كانت الرسائل وما زالت منفذا هاما لمداخل بعض الشخصيات الأدبية، عبّروا من خلالها عن مناطق مظلمة في حياتهم، أضاؤوها بشعلة البوح والصدق، فكتبوا بحبر القلب ومداده، مشاعرهم وأفكارهم، وبالقلم رسول الكلمة، ضخّوا الدماء فيها لتنبض بالشوق والحنين.
من المعروف أن أدب الرسائل فن أدبي من الفنون النثرية، اهتم به الأدباء والنقاد رغم انحساره في وقتنا الحاضر، وقد يكون هذا النوع من الأدب، من أهم الفنون الأدبية التي تُسمِع صوت الكاتب وتعرّفنا به دون تصنُّع، وهذا هو سرّ قيمتها وجمالها، فمن خلالها نعرف كتّابنا على حقيقتهم، ذلك لأنهم حين يكتبون رسائلهم لا يتّخذون شخصية تخالف حقيقتهم.
ها هو هذا الفن النثري بأنواعه، يشهد نهضة جليّة وتنوّعا في مضامينه، وتطوّرا في المحتوى والأسلوب، وممّا يثبت ذلك، تعدّد الأدباء الذين اهتموا بالمشاركة في موضوعات متنوعة في رسائلهم، أدبيّة اجتماعيّة وسياسيّة، فعبّروا عمّا ينطوي بداخلهم دون تكلّف، ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر البعض ممن تنوعت رسائلهم بين مواضيع مختلفة، أشجان وأحزان، مثل رسائل الرافعي لمي زيادة، مي زيادة والعقاد، غسان كنفاني وغادة السمان، جبران خليل جبران ومي زيادة، آمال عواد رضوان ووهيب نديم وهبة، محمود شقير وحزامة حبايب، ومؤخرا صدر كتابنا “رسائل من القدس وإليها” لجميل السلحوت وصباح بشير.
أما كتاب “وطن على شراع الذّاكرة” فقد صدر قبل أيام عن دار الأسوار في عكا، وهو رسائل متبادلة بين الشاعرة روز اليوسف شعبان المقيمة في قرية طرعان الجليلية، والشّاعر عمر صبري كتمتو المقيم في أوسلو.
يقع الكتاب في 120 صفحة من الحجم المتوسّط، وقد صمّمت غلافه ومنتجته الفنانة مرام صبّاح. حملت هذه الرسائل التي أُعدّت وكُتبت في شهر واحد، الشيء الكثير من عبارات حبّ الوطن، الحنين والأمل، وسنوات الطفولة الأولى والذكريات البريئة، مدينة عكا وبحرها، الانتماء والوفاء للأرض، فالوطن هو نبض القلوب وشريانها، إليه يحن كل مهاجر غائب، فكيف يكون الأمر حين يكون الغائب شاعرا وكاتبا؟ ساحته ومنبره الذي يعرف هو الكتابة، تلك التي تسكنه فتغدو وجوده وكيانه الذي يتماهى، ليعبّر عن نفسه ومكنونات وجدانه، فالشاعر كتمتو الذي ولد في عكّا، شرّد منها وأسرته خلال النكبة عام 1948م، أما الكاتبة شعبان فقد ولدت في قرية طرعان، تعيش فيها وتعمل، وقد تطوّرت علاقتهما بعد تعارفهما في ندوة اليوم السابع المقدسية الأسبوعية، فنشأت بينهما صداقة عن بعد، اجتمعا فيها على حبّ الوطن.
يقول د.عمر كتمتو ص8 بلغة شفيفة جميلة: أنه لم ينس بيته الذي كانت تجاوره شجرة تين معطاءة، ولا رحلته مــن خارج مدينته القديمة العريقة.
وتقول الكاتبة د. روز ص15 بلغة شاعريّة جميلة: هنا كانت جدّتـي وجدتك، تسقيان أحواض الحبق والنعناع، تعقدان المنديل على رأسيهما، تشمّران عــن سواعدهما وتزرعان كروم الزيتون والعنب والرّمان.
حققت هذه الرسائل التّماسك في الفكرة والتشويق في أسلوبها، فقد أفضت كلّ فقرة إلى الفقرة التي تليها بسهولة ويسر. هذا الأسلوب يضيء السطور للمتلقي ويفتح آفاقه على الصّلة الوثيقة بين الموضوع المطروح، كما لاحظنا الاهتمام بخواتيم الرسائل بنفس القدر والحرص على مقدّماتها، ولعلّ الكتّابين قد حرصا أيضا على المضيّ قدما نحو إقامة الفكرة التي تضمن تفاعل القارئ، وتنأى عن الأشكال التقليديّة للرسالة الأدبيّة، فجاءت اللغة جزلة واضحة في مجملها، وقـد أسعفهما موضوعها الإنساني الشفاف، الذي أبرز حالة المشاركة الوجدانيّة لكليهما، فأكّدا على صدق العاطفة وعشقهما للوطن، الذي حضر بكل ما يملكه من ماضٍ وتاريخ وحاضر.
ثمة أحاسيس كثيرة متزاحمة في هذه الرسائل، وازدحام هادئ محبب لطيف يطغى على كل جزء فيها، بدأً من الحنين الذي لا تكاد تخرج منه إلا وتعود إليه، وصولا إلى الأحلام والذكريات، والعناوين الكثيرة، فكل عنوان هو محطة بذاتها، إذ تبدأ الرسالة به ليجد القارئ نفسه أمام صور متعددة تتفرّع منه، يرافقها الأحاسيس التي تجتمع في ذات الهاجس، وهو الشوق إلى الوطن.
لم يخطر لي حين بدأت قراءة هذا الكتاب أن تلك الأحاسيس التي حمَلتها هذه الرسائل ستسكنني، فهي تروي حكاية شعب، وتسير في فضاءات الّذاكرة الجمعية التي تمتّد وتمتّد، تختبئ خلفها الأحلام والصور الشعرية، عبق التراب والأزهار وبيوتنا الصامدة، الأمنيات والرغبات وخطوات العابرين وأصوات المهاجرين، فتجمع غزالات القلب ومواسم الوعد، وتنثر الحبّ على جدران الدهشة، فتطّل الأمنيات خلف الحروف لتَرقُّب المستقبل، علّه يزهر بخطى العائدين ومواكب الغائبين.
أبارك للكاتبين هذا التميز في الكتابة وحسن اختيار الفكرة والوصف، مع كل الأمنيات بالتوفيق والتألق الدائم لكليهما.
صباح بشير
كاتبة فلسطينية
من المعروف أن أدب الرسائل فن أدبي من الفنون النثرية، اهتم به الأدباء والنقاد رغم انحساره في وقتنا الحاضر، وقد يكون هذا النوع من الأدب، من أهم الفنون الأدبية التي تُسمِع صوت الكاتب وتعرّفنا به دون تصنُّع، وهذا هو سرّ قيمتها وجمالها، فمن خلالها نعرف كتّابنا على حقيقتهم، ذلك لأنهم حين يكتبون رسائلهم لا يتّخذون شخصية تخالف حقيقتهم.
ها هو هذا الفن النثري بأنواعه، يشهد نهضة جليّة وتنوّعا في مضامينه، وتطوّرا في المحتوى والأسلوب، وممّا يثبت ذلك، تعدّد الأدباء الذين اهتموا بالمشاركة في موضوعات متنوعة في رسائلهم، أدبيّة اجتماعيّة وسياسيّة، فعبّروا عمّا ينطوي بداخلهم دون تكلّف، ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر البعض ممن تنوعت رسائلهم بين مواضيع مختلفة، أشجان وأحزان، مثل رسائل الرافعي لمي زيادة، مي زيادة والعقاد، غسان كنفاني وغادة السمان، جبران خليل جبران ومي زيادة، آمال عواد رضوان ووهيب نديم وهبة، محمود شقير وحزامة حبايب، ومؤخرا صدر كتابنا “رسائل من القدس وإليها” لجميل السلحوت وصباح بشير.
أما كتاب “وطن على شراع الذّاكرة” فقد صدر قبل أيام عن دار الأسوار في عكا، وهو رسائل متبادلة بين الشاعرة روز اليوسف شعبان المقيمة في قرية طرعان الجليلية، والشّاعر عمر صبري كتمتو المقيم في أوسلو.
يقع الكتاب في 120 صفحة من الحجم المتوسّط، وقد صمّمت غلافه ومنتجته الفنانة مرام صبّاح. حملت هذه الرسائل التي أُعدّت وكُتبت في شهر واحد، الشيء الكثير من عبارات حبّ الوطن، الحنين والأمل، وسنوات الطفولة الأولى والذكريات البريئة، مدينة عكا وبحرها، الانتماء والوفاء للأرض، فالوطن هو نبض القلوب وشريانها، إليه يحن كل مهاجر غائب، فكيف يكون الأمر حين يكون الغائب شاعرا وكاتبا؟ ساحته ومنبره الذي يعرف هو الكتابة، تلك التي تسكنه فتغدو وجوده وكيانه الذي يتماهى، ليعبّر عن نفسه ومكنونات وجدانه، فالشاعر كتمتو الذي ولد في عكّا، شرّد منها وأسرته خلال النكبة عام 1948م، أما الكاتبة شعبان فقد ولدت في قرية طرعان، تعيش فيها وتعمل، وقد تطوّرت علاقتهما بعد تعارفهما في ندوة اليوم السابع المقدسية الأسبوعية، فنشأت بينهما صداقة عن بعد، اجتمعا فيها على حبّ الوطن.
يقول د.عمر كتمتو ص8 بلغة شفيفة جميلة: أنه لم ينس بيته الذي كانت تجاوره شجرة تين معطاءة، ولا رحلته مــن خارج مدينته القديمة العريقة.
وتقول الكاتبة د. روز ص15 بلغة شاعريّة جميلة: هنا كانت جدّتـي وجدتك، تسقيان أحواض الحبق والنعناع، تعقدان المنديل على رأسيهما، تشمّران عــن سواعدهما وتزرعان كروم الزيتون والعنب والرّمان.
حققت هذه الرسائل التّماسك في الفكرة والتشويق في أسلوبها، فقد أفضت كلّ فقرة إلى الفقرة التي تليها بسهولة ويسر. هذا الأسلوب يضيء السطور للمتلقي ويفتح آفاقه على الصّلة الوثيقة بين الموضوع المطروح، كما لاحظنا الاهتمام بخواتيم الرسائل بنفس القدر والحرص على مقدّماتها، ولعلّ الكتّابين قد حرصا أيضا على المضيّ قدما نحو إقامة الفكرة التي تضمن تفاعل القارئ، وتنأى عن الأشكال التقليديّة للرسالة الأدبيّة، فجاءت اللغة جزلة واضحة في مجملها، وقـد أسعفهما موضوعها الإنساني الشفاف، الذي أبرز حالة المشاركة الوجدانيّة لكليهما، فأكّدا على صدق العاطفة وعشقهما للوطن، الذي حضر بكل ما يملكه من ماضٍ وتاريخ وحاضر.
ثمة أحاسيس كثيرة متزاحمة في هذه الرسائل، وازدحام هادئ محبب لطيف يطغى على كل جزء فيها، بدأً من الحنين الذي لا تكاد تخرج منه إلا وتعود إليه، وصولا إلى الأحلام والذكريات، والعناوين الكثيرة، فكل عنوان هو محطة بذاتها، إذ تبدأ الرسالة به ليجد القارئ نفسه أمام صور متعددة تتفرّع منه، يرافقها الأحاسيس التي تجتمع في ذات الهاجس، وهو الشوق إلى الوطن.
لم يخطر لي حين بدأت قراءة هذا الكتاب أن تلك الأحاسيس التي حمَلتها هذه الرسائل ستسكنني، فهي تروي حكاية شعب، وتسير في فضاءات الّذاكرة الجمعية التي تمتّد وتمتّد، تختبئ خلفها الأحلام والصور الشعرية، عبق التراب والأزهار وبيوتنا الصامدة، الأمنيات والرغبات وخطوات العابرين وأصوات المهاجرين، فتجمع غزالات القلب ومواسم الوعد، وتنثر الحبّ على جدران الدهشة، فتطّل الأمنيات خلف الحروف لتَرقُّب المستقبل، علّه يزهر بخطى العائدين ومواكب الغائبين.
أبارك للكاتبين هذا التميز في الكتابة وحسن اختيار الفكرة والوصف، مع كل الأمنيات بالتوفيق والتألق الدائم لكليهما.
صباح بشير
كاتبة فلسطينية