محمد خضير - الجيل الستيني والفكر الوجودي (كشف حساب):

طُرِحت في جلسة الاحتفاء بالروائي أحمد خلف_ ملتقى جيكور بالبصرة، مساء التاسع عشر من تموز_ آراء حول تأثر الجيل الستّيني بالفكر الوجودي السارتري. وكان الروائي خلف قد بادر الى ذلك الطرح، في إفادته عن تجربته التي تعفّرت برماد تلك الفترة القصيرة في سنيّها، الكبيرة في نتائجها ( ما بين ٦٣_ ١٩٦٨) حين أشار إلى تأثّره برواية "دروب الحرية" بتوجيه من صديقه الشاعر فوزي كريم، الذي امتلك آنذاك مكتبة عامرة بكتب سارتر وكامو وكولن ولسن.
إنّ مثل هذه الحادثة_ انقلاب الوعي لقاصّ شاب في عمر أحمد خلف_ ستؤشّر لتغيير رئيس في حياة كتّاب طالعين، وسياسيّين محترفين، قذفَت بهم عجلة الفوضى الشاملة التي عمّت العراق والوطن العربي، في أعقاب نكسة حزيران ٦٧، إلى انهيار المربّع التقليدي: القومية والماركسية والصوفية والفرويدية؛ إذ سرعان ما احتلّ الفكر الوجودي مربّعَ الوعي المدحور ل"جيل القدر" في أهمّ عاصمتين عربيتين: بغداد ومصر. وبحسب مؤشّرات المرحلة الجديدة فقد ساعدت دور النشر اللبنانية (أهمها الآداب ومجلتها) على عودة الوعي المنكوس وملء الفراغ السياسي بأفكار الالتزام والاختيار الحرّ للذات "اللامنتمية".
تاريخياً، مهّدت روايات عبد الرحمن الربيعي وفاضل العزاوي وياسين حسين لنقض الوعي الماركسي السالب، قبل أن تعوّضه سرديات "النكسة"_ ومنها قصة أحمد خلف "خوذة رجل نصف ميت"_ برؤيا عدمية ولغة حفرية متسائلة بقلق عن معنىً غائب خلف النسق المدحور. وقتذاك شكّلت لغة أحمد خلف السَّحابية مع اندفاعات جليل القيسي وموسى كريدي ويوسف الحيدري وخالد الراوي موجةً متكسرة على صخرة اليأس والهزيمة، لكنّها موجة غنّت بإصرار في وجه العاصفة، بينما الأشرعة تتمزّق. كانت الأيدي الفارغة تُمسك بقوة على دفّة السفينة الوجودية المترنحة في غمار العاصفة.
مرّت سنون.. وسنون.. (يا للزمن الجاحد!) وعبَرَت سرديات أحمد خلف مضيقَ الحروب والجحود والصمت لترسو سفينته على ساحل مديد من التوقعات والنذُر، وقد غطّتها طبقة من مِلح النكسات المتوالية. وهكذا بدَت لغة السارد الستيني ايضاً: ملحاء، متيبّسة، تحتاج لمراجعة أخيرة؛ تصحيح للانحراف الفكري، وقشْط لمحكيّات "النكسة" المركبة. (ويشترك مع خلف في ضرورة الاصلاح هذه معظم الجيل الذي تيتّم بعد أفول قمر السارترية!) وربما كانت (موت الأب) الصادرة في نهايات حقبة البعث، آخر رواية تنتقد ذلك الأفول، وتتمرّغ بلغة الساحل الغائم بسُحُب الخيبات.
تتراكم الأعمال الروائية للسارد، وتغادر اللغة "السَّحابية" محكيّات ميناء الانهيار الشمولي للسرد الوجودي، سرد النهايات الأليمة. (السارد السارتري وحيد في سفينته وسط ملّاحي الرحلة الغرباء) إنّه على هذه الجهة من رحلة السقوط الكبير لسرد الامبراطورية المنهارة، فيأخذ بنوع من المراجعة، كما يفعل أصحاب التجربة المُنهَكون. كان كاتباً ممتلئاً (بالمعنى الدقيق للكلمة) وعليه اليوم أن يعبّر عن الفراغ (بالمعنى الدقيق لانفصام السرد عن قضاياه المصيرية، وقاعدته الوجودية). ولا بدّ من ملء الهوّة السردية بقلم محاربٍ قديم.
كان على أحمد خلف أن يكتب عن حالتي الامتلاء والفراغ، وأن يراجع مفاصل تجربته. وبالطبع فإنّ هذه الحالة من الثّقة والتجاوز والاكتناز بالتجارب على أنواعها، تحتاج إلى نوع خاص من المراجعة الذاتية؛ وبالطبع فإنّ الكاتب نفسه أولى بهذه المراجعة، أي كتابة ما يمفصل المراحلَ السابقة كلّها في مفصل نهائي أخير، أي تدوين نوع من المذكرات الحياتية والمعرفية. ومَن يطّلع على الأعمال القصصية والروائية الأخيرة للكاتب، سيدرك شغفه بالتفاصيل الصغيرة، الحوادث الجانبية، الدروس والإفادات مهما كانت صغيرة أو ثانوية، والشخصيات مهما كانت قريبة أو بعيدة؛ كلُّ هذه التفاصيل دوَّرها أحمد خلف في سلسلة من المراجعات أطلق عليها عنوان (المدوّنة الشخصية)_ نشر منها ستّ حلقات على صفحته في الفيس بوك.
ومن يقرأ "مدوّنة" احمد خلف سيرى أنها ليست سيرة ذاتية عن حياته، ليست سيرة نظرية ومعرفية، مثل تلك السِيَر التي كتبها جمال الغيطاني و عبد الله ابراهيم و عبد الفتاح كليطو، ومَن شابههم من كتّاب السِيَر المعرفية. ببساطة وعفوية يكتب احمد خلف في مدوّنته الشخصية عن تربيته السردية من خلال قراءته لكتاب واحد، هو (ألف ليلة ليلة) وما يتداخل فيها _ أي السِيرة_ من تعالق وتناصّ واندهاش بحوادث هذه الليالي العربية العجيبة. بهذه الآلية السردية، نطلّ على "ليالي" أحمد خلف الوجودية من خلال نافذة الليالي الخيالية. ومثل هذه المراجعة جعلت "المدوّنة الشخصية" نصّاً حكائياً متموّجاً كجؤجؤ سفينة أوديسيوس الضالة وسط البحر..
عند هذه النقطة من مراجعتنا لعمل أحمد خلف السِيريّ، سيقفز أكثر من سؤال أمامنا: هل يكفي هذا التداخل بين الحقيقي والخيالي للبرهنة على "امتلاء" تجربة أحمد خلف بعد نكوصها من الساحل البعيد؟
هل يلغي الجزءُ الخيالي (حوادث ألف ليلة) الجزءَ الحقيقي (الحوادث التي تبرعمت في ظل الفكر الوجودي والماركسي والفرويدي، التي تتطرق اليها المدوّنة الشخصية عَرَضاً، ولمحاً، بين تفاصيل كثيرة في حياة الكاتب منذ طفولته)؟
وثمة سؤال ثالث، ينبع من القلق على ما تمثّله هذه المدوّنة: هل هي القناعة والتسليم بخواتيم رحلة، تجدّدت عندها أسئلةٌ وقضايا من نوع آخر؟
أتعني "المدوّنة الشخصية" كشفَ حساب لحالة انبهار بأثرٍ اكتشف الكاتبُ أهميتَه في نهاية الرحلة؟ أم أنها تشكل "تحريفاً" خطيراً لحالة "الامتلاء" الستينية الأولى؟
نعم. بالتأكيد هي "مدوّنة" كشف حساب. لكنّنا سنمثّل للخواتيم، إلى جانب المدونة الشخصية، بآخر أعمال الروائي أحمد خلف، روايته "البهلوان"_٢٠٢١_ التي كتب في عتبتها: إنّ كتابة رواية عالية الجودة، يعني تشييد مدينة مؤثثة بالتأسيسات المستقبلية والتطبيقات الجمالية، بما يجعلها قابلة للعيش. ولا يتمنّى الروائي أقلّ من هذه المدينة ليختم حياته وتستقر مشكلاته وحالاته وتصوراته، التي أثارتها الرحلة الطويلة.
غير أن هذه العتبة الروائية ستهدينا الى مسار آخر يربط بين "المدوّنة الشخصية" وبناء روايته الأخيرة "البهلوان". فكما تنشأ الحكايات الفرعية وتتنضّد على هامش الحكاية الرئيسة في "ألف ليلة وليلة"، فإنّ عشرات الاشخاص ينبثقون من خطّ الصراع الرئيس بين مُقاوِلَيْن من مُحدثي النعمة، ويساعدون الراوي على سرد حكاياتٍ فرعية في الرواية، بلغة المحكيّ الشفاهيّ.
وإذن، أين ترسبّت اللغة الإشكالية لقصص "الشوارع المهجورة"، وكيف تبدَّدت الموجةُ المتكسرة على صخرة هزيمة حزيران؟ بل في أيّ مقبرة دَفَن القاصُّ الستّيني جثّةَ الرجل صاحب الخوذة، من محاربي الجبهة الوجودية "السارترية"، جنباً إلى جنب مقاتلي المقاومة الفلسطينية؟
أحسَبُ، غير جازم، بأنّ الروائي أحمد خلف يربط خواتيمه السردية (بناء مدينة مثالية في خضم السقوط التراجيدي للقيم والأخلاق في مجتمع اليوم) ببدايات الأسئلة حول إشكالات المدن القديمة التي لا تخلو من الرذائل، وإنْ بدرجة أقل ومن نوع آخر (بغداد الستّينات المقهورة بخيباتها وسلطتها الشمولية).
أحمد خلف هو ابن اليوم كما هو ابن الأمس، ولديه أمل كبير في أن يدخل مدنَ المستقبل السعيدة أيضاً بما يمتلكه من حالات الامتلاء والتجاوز.. فيما نحسب شخصيات "القضية" الكبرى التي شدّت سردياته المبكرة الى صخرة سيزيف، تقف حاسرة الرأس تحت شمس هذه المدن، بلا ظلال. إنّها تنتظر منذ ستّين عاماً كي يسمح لها بالدخول إلى مدينته السعيدة بحملها الوجودي القديم.
أعلى