناك شيئا أكثر تثبيطا من النجاح غير المستحق."
ولا كرامة لنبي في قومه، لأن قومه إن لم ينصبوه لواء في سارية “التقاليد الوطنية" فلن يقبلوا به شاعرا مبدعا. ولكن للشاعر موسيقاه الداخلية الهادية التي لا تسمع إلا ناي الإلهام " أعز الموسيقى، وأعد نفسي موسيقيا، فلقد نظمت اغانيا تحدت القوانين الجامدة للسائد، والطيبون يشمئزون من صفاقة الشجاع لأنه غر، ولكني أمضي، وليغفر لي الرب لأني لا أعرف ما أفعل، ولربما كان ذلك السبيل الأفضل لأداء الأشياء في الفن."
ونحن الثقافة ونحن القوم نركض لفتح صندوقنا لتحنيط الشاعر يتقدمنا كاهن ومبخرة وإيمان من طلاسم وقضبان، ولكن إيمان الشاعر ليس إيمان "التقاليد الوطنية" ويقول طاغور " إيماني بالضرورة هو إيمان الشاعر. لمساته غير المرئية تتخللني عبر المسارب الدفينة كما الهام الموسيقى. حياتي الايمانية تابعت خطوط حياتي الشعرية الغامضة، وبطريقة ما خطبتا لبعض، وخطبتهما حظيت بحفل مديد، ولكنه كان مخفيا عني، وفجأة جاء اليوم الذي انكشف اتحادهما لي."
نصحب المفكر في معمل فكره والشاعر في إبداعه، فيتجليان لنا ونساءل انفسنا الدنيئة: لماذا يبدو كل منهما عصيا متمنعا على القبض والتنميط؟ فالشعر مهاد الطفولة الطلقة الأبية والفكر نضج مسيرة الانسانية وبينهما نحن، الثقافة والقوم نشد الحبال لنروض خيولا شموسة وعصية.
ترجمة مقتطفات طاغور عن كتاب:
A Taste of Tagore: Poetry, Prose and Prayrs
Compiled by: Meron Shapland. Introduction by Deepak Chopra.