خالد جهاد - القبح والجمال.. صورة مشوشة

المقال رقم (١٤) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..

لا شك أننا مع دخولنا للألفية الجديدة كنا في حالة قلق وتخوف، حيث كانت (ولازالت) أعيننا تنظر نحو الأمس، وكنا محظوظين بأن عاصرنا العديد من الأسماء والمواهب الهامة في مختلف المجالات وبشكلٍ خاص خلال القرن الماضي، والتي ساهمت بما قدمته في صناعة (صورتنا) الحضارية كلٌ في مجاله، وبعيداً عن جلد الذات أو المغالاة في مدحها وبرغم وجود قاماتٍ استثنائية لا تقل شأناً في موهبتها ونتاجها وعطائها وذكائها وقيمتها عن أبرز الأسماء على مستوى العالم إلا أننا في الكثير من الأحيان كنا نعيش نوعاً من ازدواجية الصورة أمام أنفسنا، بحيث نصدر خطاباً نارياً للجماهير يكيل المديح ويغدق الثناء على ما نقدمه وننتجه حتى في ظل وجود الكثير من المشكلات التي تشوبه، وفي نفس الوقت لا نستطيع تحديد البعد الذي نخاطبه إن كان محلياً أو على مستوى بعض الدول المجاورة أو حتى على نطاق العالم العربي، وبكل تأكيد فإن مفهوم الكثيرين لمصطلح (عالمي) هو مبهم ونطلقه بشكلٍ عشوائي على الكثير من الأعمال أو الأسماء وهي ليست كذلك مع أن ذلك لا يعيبها ولا ينتقص أبداً من قيمتها..

فقيمة أي عمل أو عطاء فني أو ثقافي أو وجداني ليست مشروطة ً بوصوله إلى كل البشرية، كما أن من ينطبق عليهم مصطلح (العالمية) قليلون جداً، لأن العالمية من وجهة نظر البعض محصورة في الدول الغربية وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية كون الكثيرين يشعرون بالنقص أمام هذه الثقافات التي يرونها أهم منهم وان أنكروا ذلك ويسعون إلى الوصول إليها والتمثل بها، ولا يهمهم في هذا (العالم) أن يعرفهم على سبيل المثال المواطن الهندي أو الصيني وهما البلدان الأكبر من حيث تعداد السكان أو المواطن في مختلف الدول الإفريقية أو الآسيوية أو اللاتينية مع أنها دول مهمة وصدرت أسماء وصلت (بالفعل) إلى كل بلاد العالم، ربما لأنها كانت واضحةً أمام نفسها وامتازت بالشفافية والمصداقية ولم تقع في التناقض بين الصورة التي تصدرها للناس والصورة التي ترسمها في مخيلتها وتؤمن بها فعلياً، ولم تربط قيمتها بالتبعية إلى عددٍ محدود من دول الغرب وجعلتها بديلاً عن كل بلاد العالم وتعاملت (ولو بشكلٍ ضمني) بقدرٍ من الغرور مع بقية الثقافات وكأنها ليست ذات أهمية، وهو ما يدركه الغرب عن الكثير من المنتمين إلى ثقافاتنا ويقومون بتوظيفه لصالحهم بأكبر قدرٍ ممكن لمعرفتهم بإضطراب صورتنا الحضارية والثقافية أمام أنفسنا وبالتالي أمام باقي الشعوب..

ولا يخفى على الجميع أن بلدين كبيرين وهامين كبريطانيا وفرنسا على سبيل المثال لديهم الكثير من الأعمال والأسماء الموجودة والناجحة والمميزة لكنها غير معروفة خارج نطاق هذين البلدين أو المجال الحيوي والثقافي التابع لهما، ولكن النشاط الجبار الذي تقومان به لنشر ثقافتها على امتداد بلاد العالم يحسب لها، فلو تحدثنا بصراحة هل يهتم أحدنا مثل شبكة (البي بي سي) بأن يطلق قناة أو حتى محطة إذاعية تقدم أفكاره في الصومال أو نيبال أو بواحدة من اللغات المحلية في الهند أو افريقيا كاللغة السواحلية عدا عن بثها بكل اللغات الحية وتغطيتها لكل بلاد العالم الهامة؟..

وهل تم إطلاق كيان عملاق نشأ عن مجموعة قنوات كبرى في فرنسا مثل (TV5MONDE) لنشر الثقافة الفرنكوفونية حول العالم ولتكون واحدة من أضخم وأوسع الشبكات التليفزيونية العالمية انتشاراً دون أن يكون هناك صورة وهدف ورؤية مستقبلية لها ؟، خاصةً وأن اسمها مطبوعٌ على الكثير من كتب تعليم اللغة الفرنسية مما يعزز مكانتها وهويتها الوطنية والثقافية، فهي تبث بشكلٍ يغطي كافة بلاد العالم ويخصص لكل منطقة جغرافية قناةً خاصة به، عدا عن التطبيقات الذكية المرتبطة بها والتي تقدم برامجها بشكلٍ مستمر وتقوم بشراكات ومشاريع مستمرة مع مختلف الشبكات والقنوات الفرنسية داخل فرنسا وخارجها، وتحاول تطوير محتواها وتقديم خدماتها الثقافية حتى للأطفال والشباب دون أن يهز ذلك من صورتها أمام نفسها ككيان غربي وأوروبي وذلك لسبب هام هو تحقق مكانتها ورسوخها محلياً وإقليمياً وتحديد هدفها الذي مكنها من نشر مشروعها إلى ما هو أبعد بكثير، ودون أن تشغل نفسها بفكرة (العالمية) لأن استمرارية فكرها أهم من الكثير من الأفكار والمعتقدات السطحية التي لا زالت تشغلنا ونتصارع عليها كما نتصارع على الألقاب والقشور التي لا تقدم ولا تؤخر وأغلبها مجرد أوهام، ونراها تشغل الصحافة وتتصدرها على شكل خلافات بين هذا الإسم وذاك..

وربما لأن صورتنا مشوشة ومضطربة أمام أنفسنا لم نستطع أن نرى الإنسان كما ينبغي أن نراه مع ادعائنا للعكس، فلم نشغل أنفسنا بما هو خارج حدودنا ولذلك لم نعد نعرف حتى ما الذي يحدث داخلها؟ وهو مازال مستمراً حتى الآن حيث نتعامل بالكثير من الفوقية تجاه العديد من الشعوب ولا نسأل لم يهتم الغرب بها مع أنها بعيدة عنه، وهي بالمناسبة تملك مميزات ومقومات كثيرة وتاريخ عريق وحضارة أيضاً لكننا لم نرى سوى صورتنا وصورة الغرب التي نتمنى أن نشبهها.. فهل شبكة (سي إن إن) الإخبارية الأمريكية تضيع وقتها وأموالها عند تخصيصها محطات لبلاد كإندونيسيا والبرتغال واليونان والفلبين والأرجنتين؟..

ويبدو أن هذه المشكلة التي لا زلنا نواجهها ونعاني منها ستستمر حتى نتوقف مع أنفسنا بشكلٍ صادق ونصلح هذا التشويش، ونتعلم احترام جميع الثقافات وألا نربط قيمتنا بأحد خاصةً أنه لا زال يرانا بعين المستعمر التابع له والتي جعلت الكثير منا يقوم بما يؤكد هذه النظرة ويعززها بكل أسف..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى