ظهرت السينما لأول مرة في العالم على يد الأخوين لوميير في فرنسا عام 1895، وقُدِّم أول عرض سينمائي في مصر بالإسكندرية إبان شهر يناير عام 1896؛ تبعه أول عرض بالقاهرة في نفس الشهر، وافتتحت أول دار "سينما توغرافي" في مصر بالإسكندرية في منتصف يناير 1897، أما أول عرض سينمائي مصري ففد كان عبارة عن مجموعة صور متحركة صامتة لزيارة قام بها الخديوي عباس حلمي الثاني للمعهد الديني بمسجد سيدي أبي العباس المرسي(1) في 20 يونيه 1907، وأول الأفلام الروائية المصرية كان عام 1917 عندما أنتجت الشركة التي أسسها الفنان محمد كُريِّم فيلميه الصامتين القصيرين: "الأزهار الميتة" و"شرف البدوي"،ثم ظهر أول فيلم روائي وكان متوسط الطول(2) صامتًا عام 1920، وكان بعنوان "الخالة الأمريكانية" إخراج الإيطالي بونفيلي وبطولة علي الكسار، أما أول فيلم روائي طويل صامت فقد كان بعنوان "ليلى" بطولة عزيزة أمير وإخراج استيفان روستي، وقيل بل إنه فيلم "قبلة في الصحراء" إخراج إبراهيم لاما وبطولة أخيه بدر لاما، ولكن أول فيلم روائي ناطق هو فيلم "أولاد الذوات" إخراج محمد كريم وبطولة يوسف وهبي، وعرض الاول بـ"سينما رويال" في 14 مارس 1932.(3).
وكثير من الناس - ومنهم المتخصصون في السينما - لا يصدقون أن أول دار سينما نشأت في صعيد مصر هي دار "سينما أسيوط الشتوية" التي أسسها المهندس تادرس مقار عام 1908(4)، ولم يكن قد مر حينها على ميلاد السينما في فرنسا والعالم كله سوى ثلاث عشرة سنة فقط، وتفسير ذلك أورده عثمان فيض الله في كتابه المتفرد "أسيوط .. بحث في بيئتها بين الماضي والحاضر" الذي أصدره على نفقته الخاصة عام 1940 .
لقد أرسل مقار دميان أحد وجهاء مدينة أسيوط وأثريائها الكبار(5) ابنه تادرس في مطلع القرن العشرين إلى فرنسا لدراسة الهندسة على نفقته الخاصة، وتادرس هذا هو الذي أنشأ عندما عاد من فرنسا دار السينما المذكورة، وفي عام 1916 أنشأ أخوه أدولف دار سينما صيفية بجوار الدار الشتوية وعلى مسرح تلك الدار غنت ليلى مراد في صيف عام 1939، وفي عام 1933 جدد أدولف دار السينما الصيفية وأصبحت تتسع لألف وثلاثمائة مشاهد(6)، وفي 1935 هدم أخوه تادرس دار السينما الشتوية القديمة وأنشأ مكانها دارًا شتوية فخمة تتسع لألف وخمسمائة مشاهد(7)، ولم يكن لطرازها المعماري مثيل إلا في باريس وكان نظام الإضاءة فيها متفردًا فقبل بدء تشغيل الفيلم لا تنطفئ الأنوار مرة واحدة كما في كل السينمات المصرية، بل تخفت رويدًا رويدًا حتى يعم الظلام تمامًا، وعلى مسرحها غنت أيضًا كوكب الشرق السيدة أم كلثوم في الأربعينيات، وظلت تلك الدار قائمة حتى أوائل التسعينيات عندما اشتراها رجل الأعمال نجيب ساويرس وهدمها من الداخل بالكامل مبقيًا على هيكلها الخارجي كما هو وجعل الدار من مستويين كل مستوى منهما يضم صالتين للعرض فبدلًا من شاشة عرض واحدة كانت في الدار القديمة أصبح هناك أربع شاشات كل منها تعرض برنامجها السينمائي الخاص وأصبح اسمها منذ ذلك الوقت "سينما الرينيسانس".
في الشهور الأولى لإقامتي بأسيوط عام 1969 ترددت على بعض دور السينما ومنذ ذلك الحين تعلقت بالفن السابع ولم أكن في الواقع قد شاهدت من قبل فيلمًا في دار سينما حقيقية إلا عام 1964 وكنت طفلًا حين اصطحبني أبي معه إلى مولد "سيدي الفرغل" بمدينة أبو تيج حيث يوجد بها ككل عواصم المراكز دار سينما صيفية فدخلتها بصحبة أبي وأحد أصدقائه، والفيلم الذي كانت تعرضه الدار هو فيلم "رابعة العدوية"(
ويتناسب موضوعه مع أجواء المولد الروحانية، وكان فيلما ملونًا بطولة الفنانة نبيلة عبيد (أظنه أول بطولة لها)، التي كانت تغني فيه بطريقة الدوبلاج بينما الصوت لكوكب الشرق السيدة أم كلثوم، الفيلم بالتسبة لي كان تجربة مذهلة فثمة فرق بين ما شاهدته واستمتعت به في تلك الليلة وبين ما شاهدته قبلًا من عروض الجامعة الشعبية البسيطة .
كان لدى فرع "الجامعة الشعبية" التي بدأ نشاطه عام 1946 بأسيوط سيارة روسية الصنع أكبر من المايكروباص قليلًا تعرف باسم الـ(براجا)؛ يفتح بابها الخلفي على ماكينة سينما صغيرة (16 ملم) بواسطتها يتم عرض أفلام روائية أحيانًا وأفلام إرشادية توعوية أحيانًا أخرى وذلك على مساحة بيضاء مناسبة من حائط مبنى أو على ملاءة من قماش أبيض .
وبعد أن بدأ البث التلفزيوني عام 1960 وضعت الحكومة جهاز تليفزيون في كل وحدة مجمعة بالقرى الكبيرة وفي بعض الميادين بالمدن، وفي إجازة الصيف الطويلة كنت أذهب كل يوم بالنهار إلى الكتاب لأحفظ القرآن الكريم أما في المساء فبعد المغرب كنت أذهب مع ثلة من صبية الحي إلى الوحدة المجمعة خارج القرية(9) لمشاهدة التليفزيون، كنا نشاهد أفلامًا مثل قطار الليل وتمر حنة وأدهم الشرقاوي وصراع في النيل وصراع في الوادي وشياطين الليل و30 يوم في السجن وغزل البنات وأفلام إسماعيل يس وغيرها، ونشاهد أيضًا مسلسلات درامية أتذكر منها مثلًا "هارب من الأيام" ومثل "بنت الحتة" وهو المسلسل الذي صك فيه توفيق الدقن بعض لوازمه الشهيرة من مثل "آلو يا همبكة؛ آلو يا أمم"، وكان التليفزيون بالطبع يعرض مواد أخرى كالأغاني الوطنية والمنولوجات الفكاهية والإعلانات الكرتونية التي كانت تستهوينا كأطفال، ويعرض كذلك برامج حوارية ونشرات إخبارية لكنها لم تكن تستهوينا في تلك السن.
كنت أحيانًا أندمج مع الفيلم العربي أو الأجنبي حتى ينتهي فلا أنتبه إلى أن من جاءوا معي من الصبية قد تسربوا وتركوني وحدي، وحينها أكون في حالة لا أحسد عليها، فالطريق من الوحدة المجمعة حتى المنزل في آخر القرية طويل وأغلبه مظلم - إن لم يكن كله مظلمًا - وتكثر فيه الكلاب وبعضها شرس وتحضرني طوال الطريق حكايات العفاريت وأشباح المقتولين في حوادث الثأر، شبح فلان الذي قتل هنا وشبح علَّان الذي قتل هناك، وما إن يأتي اليوم التالي حتى أكون قد نسيت كل ذلك وأذهب مع أندادي مرة أخرى إلى الوحدة المجمعة لمشاهدة التليفزيون ولا تراودني مشاعر معاناة العودة إلى البيت عبر الشوارع المظلمة إلا عندما تنتهي ساعات إرسال التليفزيون.
حين سكنت في المدينة كنت في نهاية كل أسبوع أعود إلى القرية حيث أقضي مع الأسرة ليلة الجمعة وبعد صلاة الجمعة أعود إلى أسيوط عن طريق أوتوبيس النقل العام الوحيد بالقرية أو عن طريق إحدى سيارات الأجرة التي لم تكن تحمل الطلاب المسافرين داخلها فقط بل على سطحها ورفارفها الجانبية (كان للسيارات رفارف جانبية يمكن الوقوف عليها) ومقدمتها التي تكاد تختفي وراء أجساد الطلاب الراكبين اللهم إلا جزءًا صغيرًا أمام السائق يرى من خلاله الطريق، والطريق ترابي لمسافة 6 أو 7 كيلومترات حتى يلتقي بطريق القاهرة أسوان الزراعي المرصوف، لذلك كان كل ركاب السيارة ما عدا المحظوظين الذين ركبوا مبكرًا فاحتلوا أماكن داخلها لا يصلون إلى أسيوط إلا وقد غطت وجوههم وملابسهم غلالة كثيفة من التراب الناعم.
في ذراع كل طالب (سبت) يكون فارغًا وهو راجع آخر الأسبوع إلى أهله في القرية ويصير ممتلئًا حين في طريق عودته إلى المدينة ؛ ممتلئًا ببعض أرغفة العيش الشمسي أو البتاو وبرطمان سمنة بلدي وبضع قطع من الجبنة القريش وزجاجة زيت تموين وبعض البيض المسلوق وما إلى ذلك .
فضلًا عن ذلك كان أبي - رحمة الله عليه - يعطيني وأنا أغادر البيت جنيهًا هو مصروفي بالمدينة حتى نهاية الأسبوع، من ذلك الجنيه كنت أشتري طعامي اليومي في الإفطار والغداء والعشاء، ولا يخرج الطعام اليومي عن حيز المأكولات الشعبية، أما (الزفر) من لحوم حيوانات وطيور وخلافه فلا يكون إلا مع الأسرة يومي الخميس والجمعة، ولولا أن يوم الأحد يوم دراسي لكان أيضًا من أيام (الزفر).
وأغلب زملائي من أبناء القرية - إن لم يكونوا كلهم - كان مصروف الواحد منهم طوال الأسبوع خمسين قرشا فقط، ومن الجنيه كنت أشتري بعض روايات الجيب والروايات العالمية وأدخل السينما مرة أو مرتين فقد كان سعر التذكرة بالترسو ثلاثة قروش ونصف وإذا كان الفيلم من الأفلام الجيدة والإقبال على مشاهدته شديدًا فإن تذكرة الدخول تباع في السوق السوداء خارج الشباك لمن لا يستطيع المزاحمة أو يتحاشاها بأربعة قروش او أربعة قروش ونصف القرش وأحيانًا بخمسة قروش ولكن ذلك كان نادرًا جدًا.
كان بمدينة أسيوط أربع دور سينما: اثنتان شتويتان هما دار "سينما أسيوط الشتوية" ودار سينما الثقافة بقصر ثقافة أسيوط(10) التي بدأت تعمل منذ عام 1967 أي بعد الانتهاء مباشرة من إنشاء القصر، وداران صيفيتان هما دار "سينما خشبة" التي بدأت نشاطها في أوائل الثلاثينيات تقريبًا ودار "سينما أدولف" الملاصقة لسينما أسيوط الشتوية .
دار سينما أسيوط الشتوية (الرينيسانس فيما بعد) كانت تعرض فيلمين في البرنامج الواحد أحدهما عربي و الثاني أجنبي ومثلها دار سينما أدولف الصيفية، ودار سينما خشبة الصيفية كانت تتميز بأنها تعرض ثلاثة أفلام في البرنامج الواحد: فيلمين عربيين وفيلمًا أجنبيًّا أو العكس، وسينما قصر الثقافة الشتوية كانت تعرض فيلمًا واحدًا في كل برنامج لكنها كانت تنفرد بأنها لا تعرض سوى الأفلام الأجنبية واستمرت هكذا حتى أواخر الثمانينيات حين أخذت تنوع عروضها بين ما هو عربي وما هو أجنبي ولذلك لم يكن يرتاد سينما قصر الثقافة لسنوات طويلة إلا المتعلمون من الموظفين وطلاب الجامعة.
كان يقف دائمًا أمام دور السينما بعض الأشخاص "الشضلية" بتعبير حسين شفيق المصري يشترون التذاكر من الشباك ويبيعونها لرواد السينما بأعلى من سعرها ما عدا سينما قصر الثقافة ربما ظنًّا منهم أنها سينما حكومية وهي بالفعل كذلك لكنها كانت تدار منذ عام 1970 بوساطة جمعية أهلية تسمى "جمعية رواد قصر ثقافة أسيوط"، أتذكر أن أحد هؤلاء الأشخاص كان اسمه أنور، طويل وعريض، ونشاطه كان الدائم أمام دار سينما خشبة ومن عادته أن يعتمر فوق رأسه باستمرار قبعة، كما أتذكر شخصًا آخر اسمه سمير الأسود، كان متوسط الطول نحيفًا يمتلئ وجه بالكثير من الجروح والندوب ونشاطه كان أمام دار سينما أسيوط الشتوية، لا أدري ماذا انتهى إليه مصير سمير الأسود؟ إما أنه مات مقتولًا في إحدى مشاجراته أو مات محقونًا بجرعة زائدة من المخدرات فقد كان مدمن مخدرات عنيفًا شرسًا لا يخرج من السجن حتى يعود إليه، لكن أنور عندما بدأ السادات عهد ما أسماه بالانفتاح الاقتصادي(11) اشتغل في تجارة البضائع المهربة من ليبيا ثم بورسعيد لا سيما الأقمشة النسائية وفجأة في أوائل الثمانينيات افتتح محلًا لبيع الملابس الجاهزة في أحد الشوارع الجديدة المتفرعة من شارع ثابت بوسط المدينة، كما كان يقف هناك أيضًا في أحد أطراف ميدان الميدوب بالقرب من دار السينما "عقروبة" النصاب الشهير بتاع الـ"تلات ورقات، كنت أراه دائما أمام منضدته الصغيرة وأدوات نصبه البسيطة المكونة من ثلاثة أكواب بلاستيكية وزهر طاولة يسلب عن طريقها بخفة يده قروش السذج الطامعين في مكسب سريع من الصبية والشباب.
كنت خلال سبعة الشهور التي سكنتها وحدي قبل مجيء أسرتي من القرية أدخل السينما كما ذكرت مرة أو مرتين في الأسبوع ولكنني عندما صرت مقيمًا مع الأسرة خشية أن يغضب مني أبي كنت أدخل السينما بنسبة أقل من ذي قبل.
استأجر أبي حين قدم من القرية إلى أسيوط شقة صغيرة بحي الحمراء ويقع في الجهة الجنوبية من المدينة، وكان صديقي أحمد المزاري الذي يسكن مع أسرته في نفس الحي يشاركني هواية القراءة كما يشاركني هواية مشاهدة الأفلام السينمائية فكنا نذهب إلى السينما معًا ونرجع معًا في الغالب، ونصحني أحمد المزاري في أول مرة أزمعنا فيها الذهاب معًا إلى السينما أن أحضر معي قطعة كارتون أو غلاف كشكول قديم، وأتذكر أني حينها سألته لماذا؟ فأجابني: ستعرف الإجابة داخل السينما، وحين وجدنا الترسو مزدحمًا ودككه كلها مشغولة تمامًا نظر إلي صديقي عندئذ وهو يقول: الآن تعرف فائدة قطعة الكارتون التي أحضرتها معك، ووضع كلانا قطعة الكارتون على الأرض وجلسنا في مواجهة الشاشة الساحرة، وماهي إلا دقائق حتى غبنا عن كل شيء حولنا مندمجين في أحداث الفيلم المثيرة.
بعد انتهاء الفيلم الأول يخرج من السينما بعض الرواد وخصوصًا الأسر فيقل عدد المشاهدين في (الصالة)، ويقل العدد أكثر في (البلكون) ولذلك كان بعض رواد الترسو - ونحن بالطبع منهم - يقفزون بعد نهاية الفيلم الأول وقبل أن يبدأ الفيلم الثاني إلى الصالة، ولذلك السلوك فائدتان: الفائدة الأولى أننا نشاهد الفيلم الثاني في حال أفضل والفائدة الثانية أننا حين نخرج من السينما في نهاية البروجرام نخرج من باب (الصالة) لا من باب (الترسو) وهذا الأمر مهم للغاية لأن ثمة فرقًا كبيرًا بين أن يراك أصدقاؤك خارجًا من باب (الصالة) مع ذوي الملابس المكوية وأن يروك خارجًا من باب (الترسو) مع الدهماء!!.
وكان من طقوس دار سينما أسيوط الشتوية أن تعرض قبل بداية البروجرام جريدة مصر السينمائية، ومن طقوس دار سينما الثقافة أن تذيع قبل بداية الفيلم مقطعًا من أغنية للسيدة أم كلثوم ولا أدري لماذ كنت أستمتع بصوتها في هذا الوقت أكثر مما كنت أستمتع به في أي وقت آخر، وأحيانًا كانت السينما تعرض قبل الفيلم الأساسي فيلم كارتون لتوم وجيري.
وكان من طقوسي الخاصة بعد الخروج من السينما الشتوية أن أمر - وحدي أو بصحبة صديقي المزاري - على "أبو حنفي" صاحب ألذ وأطيب بسبوسة وبقلاوة في أسيوط، لم يكن الطبق وبه ثلاثة قطع من البقلاوة والبسبوسة يكلفني سوى ثلاثة قروش لا أكثر، وكان المحل المختار لعربة اليد التي يضع عليها أبو حنفي صواني الحلوى وجردل المياه لغسيل الأطباق المستخدمة هو سور ملاعب جمعية الشبان المسلمين حيث يقوم الآن مبنى مكتب البريد بميدان الميدوب.
في النصف الأول من عقد السبعينيات كانت سينما خشبة تعرض كثيرًا من أفلام الويسترن أو الكاوبوي كما يعرفها الجميع من مثل (الطيب والشرس والقبيح ومن أجل حفنة دولارات بطولة كلينت ستود، الموت يركب حصانًا أو الموت حليفي ونصف دستة أشرار بطولة لي فان كليف) وأفلام الأساطير اليونانية والرومانية من مثل (المصارعون السبعة بطولة ليفيو لورانزو وريتشارد هاريسون، هرقل الجبار وابن سبارتكوس بطولة ستيف ريفز، الجزة الذهبية، جاسون والأرجونيتس بطولة تود آرمسترونج) والأفلام المستوحاة من معارك الحرب العالمية الثانية وهي كثيرة مثل (الهروب الكبير بطولة ستيف ماكوين وجيمس غارنر، جسر على نهر كواي بطولة وليم هولدن، معركة ميداوي بطولة هنري فوندا، العدو على الأبواب بطولة جود لو وإد هاريس وأطول يوم بطولة بول أنكا وشون كونري)، أما سينما أسيوط الشتوية وسينما أدولف فقد كانتا تعرضان أفلامًا أجنبية متنوعة منها ماهو حديث نسبيًّا من مثل ما ذكرته من قبل ومنها ما هو قديم من مثل (ذهب مع الريح بطولة كلارك جيبل وفيفيان لي) وقد قيض لي بالمناسبة مشاهدة بعض قطع ديكور ذلك الفيلم الشهير في ستوديوهات شركة مترو جولدين ماير بفلوريدا في شتاء عام 1995، وأفلامًا هندية من نوعية (سوراج وسانجام والفيل صديقي وماسح الأحذية) أغلبها أفلام غنائية وكان لها في تلك الأيام جمهور عريض من أهالي أسيوط، ومن العجيب أن بعض باعة اللب والفول السوداني والكوكاكولا داخل السينما كانوا يحفظون أجزاء كاملة من أغاني فيلم سانجام رغم أنهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون.
مع بداية انخراطي في الحركة الأدبية بقصر ثقافة أسيوط في منتصف السبعينيات أخذت أتردد بعض الأحيان على سينما قصر الثقافة وقد شاهدت فيها أفلامًا متميزة منها ما هو قديم ومنها ما هو حديث نسبيًّا واتذكر منها على سبيل المثال: "قصة حب" أو "Love Story" بطولة ريان أونيل وآلي ماكغرو، "سبارتكوس" بطولة كيرك دوجلاس وإرينا باباس، "وداعا مستر شيبس" بطولة بيتر أوتول، "مدرسة المشاغبين" أو To Sir , With gove" بطولة الممثل الأسود الوسيم سيدني بواتييه، "الأب الروحي" بطولة مارلون براندو وآل باشينو، "الهروب من الكاتراز" بطولة كلينت استود، " Z" بطولة ايف مونتان، "سواق التاكسي" بطولة آل باشينو، "البندقية القديمة" بطولة رومي شنايدر وفيليب نويريه، "كرامر ضد كرامر" بطولة داستين هوفمان وميريل استريب، وا"لفك المفترس" إخراج بطولة روي شنايدر وروبرت شو، و"أوليفر تويست" بطولة مارك ليستر ورون مودي، "حمى ليلة السبت" بطولة جون ترافولتا وكارين لين غورني، "صوت الموسيقى" بطولة جولي أندروز وكريستفر بلامر، و"يوم ابن آوى" بطولة إدوارد فوكس ومايكل لونسديل، THE" Shining" أو إشراق بطولة جاك نيكلسون وشيلي دوفال، "سايكو" أو نفوس معقدة إخراج ألفريد هيتشكوك وبطولة أنتوني بيركنز وجينيت لاي) والفيلم الآخير شاهدنا إعادة تمثيل أحد مشاهده المهمة (مشهد الحمام) بإستوديوهات شركة يونيفرسال بفلوريدا وغيرها كثير، وأتذكر أن فيلم أوليفر تويست - ربما لأنه فيلم غنائي - لم يكن حضوره في الصالة والبلكون يزيد عددهم عن العشرين.
وعرفت أن هناك ناديًا للسينما موعده الحفلة الثانية من مساء كل سبت فدفعت رسوم الاشتراك وواظبت على الحضور أسبوعيًّا وانضم إلى عضوية النادي معظم أصدقائي من أعضاء نادي الأدب الناشئ، وكانت الأفلام التي تعرض في النادي أسبوعيًّا أفلامًا متميزة إما من حيث الموضوعات التي تتناولها أو من حيث التقنيات والجماليات والفيلم يأتي من نادي السينما المركزي بالقاهرة وينتقل مشحونًا في القطار من ناد فرعي إلى النادي الذي يليه (نادي الجيزة، نادي بني سويف، نادي ببا، نادي المنيا) حتى يصل إلينا في نادي سينما أسيوط صباح السبت ليعرض مساء ثم يشحن بعد العرض في القطار إلى نادي سينما سوهاج وهكذا، وفي أغلب الأحوال كان يأتي مصاحبًا للفيلم ناقد سينمائي يقدم له ويشاهده مع أعضاء النادي ثم يتناول بالشرح والتحليل مضمونه وتقنياته وجمالياته ويفتح بعد ذلك حوارًا مع الأعضاء حول الفيلم، أتذكر من النقاد الذين عرفناهم في نادي أسيوط أحمد الحضري ومدحت محفوظ وعاطف فتحي.
وقد كان نادي سينما قصر ثقافة أسيوط من أندية السينما المتميزة على مستوى الجمهورية وقد وصل عدد أعضائه في تلك الآونة إلى ما يقرب من 250 عضوًا، لم يكونوا كلهم بالطبع يحضرون الندوة بعد الفيلم لكن كان يحضرها ما لا يقل عن خمسين عضوًا وهو عدد غير قليل في مثل هذا النشاط النقدي.
ولأسيوط تاريخ فيما يتعلق بالثقافة السينمائية التي بدأت تنتشر مبكرًا مع ازدهار نشاط السينما، فمع العرض الأول لفيلم "أولاد الذوات" مثلًا كتب محمد فهمي حسونة صاحب جريدة "المنتظر" الاسيوطية الأسبوعية ينتقد الفيلم قائلًا ما مفاده أن: الرواية مصنوعة بعجلة فجاءت لا مسرحية ولا سينمائية، وليس معنى أن يوسف وهبي حجز لنا مقعدين في دار سينما رويال بالقاهرة لحضور العرض أن نخالف ضميرنا الصحفي ونكتب مشيدًين ومنوهين بالفيلم، فقد مضى ذلك العهد الذي كان فيه قلم الصحفي يشترى ليمدح ما لا يستحق المديح ويثني على ما لا يستأهل الثناء(12)، وفي جريدة المنتظر كتب شاكر نجيب المقيم بحلوان مقالة عن المثل السينمائي القديم كلارك جيبل واستعرض مسيرته من أجل تحقيق حلمه بأن يصير ممثلًا مسرحيًّا حتى حصل على جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم "حدث ذات ليلة" عام 1934(13).
وحين ظهر فيلم "عنتر وعبلة" إخراج نيازي مصطفى(14) بطولة سراج منير وكوكا، كتب محمد عبد العزيز الأعصر أحد ابناء أسيوط المهتمين بالسينما مشيدًا بالفيلم ووصفه بانه أول فيلم تاريخي في السينما المصرية، وبالمصادفة فإن الفيلم - حين كتب الأعصر كلامه - كان يعرض بدار سينما أسيوط الصيفية (سينما أدولف)(15)، كما كتب الأعصر أيضًا عن العيد العشرين للأفلام الناطقة التي احتفلت به شركة أفلام وارزرادس نيرست باشتوبال ومقرها 611 ش الملكة نازلي (رمسيس الآن)، وتحدث عن فيلم "دون جوان" الذي أنتجته الشركة عام 1926 بوصفه أول فيلم ناطق في العالم(16)، وكتب المواطن جورجي رزق الله في جريدة "أسيوط"(17) تحت عنوان "دور السينما" يقول: "للسينما فوائد جمة تعود على الأمة بما تعرضه أمام الجمهور من الروايات الأدبية التي يتخلل فصولها كثير من الحوادث التي تعتبر عظة وعبرة للناظرين لما تشتمل عليه من مناظر بعض من حلت بهم البأساء وفتكت بهم الأمراض لسلوكهم سبلًا معوجة فهي من هذه الناحية تعد أعظم تهذيب للأمة ورادع لمن حاد عن جادة الصواب وانغمس في حمأة الرذائل فضلًا عن، وخلص في مقالته إلى أن دور السينما تعتبر دورًا للتعليم والتهذيب يتلقن فيها الجمهور كثيرًا من من الدروس والعبر كما أنها تثقف عقول الأمة وتبث في النفوس حب الاستطلاع والاستكشاف.
وكانت أولى دور السينما التي هدمت في مدينة أسيوط جراء وباء الانفتاح الاقتصادي هي "دار سينما أدولف الصيفية" وذلك في أواخر السبعينيات تقريبًا، وفي التسعينيات تعطلت سينما خشبة ثم هدمت مع بداية الألفية الميلادية الثالثة وحل مكانها برج سكني - إداري ضخم، ثم تعطلت سينما الرينيسانس (دار سينما أسيوط الشتوية) وقد هدمت منذ سنوات قليلة(18)، ولم يتحمس أحد من المحافظين منذ توقفت عن العمل للموافقة على هدمها، وقد اشترط اللواء إبراهيم حماد على من آلت إليهم ملكية الدار كي يوافق على هدمها أن يشتروا ماكينة عرض حديثة لتشغيل سينما قصر الثقافة حتى تكون بديلًا للسينما التي ستهدم، وظل الموقف على ما هو عليه في عهد المهندس ياسر الدسوقي - الذي لا أدري ما السر وراء اختياره كي يكون محافظًا لأسيوط ما يقرب من أربع سنوات لم ينجز فيها شيئًا - ومن بعده اللواء محمد جمال نور الدين، وخوطبت هيئة قصور الثقافة في الأمر لتقديم مقايسة بما هو مطلوب تتضمن المواصفات الفنية لآلة العرض وبرغم أن هيئة قصور الثقافة أرسلت المقايسة المطلوبة بالمواصفات وتم تسليمها إلى ديوان عام المحافظة إلا أن شيئًا ما غير مريح عرقل الأمر وعطله حتى جاء من جرؤ على من لم يجرؤ عليه سابقوه فوافق على الهدم دون شروط إلا ما لا يعلمه إلا الله(19).
أما سينما قصر الثقافة فقد توقفت عن العمل حين صدر قرار مشبوه عام 1992 تقريبًا بإيقاف العمل ببروتوكول التعاون بين الثقافة الجماهيرية(20) (هيئة قصور الثقافة بعد ذلك) وجمعية رواد قصور الثقافة المركزية وفروعها في المحافظات والذي بموجبه كانت تلك الجمعيات تدير نشاط السينما التجارية في قصور الثقافة، وبمرور سنوات دون تشغيل تلفت معظم آلات العرض بعد سرقة بعض أجزائها الدقيقة المهمة كالعدسة وغيرها؛ وتكفل سنوات أخرى بتمييع المسؤولية عن ذلك.
لم تكن دور السينما موجودة فقط في مدينة أسيوط عاصمة المحافظة، فقد كانت هنا بالإضافة لسينما أبوتيج التي أشرت إليها من قبل دور سينما أخرى بالمدن عواصم المراكز مثل ساحل سليم والبداري والقوصية(21) وديروط(22)، بل كانت هناك دور سينما في بعض قرى أسيوط(23)، وما قد لا يصدقه أحد الآن أنه عندما أنشئ المقر الجديد المستقل للمعهد الثانوي الأزهري بأسيوط في أوائل الثلاثينيات جعلوا فيه قاعة للعروض السينمائية(24).
وإزاء العصف بدور السينما في محافظة أسيوط الواحدة تلو الأخرى لصالح الاستثمار في العقارات - وهو ما جرى أيضا لغير دور السينما كالشركات والمصانع من أسس الاقتصاد الوطني - حاولت جمعية رواد قصر ثقافة أسيوط لفت الانتباه إلى الآثار السلبية لهذا الأمر فنظمت خلال المدة من 14: 17 إبريل 2015 مسابقة سينمائية تحت عنوان "مهرجان أسيوط للسينما الديجيتال" في ثلاث مجالات: الأفلام الروائية القصيرة والأفلام التسجيلية وأفلام الأنيميشن، وأطلقنا اسم المخرج السينمائي الراحل نيازي مصطفى على الدورة الأولى من المسابقة، وقد ارتبط نيازي بالسينما منذ أن شاهدها وهو طفل في سينما أسيوط الشتوية القديمة وسينما أدولف الصيفية، ودعم اللواء إبراهيم حماد - الذي يعد في طليعة المحافظين المؤمنين بأهمية الثقافة كبعد أساسي من أبعاد التنمية رغم أنه قادم من شعبة أمن الدولة - دعمًا ماليًا غير مسبوق ودعم ماليا وفنيًا أيضًا مشكورًا من هيئة قصور الثقافة، وشارك في المهرجان عدد 66 فيلمًا قامت لجنة التحكيم المتخصصة بتصفيتها إلى 15 فيلمًا روائيًا قصيرًا و8 أفلام تسجيلية و10 أفلام كارتون، ومنح المهرجان جوائز مالية ودروعًا للثلاثة الأوائل الفائزين في كل مجال، واستمر عرض الأفلام الفائزة لمدة أربع ليال بصالة سينما قصر ثقافة أسيوط وصاحب ليالي العرض جريدة يومية تذكر الناس بأهمية السينما في المجتمع لاسيما مجتمع الصعيد وتعرض آراء الجمهور في أزمة غياب السينما عن حياة المواطنين الاسايطة.
أود أن أختتم ذكرياتي بخصوص السينما في أسيوط بتأكيد أمر من المحزن أن يصير في حاجة إلى التأكيد وهو أن السينما لم تكن أبدًا مجرد وسيلة ترفيه بل كانت قبل ذلك وبعده وسيلة مهمة من وسائل التثقيف والتوعية والتنوير، وقد ساهمت السينما عبر عقود من الزمن في تغيير كثير من العادات الرثة والتقاليد البالية وتعديل كثير من السلوكيات الاجتماعية غير السليمة.
-----------------
هوامش وتعليقات
1 - في الواقع كان هناك عشرات الأفلام التي تم تصويرها وكلها وثائقية أو أشبه بالوثائقية عن بعض الأماكن ومظاهر الحياة اليومية والمشاهد الطبيعية لا أكثر.
2 - كانت مدة الفيلم 30 دقيقة.
3 - أول فيلم روائي طويل ناطق في العالم هو فيلم "دون جوان" عام 1926، وتلاه عام 1927 فيلم مغني الجاز "The jazz singer".
4 - انظر ص 166 من كتاب عثمان فيض الله ط هيئة قصور الثقافة 2011.
5- كان مقار دميان أيضًا قنصل فرنسا بمدينة أسيوط.
6- انظر ص 166، 167 من كتاب عثمان فيض الله - مرجع سابق..
7- المرجع السابق.
8- الفيلم مأخوذ من تمثيلية كتبها الشاعر طاهر أبو فاشا بعنوان "عازفة الناي"، وقد أخرجها للإذاعة عثمان أباظة عام 1957، وقامت بدور رابعة العدوية في التمثيلية الفنانة "سميحة أيوب" والأغاني بصوت السيدة أم كلثوم.
9- قرية "موشا" جنوب مدينة أسيوط بحوالي 12 كم حيث كان يعمل والدي وحيث حصلت على الشهادتين الابتدائية والإعدادية.
10- وضع حجر ااساس لقصر ثقافة أسيوط في الذكرى العاشرة لقيام ثورة يوليو 1952، أي في 23 يوليه 1962.
11- سماه الكاتب الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين "انفتاح السداح مداح".
12- انظر جريدة المنتظر - عدد أول إبريل 1932.
13- انظر جريدة "المنتظر" - عدد 15 أغسطس 1935.
14- من مواليد مدينة أسيوط 1911.
15- انظر المرجع السايق - عدد 10 مايو 1946.
16- انظر المرجع السابق - عدد 17 أغسطس 1946.
17- انظر جريدة أسيوط" - عدد 8 يوليه 1944.
18- هدمت سنة 2020.
19- أثار الإعلامي الراحل وائل الإبراشي موضوع هدم السينما في إحدى حلقات برنامجه "التاسعة مساء"، كما غدا الموضوع محل تحقيق النيابة التي طلبتني لسماع شهادتي بهذا الخصوص، وقد أدليت برأيي في الأمر لدى الجهتين مستنكرًا عملية الهدم ومتهما المسؤولين عن ذلك بالفساد.
20- بموجب ذلك البروتوكول كانت جمعيات الرواد في قصور الثقافة هي التي تدير نشاط السينما التجاري منذ عام 1970، ولكل جمعية كشأن أية جمعية أهلية مجلس إدارة يهيمن على أنشطتها المختلفة وفي مقدمتها نشاط السينما التجارية، ومن عائد حفلات السينما التجارية كانت الجمعية تنفق على صيانة دار السينما وتمول الكثير من الأنشطة الثقافية والفنية النوعية أو الأنشطة التي تقصر الميزانية الرسمية عن تلبية كل احتياجاتها مثل نشاط المسرح، وتغطي تكاليف إقامة وإعاشة ضيوف نشاط القصر القادمين من خارج المحافظة وهو بند لا يوجد في الميزانية الرسمية للقصر.
21- كانت هناك مثلًا بقرية صنبو (مركز ديروط) دار سينما تعرف بـ"سينما سمير".
22- عرفت باسم "سينما النصر".
23- عرفت باسم "سينما القرشية" نسبة إلى آل قرشي الذين أنشأوها على أرضهم.
24- مازالت موجودة حتى الآن وإن كانت تستغل لأغراض تعليمية أخرى.
* من كتاب "في مديح الهامش .. أسيوط نموذجا" قيد الطبع لدى دار الحضارة العربية
وكثير من الناس - ومنهم المتخصصون في السينما - لا يصدقون أن أول دار سينما نشأت في صعيد مصر هي دار "سينما أسيوط الشتوية" التي أسسها المهندس تادرس مقار عام 1908(4)، ولم يكن قد مر حينها على ميلاد السينما في فرنسا والعالم كله سوى ثلاث عشرة سنة فقط، وتفسير ذلك أورده عثمان فيض الله في كتابه المتفرد "أسيوط .. بحث في بيئتها بين الماضي والحاضر" الذي أصدره على نفقته الخاصة عام 1940 .
لقد أرسل مقار دميان أحد وجهاء مدينة أسيوط وأثريائها الكبار(5) ابنه تادرس في مطلع القرن العشرين إلى فرنسا لدراسة الهندسة على نفقته الخاصة، وتادرس هذا هو الذي أنشأ عندما عاد من فرنسا دار السينما المذكورة، وفي عام 1916 أنشأ أخوه أدولف دار سينما صيفية بجوار الدار الشتوية وعلى مسرح تلك الدار غنت ليلى مراد في صيف عام 1939، وفي عام 1933 جدد أدولف دار السينما الصيفية وأصبحت تتسع لألف وثلاثمائة مشاهد(6)، وفي 1935 هدم أخوه تادرس دار السينما الشتوية القديمة وأنشأ مكانها دارًا شتوية فخمة تتسع لألف وخمسمائة مشاهد(7)، ولم يكن لطرازها المعماري مثيل إلا في باريس وكان نظام الإضاءة فيها متفردًا فقبل بدء تشغيل الفيلم لا تنطفئ الأنوار مرة واحدة كما في كل السينمات المصرية، بل تخفت رويدًا رويدًا حتى يعم الظلام تمامًا، وعلى مسرحها غنت أيضًا كوكب الشرق السيدة أم كلثوم في الأربعينيات، وظلت تلك الدار قائمة حتى أوائل التسعينيات عندما اشتراها رجل الأعمال نجيب ساويرس وهدمها من الداخل بالكامل مبقيًا على هيكلها الخارجي كما هو وجعل الدار من مستويين كل مستوى منهما يضم صالتين للعرض فبدلًا من شاشة عرض واحدة كانت في الدار القديمة أصبح هناك أربع شاشات كل منها تعرض برنامجها السينمائي الخاص وأصبح اسمها منذ ذلك الوقت "سينما الرينيسانس".
في الشهور الأولى لإقامتي بأسيوط عام 1969 ترددت على بعض دور السينما ومنذ ذلك الحين تعلقت بالفن السابع ولم أكن في الواقع قد شاهدت من قبل فيلمًا في دار سينما حقيقية إلا عام 1964 وكنت طفلًا حين اصطحبني أبي معه إلى مولد "سيدي الفرغل" بمدينة أبو تيج حيث يوجد بها ككل عواصم المراكز دار سينما صيفية فدخلتها بصحبة أبي وأحد أصدقائه، والفيلم الذي كانت تعرضه الدار هو فيلم "رابعة العدوية"(
كان لدى فرع "الجامعة الشعبية" التي بدأ نشاطه عام 1946 بأسيوط سيارة روسية الصنع أكبر من المايكروباص قليلًا تعرف باسم الـ(براجا)؛ يفتح بابها الخلفي على ماكينة سينما صغيرة (16 ملم) بواسطتها يتم عرض أفلام روائية أحيانًا وأفلام إرشادية توعوية أحيانًا أخرى وذلك على مساحة بيضاء مناسبة من حائط مبنى أو على ملاءة من قماش أبيض .
وبعد أن بدأ البث التلفزيوني عام 1960 وضعت الحكومة جهاز تليفزيون في كل وحدة مجمعة بالقرى الكبيرة وفي بعض الميادين بالمدن، وفي إجازة الصيف الطويلة كنت أذهب كل يوم بالنهار إلى الكتاب لأحفظ القرآن الكريم أما في المساء فبعد المغرب كنت أذهب مع ثلة من صبية الحي إلى الوحدة المجمعة خارج القرية(9) لمشاهدة التليفزيون، كنا نشاهد أفلامًا مثل قطار الليل وتمر حنة وأدهم الشرقاوي وصراع في النيل وصراع في الوادي وشياطين الليل و30 يوم في السجن وغزل البنات وأفلام إسماعيل يس وغيرها، ونشاهد أيضًا مسلسلات درامية أتذكر منها مثلًا "هارب من الأيام" ومثل "بنت الحتة" وهو المسلسل الذي صك فيه توفيق الدقن بعض لوازمه الشهيرة من مثل "آلو يا همبكة؛ آلو يا أمم"، وكان التليفزيون بالطبع يعرض مواد أخرى كالأغاني الوطنية والمنولوجات الفكاهية والإعلانات الكرتونية التي كانت تستهوينا كأطفال، ويعرض كذلك برامج حوارية ونشرات إخبارية لكنها لم تكن تستهوينا في تلك السن.
كنت أحيانًا أندمج مع الفيلم العربي أو الأجنبي حتى ينتهي فلا أنتبه إلى أن من جاءوا معي من الصبية قد تسربوا وتركوني وحدي، وحينها أكون في حالة لا أحسد عليها، فالطريق من الوحدة المجمعة حتى المنزل في آخر القرية طويل وأغلبه مظلم - إن لم يكن كله مظلمًا - وتكثر فيه الكلاب وبعضها شرس وتحضرني طوال الطريق حكايات العفاريت وأشباح المقتولين في حوادث الثأر، شبح فلان الذي قتل هنا وشبح علَّان الذي قتل هناك، وما إن يأتي اليوم التالي حتى أكون قد نسيت كل ذلك وأذهب مع أندادي مرة أخرى إلى الوحدة المجمعة لمشاهدة التليفزيون ولا تراودني مشاعر معاناة العودة إلى البيت عبر الشوارع المظلمة إلا عندما تنتهي ساعات إرسال التليفزيون.
حين سكنت في المدينة كنت في نهاية كل أسبوع أعود إلى القرية حيث أقضي مع الأسرة ليلة الجمعة وبعد صلاة الجمعة أعود إلى أسيوط عن طريق أوتوبيس النقل العام الوحيد بالقرية أو عن طريق إحدى سيارات الأجرة التي لم تكن تحمل الطلاب المسافرين داخلها فقط بل على سطحها ورفارفها الجانبية (كان للسيارات رفارف جانبية يمكن الوقوف عليها) ومقدمتها التي تكاد تختفي وراء أجساد الطلاب الراكبين اللهم إلا جزءًا صغيرًا أمام السائق يرى من خلاله الطريق، والطريق ترابي لمسافة 6 أو 7 كيلومترات حتى يلتقي بطريق القاهرة أسوان الزراعي المرصوف، لذلك كان كل ركاب السيارة ما عدا المحظوظين الذين ركبوا مبكرًا فاحتلوا أماكن داخلها لا يصلون إلى أسيوط إلا وقد غطت وجوههم وملابسهم غلالة كثيفة من التراب الناعم.
في ذراع كل طالب (سبت) يكون فارغًا وهو راجع آخر الأسبوع إلى أهله في القرية ويصير ممتلئًا حين في طريق عودته إلى المدينة ؛ ممتلئًا ببعض أرغفة العيش الشمسي أو البتاو وبرطمان سمنة بلدي وبضع قطع من الجبنة القريش وزجاجة زيت تموين وبعض البيض المسلوق وما إلى ذلك .
فضلًا عن ذلك كان أبي - رحمة الله عليه - يعطيني وأنا أغادر البيت جنيهًا هو مصروفي بالمدينة حتى نهاية الأسبوع، من ذلك الجنيه كنت أشتري طعامي اليومي في الإفطار والغداء والعشاء، ولا يخرج الطعام اليومي عن حيز المأكولات الشعبية، أما (الزفر) من لحوم حيوانات وطيور وخلافه فلا يكون إلا مع الأسرة يومي الخميس والجمعة، ولولا أن يوم الأحد يوم دراسي لكان أيضًا من أيام (الزفر).
وأغلب زملائي من أبناء القرية - إن لم يكونوا كلهم - كان مصروف الواحد منهم طوال الأسبوع خمسين قرشا فقط، ومن الجنيه كنت أشتري بعض روايات الجيب والروايات العالمية وأدخل السينما مرة أو مرتين فقد كان سعر التذكرة بالترسو ثلاثة قروش ونصف وإذا كان الفيلم من الأفلام الجيدة والإقبال على مشاهدته شديدًا فإن تذكرة الدخول تباع في السوق السوداء خارج الشباك لمن لا يستطيع المزاحمة أو يتحاشاها بأربعة قروش او أربعة قروش ونصف القرش وأحيانًا بخمسة قروش ولكن ذلك كان نادرًا جدًا.
كان بمدينة أسيوط أربع دور سينما: اثنتان شتويتان هما دار "سينما أسيوط الشتوية" ودار سينما الثقافة بقصر ثقافة أسيوط(10) التي بدأت تعمل منذ عام 1967 أي بعد الانتهاء مباشرة من إنشاء القصر، وداران صيفيتان هما دار "سينما خشبة" التي بدأت نشاطها في أوائل الثلاثينيات تقريبًا ودار "سينما أدولف" الملاصقة لسينما أسيوط الشتوية .
دار سينما أسيوط الشتوية (الرينيسانس فيما بعد) كانت تعرض فيلمين في البرنامج الواحد أحدهما عربي و الثاني أجنبي ومثلها دار سينما أدولف الصيفية، ودار سينما خشبة الصيفية كانت تتميز بأنها تعرض ثلاثة أفلام في البرنامج الواحد: فيلمين عربيين وفيلمًا أجنبيًّا أو العكس، وسينما قصر الثقافة الشتوية كانت تعرض فيلمًا واحدًا في كل برنامج لكنها كانت تنفرد بأنها لا تعرض سوى الأفلام الأجنبية واستمرت هكذا حتى أواخر الثمانينيات حين أخذت تنوع عروضها بين ما هو عربي وما هو أجنبي ولذلك لم يكن يرتاد سينما قصر الثقافة لسنوات طويلة إلا المتعلمون من الموظفين وطلاب الجامعة.
كان يقف دائمًا أمام دور السينما بعض الأشخاص "الشضلية" بتعبير حسين شفيق المصري يشترون التذاكر من الشباك ويبيعونها لرواد السينما بأعلى من سعرها ما عدا سينما قصر الثقافة ربما ظنًّا منهم أنها سينما حكومية وهي بالفعل كذلك لكنها كانت تدار منذ عام 1970 بوساطة جمعية أهلية تسمى "جمعية رواد قصر ثقافة أسيوط"، أتذكر أن أحد هؤلاء الأشخاص كان اسمه أنور، طويل وعريض، ونشاطه كان الدائم أمام دار سينما خشبة ومن عادته أن يعتمر فوق رأسه باستمرار قبعة، كما أتذكر شخصًا آخر اسمه سمير الأسود، كان متوسط الطول نحيفًا يمتلئ وجه بالكثير من الجروح والندوب ونشاطه كان أمام دار سينما أسيوط الشتوية، لا أدري ماذا انتهى إليه مصير سمير الأسود؟ إما أنه مات مقتولًا في إحدى مشاجراته أو مات محقونًا بجرعة زائدة من المخدرات فقد كان مدمن مخدرات عنيفًا شرسًا لا يخرج من السجن حتى يعود إليه، لكن أنور عندما بدأ السادات عهد ما أسماه بالانفتاح الاقتصادي(11) اشتغل في تجارة البضائع المهربة من ليبيا ثم بورسعيد لا سيما الأقمشة النسائية وفجأة في أوائل الثمانينيات افتتح محلًا لبيع الملابس الجاهزة في أحد الشوارع الجديدة المتفرعة من شارع ثابت بوسط المدينة، كما كان يقف هناك أيضًا في أحد أطراف ميدان الميدوب بالقرب من دار السينما "عقروبة" النصاب الشهير بتاع الـ"تلات ورقات، كنت أراه دائما أمام منضدته الصغيرة وأدوات نصبه البسيطة المكونة من ثلاثة أكواب بلاستيكية وزهر طاولة يسلب عن طريقها بخفة يده قروش السذج الطامعين في مكسب سريع من الصبية والشباب.
كنت خلال سبعة الشهور التي سكنتها وحدي قبل مجيء أسرتي من القرية أدخل السينما كما ذكرت مرة أو مرتين في الأسبوع ولكنني عندما صرت مقيمًا مع الأسرة خشية أن يغضب مني أبي كنت أدخل السينما بنسبة أقل من ذي قبل.
استأجر أبي حين قدم من القرية إلى أسيوط شقة صغيرة بحي الحمراء ويقع في الجهة الجنوبية من المدينة، وكان صديقي أحمد المزاري الذي يسكن مع أسرته في نفس الحي يشاركني هواية القراءة كما يشاركني هواية مشاهدة الأفلام السينمائية فكنا نذهب إلى السينما معًا ونرجع معًا في الغالب، ونصحني أحمد المزاري في أول مرة أزمعنا فيها الذهاب معًا إلى السينما أن أحضر معي قطعة كارتون أو غلاف كشكول قديم، وأتذكر أني حينها سألته لماذا؟ فأجابني: ستعرف الإجابة داخل السينما، وحين وجدنا الترسو مزدحمًا ودككه كلها مشغولة تمامًا نظر إلي صديقي عندئذ وهو يقول: الآن تعرف فائدة قطعة الكارتون التي أحضرتها معك، ووضع كلانا قطعة الكارتون على الأرض وجلسنا في مواجهة الشاشة الساحرة، وماهي إلا دقائق حتى غبنا عن كل شيء حولنا مندمجين في أحداث الفيلم المثيرة.
بعد انتهاء الفيلم الأول يخرج من السينما بعض الرواد وخصوصًا الأسر فيقل عدد المشاهدين في (الصالة)، ويقل العدد أكثر في (البلكون) ولذلك كان بعض رواد الترسو - ونحن بالطبع منهم - يقفزون بعد نهاية الفيلم الأول وقبل أن يبدأ الفيلم الثاني إلى الصالة، ولذلك السلوك فائدتان: الفائدة الأولى أننا نشاهد الفيلم الثاني في حال أفضل والفائدة الثانية أننا حين نخرج من السينما في نهاية البروجرام نخرج من باب (الصالة) لا من باب (الترسو) وهذا الأمر مهم للغاية لأن ثمة فرقًا كبيرًا بين أن يراك أصدقاؤك خارجًا من باب (الصالة) مع ذوي الملابس المكوية وأن يروك خارجًا من باب (الترسو) مع الدهماء!!.
وكان من طقوس دار سينما أسيوط الشتوية أن تعرض قبل بداية البروجرام جريدة مصر السينمائية، ومن طقوس دار سينما الثقافة أن تذيع قبل بداية الفيلم مقطعًا من أغنية للسيدة أم كلثوم ولا أدري لماذ كنت أستمتع بصوتها في هذا الوقت أكثر مما كنت أستمتع به في أي وقت آخر، وأحيانًا كانت السينما تعرض قبل الفيلم الأساسي فيلم كارتون لتوم وجيري.
وكان من طقوسي الخاصة بعد الخروج من السينما الشتوية أن أمر - وحدي أو بصحبة صديقي المزاري - على "أبو حنفي" صاحب ألذ وأطيب بسبوسة وبقلاوة في أسيوط، لم يكن الطبق وبه ثلاثة قطع من البقلاوة والبسبوسة يكلفني سوى ثلاثة قروش لا أكثر، وكان المحل المختار لعربة اليد التي يضع عليها أبو حنفي صواني الحلوى وجردل المياه لغسيل الأطباق المستخدمة هو سور ملاعب جمعية الشبان المسلمين حيث يقوم الآن مبنى مكتب البريد بميدان الميدوب.
في النصف الأول من عقد السبعينيات كانت سينما خشبة تعرض كثيرًا من أفلام الويسترن أو الكاوبوي كما يعرفها الجميع من مثل (الطيب والشرس والقبيح ومن أجل حفنة دولارات بطولة كلينت ستود، الموت يركب حصانًا أو الموت حليفي ونصف دستة أشرار بطولة لي فان كليف) وأفلام الأساطير اليونانية والرومانية من مثل (المصارعون السبعة بطولة ليفيو لورانزو وريتشارد هاريسون، هرقل الجبار وابن سبارتكوس بطولة ستيف ريفز، الجزة الذهبية، جاسون والأرجونيتس بطولة تود آرمسترونج) والأفلام المستوحاة من معارك الحرب العالمية الثانية وهي كثيرة مثل (الهروب الكبير بطولة ستيف ماكوين وجيمس غارنر، جسر على نهر كواي بطولة وليم هولدن، معركة ميداوي بطولة هنري فوندا، العدو على الأبواب بطولة جود لو وإد هاريس وأطول يوم بطولة بول أنكا وشون كونري)، أما سينما أسيوط الشتوية وسينما أدولف فقد كانتا تعرضان أفلامًا أجنبية متنوعة منها ماهو حديث نسبيًّا من مثل ما ذكرته من قبل ومنها ما هو قديم من مثل (ذهب مع الريح بطولة كلارك جيبل وفيفيان لي) وقد قيض لي بالمناسبة مشاهدة بعض قطع ديكور ذلك الفيلم الشهير في ستوديوهات شركة مترو جولدين ماير بفلوريدا في شتاء عام 1995، وأفلامًا هندية من نوعية (سوراج وسانجام والفيل صديقي وماسح الأحذية) أغلبها أفلام غنائية وكان لها في تلك الأيام جمهور عريض من أهالي أسيوط، ومن العجيب أن بعض باعة اللب والفول السوداني والكوكاكولا داخل السينما كانوا يحفظون أجزاء كاملة من أغاني فيلم سانجام رغم أنهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون.
مع بداية انخراطي في الحركة الأدبية بقصر ثقافة أسيوط في منتصف السبعينيات أخذت أتردد بعض الأحيان على سينما قصر الثقافة وقد شاهدت فيها أفلامًا متميزة منها ما هو قديم ومنها ما هو حديث نسبيًّا واتذكر منها على سبيل المثال: "قصة حب" أو "Love Story" بطولة ريان أونيل وآلي ماكغرو، "سبارتكوس" بطولة كيرك دوجلاس وإرينا باباس، "وداعا مستر شيبس" بطولة بيتر أوتول، "مدرسة المشاغبين" أو To Sir , With gove" بطولة الممثل الأسود الوسيم سيدني بواتييه، "الأب الروحي" بطولة مارلون براندو وآل باشينو، "الهروب من الكاتراز" بطولة كلينت استود، " Z" بطولة ايف مونتان، "سواق التاكسي" بطولة آل باشينو، "البندقية القديمة" بطولة رومي شنايدر وفيليب نويريه، "كرامر ضد كرامر" بطولة داستين هوفمان وميريل استريب، وا"لفك المفترس" إخراج بطولة روي شنايدر وروبرت شو، و"أوليفر تويست" بطولة مارك ليستر ورون مودي، "حمى ليلة السبت" بطولة جون ترافولتا وكارين لين غورني، "صوت الموسيقى" بطولة جولي أندروز وكريستفر بلامر، و"يوم ابن آوى" بطولة إدوارد فوكس ومايكل لونسديل، THE" Shining" أو إشراق بطولة جاك نيكلسون وشيلي دوفال، "سايكو" أو نفوس معقدة إخراج ألفريد هيتشكوك وبطولة أنتوني بيركنز وجينيت لاي) والفيلم الآخير شاهدنا إعادة تمثيل أحد مشاهده المهمة (مشهد الحمام) بإستوديوهات شركة يونيفرسال بفلوريدا وغيرها كثير، وأتذكر أن فيلم أوليفر تويست - ربما لأنه فيلم غنائي - لم يكن حضوره في الصالة والبلكون يزيد عددهم عن العشرين.
وعرفت أن هناك ناديًا للسينما موعده الحفلة الثانية من مساء كل سبت فدفعت رسوم الاشتراك وواظبت على الحضور أسبوعيًّا وانضم إلى عضوية النادي معظم أصدقائي من أعضاء نادي الأدب الناشئ، وكانت الأفلام التي تعرض في النادي أسبوعيًّا أفلامًا متميزة إما من حيث الموضوعات التي تتناولها أو من حيث التقنيات والجماليات والفيلم يأتي من نادي السينما المركزي بالقاهرة وينتقل مشحونًا في القطار من ناد فرعي إلى النادي الذي يليه (نادي الجيزة، نادي بني سويف، نادي ببا، نادي المنيا) حتى يصل إلينا في نادي سينما أسيوط صباح السبت ليعرض مساء ثم يشحن بعد العرض في القطار إلى نادي سينما سوهاج وهكذا، وفي أغلب الأحوال كان يأتي مصاحبًا للفيلم ناقد سينمائي يقدم له ويشاهده مع أعضاء النادي ثم يتناول بالشرح والتحليل مضمونه وتقنياته وجمالياته ويفتح بعد ذلك حوارًا مع الأعضاء حول الفيلم، أتذكر من النقاد الذين عرفناهم في نادي أسيوط أحمد الحضري ومدحت محفوظ وعاطف فتحي.
وقد كان نادي سينما قصر ثقافة أسيوط من أندية السينما المتميزة على مستوى الجمهورية وقد وصل عدد أعضائه في تلك الآونة إلى ما يقرب من 250 عضوًا، لم يكونوا كلهم بالطبع يحضرون الندوة بعد الفيلم لكن كان يحضرها ما لا يقل عن خمسين عضوًا وهو عدد غير قليل في مثل هذا النشاط النقدي.
ولأسيوط تاريخ فيما يتعلق بالثقافة السينمائية التي بدأت تنتشر مبكرًا مع ازدهار نشاط السينما، فمع العرض الأول لفيلم "أولاد الذوات" مثلًا كتب محمد فهمي حسونة صاحب جريدة "المنتظر" الاسيوطية الأسبوعية ينتقد الفيلم قائلًا ما مفاده أن: الرواية مصنوعة بعجلة فجاءت لا مسرحية ولا سينمائية، وليس معنى أن يوسف وهبي حجز لنا مقعدين في دار سينما رويال بالقاهرة لحضور العرض أن نخالف ضميرنا الصحفي ونكتب مشيدًين ومنوهين بالفيلم، فقد مضى ذلك العهد الذي كان فيه قلم الصحفي يشترى ليمدح ما لا يستحق المديح ويثني على ما لا يستأهل الثناء(12)، وفي جريدة المنتظر كتب شاكر نجيب المقيم بحلوان مقالة عن المثل السينمائي القديم كلارك جيبل واستعرض مسيرته من أجل تحقيق حلمه بأن يصير ممثلًا مسرحيًّا حتى حصل على جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم "حدث ذات ليلة" عام 1934(13).
وحين ظهر فيلم "عنتر وعبلة" إخراج نيازي مصطفى(14) بطولة سراج منير وكوكا، كتب محمد عبد العزيز الأعصر أحد ابناء أسيوط المهتمين بالسينما مشيدًا بالفيلم ووصفه بانه أول فيلم تاريخي في السينما المصرية، وبالمصادفة فإن الفيلم - حين كتب الأعصر كلامه - كان يعرض بدار سينما أسيوط الصيفية (سينما أدولف)(15)، كما كتب الأعصر أيضًا عن العيد العشرين للأفلام الناطقة التي احتفلت به شركة أفلام وارزرادس نيرست باشتوبال ومقرها 611 ش الملكة نازلي (رمسيس الآن)، وتحدث عن فيلم "دون جوان" الذي أنتجته الشركة عام 1926 بوصفه أول فيلم ناطق في العالم(16)، وكتب المواطن جورجي رزق الله في جريدة "أسيوط"(17) تحت عنوان "دور السينما" يقول: "للسينما فوائد جمة تعود على الأمة بما تعرضه أمام الجمهور من الروايات الأدبية التي يتخلل فصولها كثير من الحوادث التي تعتبر عظة وعبرة للناظرين لما تشتمل عليه من مناظر بعض من حلت بهم البأساء وفتكت بهم الأمراض لسلوكهم سبلًا معوجة فهي من هذه الناحية تعد أعظم تهذيب للأمة ورادع لمن حاد عن جادة الصواب وانغمس في حمأة الرذائل فضلًا عن، وخلص في مقالته إلى أن دور السينما تعتبر دورًا للتعليم والتهذيب يتلقن فيها الجمهور كثيرًا من من الدروس والعبر كما أنها تثقف عقول الأمة وتبث في النفوس حب الاستطلاع والاستكشاف.
وكانت أولى دور السينما التي هدمت في مدينة أسيوط جراء وباء الانفتاح الاقتصادي هي "دار سينما أدولف الصيفية" وذلك في أواخر السبعينيات تقريبًا، وفي التسعينيات تعطلت سينما خشبة ثم هدمت مع بداية الألفية الميلادية الثالثة وحل مكانها برج سكني - إداري ضخم، ثم تعطلت سينما الرينيسانس (دار سينما أسيوط الشتوية) وقد هدمت منذ سنوات قليلة(18)، ولم يتحمس أحد من المحافظين منذ توقفت عن العمل للموافقة على هدمها، وقد اشترط اللواء إبراهيم حماد على من آلت إليهم ملكية الدار كي يوافق على هدمها أن يشتروا ماكينة عرض حديثة لتشغيل سينما قصر الثقافة حتى تكون بديلًا للسينما التي ستهدم، وظل الموقف على ما هو عليه في عهد المهندس ياسر الدسوقي - الذي لا أدري ما السر وراء اختياره كي يكون محافظًا لأسيوط ما يقرب من أربع سنوات لم ينجز فيها شيئًا - ومن بعده اللواء محمد جمال نور الدين، وخوطبت هيئة قصور الثقافة في الأمر لتقديم مقايسة بما هو مطلوب تتضمن المواصفات الفنية لآلة العرض وبرغم أن هيئة قصور الثقافة أرسلت المقايسة المطلوبة بالمواصفات وتم تسليمها إلى ديوان عام المحافظة إلا أن شيئًا ما غير مريح عرقل الأمر وعطله حتى جاء من جرؤ على من لم يجرؤ عليه سابقوه فوافق على الهدم دون شروط إلا ما لا يعلمه إلا الله(19).
أما سينما قصر الثقافة فقد توقفت عن العمل حين صدر قرار مشبوه عام 1992 تقريبًا بإيقاف العمل ببروتوكول التعاون بين الثقافة الجماهيرية(20) (هيئة قصور الثقافة بعد ذلك) وجمعية رواد قصور الثقافة المركزية وفروعها في المحافظات والذي بموجبه كانت تلك الجمعيات تدير نشاط السينما التجارية في قصور الثقافة، وبمرور سنوات دون تشغيل تلفت معظم آلات العرض بعد سرقة بعض أجزائها الدقيقة المهمة كالعدسة وغيرها؛ وتكفل سنوات أخرى بتمييع المسؤولية عن ذلك.
لم تكن دور السينما موجودة فقط في مدينة أسيوط عاصمة المحافظة، فقد كانت هنا بالإضافة لسينما أبوتيج التي أشرت إليها من قبل دور سينما أخرى بالمدن عواصم المراكز مثل ساحل سليم والبداري والقوصية(21) وديروط(22)، بل كانت هناك دور سينما في بعض قرى أسيوط(23)، وما قد لا يصدقه أحد الآن أنه عندما أنشئ المقر الجديد المستقل للمعهد الثانوي الأزهري بأسيوط في أوائل الثلاثينيات جعلوا فيه قاعة للعروض السينمائية(24).
وإزاء العصف بدور السينما في محافظة أسيوط الواحدة تلو الأخرى لصالح الاستثمار في العقارات - وهو ما جرى أيضا لغير دور السينما كالشركات والمصانع من أسس الاقتصاد الوطني - حاولت جمعية رواد قصر ثقافة أسيوط لفت الانتباه إلى الآثار السلبية لهذا الأمر فنظمت خلال المدة من 14: 17 إبريل 2015 مسابقة سينمائية تحت عنوان "مهرجان أسيوط للسينما الديجيتال" في ثلاث مجالات: الأفلام الروائية القصيرة والأفلام التسجيلية وأفلام الأنيميشن، وأطلقنا اسم المخرج السينمائي الراحل نيازي مصطفى على الدورة الأولى من المسابقة، وقد ارتبط نيازي بالسينما منذ أن شاهدها وهو طفل في سينما أسيوط الشتوية القديمة وسينما أدولف الصيفية، ودعم اللواء إبراهيم حماد - الذي يعد في طليعة المحافظين المؤمنين بأهمية الثقافة كبعد أساسي من أبعاد التنمية رغم أنه قادم من شعبة أمن الدولة - دعمًا ماليًا غير مسبوق ودعم ماليا وفنيًا أيضًا مشكورًا من هيئة قصور الثقافة، وشارك في المهرجان عدد 66 فيلمًا قامت لجنة التحكيم المتخصصة بتصفيتها إلى 15 فيلمًا روائيًا قصيرًا و8 أفلام تسجيلية و10 أفلام كارتون، ومنح المهرجان جوائز مالية ودروعًا للثلاثة الأوائل الفائزين في كل مجال، واستمر عرض الأفلام الفائزة لمدة أربع ليال بصالة سينما قصر ثقافة أسيوط وصاحب ليالي العرض جريدة يومية تذكر الناس بأهمية السينما في المجتمع لاسيما مجتمع الصعيد وتعرض آراء الجمهور في أزمة غياب السينما عن حياة المواطنين الاسايطة.
أود أن أختتم ذكرياتي بخصوص السينما في أسيوط بتأكيد أمر من المحزن أن يصير في حاجة إلى التأكيد وهو أن السينما لم تكن أبدًا مجرد وسيلة ترفيه بل كانت قبل ذلك وبعده وسيلة مهمة من وسائل التثقيف والتوعية والتنوير، وقد ساهمت السينما عبر عقود من الزمن في تغيير كثير من العادات الرثة والتقاليد البالية وتعديل كثير من السلوكيات الاجتماعية غير السليمة.
-----------------
هوامش وتعليقات
1 - في الواقع كان هناك عشرات الأفلام التي تم تصويرها وكلها وثائقية أو أشبه بالوثائقية عن بعض الأماكن ومظاهر الحياة اليومية والمشاهد الطبيعية لا أكثر.
2 - كانت مدة الفيلم 30 دقيقة.
3 - أول فيلم روائي طويل ناطق في العالم هو فيلم "دون جوان" عام 1926، وتلاه عام 1927 فيلم مغني الجاز "The jazz singer".
4 - انظر ص 166 من كتاب عثمان فيض الله ط هيئة قصور الثقافة 2011.
5- كان مقار دميان أيضًا قنصل فرنسا بمدينة أسيوط.
6- انظر ص 166، 167 من كتاب عثمان فيض الله - مرجع سابق..
7- المرجع السابق.
8- الفيلم مأخوذ من تمثيلية كتبها الشاعر طاهر أبو فاشا بعنوان "عازفة الناي"، وقد أخرجها للإذاعة عثمان أباظة عام 1957، وقامت بدور رابعة العدوية في التمثيلية الفنانة "سميحة أيوب" والأغاني بصوت السيدة أم كلثوم.
9- قرية "موشا" جنوب مدينة أسيوط بحوالي 12 كم حيث كان يعمل والدي وحيث حصلت على الشهادتين الابتدائية والإعدادية.
10- وضع حجر ااساس لقصر ثقافة أسيوط في الذكرى العاشرة لقيام ثورة يوليو 1952، أي في 23 يوليه 1962.
11- سماه الكاتب الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين "انفتاح السداح مداح".
12- انظر جريدة المنتظر - عدد أول إبريل 1932.
13- انظر جريدة "المنتظر" - عدد 15 أغسطس 1935.
14- من مواليد مدينة أسيوط 1911.
15- انظر المرجع السايق - عدد 10 مايو 1946.
16- انظر المرجع السابق - عدد 17 أغسطس 1946.
17- انظر جريدة أسيوط" - عدد 8 يوليه 1944.
18- هدمت سنة 2020.
19- أثار الإعلامي الراحل وائل الإبراشي موضوع هدم السينما في إحدى حلقات برنامجه "التاسعة مساء"، كما غدا الموضوع محل تحقيق النيابة التي طلبتني لسماع شهادتي بهذا الخصوص، وقد أدليت برأيي في الأمر لدى الجهتين مستنكرًا عملية الهدم ومتهما المسؤولين عن ذلك بالفساد.
20- بموجب ذلك البروتوكول كانت جمعيات الرواد في قصور الثقافة هي التي تدير نشاط السينما التجاري منذ عام 1970، ولكل جمعية كشأن أية جمعية أهلية مجلس إدارة يهيمن على أنشطتها المختلفة وفي مقدمتها نشاط السينما التجارية، ومن عائد حفلات السينما التجارية كانت الجمعية تنفق على صيانة دار السينما وتمول الكثير من الأنشطة الثقافية والفنية النوعية أو الأنشطة التي تقصر الميزانية الرسمية عن تلبية كل احتياجاتها مثل نشاط المسرح، وتغطي تكاليف إقامة وإعاشة ضيوف نشاط القصر القادمين من خارج المحافظة وهو بند لا يوجد في الميزانية الرسمية للقصر.
21- كانت هناك مثلًا بقرية صنبو (مركز ديروط) دار سينما تعرف بـ"سينما سمير".
22- عرفت باسم "سينما النصر".
23- عرفت باسم "سينما القرشية" نسبة إلى آل قرشي الذين أنشأوها على أرضهم.
24- مازالت موجودة حتى الآن وإن كانت تستغل لأغراض تعليمية أخرى.
* من كتاب "في مديح الهامش .. أسيوط نموذجا" قيد الطبع لدى دار الحضارة العربية