فاتن فاروق عبد المنعم - دعاني... لبيته

{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}
(27 الحج)


بفضل من الله ورحمة، من علي بالحج هذا العام، وقد آثرت أن أكتب، لا عن وجيب قلبي الذي يصعب ترجمته، ولا عن الحج كشعيرة معلومة للجميع،

ولكن أنقل ما التقطته عيني خلال ثلاثة أسابيع، حج تمتع، بدأنا بمدينة رسول الله ﷺ، الفندق في مواجهة مسجده ﷺ،

أمضي بين شلالات بشرية هادرة يسبقني قلبي الذي يخفق بشدة، على الباب المفضي إلى مصلى النساء تقف سعوديات لتفتيشنا، عشرينيات وثلاثينيات،

تحدثت الوافدات بكل اللغات ما بين الإنجليزية والفرنسية والتركية والأوردية والفارسية،

أستطيع تمييز الأولى والثانية بالطبع ومن الثالثة ألمح نطق «خانوم» «وهانم»،

النطق والسمت ينم عن دراسة وتمكن وليس كمن يعمل بالسياحة، تتجاذب معي إحداهن أطراف الحديث،

فعرفت من لهجتي أنني مصرية، فبادلتني الحديث باللهجة المصرية في حبور،

وهذا ما عهدته من خلال محادثتي مع الأخوة العرب، كنوع من الترحيب بي يحدثوني باللهجة المصرية رغم أنني لا يمكنني فعل الشيء نفسه معهم.

الآن أجلس في المسجد، مصنع الرجال، صحابة رسول الله ﷺ، الذين حملوا همّ هذا الدين وأخلصوا له إخلاصا أحسدهم عليه،

فانطلقوا يشقون الأرض بأقدامهم ليفسحوا لنا مكانا تحت الشمس وتحملوا الصعاب والأزمات تلو الأزمات من أجل تبليغ الدعوة،

تحدوا أعتى إمبراطوريتين في ذلك الوقت، الفرس والروم، لا يستقون الثقة والقوة إلا من القرآن الذي يحفظونه في صدورهم وسنة رسول الله ﷺ الماثل بينهم أو الذين كانوا حديثي العهد به،

يخفق قلبي وتفيض عيناي المصابة بالجفاف والحساسية، ولا تسألوني عن السبب لأنه فوق الوصف.
عربي وعجمي

النبي عربي وأغلبنا أعاجم، اللسان العربي سطر في صفحة من ألف سطر، كل الألسن ممثلة من حولي،

الأفارقة من غير العرب بكل طبقات الصوت، بدء من صوت يشبه قرع الطبول الأفريقية يتدرج في الترقق حتى يبلغ درجة ارتطام رقائق من المعدن،

وكل درجات سمرة البشرة، من أدكن سمرة إلى أفتحها، وكل أنواع البشرة البيضاء والصفراء والحمراء وفي كل طبقة الجمال لا ينسى أن يحط رحاله.

ما زلت في مصنع الرجال والبذرة الأولى للدولة الإسلامية،

بجانب أحد الأعمدة التي تتوسط المسجد تجلس طبيبة سعودية وممرضتان تقمن على رعاية من تتداعى بالمسجد،

زيارة الروضة الشريفة مطلب ملح لنا ورغم الزحام والحواجز لحفظ الأمن إلا أن عبق المكان وألقه يفيض.
إلى الكعبة نسير

خمسة أيام في المدينة، ثم ركبنا الحافلات للذهاب إلى مكة، توقفنا في أبيار علي للإحرام والصلاة،

ثم أكملنا حتى بلغنا مكة خلال ست ساعات أو يزيد، هذه المسافة قطعها نبينا في أربعة أيام سيرا على قدميه وهو في نفس عمري تقريبا،

كم أننا مرفهون وضعاف البنية أو قل ضعاف الإيمان والعزيمة.

كان لابد أن نصعد إلى الفندق أولا، والمواجه للحرم أيضا، لنضع حقائبنا وقليل من الوقت للراحة،

وتناول مشروب ما، وتجديد الوضوء، لمن يرغب ثم النزول إلى الحرم، لعمل طواف القدوم،

الآن في طريقي إلى الكعبة ورغم أن اليوم كان شاقا، وسبقه مباشرة زيارة الروضة الشريفة في منتصف الليل،

إلا أن الشوق كان يحملني وقلبي يخفق حتى وقعت عيني على الكعبة، بيت الله الحرام..

فرفعت يدي اليمنى وكبرت، نعم الحمد لله لأن الله أكبر واستغرقت في الدعاء والذكر والحمد والتهليل والتكبير،

ودعوت لكل حبيب بظهر الغيب،

مِن حولي أمواج بشرية تلهج ألسنتهم بالدعاء، بعضهم بأيديهم كتيبات بأدعية مكتوبة وهو ما لا أفضله،

يقرأون بلغات شتى والبعض يدعو الله ويذكره من قلبه دون كتيبات، الألسن الأعجمية تتداخل من حولي..

ينشدون ويذكرون الله ورسوله ﷺ بلغاتهم التي أجهلها فقط يبلغ سمعي «الله أكبر» أو «رسول الله» ﷺ، بعربية تشكو عجمة الأصل،

هؤلاء الذين جاءوا فرحين بما أتاهم ربهم، يرجون رحمته ويخافون عذابه، أغلبنا كبار في السن، مثقلون بأمراض مزمنة،

وكلنا ما بين مذنب ومقصر وأنا أول المذنبين والمقصرين، قطعنا هذه المسافات وتحملنا المشاق طمعا في أن يغفر لنا.
رسائل إلهية:

الرسائل الإلهية لا تتوقف، يقرأها كل ذي بصيرة،شعيرة الحج مليئة بالرسائل الإلهية، أننا أمة واحدة لنا إله واحد ونحن له عابدون،

رغم الخلافات والدسائس والتشرذم، جئنا إليه راغمون نلبي النداء،

نقف صفا واحدا لنحاذي المناكب ونسد الفرج، كل الفرج وليست صفوف الصلاة فحسب، فهلا نستجيب؟ّ!

{إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}

(92 الأنبياء)

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖفَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير}

(28 الحج)

من بين مجموعتي مذيعة بإحدى الفضائيات بوجه مغسول بالماء والصابون وحجاب شرعي فضفاض،

وأخريات تعلق بعنقها بطاقة عليها صورتها بتربون (حجاب اليهودية)، أو إيشارب مربوط للخلف (كمن عندها غسيل)

أو التقليعة الجديدة إظهار جزء من الشعر، أو البنطال اللآتي ولدن به،

كلها دلائل للتنكب والإركاس في الفتن والإذعان المذل لدعوات الأفسال الذين لم يرقوا مرقى جرو،

كلهن طرحن دعوات رسل الشيطان واستجبن صاغرين لله الواحد الأحد وأسقطن كل الحيثيات والأعذار الواهية راغمين

وجئن إليه بحجاب شرعي فضفاض، إنه الحق الواجب اتباعه ولو كان ما هن فيه صحيح لما ارتدين حجاب شرعيا، إنه الإسلام الذي يمحق كل باطل ويميته مها علا وانتفش.
منافع كثيرة

إنها المنافع التي ذكرها الله في الآية «منكرة» دلالة على التكثير،

نعم منافع كثيرة أجلها أنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح ولا مناص لنا من اتباع الحق الذي أورده الله ليهدينا سبل الرشاد،

بعد انحراف بوصلتنا وجعل كل منا إلهه هواه فضللنا وشقينا، نحن لسنا بخير،

وفي جسم المجتمع مرض كامن أعراضه كثيرة منها الذبح المجاني في وضح النهار،

وارتعاش يد العدالة الناجزة، المريض لا يملك من أمره شيء بعد أن أقعده المرض،

فالقضية التي شغلت الرأي العام مؤخرا، الشاب الذي قتل محبوبته،

غريبة ومبهمة ولكنها دالة على المرض الكامن، وكلنا مشغول بعلاج العرض بينما المرض مستفحل ومتفشٍ،

خاصة بعد إجراء كشف العذرية على الفتاة ليتضح لنا أننا لسنا في الحضيض،

وإنما دون الحضيض بملايين السنوات الضوئية،

وحق الإنسان الذي يزاحم القرود في سكنى الأشجار أن يتباهى بأخلاقه علينا،

الله يذيقنا العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، لعلنا نرجع إليه، كي نغنم المنافع الكثيرة،

فإن لم نرجع إليه سوف نستيقظ على طوفان لن يبقى ولن يذر.

الحج شعيرة وعبادة تنبئنا أننا دون الدين لسنا بخير وبه سنغنم المنافع الكثيرة،

في عام 2020 عرضت، عليّ مرتين، قناتين فضائيتين، واحدة تلو الأخرى أن أقدم برنامج يتحدث عن مشاكل الأسرة كالطلاق والشذوذ والإدمان والعنوسة بشرط ألا أذكر الدين في جملة مفيدة،

طبعا رفضت لأن هذا أولا بعيد عن اهتماماتي ولأن هذه المشاكل لا تحل إلا بالدين وليس باستبعاد الدين ولا تعليق يذكر إزاء ذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى