وما أنا بالمشغوف ضربة لازب
ولا كل سلطان علي أمير
هذا البيت المراوغ من شعر أبي نواس ، قد استعان به عميد الأدب العربي الكاتب الكبير :طه حسين، وهو يختم الجزء الثالث من رائعته الأيام ليشير من خلاله إلى أنه مع حركة ثورة يوليو ١٩٥٢ المباركة، ولكن ليس معنى هذا أنه معها قلبا وقالبا، بل يرى لها إيجابيات، كما يرى لها سلبيات،
فالترحيب هنا ليس من الألف للياء ؟!
،و قبل الولوج إلى عتبات هذا النص، يجب التعرض مسبقا لعدة نقاط تمهيدية :
منها أن المؤلف كاتب سكندري متعدد الإنتاج ومتنوع النشاط، ما بين روايات وقصص قصيرة ومسرحيات وتمثليات إذاعية.
وهو عضو اتحاد كتاب مصر.
وعضو مجلس إدارة منتخب لعدة مرات بفرع إسكندرية، كما أنه عضو هيئة الفنون والآداب، ورئيس تحرير سلسلة ألوان إبداعية، ذات الشأن في الحياة الثقافية بالإسكندرية،
وهو الفائز بالعديد من الجوائز ذات القيمة.
فماذا يطلب من الأديب أكثر من هذا؟!
كما
أن شريف على المستوى الإنساني شخصية لها حضورها الفعال في الحياة الثقافية بالإسكندرية فهو مزيج من الديناميكية والسماحة، والتواضع والخلق النبيل الذي يجبر الجميع على الاحترام.
فكيف لا يحبه الناس؟!
شريف محي الدين إذن ظاهرة إيجابية فعالة في الحياة الثقافية في زماننا هذا.
فعلام الاستشهاد بالبيت النواسي المراوغ الذي يبدي. فيه صاحبه ألوانا من المودة والرضا والتقدير ولكنه يحرص كذلك أن تكون له رؤيته عند اللزوم...
من هذا المنطلق أبدأ في تسجيل ملاحظاتي الأولى على هذا النص الذي كتب مرتين، مرة على شكل رواية والمرة الأخرى في الصورة المسرحية الحالية، حاملا العنوان ذاته مع إضافة( أنا) ليصبح (أنا الملك)
وهذا الصنيع مبتكر، ولا شك ويحتاج وحده إلى تحليل خاص يركز على مواطن التلاقي ومواطن الاختلاف، ويفتش تبعا لذلك عن الحالات التي تتلاقى فيها الفنون الروائية والمسرحية، والمواقف التي يكون فيها لكل جنس أدواته وألياته،و مفاتيحه الموضوعية والجمالية.
ولعل من المفيد تسجيل أن هذه المسرحية وكذلك مسرحية أصحاب الملامح الباهتة مما ينتمي إلى المسرح الذهني، الذي بلغ توفيق الحكيم القمة فيه.
كما بلغها في الغرب مسرحيون عديدون منهم بيراند يللو (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)
وبريخت (دائرة الطباشير)
وجان بول ساتر (موتى بلا قبور)
إلخ ....
ومثل هذه الأعمال يكتب ليشاهد على خشبة المسرح وليس للقراءة، وقد أعرب الحكيم عن أسفه لأنه يضطر لنشر مسرحياته الذهنية لأن مجال عرضها في بلدنا محدود نسبيا، وربما لجأ كتاب المسرح إلى المزج بين الرواية والمسرحية عند النشر من خلال ما عرف بالمسرواية، لكي يكون النص المسرحي أيسر عند نشره في كتاب.
و تتضمن المسرحية حشدا من الشخصيات (ست عشرة شخصية)
من غير المجاميع وهذا عدد ملائم للنص المألوف (الكلاسيكي، و الكلاسيكي المحدث)
في حين تجري الأحداث في القاعة الملكية، وهذا أيضا متوائم مع الطقوس الكلاسيكية التي تحرص على الالتزام بوحدتي المكان والزمان.
وإن كان الزمان في أنا الملك، أكثر رحابة مما درج عليه النص القديم.
ويكفي أن نذكر أن هناك ملكا ما اسمه( المعز) ، ولاحظ أنه سماه ملكا وليس خليفة، وهذا الاسم يذكرنا بالمعز لدين الله الفاطمي...
ولا أحد يعرف لماذا المعز وليس المستجيب أو المنفرد أو أي اسم آخر وأن هذا الملك قرر أن ينحي ولي العهد جمال الدين الوسيم القوى من العرش دون سبب مفهوم لينصب بدلا منه ابنا من جارية سوداء مشكوك في صحة نسبه لكي يكون الملك، أما المعز نفسه فيذهب في رحلة غامضة...
وفي أجواء الرحلة ما يذكرنا بمسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم، حيث يبدأ النص عنده بأن شهريار يتأهب للقيام برحلة غامضة لا تعرف بشكل يقيني أسبابها، كل ما في الأمر أن ملك الحكيم يعود في أخر المسرحية ذاهلا مكدودا، أما ملك شريف محيي الدين فلا يعود أبدا!!
المسرحية حافلة بأجواء المؤامرة من جمال الدين ورجاله ضد سيف الدين أو الملك الجديد.
هناك طرفين متناقضين : جمال الدين الذي يمثل الحرس القديم ، و سيف الدين، الذي يتخبط في طريقه، ويسعى للانتصار للشعب والعدل والحرية.
ولكنه بحث أزلي شارد ضائع لا يصل فيه إلى يقين أبدا، إلى أن تجئ اللحظة التي صعدت فيها الأحداث إلى ذروتها حيث يتنازل الملك عن العرش للشاعر أو بمعنى آخر لواحد من عامة الشعب (صابر)
أما بعدها فإنه سيرحل كما رحل أبوه من قبل، ليغيب في سراديب الأيام!!
وهناك عشرات بل مئات الأبعاد المراوغة في نص شريف محيي الدين!!
منها مثلا :
هل هذا نص تاريخي؟
وإذا صح أنه كذلك فأين هذه المملكة وفي أي عصر هي؟!
إنها على الأرجح ليست في بلاط المعز لدين الله لأن بلاط هذا الملك الشيعي الفاطمي له سماته الفكرية الأخرى غير تلك التي رسمها شريف، مع ملاحظة أن الملك المعز لم يجعل أكبر أبنائه تميم وليا لعهده كما هو مألوف بل صرف ولاية العهد إلى من يليه وهو العزيز لأسباب على رأسها أن تميما كان سكيرا عكوفا على الملذات....
فهل كان المؤلف على وعي بهذا الذي حدث؟!
وإذا كان نصا تاريخيا فمن الذي فرض كل هذا الكم من المسميات الأوربية أو الحديثة على المسرحية وهل هو مقصود أم أنها وردت هكذا؟!
(غسان قائد الجيش هو مارشال، وهناك من حمل لقب المقدم والنقيب والملازم، وأيضا شريهان التي توصف بأنها سكرتيرة الملك!!
وكذلك الإشارة إلى السيرك والحديث عن خطاب العرش وما أشبه إلى أخر هذه التعبير ات العصرية والتى قد يراها البعض إفكا ما بعده إفك
وخروجا على الأعراف المسرحية والقوانين الأرسطية.
ولا أعرف ماذا سيكون رد فعلهم إذا قيل لهم أن هذا كتب مع سبق إصرار وترصد، لكسر الحواجز بين النص وتاريخه!!
وهكذا يكون الخروج العمد نوعا من الدخول في صميم القاعدة.
برافو شريف محي الدين،
وليذهب الذين يضيقون باستعمال برافو إلى الجحيم.
كاتب هذا العمل هو قارئ جيد وفي نفس الوقت غير متحذلق ومن هنا فإن أصداء ثقافته الرحبه يتدفق في سلاسة وبدون أدنى جهد منه، بعض منها مدرك وآخر ينداح هكذا في عفوية وبدون تعمد.
يمكن تقديم بعض الأمثلة :
الشبح هو عملاق مخيف صوته عميق له صدى رنان،
أهذا الشبح مرئي أم مسموع فحسب، أم؟ أم؟!
ليكن ما يكون وفي الظن أن طول التأمل فيه يجعل الإنسان يتذكر دور الجوقة في المسرح. الاغريقي القديم، وأكثر منها هذه الأشباح الشكسيبرية خاصة، وقد استخدم شريف أشباحة لتشكل رؤى مختلفة، وأحيانا تكون أقرب إلى القناع وإلى الصوت الداخلي وهي في كل الأحوال ناجحة للغاية وتتداخل برشاقة مع بنية المؤلف فتكسبه مزيجا من الحيوية والاقناع والجاذبية.
ويأتي على لسان الملك : كن مستعدا لكل الاحتمالات إلا التراجع، فقد أحرقنا كل مراكبنا... إلخ.
(أحرقنا كل مراكبنا)
إن الإشارة للوهلة الأولى تذكرنا بفتح الأندلس، وطارق بن زياد، وحكاية احراقه لسفنه التي صدقناها بسذاجةشديدة وهي محض خرافة، فالمقصود هو هذا التعبير الأوربي القديم، والذي يعني القطيعة الأبدية وقد استعملت في الوثائق الإسبانية القديمة، ولما نقلت للمسلمين فهمت بمعنى الإحراق الفعلي للسفن....
فمن أين أتى بها هذا الفتى؟!
وكيف دسها في ثنايا الحوار بكل هذه المهارة ؟!
وأنظر لقول صاحب الشرطة :
إن الناس تجمعهم صرخة وتفرقهم ضربة سوط.
والذي في الذاكرة مقولة للوزير المصري شاور السعدي، في أواخر الدولة الفاطمية بمصر، والذي أتى بصحبته جيش صغير من الشام يقوده أسد الدين شيركوه، وابن عمه الشاب : صلاح الدين، وعندما وصلوا إلى مصر رأوا أمامهم جيشا جحفلا فخاف أسد الدين وقال لشاور :
يا هذا لقد غررت بنا...
فطمأنه شاور قائلا : إن هذا الجمع يجمعه الطبل وتفرقه العصا.
ولعله تعبير تشكل في صور شتى ومعناه واحد، وقد وصل واحد منهم إلى هذا الكاتب المثقف فدخل في أعماق قلمه دون أن يدري... وبعد؟
فإن للحديث بقية، وهناك جوانب لا تحصى تلح لكي يتناولها القلم على رأسها حالات التردد والتحول والاضطراب، خاصة عند كل من الملك الجديد سيف الدين، وصابر.
وهناك أيضا يمكن أن يرتفع صوت يقول :
أو من الضروري أن تكون كل الشخصيات المسرحية قوية ثابتة كالهرم الأكبر؟
ألم يكن (هاملت) مترددا يصل أحيانا إلى درجة الحماقة؟!
وهذه المقدرة على إثارة الأمثلة تحتاج إلى موهبة خاصة، وهي الموهبة التي يمتلكها هذا القصاص والمسرحي الرائع : شريف محيي الدين ،وقد بلغ في (أنا الملك)
قمة نضجه الفني، وقدم عملا يشرف خشبة المسرح.
وعلى الرغم من أن هذه المسرحية قد كتبت قبل ثورة ٢٥ يناير بعدة سنوات إلا أنها تأتي نابضة بكل حيوية ونبض هذه الأيام الصادحة بروح الثورة، وحماسها الجارف، وحيرتها وتخبطها أحيانا ،وهي مع هذا قريبة إلى وجداننا تحمل نبض مشاعرنا، وارتجافات الدم في عروقنا.
وهذا أيضا وجه من وجوه المراوغة التي تجيش بها هذه المسرحية (الجديدة) بصدق ووعي وأصالة بالغة الجمال.
يبقي ملمح أخير جدير بالإشادة أيضا، فإن كاتب المسرحية رأي أن بعض مواقف فيها، خاصة المشهد الختامي تحتاج إلى الشعر بما له من كثافة وقدرة على لمس أغوار النفوس، ومن ثم فإنه استعان بالشاعر البارع : ناجي عبداللطيف، والذي بلغ ذروة الإجادة في تفهمه المواقف التي دعاه شريف محيي الدين إلى صياغتها شعرا، انطلاقا من كونها جاءت على لسان الشاعر في مواقف بلغت فيها التراجيديا أوجها، وهذا الملمح يعد بدوره من المواقف الكاشفة عن مدى رهافة هذا الكاتب المسرحي الذي بلغ في (الملك) منزلة عالية من المهارة والصدق الفني الرفيع.
ولا كل سلطان علي أمير
هذا البيت المراوغ من شعر أبي نواس ، قد استعان به عميد الأدب العربي الكاتب الكبير :طه حسين، وهو يختم الجزء الثالث من رائعته الأيام ليشير من خلاله إلى أنه مع حركة ثورة يوليو ١٩٥٢ المباركة، ولكن ليس معنى هذا أنه معها قلبا وقالبا، بل يرى لها إيجابيات، كما يرى لها سلبيات،
فالترحيب هنا ليس من الألف للياء ؟!
،و قبل الولوج إلى عتبات هذا النص، يجب التعرض مسبقا لعدة نقاط تمهيدية :
منها أن المؤلف كاتب سكندري متعدد الإنتاج ومتنوع النشاط، ما بين روايات وقصص قصيرة ومسرحيات وتمثليات إذاعية.
وهو عضو اتحاد كتاب مصر.
وعضو مجلس إدارة منتخب لعدة مرات بفرع إسكندرية، كما أنه عضو هيئة الفنون والآداب، ورئيس تحرير سلسلة ألوان إبداعية، ذات الشأن في الحياة الثقافية بالإسكندرية،
وهو الفائز بالعديد من الجوائز ذات القيمة.
فماذا يطلب من الأديب أكثر من هذا؟!
كما
أن شريف على المستوى الإنساني شخصية لها حضورها الفعال في الحياة الثقافية بالإسكندرية فهو مزيج من الديناميكية والسماحة، والتواضع والخلق النبيل الذي يجبر الجميع على الاحترام.
فكيف لا يحبه الناس؟!
شريف محي الدين إذن ظاهرة إيجابية فعالة في الحياة الثقافية في زماننا هذا.
فعلام الاستشهاد بالبيت النواسي المراوغ الذي يبدي. فيه صاحبه ألوانا من المودة والرضا والتقدير ولكنه يحرص كذلك أن تكون له رؤيته عند اللزوم...
من هذا المنطلق أبدأ في تسجيل ملاحظاتي الأولى على هذا النص الذي كتب مرتين، مرة على شكل رواية والمرة الأخرى في الصورة المسرحية الحالية، حاملا العنوان ذاته مع إضافة( أنا) ليصبح (أنا الملك)
وهذا الصنيع مبتكر، ولا شك ويحتاج وحده إلى تحليل خاص يركز على مواطن التلاقي ومواطن الاختلاف، ويفتش تبعا لذلك عن الحالات التي تتلاقى فيها الفنون الروائية والمسرحية، والمواقف التي يكون فيها لكل جنس أدواته وألياته،و مفاتيحه الموضوعية والجمالية.
ولعل من المفيد تسجيل أن هذه المسرحية وكذلك مسرحية أصحاب الملامح الباهتة مما ينتمي إلى المسرح الذهني، الذي بلغ توفيق الحكيم القمة فيه.
كما بلغها في الغرب مسرحيون عديدون منهم بيراند يللو (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)
وبريخت (دائرة الطباشير)
وجان بول ساتر (موتى بلا قبور)
إلخ ....
ومثل هذه الأعمال يكتب ليشاهد على خشبة المسرح وليس للقراءة، وقد أعرب الحكيم عن أسفه لأنه يضطر لنشر مسرحياته الذهنية لأن مجال عرضها في بلدنا محدود نسبيا، وربما لجأ كتاب المسرح إلى المزج بين الرواية والمسرحية عند النشر من خلال ما عرف بالمسرواية، لكي يكون النص المسرحي أيسر عند نشره في كتاب.
و تتضمن المسرحية حشدا من الشخصيات (ست عشرة شخصية)
من غير المجاميع وهذا عدد ملائم للنص المألوف (الكلاسيكي، و الكلاسيكي المحدث)
في حين تجري الأحداث في القاعة الملكية، وهذا أيضا متوائم مع الطقوس الكلاسيكية التي تحرص على الالتزام بوحدتي المكان والزمان.
وإن كان الزمان في أنا الملك، أكثر رحابة مما درج عليه النص القديم.
ويكفي أن نذكر أن هناك ملكا ما اسمه( المعز) ، ولاحظ أنه سماه ملكا وليس خليفة، وهذا الاسم يذكرنا بالمعز لدين الله الفاطمي...
ولا أحد يعرف لماذا المعز وليس المستجيب أو المنفرد أو أي اسم آخر وأن هذا الملك قرر أن ينحي ولي العهد جمال الدين الوسيم القوى من العرش دون سبب مفهوم لينصب بدلا منه ابنا من جارية سوداء مشكوك في صحة نسبه لكي يكون الملك، أما المعز نفسه فيذهب في رحلة غامضة...
وفي أجواء الرحلة ما يذكرنا بمسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم، حيث يبدأ النص عنده بأن شهريار يتأهب للقيام برحلة غامضة لا تعرف بشكل يقيني أسبابها، كل ما في الأمر أن ملك الحكيم يعود في أخر المسرحية ذاهلا مكدودا، أما ملك شريف محيي الدين فلا يعود أبدا!!
المسرحية حافلة بأجواء المؤامرة من جمال الدين ورجاله ضد سيف الدين أو الملك الجديد.
هناك طرفين متناقضين : جمال الدين الذي يمثل الحرس القديم ، و سيف الدين، الذي يتخبط في طريقه، ويسعى للانتصار للشعب والعدل والحرية.
ولكنه بحث أزلي شارد ضائع لا يصل فيه إلى يقين أبدا، إلى أن تجئ اللحظة التي صعدت فيها الأحداث إلى ذروتها حيث يتنازل الملك عن العرش للشاعر أو بمعنى آخر لواحد من عامة الشعب (صابر)
أما بعدها فإنه سيرحل كما رحل أبوه من قبل، ليغيب في سراديب الأيام!!
وهناك عشرات بل مئات الأبعاد المراوغة في نص شريف محيي الدين!!
منها مثلا :
هل هذا نص تاريخي؟
وإذا صح أنه كذلك فأين هذه المملكة وفي أي عصر هي؟!
إنها على الأرجح ليست في بلاط المعز لدين الله لأن بلاط هذا الملك الشيعي الفاطمي له سماته الفكرية الأخرى غير تلك التي رسمها شريف، مع ملاحظة أن الملك المعز لم يجعل أكبر أبنائه تميم وليا لعهده كما هو مألوف بل صرف ولاية العهد إلى من يليه وهو العزيز لأسباب على رأسها أن تميما كان سكيرا عكوفا على الملذات....
فهل كان المؤلف على وعي بهذا الذي حدث؟!
وإذا كان نصا تاريخيا فمن الذي فرض كل هذا الكم من المسميات الأوربية أو الحديثة على المسرحية وهل هو مقصود أم أنها وردت هكذا؟!
(غسان قائد الجيش هو مارشال، وهناك من حمل لقب المقدم والنقيب والملازم، وأيضا شريهان التي توصف بأنها سكرتيرة الملك!!
وكذلك الإشارة إلى السيرك والحديث عن خطاب العرش وما أشبه إلى أخر هذه التعبير ات العصرية والتى قد يراها البعض إفكا ما بعده إفك
وخروجا على الأعراف المسرحية والقوانين الأرسطية.
ولا أعرف ماذا سيكون رد فعلهم إذا قيل لهم أن هذا كتب مع سبق إصرار وترصد، لكسر الحواجز بين النص وتاريخه!!
وهكذا يكون الخروج العمد نوعا من الدخول في صميم القاعدة.
برافو شريف محي الدين،
وليذهب الذين يضيقون باستعمال برافو إلى الجحيم.
كاتب هذا العمل هو قارئ جيد وفي نفس الوقت غير متحذلق ومن هنا فإن أصداء ثقافته الرحبه يتدفق في سلاسة وبدون أدنى جهد منه، بعض منها مدرك وآخر ينداح هكذا في عفوية وبدون تعمد.
يمكن تقديم بعض الأمثلة :
الشبح هو عملاق مخيف صوته عميق له صدى رنان،
أهذا الشبح مرئي أم مسموع فحسب، أم؟ أم؟!
ليكن ما يكون وفي الظن أن طول التأمل فيه يجعل الإنسان يتذكر دور الجوقة في المسرح. الاغريقي القديم، وأكثر منها هذه الأشباح الشكسيبرية خاصة، وقد استخدم شريف أشباحة لتشكل رؤى مختلفة، وأحيانا تكون أقرب إلى القناع وإلى الصوت الداخلي وهي في كل الأحوال ناجحة للغاية وتتداخل برشاقة مع بنية المؤلف فتكسبه مزيجا من الحيوية والاقناع والجاذبية.
ويأتي على لسان الملك : كن مستعدا لكل الاحتمالات إلا التراجع، فقد أحرقنا كل مراكبنا... إلخ.
(أحرقنا كل مراكبنا)
إن الإشارة للوهلة الأولى تذكرنا بفتح الأندلس، وطارق بن زياد، وحكاية احراقه لسفنه التي صدقناها بسذاجةشديدة وهي محض خرافة، فالمقصود هو هذا التعبير الأوربي القديم، والذي يعني القطيعة الأبدية وقد استعملت في الوثائق الإسبانية القديمة، ولما نقلت للمسلمين فهمت بمعنى الإحراق الفعلي للسفن....
فمن أين أتى بها هذا الفتى؟!
وكيف دسها في ثنايا الحوار بكل هذه المهارة ؟!
وأنظر لقول صاحب الشرطة :
إن الناس تجمعهم صرخة وتفرقهم ضربة سوط.
والذي في الذاكرة مقولة للوزير المصري شاور السعدي، في أواخر الدولة الفاطمية بمصر، والذي أتى بصحبته جيش صغير من الشام يقوده أسد الدين شيركوه، وابن عمه الشاب : صلاح الدين، وعندما وصلوا إلى مصر رأوا أمامهم جيشا جحفلا فخاف أسد الدين وقال لشاور :
يا هذا لقد غررت بنا...
فطمأنه شاور قائلا : إن هذا الجمع يجمعه الطبل وتفرقه العصا.
ولعله تعبير تشكل في صور شتى ومعناه واحد، وقد وصل واحد منهم إلى هذا الكاتب المثقف فدخل في أعماق قلمه دون أن يدري... وبعد؟
فإن للحديث بقية، وهناك جوانب لا تحصى تلح لكي يتناولها القلم على رأسها حالات التردد والتحول والاضطراب، خاصة عند كل من الملك الجديد سيف الدين، وصابر.
وهناك أيضا يمكن أن يرتفع صوت يقول :
أو من الضروري أن تكون كل الشخصيات المسرحية قوية ثابتة كالهرم الأكبر؟
ألم يكن (هاملت) مترددا يصل أحيانا إلى درجة الحماقة؟!
وهذه المقدرة على إثارة الأمثلة تحتاج إلى موهبة خاصة، وهي الموهبة التي يمتلكها هذا القصاص والمسرحي الرائع : شريف محيي الدين ،وقد بلغ في (أنا الملك)
قمة نضجه الفني، وقدم عملا يشرف خشبة المسرح.
وعلى الرغم من أن هذه المسرحية قد كتبت قبل ثورة ٢٥ يناير بعدة سنوات إلا أنها تأتي نابضة بكل حيوية ونبض هذه الأيام الصادحة بروح الثورة، وحماسها الجارف، وحيرتها وتخبطها أحيانا ،وهي مع هذا قريبة إلى وجداننا تحمل نبض مشاعرنا، وارتجافات الدم في عروقنا.
وهذا أيضا وجه من وجوه المراوغة التي تجيش بها هذه المسرحية (الجديدة) بصدق ووعي وأصالة بالغة الجمال.
يبقي ملمح أخير جدير بالإشادة أيضا، فإن كاتب المسرحية رأي أن بعض مواقف فيها، خاصة المشهد الختامي تحتاج إلى الشعر بما له من كثافة وقدرة على لمس أغوار النفوس، ومن ثم فإنه استعان بالشاعر البارع : ناجي عبداللطيف، والذي بلغ ذروة الإجادة في تفهمه المواقف التي دعاه شريف محيي الدين إلى صياغتها شعرا، انطلاقا من كونها جاءت على لسان الشاعر في مواقف بلغت فيها التراجيديا أوجها، وهذا الملمح يعد بدوره من المواقف الكاشفة عن مدى رهافة هذا الكاتب المسرحي الذي بلغ في (الملك) منزلة عالية من المهارة والصدق الفني الرفيع.